الأصحاح الثاني - عدد 14
فقال لها بوعز عند وقت الأكل تقدمي إلى ههنا وكلي من الخبز واغمسي لقمتك في الخل. فجلست بجانب الحصادين. فناولها فريكاً. فأكلت وشبعت وفضل عنها ( ع 14).
كما رأينا فيما تقدم، سلكت راعوث في بساطة التكريس والاتضاع. ولكن بوعز كان مهتماً بها، وكان يريد أن يظهر نعمته للآخرين، وماذا تعمله مع فتاة موآبية، بل وما تعمله فيها. فأي لطف يمكن أن يبسط لفتاة غريبة مسكينة كهذا اللطف. أما راعوث فلم ترفض، إذ كانت تفعل كل ما يأمرها هو به، وهذا هو سر نوالها كل هذا الكم من البركات، فلم تعتذر عن قبول دعوته لعدم استحقاقها، ولا لملابسها الرثة التي لا تليق بالجلوس على مائدته. هكذا أيضاً بالنسبة لنا، فالسبيل إلى نوال المزيد من البركة، وللنمو في النعمة، هو الطاعة للرب عن ثقة ويقين بأنه لا يطلب منا أن نعمل شيئاً لا يريدنا حقاً أن نعمله، وبأنه هو نفسه الذي يعطينا القوة للطاعة.
كانت راعوث ملتقطة مجتهدة، ولكن الرب لا يريدنا أن نعمل بنشاط بلا توقف. بل يريد أننا نأخذ وقتاً لأن نأكل معه ونجالسه، فلما جاء إليه التلاميذ ليقصوا عليه «كل ما فعلوا وعلموا» قال لهم الرب «تعالوا إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً» (مر 30:6،31). فكثيراً ما نكون مشغولين بما تكلمنا وما عملنا، حتى أننا قد نتصور أن فضل القوة يرجع إلينا وليس إليه، أو أننا كفاة في أنفسنا. فحينئذ يكون من الألزم لنا أن نختلي به قليلاً لنستريح.
وكلما أكثرنا من الجلوس عند قدميه لنسمع كلامه ونكون في شركة معه لننطلق بقوتها إلى العمل، كلما كانت خدمتنا أكثر ثمراً وبركة. فلو أن راعوث قضت وقت الأكل في الالتقاط لما حصَّلت أكثر، بل على العكس، كانت ستخسر ما أولاها به بوعز من اهتمام، وما قدمه لها حتى شبعت وفضل عنها، فأخذت ما فضل عنها إلى حماتها.
لا يمكن أن تكون الحياة اليومية لأي إنسان أن يعمل فقط ستة أيام في الأسبوع، ثم يقضي يوماً واحداً في الأكل فقط. إلا أن هذا هو نمط الحياة الروحية لكثيرين من المسيحيين، إذ يظنون أنه يكفيهم طعاماً روحياً أن يجلسوا عند قدمي الرب يوم الأحد فقط، وهذا ما يفسر لماذا هم مسيحيون بلا قوة. إذ أن الحياة الروحية التي نلناها بالولادة الجديدة تحتاج إلى أن نتغذى يومياً بالطعام الحقيقي. إن المسيح هو خبز الحياة (يو 35:6). فإذا أردنا نمواً للحياة الروحية فعلينا أن نشبع به يومياً، وأن نقدر شخصه وعمله (يو 56:6). علينا أن نجمع «أمر كل يوم بيومه» من المن ومن غلة الأرض، وأن نأكله ونهضمه (يو 21:6، يش 11:5).
كانت راعوث تجمع طعامها بأن تلتقط، وهكذا نحن نستطيع أن نأخذ الكثير من قراءة كلمة الله، والمجلات الكتابية، أو من الخدمات أو الأحاديث الروحية مع الآخرين، أو قراءة التأملات. إلا أننا هنا أمام أمر آخر، فقد دعيت راعوث لأن تأخذ مكانها على مائدة بوعز وأن تأكل معه. لم يكن الطعام مختلفاً عما التقطته، إلا أنها الآن تأخذه من يده مباشرة، وتأكله معه، وهذا ما يوجد الشركة والرابطة والتوافق. هذه هي الأمور التي يربطها الكتاب دائماً مع "المائدة". على هذه المائدة رأت راعوث كيف يهتم بوعز بغلمانه وفتياته، وكيف يقدم لهم الطعام الثمين والشراب الجيد بسخاء، وهم يتقبلونه بشكر من يد ذاك «جبار البأس». فهل رأينا نحن ما رأت راعوث؟ بل إن راعوث وجدت أن كل هذه الامتيازات قد صارت لها هي أيضاً، بالرغم من شعورها بعدم الاستحقاق، ولكن يد بوعز كانت مفتوحة لتعطيها كما أعطت للغلمان الحصادين الذين خدموه طويلاً ولم تفرق بينها وبينهم. فكان لها أن تجلس بجانب الحصادين الذين لهم خدمتهم العظيمة في الحصاد، فتمتعت معهم ونظيرهم بصلاح بوعز الذي أغدق عليهم جميعاً. كانت هذه مائدة شركة لكل من ارتبطوا ببوعز، وكان هو رأس الجالسين إليها. إنها مائدة تذكرنا بذبيحة السلامة في لاويين 3و7، حيث كانت عائلة الله بأكملها تجتمع حول المذبح لتأكل من الذبيحة، الكاهن ابن هرون مع مقدم الذبيحة، مع كل طاهر من شعب الله. وليس ذلك فقط، بل الله نفسه له أيضاً نصيبه الذي يسمى حرفياً في لاويين 11:3و16 «طعام» الرب. كذلك هرون، كرمز لربنا يسوع المسيح، كان أيضاً له نصيبه (لا 31:7).
في يوحنا 27:6-35 نرى أن الرب يسوع، بوعزنا، يعطي لنا المن، مذكراً إيانا بحياته التي عاشها هنا على الأرض. والمن هو الطعام الذي نحتاجه طالما نحن في ارتحال في البرية في هذا العالم. فهو قد جاء إلى العالم كإنسان، واجتاز في كل الظروف التي يمكن أن نجتازها نحن المؤمنين ونحن هنا على الأرض. قد جُرب واختبر كل ما يحدث معنا، لكنه كان بلا خطية. فهو أيضاً قد جاع وعطش وتعب (يو 4). كذلك وقف عند قبر واحد من أحبائه فبكى (يو 11). وكثيراً ما صار منفرداً (مز 7:102،8). لقد انتظر رقة فلم تكن، معزين فلم يجد (مز 69). وهكذا في كل ضيقنا تضايق (إش 9:63) وتألم بكل ما نتألم به (عب 10:2 و14و18). وعندما نتأمله هكذا متعبدين له فإننا نتقوى به. هذا هو المن، خبز الملائكة، خبز الأقوياء، الذي تقوى به خدام الله الأشداء ليخدموا الله ويتمموا مشيئته في عالم يسود عليه الشيطان، وحيث الرب مرفوض. نعم، إنه الطعام الذي نحتاجه نحن المؤمنين ونحن في هذا العالم. والرب من جانبه يعطيه لكل واحد.
ولكن راعوث كان لها أيضاً أن «تغمس لقمتها في الخل». والكلمة المترجمة «الخل» هنا نجدها أيضاً في (عد 3:6، أم 26:10، 20:25، مز 21:69، مت 34:27 و48، مر 36:5، لو 36:23، يو 29:19 و30). في الشواهد المذكورة من العهد الجديد جميعها، بالإضافة إلى المرة الواردة في مز 21:69 ارتبطت هذه الكلمة بآلام الرب على الصليب، خاصة في اجتيازه تحت دينونة الله حين جُعل خطية لأجلنا. وهكذا ترجع بنا الإشارة هنا إلى أن راعوث كانت تغمس لقمتها في الخل إلى ما حدث مع بني إسرائيل عندما عبروا الأردن ثم اختتنوا (يش 4و5). فالبحر الأحمر يرمز إلى موت وقيامة الرب يسوع لأجلنا، والذي به دخلنا إلى البرية. أما الأردن فيمثل إدراكنا لموتنا وقيامتنا مع المسيح، الذي به ندخل عملياً إلى أرض الموعد. وبمجرد أن دخل الشعب إلى الأرض اختتنوا، الأمر الذي لم يفعلوه في البرية. فعندما نطبق على أنفسنا موت وقيامة ربنا يسوع فإننا نرى أنفسنا وقد متنا مع المسيح وأقمنا معه، عندئذ لابد أن نختتن، إذ يجب أن نطبق عملياً على حياتنا حقيقة الموت مع المسيح والقيامة معه، ونتصرف طبقاً لهذا الحق.
وإذ نوجد في الأرض مختتنين فإنه يكون لنا طعام من نوع آخر، فيمتنع المن، وبدلاً منه نأكل من غلة الأرض فطيراً وفريكاً (يش 11:5،12) وهذا هو نفس الطعام الذي قدمه بوعز لراعوث. إنه الطعام الذي يشير إلى الرب الممجد في السماء، الذي هو طعام للذين أُجلسوا معه في السماويات (أف 6:2)، ولكن ما أقل الذين يدركون هذا بقلوبهم. صحيح أن كل مؤمن هو الآن قد أُجلس في المسيح في السماويات، ولكن كثيرين لم يذهبوا في إدراكهم إلى ما هو أبعد من الفصح (خر 12). فقد أدركوا أنهم خطاة فاحتموا في الدم الثمين المسفوك من الحمل حتى لا يأتوا إلى دينونة من الله. فهم يرون في الله دياناً رهيباً، وكل ما يرجونه أن لا تقع عليهم دينونته. ولكن غالباً ما لا يكون عندهم اليقين، ويظنون أنه لا يجب أن يكون، حتى يعبر عنهم يوم الدين.
ولكن بعضاً من المؤمنين تقدموا حتى البحر الأحمر. فأدركوا أنهم قد أفلتوا من الدينونة، وهكذا صار الله دياناً مخيفاً لأعدائهم، وأما لهم فصديق. فالله نفسه بذل ربنا يسوع لأجلهم. وهذا هو وضع الإنسان في رومية 8. فهو في البرية، ولكنه محاط بنعمة الله كما في خروج 15-18.
على أن القليلين هم الذين أدركوا بقلوبهم الحق الخاص برسالة أفسس. ففي هذه الرسالة نرى أننا كنا أمواتاً، ولكننا أُقمنا مع المسيح، وأُجلسنا فيه في السماويات، حتى أننا نستطيع الآن أن نحيا في السماء بالإيمان، ونمتلك كل الكنوز السماوية لأنفسنا (أف 3:1). وهذا هو المركز الحقيقي للمسيحي، وهو ما يريد الرب أن يأتي بنا إليه. لأجل هذا أعطى بوعز لراعوث «فريكاً»، فهذا هو طعام الذين هم في السماويات. ولما نتناول من هذا الطعام العجيب - المسيح الممجد في السماء - ستتولد فينا الرغبة لأن ندخل إلى أعماق أبعد من المعرفة، وأن نمتلك هذا المركز عملياً.
هناك نصيب متساوٍ لكل المؤمنين، يشتركون فيه بالسوية، يستطيع كل منهم أن يشترك فيه لأنه معد لأجل الجميع، هو كل ما يتعلق بمركز ومقام المسيحي. فكل مسيحي يستطيع أن يأكل من المن، وكل مسيحي يستطيع أن يخصص لنفسه موت وقيامة المسيح. كما أن له أن يأكل من غلة الأرض فريكاً، وكل مسيحي له مكانه على مائدة الرب، وله أن يشترك في عشاء الرب، ما لم يكن في حياته وظروفه ما يمنع ذلك. لكن هناك أيضاً نصيباً شخصياً فردياً لنا أن نناله من خلال الشركة الفردية مع الرب. وهو يتعلق أكثر بحالتنا العملية. لذلك يقول الرب «إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإله نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 23:14). هذه هي البركات التي لنا، والشركة التي نتمتع بها، إلى جانب تلك البركات والشركة العامة التي لجميع المؤمنين.
وعد الرب المؤمن الذي يغلب في برغامس «أن يأكل من المن المخفى، وأعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة اسم جديد لا يعرفه إلا الذي يأخذ» (رؤ 17:2). هذه نعمة خاصة من الرب، وهناك أمثلة عديدة على ذلك في المكتوب. علاوة على ذلك فهناك المعاملات الفردية، التي هي جزء من طرق الآب في تدريباته. في هذا نحن لسنا فقط جزءاً من الجسد الواحد، بل لنا أيضاً الشركة الشخصية مع الآب ومع ابنه. فهو يريد أن يقودنا ويدربنا فردياً بنفسه. (اقرأ أع 11:23، 2كو 2:12-9، 2تي 17:4).
ومتى تعلقت قلوبنا بالرب وارتبطت به، فإنه حتى البركات العامة نستطيع أن نأخذها من يده كعطية خاصة أيضاً. وهذا ما حدث مع راعوث، فقد ناولها بوعز فريكاً بيده هو شخصياً. ولا شك أن هذا قد زاد من قيمته في نظرها. فهل نحن نختبر ذلك أيضاً؟
كذلك فإن الرب يعطي بسخاء، فلا نشبع نحن فقط، بل نستطيع أن نشرك الآخرين أيضاً. لقد أكلت راعوث وشبعت، وحفظت ما بقى لتعطيه لنعمي فيما بعد. هكذا أيضاً ما يحدث معنا. فإن ما نأخذه من الرب في الشركة الفردية الشخصية هو ما يجعلنا سبب بركة وتشجيع للآخرين.
- عدد الزيارات: 34692