الأصحاح الثاني - عدد 19
فقالت لها حماتها أين التقطت اليوم وأين اشتغلت. ليكن الناظر إليك مباركاً. فأخبرت حماتها بالذي اشتغلت معه وقالت اسم الرجل الذي اشتغلت معه اليوم بوعز (ع19).
يقول الرسول بولس للمؤمنين في تسالونيكي «لأنه من قبلكم أُذيعت كلمة الله ليس في مكدونية وأخائية فقط، بل في كل مكان ذاع أيضاً إيمانكم بالله، حتى ليس لنا حاجة أن نتكلم شيئاً. لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم، وكيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي وتنتظروا ابنه من السماء» (1تس 8:1-10). فقد كان الآخرون هم الذين يذيعون رجوعهم ونتائجه. هذا عين ما حدث مع راعوث، فهي لم تتكلم بكلمة واحدة عندما سألتها حماتها، ولكن الثمر الذي كانت تحمله كان هو المتكلم والشاهد عنها. فلابد أن يلحظ الآخرون على من يقضي اليوم كله في الالتقاط في حقل بوعز آثار هذه الشركة الشخصية معه على تعبيرات وجهه وعلى ملابسه وتصرفاته. بل إن الغنى الروحي لابد وأن ينم عن حقيقة الشركة التي لنا مع ربنا يسوع، وعن أننا بحثنا عن الطعام والخير في حقوله فوجدناه. «لماذا تزنون فضتكم لغير خبز وتعبكم لغير شبع. كلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم» (إش 2:55). فمع أن راعوث لم تتكلم، إلا أن نعمي لاحظت أنه لابد وأن يكون هناك شخص قد نظر إليها وصنع معها إحساناً، ولابد أنه يكون شخصاً فريداً، لذلك باركته نعمي.
وماذا كان رد راعوث؟ كانت تعلم ما الذي التقطته، بل والأهم، كانت تعلم مع من اشتغلت. لقد سألتها نعمي «أين التقطت؟» ولكن راعوث ترد «بالذي اشتغلت معه». فما يشغلها الآن هو الشخص، وليس المكان. لاشك أن المكان كانت له أهميته. ولكن أهميته هذه ترجع بالدرجة الأولى لكون راعوث تستطيع أن تجد بوعز فيه، ولأنه حقل مملوك له.
إن المكان الذي يجتمع فيه الرب يسوع بخاصته (مت 20:18) هو لاشك غالٍ جداً على قلب كل من عرف قيمته. ولكن قيمته الثمينة هذه لا ترجع فقط لكونه مكان البركة التي نتزود بها - مع أن هذا حقيقي - بل بالحري لأن الرب هناك، ولأننا فيه نستطيع أن نكون معه هناك، حتى وإن كنا مازلنا على هذه الأرض.
واضح من سياق الحديث أن راعوث لم تكن تعلم أن نعمي تعرف بوعز، ويبدو أن نعمي لم تذكر اسمه قبلاً أمام كنتها. فلم يكن لبوعز قبلاً أي موضع في قلب نعمي وحياتها. لم يكن قد سبق لنعمي أن تعلمت كيف ترنم:
في القربِ منكَ أنظرُ جمالَكَ |
|
ويثقُ القلبَ بعونِ يدِكَ |
هل يميز الذين يتعاملون معنا أننا نعرف الرب يسوع؟ هل يستطيعون أن يعرفوا «من هو» بأن يروا ماذا يكون هو بالنسبة لنا؟
لقد صارت لراعوث معرفة شخصية ببوعز من اختبار هذا اليوم. وصارت تعرف اسمه، فهو «بوعز» أي "من فيه القوة". فياله من اسم معزٍ. لقد كان اختبارها لصلاحه واهتمامه بها خير مشجع لأرملة مسكينة كسيرة الجناح نظيرها، ليس لها من يشفق أو يحنو عليها، فلا عجب أن نسمعها تذكر اسمه لنعمي بفرح وإعزاز، وكأنها تقول «اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى» (نش 3:1). هذا ما قالته العروس نبوياً عن المسيح، كما تغنى عنه بنو قورح في مزمور 45 «أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك».
ومن هو الذي يستطيع أن يسبر غور معنى اسم «يسوع». ومن الذي يمكنه أن يعبر عما يجيش به قلب إنسان قد أدرك معرفة الرب يسوع. إن معرفته كالمخلص رائعة، وأما عندما نصل إلى معرفة شخصه، ومن هو بالنسبة لنا في كل أحوال الحياة، صعوباتها وآلامها، أخطارها وخداعها، بل في ريائها ومباهجها الزائفة أيضاً، فإن هذه المعرفة أروع بما لا يقاس. بل الأعظم من ذلك أن نبلغ إلى معرفته في ذاته وطبيعته، وأمجاد شخصه وعمله على الصليب كما أعلنها الآب لنا على صفحات الوحي من خلال الآلاف من الأمثلة والرموز في كلمته.
لقد فاض قلب يوحنا هاتفاً «والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 14:1) لقد أعطى الله له ولآخرين معه أن يكتبوا ما رأوه حتى نراه نحن أيضاً معهم، فهل حقاً رأيناه؟ وهل نراه الآن؟
إن سفر راعوث يتميز بطابع النعمة التي تحرك المشاعر والعواطف في القلب، وتنبه الحاسيات التي تحتاج إلى إشباع. فمتى استيقظت هذه الأحاسيس فإن الإيمان يمسك بالنعمة لتشبعها. وليس هناك أحب إلى النعمة من أن تشبع احتياجات الإيمان. هذا ما سنراه في الأصحاحين التاليين. ولكننا هنا نرى بوضوح المحبة في قلب راعوث، التي أثمرتها نعمة بوعز.
- عدد الزيارات: 34693