Skip to main content

لوسيفر وتمرُّد الملائكة

قليلون يدركون الدور الذي تؤدّيه الملائكة على مسرح الأحداث البشرية. ولكن لنا في سفر دانيال ما يكشف بشكل دراميّ عن ذلك الصراع المرير الدائر كل حين بين الملائكة الأطهار المُخلصين لله وملائكة الظلمة أعوان الشيطان (دانيال11:10-14).

هذا الشيطان, أو إبليس, كان يُدعى "لوسيفر" أو "زُهرة" (نجمة بنت الصبح). والمرجّح أن لوسيفر-أي إبليس- كان مثل ميخائيل رئيس ملائكة, لكنه طُرد من السماء مع ملائكته المتمرّدين, وما يزال يواصل تمرّده وأعماله المناوئة لله. يبدو أحياناً كأن الشيطان سيربح الحرب, إذ ينتصر في بعض المعارك الهامّة, غير أنّ نهايته محتومة. فلَسوف يجيء يوم الآن من سلطةٍ وقوة, يومذاك يدحر الله قوات الظلمة دحراً تامّاً لا قيام لها بعده.

يخطر ببال كثيرين هذا السؤال: "كيف يحدث صراعٌ كهذا في عالم خلقه الله كاملاً؟ “يذكر بولس الرسول هذا الصراع فيسمّيه "سرّ الإثم" (2 تسالونيكي7:2). وفيما لا نملك جميع المعلومات التي نودّ معرفتها, نعرف شيئاً مؤكّداً, وهو أنّ الملائكة الذين سقطوا, أي إبليس وملائكته, سقطوا لأنهم أخطئوا إلى الله. فقد جاء في 2بطرس 4:2 "الله لم يشفق على ملائكته فقد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلّمهم محروسين للقضاء." وإذا راجعنا الآية المشابهة في يهوذا6 نجد أنّ عبء المسؤولية يقع مباشرة على عاتق الملائكة أنفسهم. إذ يقول يهوذا “والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم. “فيتّضح من هذا أنّ أولئك الملائكة فعلوا ما فعلوا تلقائياً دون تحريض من أحد.

نعم, إنّ أعظم كارثة وقعت في تاريخ خليقة الكون كانت يوم تحدّى لوسيفر الله, ونتيجة لذلك سقط هو والملائكة الذين انضمّوا إليه في عصيانه وشرّه.

متى حدث هذا؟ في زمان ما, بين فجر الخليقة ودخول الشيطان جنّة عدن حيث أغوى الإنسان. يتصوّر الشاعر دانتي (Dante) أن سقوط الملائكة الأشرار حدث بعد أن خلقهم الله بعشرين ثانية, وأنّ كل ذلك كان لأنّ لوسيفر تكبّر وأبى أن ينتظر ريثما يحصل على المعرفة الكاملة. أمّا آخرون أمثال الشاعر ملتون (Milton), فيذهبون إلى أنّ الله خلق الملائكة ثمّ سقطت الفئة الشرّيرة منهم قُبيل تجربة آدم وحوّاء في جنة عدن.

ليس السؤال الهامّ الآن "متى خلق الله الملائكة؟ “بل "متى سقطوا؟ “يستصعب بعضهم القول إنّهم سقطوا قبل أن وضع الله آدم وحواء في الجنة. لأننا نعلم أن الله عند ذاك كان قد استراح من عمله وقال إن كل شيء كان حسناً. وهذا, استنتاجاً, يعني أن جانب الملائكة من الخليقة كان حسناً أيضاً. لم يكن آنذاك ما يدل على حدوث أي سقوط. سؤال آخر: كما مرّ على آدم وحواء في الجنة قبل دخول الشيطان الجنة لتجربة حواء؟ إن هذا السؤال سيبقى بلا إجابة, فكل ما نستطيع قوله هو أن الشيطان سقط أوّلاً قبل إقدامه على تجربة حواء, فكان وسيلة غواية الإنسان وسقوطه. والشيطان يتحمّل الذنب الأعظم لأنه سقط تلقائياً ولم يكن من يجرّبه ويغويه, أمّا آدم وحوّاء فسقطا نتيجة لتجربة المجرّب.

لنبدأ إذاً بالقصة من أوّلها. لقد كان إبليس أذكى وأجمل المخلوقات التي خلقها الله في السماء. ربّما كان لوسيفر هو الرئيس الحاكم على الكون كلّه تحت رئاسة الله الذي عليه تمرّد وثار. وكانت النتيجة انتشار الثورة ونشوب الحرب في السماء. وقد شنّ الشيطان حرباً ما تزال نارها مستعرة إلى الآن منذ اللحظة التي أخطأ فيها ونزل إلى الأرض ليحاول إسقاط الإنسان بُعَيْد فجر التاريخ البشري. يا لها من أزمة كونية رهيبة.

يدوّن أشعياء (12:14-14) بداية ذلك الصراع فإنّ لوسيفر, وكان ملاك نور, كان قبل عصيان يتلألأ بهاءً, وقد وصفه حزقيال 12:28-17 بالقول: "وأنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال... أنت الكروب المنبسط المظلّل... على جبل الله المقدس كنت. بين حجارة النار تمشّيت أنت كامل في طرقك من يوم خُلقت حتى وجد فيك إثم...قد ارتفع قلبك لبهجتك. أفسدت حكمتك لأجل بهائك." ويوم تمرّد الملاك لوسيفر على الله وأعماله انضمّ إليه في تمرّده نحو ثلث الجند الملائكة على حدّ تقدير بعضهم. وهكذا نرى الحرب التي ابتدأت في السماء وقد امتدّت إلى الأرض وما تزال دائرة, وستبلغ ذروتها في هر مجدّون حيث تكون النصرة الكاملة للمسيح فيندحر إذ ذاك إبليس وملائكته نهائيّاً.

التمرّد في السماء

كان بولس الرسول يدرك واقع حركة التمرّد التي جرت في السماوات وقد تكلّم عنها وكان يعنيها عند قوله عن لوسيفر, حامل النور سابقاً والشيطان الآن, إنه "رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أفسس2:2). ويقول أيضاً إننا إذ نحارب مملكة الظلمة الشيطانية, فإنّما نصارع" ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر... أجناد الشرّ الروحية في السماويات" (أفسس12:6).

يوصف كل فجور وإثم بأنه تمرّد الإنسان على الله أو قيامه بما تمليه الإرادة الذاتية العاصية عوضاً عن المشيئة الإلهية الصالحة. وهذا يصحّ على البشر في عصيانهم الآن كما صحّ قديماً على الملائكة الذين ارتكبوا العصيان.

الأنانية والعصيان

خلق الله لوسيفر, زُهرة بنت الصبح, كما خلق سائر الملائكة, لكي يكونوا لمجده. لكن لوسيفر, بدل أن يخدم الله ويسبّحه إلى الأبد, اشتهى أن يسيطر على السماء والخليقة فيحلّ محلّ الله. إنّه طمع في إحراز السلطان الأعظم. فقد جاء في أشعياء14 أن ذلك الملاك العظيم قال: "اصعد إلى السماوات". "ارفع كرسيّ فوق كواكب الله". "اجلس على جبل الاجتماع". "اصعد فوق مرتفعات السحاب". "أصير مثل العليّ". فالفاعل, في جميع هذه الأفعال, هو الضمير "أنا".

لم يكتف لوسيفر بمركزه تحت سلطان خالقه بل رغب في اغتصاب عرش الله. لقد تهلّل لفكرة صيرورته صاحب السلطة في كل الكون. اشتهى أن يكون قيصراً أو نابليوناً أو هلتراً على الكون كله. والثابت أنّ روح "أنا" هي روح العصيان. وهكذا تجاسر إبليس على الله العليّ وحاول إنزاله تعالى عن عرشه. فهو ماكرٌ شرّير, انه يتمتّع بقوة ومجد, فطمع في أن يصير معبوداً بدل أن يظلّ عابداً.

إن رغبة الشيطان في الحلول محل الله بالسيطرة على الكون تعود إلى خطية أساسية تؤدي إلى الكبرياء كما سبق أن ذكرت. إن خلف كبرياء الشيطان تختفي أشرْ الخطايا, وهي خطية الشهوة. إذ أنه اشتهى ما ليس له. هذه الشهوة نفسها هي تقريبا سبب كل حرب نشبت في التاريخ. والحرب الناشبة الآن في السماء والأرض بين الله والشيطان كان سببها الشهوة –شهوة الشيطان للحصول على ما يخص الله وحده.

في هذا الزمن, كما في كل زمن مضى, لا يقدر أحد أن يخطئ وحده. ذلك أن خطيته تؤثر في الآخرين. فتأثير الخطية تأثير وبائي سريع الانتشار. وإذ يتكلم الكتاب المقدس عن “التنين وملائكته" (رؤيا 7:12), يبين أن ربوات منهم شاركوا لوسيفر في إنكار سلطان الله عليهم فخسروا في النتيجة مكانتهم الرفيعة. فقد اختاروا أن يعملوا بمقتضى "خطة لوسيفر الحربية ". ونتيجة لسقوط أولئك الملائكة طرحهم الله "في سلاسل الظلام ... وسلمهم محروسين للقضاء" (2بطرس 4:2) وتقرر مصيرهم "في النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (متى41:25). لكنهم, إلى أن يحين وقت عقابهم الأبدي, سيبقون قوة عظيمة- قادرة على إحداث الاضطراب وإيقاع الدمار والخراب بالأفراد والعائلات والشعوب. احترس, فأولئك الملائكة الساقطون خطرون شرسون قاتلون, يريدون أن يضعوك تحت سيطرتهم, وفي سبيل ذلك يبذلون كل جهد ويدفعون أغلى الأثمان.

صمّم الشيطان, الأمير السماوي الساقط, أن يحارب الله محاربة لا هوادة فيها و لا مهادنة. فهو الماكر الأكبر الذي ما برح منذ سقوطه يحوك المكايد لإيقاع بني البشر وتدميرهم على المدى البعيد. لقد عملت فيه روح الأنانية مدفوعة بالكراهية لله فسطّرت قصّتها المفجعة في تاريخ البشرية. والشيطان, في محاربته لله,يسخّر البشر الذين خلقهم الله وأحبّهم. وهكذا يشتبك الله وجنده الأطهار مع الشيطان وأعوانه الأشرار في صراع قتّال منذ فجر تاريخنا. و لكم تدعو الحاجة لأن يفهم قادة العالم وسياسيّوه هذا الصراع على حقيقته, و إلّا ظلّوا قادةً عمياناً لشعوب عمياء. فكلّ ما يفعله السياسيون الآن هو أنهم يرقّعون الثوب برقعة هنا و رقعة هناك, ولن يوجد الحلّ لأعظم مشاكل العالم حتى تضع الحرب الروحية أوزارها. أن هذا سيتمّ بعد انتهاء آخر معارك التاريخ-معركة هر مجدّون. عندئذٍ يكون النصر للمسيح وجنده الملائكة السائرين تحت لوائه.

نظرة إلى الماضي والحاضر والمستقبل

سقط لوسيفر, حامل النور, فأمسى هو الشيطان أي إبليس, مُنشئ الخطية, هذه الخطية التي كانت وما تزال تؤثّر في كل ما تصل إليه. فتخدع وتُزعج وتخون وتُفسد وتُتلف.

أمّا لمعركة الدهور هذه من نهاية؟ هذه الحرب التي شنّها لوسيفر على الله وما يزال يخوضها فوق الأرض-متى تضع أوزارها؟

وليست هذه الحرب ناشبة على الأرض وحسب, بل إنّ نارها تستعر في السماء أيضاً: "وحدثت حرب في السماء. ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وملائكته لم يقووا...فطُرح التنين العظيم..." (رؤيا 7:12 -9).

نلحظ آثار الشيطان وملائكته, الأرواح الشريرة, في الخلافات التي يثيرونها, والحروب التي يشعلونها, والبغضاء التي ينشرونها, والمذابح التي يفتعلونها, والعصيان الذي يوجدونه ضد الله ووصاياه. فهم عملاء الفتك والدمار المُخلصون. أمّا الملائكة الأبرار فيطيعون خالقهم. لا يسمع أحد نغمة نشاز البتة بين ملائكة السماء. فكلّهم ملتزمون تنفيذ القصد الإلهيّ وبلوغ الهدف الذي من أجله يصلّي أولاد الله الحقيقيّون: "ليأتِ ملكوتك, لتكن مشيئتك كما في السماء... “(متّى 10:6).

إذ يتكلم الكتاب المقدس عن إبليس وملائكته الساقطين يقول أنهم أخطئوا إذ لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم (يهوذا 6). لقد اقترفوا خطيّتين عُظمَييْن: الكبرياء والطمع. وطالما كانت خطية الكبرياء, على نحو خاصّ هي السبب في سقوط الكثيرين من البشر. فإذا كانت هذه الخطية قد استطاعت أن تحطّ لوسيفر وتُسقطه من السماء, فلا عجب إذا استطاعت أن تُسقط الإنسان الفاني أيضاً. لنحترس إذاً من الكبرياء و لنحذر, لئلّا نكون أمثال لوسيفر وملائكته الذين صيّرتهم الكبرياء أبالسة وأرواحاً شريرة.

ألا يُعقل أن يكون الله قد أراد بحكمته أن يكون الناس على بيّنة من أمر الشيطان وأرواحه الشريرة بحيث لا يشكّ أحد في حقيقة وجودهم؟ قد يكون هذا قصده تعالى عندما أوحى إلى حزقيال فكتب الأصحاح الثامن والعشرين من سفره, حيث يصوّر لنا مثيلاً للشيطان على الصعيد الأرضي, فيتكلّم عن ملك صور بوصفه مثيلاً بشريّاً للشيطان. إذ يتضح من كلمات ذلك الأصحاح أنّ ملك صور أمسى شيطاناً مجسّماً وصورة أرضية للملاك لوسيفر الذي تكبّر وأخطأ فصار هو إبليس.

نحن نعيش في ميدان معركة تحتدم باستمرار- فإنّ رحى حرب الدهور مازالت تدور. هذه الحرب تضغط بتزايد, وتُضيّق على شعب الله المؤمن بالمسيح. حتى إنّ الحروب التي تنشب بين شعوب الأرض ما هي إلّا مجرّد لعبة بأسلحة أطفال إذا قيست بشراسة المعركة الروحية الدائرة في العالم الروحي غير المنظور. إن هذا الصراع الروحي غير المنظور يدور حولنا باستمرار وبلا هوادة. حيثما يعمل الرب, تجد قوات الشيطان تنشط لتقاوم عمل الله؛ وحيثما يعمل الملائكة منفّذين المهمات التي يرسلهم الله من أجلها, تجد الشيطان يثور ويفسد. كل هذا لأن قوات الظلمة ما برحت تواصل هجومها المعاكس لعلّها تستعيد المواقع التي تحرّرت من سلطانها وآلت إلى مجد الله.

ولولا قوات الملائكة التي يمدّها الله بالقوة لمقاومة الأرواح الشريرة, أي ملائكة إبليس, لما ظلّ أيُّ أمل بالتغلّب على قوات الظلام الشريرة للانضواء تحت لواء ربّ الحريّة والخلاص. لقد نطق بولس بالحق عندما قال إنّ للظلمة حصوناً منيعة, لكنّها حصون لا تقوى على الصمود أمام قوة الإيمان والنور, إذ إنّ ملائكة الله يخوضون الحرب حتى النصر من أجلنا (2كورنثوس 4:10و5).

الشيطان يواصل العدوان

جاء في رؤيا10:12 عن الشيطان أنّه "المشتكي على إخوتنا", ويتكلّم بولس في أفسس12:6 عن "الرؤساء... السلاطين... ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر...أجناد الشر الروحية في السماويات". فمع أنّ الشيطان وجنده يشنّون الحرب في السماء فإنّ هدفهم الرئيسي هو تدمير الإيمان على الأرض.

يحدّد أشعياء12:14-14 أهداف الشيطان فيقول إنّه يعمل على قهر الشعوب, وإفساد المستويات الأدبية والمُثُل الخُلُقية, وإتلاف الموارد البشرية. كما أنّه يعمل على إفساد النظام الاجتماعي, وزعزعة مملكة الله لو استطاع. فإذ يستخدم الشيطان قوّته المدمرة, يُثير الاضطراب, ويشعل النيران, ويسبب الفيضانات والزلازل والعواصف والأوبئة والأمراض, ويعمل على إبادة الشعوب والأمم. ينتهي وصف الشيطان وقوته العظيمة بالكلمات: "الذي لم يُطلق أسراره إلى بيوتهم" (أشعياء 17:14), وهذه الكلمات قد تشير إلى سجن الشيطان أي الهاوية, وهي مقرّ أرواح الموتى الأشرار, كما هو موصوف بوضوح في لوقا 19:16-31. فللشيطان قوة عظيمة, وهو محتال خبيث يمضي بلا هوادة في محاربة الله والمؤمنين. إنّه يفعل كل ما يستطيع فعله ليُبقي الإنسان أسير الخطية, حتى يجرّه أخيراً إلى سجن الانفصال الأبدي عن الله.

منذ سقوط لوسيفر, حامل النور, أي زُهرة بنت الصبح, لم تكن هدنة في صراع الدهور المرير. فما زال لوسيفر يعمل ليلاً ونهاراً, بكل مهارة وحنكة, ناصباً أحابيل الظلام للإيقاع بالناس, عاملاً بلا توقف على إحباط خطة الله الأزلية. إننا نجد عواقب الشر مسطورة على كل صفحة من كتاب تاريخ البشر, وقد عملت قوات الظلام بتوجيه من إبليس لإتمام تلك العواقب وإيصالها إلى أقبح أشكالها وأشرّها. لا يرضى الشيطان بالتخلّي, قيدَ أُنُملة, عن الأرض التي يسيطر عليها, ولا يتوقف لحظة عن مقاومة خطة الله الهادفة إلى تحرير الكون من بين براثنه. وهو لا يكفّ أبداً عن السعي إلى مقاومة كلمة الله والطعن بصدقها, ويحرّض الناس على إنكار سلطان الله, ويحاول إغواءَهم كي يمرّغوا أنفسهم في ملذّات الخطية الخدّاعة. والخطية هي الأمر الواقع الرهيب في عالمنا هذا. إذ تكشف عن وجهها القبيح في ما تبتكره من رذيلة و انحطاط, وفي ما تثيره من حروب وسفك دم, وما تنتجه من أنانية وحزن وقلوب محطمة ونفوس ضائعة هالكة. فقد كانت الخطية-وما زالت-هي مأساة الكون وأداة الشيطان لإحباط أعمال الله أو تدميرها. حقّاً ما أصدق قول الكتاب عن الشيطان: "ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حقّ. متى تكلم بالكذب فإنّما يتكلم مما له لأنه كذّاب وأبو الكذّاب" (يوحنا44:8).

مكر الشيطان

حاشا لله, وهو الإله العادل, أن يُغفل أمر الخطية إلى الأبد. فهو لن يسمح لانحرافات لوسيفر بأن تسخر منه تعالى إلى ما لا نهاية. لذلك نجد الرد على شر العالم في ناموس كلمة الله الذي لا يتبدّل, حيث نُفاد أن "أجرة الخطية هي موت, وأمّا هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رومية23:6). فهجمات إبليس التي ابتدأت منذ فجر التاريخ ستستمر إلى أن يبدأ الله بإسدال الستار على هذه المسرحية المروّعة, وذلك في معركة هر مجدّون الحاسمة.

يؤسس الشيطان حِيَله الماكرة وأعماله الخبيثة على التشكيك بصدق الله وأمانته. فلكَم حاول, على مدى قرون عديدة, أن يجعل الإنسان يسيء الظنّ بالله, ساعياً لإظهار الله المنزّه عن الكذب وكأنّه كاذب في نظر الإنسان. وهو يحاول, مراراً وتكراراً, أن يقلّل من جدّية كلمة الله لعلّه يحرم الإنسان نعمة الإيمان وطمأنينة الاعتماد على الله. ويستعمل لوسيفر في إغوائه الإنسان كلمات من قبيل "إذا" و "لو" و "لكن", غير أنّ الله يُقدّم لنا خطة الخلاص بكلمات واضحة صريحة لا التباس فيها ولا تشكيك. كذلك يؤكد لنا الله أنّنا, بفضل عمل المسيح ومساندة ملائكته, سننتصر في حربنا ضد جيوش لوسيفر.

لا نعجب لأن لوسيفر, الملاك الساقط, دبّر مكيدته لينتحل لنفسه تفوّق الله في خليقته. ففي الجنة, عندما نطق إبليس بفم الحية وتكلم مع حواء, قال لها: "أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟" (تكوين1:3). وجاء الجواب عن هذا السؤال: "من ثمر شجر الجنة نأكل, وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلّا تموتا" (تكوين3:3).

ولنسمع رد الشيطان على جواب حواء: "لن تموتا" (تكوين4:3). فكأنه يقول أن الله غير صادق ولا يعرف ما الذي يقوله. وهكذا نجد أن الشيطان يحاول زرع الشكوك فينا عن طريق توجيه الأسئلة إلينا. فالتشكيك بكلمة الله أمر بالغ الخطورة. وهذه هي الخطة التي يتبعها الشيطان: يحاول أن يغوينا لندخل في جدل عقلي. وهكذا كانت مع حواء فوقعت في هذا الشرك. من المحتمل أنّها راحت تفكر: هل من الممكن أن يكون الله ظالماً قاسياً, فيحرمنا من عمل شيء بريء ليس فيه أي ضرر؟ ماذا لو أكلنا؟ "إن الشجرة جيدة للأكل... بهجة للعيون" (تكوين6:3). تباحثت حواء بغباوة مع المجرِّب, وصارت تشك بصدق الله وحكمته. وقد دخل سمّ الخطية إلى كيانها عندما راحت تسائل نفسها مشككة بحكمة الله. ما أسهل أن يطلي الشيطان بألوان زاهية الآراء المظلمة لكي يُغري الناس بأن يقبلوها ويتبنّوها. ويأتينا خداع الشيطان زاهياً ملوناً بلون رغباتنا, فنجد الشيطان, مرّة بعد مرّة, يلقي علينا اقتراحاته الفكرية و افتراضاته التشكيكية الخبيثة. فقد قال لحواء: إن أكلكما من الشجرة يفتح أعينكما وتكونان حكيمَين مثل الله. وأصغت حواء, وفكرت, ونظرت, ولمست, وأخذت, وذاقت. كذلك لا يتوانى الشيطان في إثارة رغبات الجسد وشهواته واجتذاب الإنسان بها, فيظن هذا الإنسان أنه سيجد في الخطية ما يروي عطش نفسه ويشبع جوعها. هكذا يدأب الشيطان في استخدام حواسنا كمنافذ يدسّ منها إلينا افتراضاته وشكوكه.

نعرف من سفر التكوين أن حواء أكلت أولاً ثم أعطت آدم فأكل هو أيضاً. فلو أنهما ثبّتا الفكر في الله, ووثقا بحكمته شاعرَين بالخطر الكامن في ثمر الشجرة الممنوعة, لكان التاريخ كله غير ما هو عليه الآن, ولكانت هناك عاقبة أخرى. ولو أنهما أدركا نتائج العصيان وانتبها إلى خطورة ما كان الشيطان يجرّهما إليه, لو أنهما تصوّرا لهيب السيف المتقلّب الذي كان سيفصلهما عن الجنة إلى الأبد, لو أنهما فكّرا بالعواقب الوخيمة التي حلّت بسبب لحظة من "البساطة" والغباء, لمَا كانا وقعا في أشراك الخطية, ولما كانا اضطُرّا في ما بعد للوقوف صامتين واجِمَين فوق جثمان ابنهما هابيل القتيل. فقد كان موت هابيل المفجع ثمر قوة الخطية التي أفسدت حياتهما. لولا ذلك, لكان عالمنا اليوم فردوساً يخيّم عليه الحبّ والسلام والسعادة.

لو قاوم آدم وحواء الشيطان في الجنة لكان هذا العدو هرب وظلّ مهزوماً إلى الأبد. لكنهما أخطأ, فملك الموت على جميع البشر (تكوين13:3). من هنا ابتدأ الموت. والخطية تعمل العمل ذاته مع كل منا مهما اختلفت أحوالنا أو طبيعتنا أو محيطنا.

فنحن في الطيعة فاسدون وقد ورثنا تلك الطبيعة الساقطة من أبوينا (رومية 19:3). فالسلالة البشرية كلها أصبحت فاسدة, كالأقذار تطرح في منع النهر فيتلوث بها المجرى كله. ولا مفر لنا الآن من سماع الحكم علينا بسبب الخطيئة التي لوثتنا. وعلى كل واحدٍ أن يقف أمام الديان ليؤدي الحساب عما اقترفت يداه.

لاحظوا بعض افتراضات الشيطان السّامة والفتاكة التي يدسها في أفكار الناس هذه الأيام . يقول: إن كنت تعيش حياة شريفة ,وتفعل الصواب, وإن كنت تذهب إلى الكنيسة كل أحد, وتقوم بأعمال خيرية إن كنت كذا أو كذا... لكن كلمة الله تعلمنا أن كل هذه الافتراضات لا تفي بشروط الله لنوال الخلاص. فأعمالنا الحسنة ونياتنا الطيبة غير كافية. قال الرب يسوع : "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 7:3). فلن نحصل على يقين الخلاص إلا إذا تبنا إلى المسيح مؤمنين به وواثقين، معترفين له بخطايانا وملتمسين المغفرة من لدنه. إن الشيطان سيسعى بكل ما أوتي من جهد، لحملنا على الاتكال على أنفسنا عوضا عن المسيح ولكن لا أحد غير المسيح يستطيع أن يُنيلنا الخلاص الأبدي، ولا بد أنه فاعل ذلك حالما نسلمه حياتنا ونصدق أنه أكمل عمل خلاصنا فوق الصليب: (لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية) (يوحنا 16:3).

هذه هي الأساليب التي يعتمدها الشيطان اليوم في اتصاله بالناس والإيقاع بهم، كما كان في فحيح الحية قديما أفكار الشيطان المميتة. والموت يحاصرنا برائحته النتنة من كل ناحية، فقد كثرت الخطية واستفحل أمرها. قال الكاتب الشهير سي. إس. لويس (C. S. Lewis): "الحرب لا تزيد عدد الموتى – فلكل جيل موتاه العديدون. “ولكن لنا أن نفوز بالحياة الأبدية عندما نؤمن بيسوع المسيح. هل اتخذت المسيح مخلصا لك، وهل تثق فيه وحده من جهة خلاصك؟ إن كنت حتى الآن لم تقبل إليه بالتوبة ولم تقبله بالإيمان فالتفت إليه الآن وادعوه إلى رحاب حياتك مسلّما له زمام أمرك، واطلب إليه أن يخلصك ويجلس على عرش قلبك: "وأما كل اللذين قبله فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 12:1). هلا تقبله فتصير ولدا من أولاد الله. لا تؤجل اتخاذ هذه الخطوة التي عليها يتوقف مصيرك الأبديّ، علما بأن التأجيل حيلة من حيل الشيطان الذي يشق عليه ن يراك تفلت من أسره.

  • عدد الزيارات: 156117