الأصحاح الثاني - عدد 11
فأجاب بوعز وقال لها إني أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك، حتى تركت أباك وأمك وبيت مولدك، وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل ( ع 11)
بعد أن سمعنا شهادة «الغلام الموكل على الحصادين»، رمز "الروح القدس" نسمع الآن شهادة بوعز، الذي هو رمز لربنا يسوع، إذ يخاطب راعوث نفسها رمز المؤمن. عندما لا نشهد عن أنفسنا، بل نتكلم فقط عن النعمة التي أعطت لنا كل شيء، فإن الرب هو الذي يشهد عنا. إن الرب لا يطلب أبداً منا أن نتحدث بما فعلنا أو نفعل، ولا أن ندافع عن أنفسنا، وإنما يطلب منا أن نشهد عنه وعن عمله، بل وأن نجاهد. ومتى فعلنا ذلك فهو أيضاً سيشهد لنا ويدافع عنا. ولا شك أنه يستطيع أن يفعل ذلك أفضل كثيراً مما نستطيع نحن. فضلاً عن ذلك فإنه سيفضي إلينا شخصياً بما هو مفتكر من جهتنا. وكم كان هذا مشجعاً لراعوث، فهي لم تكن تتصور أن قصة فتاة فقيرة وغريبة تصل إلى سمع جبار بأس، ذي ثروة عظيمة كبوعز. ولو وصلت إلى مسامعه فما كانت تتوقع أن تلقى اهتماماً وتقديراً منه.
ربما لم تكن راعوث تعتبر أن تركها موآب وذهابها وراء نعمي إلى بيت لحم تضحية من جانبها. فأي واحد من أولاد الله لا يمكن أن يفكر في أنه صنع عملاً صالحاً عندما أتى بذنوبه وخطاياه إلى المسيح، وقبله كرب ومخلص، بل أنه يكون شاعراً فقط بحقيقة نعمة المسيح وأنها هي التي اجتذبته إلى هذا الشخص الفريد، ولكن الله أيضاً في نعمته الغنية يحسبه لنا عملاً صالحاً أننا قبلنا الرب يسوع في وقت هو فيه مرفوض من العالم. لذلك فقد أعطانا مكافأة عظيمة، بل وسيعطينا في يوم قادم مجازاة أعظم. فقد صار لنا الآن مقام أسمى من المؤمنين الذين سبقونا قبل صليب المسيح، ومن الذين سيأتون بعد زفاف الكنيسة إلى عريسها، وسنظل في هذا المقام الأسمى طوال الأبدية.
يالها من تعزية قوية أن نعلم أنه يعرف كل شيء عنا، حتى خدمتنا له. قد لا يلحظها أحد من الناس، وربما نكون مختفين خلف الآخرين ولكنه هو يرى كل شيء ولا ينسى شيئاً. وتكفينا ابتسامة الرضا من ثغره، التي هي أثمن من مدح أي إنسان أياً كان. فعندما تدرك النفس أن الرب يعلم كل شيء عنها لأول مرة يكون هذا كريماً في عينيها. وكلما تعمق هذا الإدراك زادت كرامته. فالرب يعرف كل شيء عنا معرفة كاملة، لذلك يقول بوعز لراعوث إنه يعلم بما فعلته بحماتها بعد موت رجلها، الذي كان هو حبل الصلة بينهما حسب الطبيعة، ويُظهر لها تقديره لكونها في طريق الذهاب وراء نعمي تركت أبيها، الذي كان هو الرجل الباقي لها حسب الجسد، والملجأ الطبيعي لها. كذلك تركت أمها، التي هي موضوع اتجاه العواطف والميول الطبيعية، وذهبت وراء حماتها. تركت أرض مولدها لتذهب إلى شعب لم تعرفه، لمجرد أنه شعب نعمي. لذلك يتكلم إليها بصيغة تربطها بإبراهيم أبي المؤمنين (تك 1:12، عب 8:11). نعم، إن الرب يعلم كل ظروفنا، والصعوبات التي أمامنا، والمخاطر التي نواجهها. وهو قادر على أن يتفهمنا جيداً، إذ أنه هو نفسه، في نعمته المتنازلة، قد اجتاز كل هذه الظروف قبلنا (عب 10:2و14و8 ، 15:4). فلماذا إذاً نخاف؟
متى وجد الرب قلباً مخلصاً، وعيناً مثبتة عليه، فإنه قادر على أن يجعل من المؤمن المسكين الضعيف شهادة له. لكننا كثيراً ما نخطئ حين نجعل من الشهادة له هدفنا الأوحد، ولكننا بهذا لا نصبح شهوداً حقيقيين له. ربما نبدو كذلك في أعين البعض، الذين ليست لهم القدرة على التمييز، ولكن مصدر القوة الحقيقي والدافع الصحيح للشهادة القوية لشخصه ليس هو أن نفكر في ذواتنا، بل أن ننشغل كلية بالرب يسوع.
إن راعوث لم تذهب إلى هنا وهناك في محاولات لتكون شاهدة، ولكنها ببساطة كانت مجتهدة في أداء واجبها اليومي. لكن كان وراء هذا الاجتهاد محبة وارتباط من جانبها بنعمي. لذلك رأت أن أداء واجبها لا يمكن يتم بالانفصال عن الإله الحقيقي. فعندما نسلك في بساطة الطاعة مدفوعين بمحبة من نحو الرب يسوع، فإن هذا يؤول إلى شهادة حقيقية له. وعندما نفعل ما يطلبه منا فإنه يُستعلن بذلك للعالم من خلال حياتنا. فالتكريس الحقيقي لإرادته يظهر للعالم كيف أن هذا الشخص الذي امتلأنا به هو شخص فريد وعجيب.
لنلاحظ أيضاً أن راعوث كوفئت أكثر من أجل تكريسها عما كوفئت به لأجل اجتهادها. فلو أنها كانت مجرد فتاة تلتقط كباقي الفتيات لنالت ما التقطته ليس أكثر. ولكن إذ كان عندها تكريس لشخص واحد، وكان هذا التكريس هو المحرك لها في عملها، فقد حظيت بما هو أكثر كثيراً، كما سنرى في الأعداد المقبلة. فلا شك أن الخدمة الأمينة للرب لها مكافأتها، ولكن متى اقترنت هذه الخدمة بتكريس للرب فإن المكافأة ستكون أعظم كثيراً. علاوة على ذلك - كما سنرى في راعوث - فإن التكريس سيزداد باطراد حتى يكمل بالراحة الكاملة والكرامة التامة، إذ نتحد كلية بمن هو غرض تكريسنا.
- عدد الزيارات: 34686