الأصحاح الثاني
وكان لنعمي ذو قرابة لرجلها جبار بأس من عشيرة أليمالك اسمه بوعز ( ع 1)
من العدد الأول من هذا الأصحاح يتضح لنا أن القصد من هذا الفصل هو أن تتعرف راعوث ببوعز «جبار البأس» ذي الغنى والثروة. ثم يرينا في الأعداد التالية كيفية تعرفها عليه. وهذا الأسلوب كثيراً ما يستخدم في كلمة الله، لا سيما في المزامير. فالعدد الأول يصف حالة أو يتكلم عن حق. ثم في الأعداد التالية يشرح كيف اختبر المرنم هذه الحالة، أو عرف هذا الحق. والروح القدس يستخدم كثيراً هذا الأسلوب لكي يعرفنا ما هو الموضوع الذي يريد أن يوضحه لنا.
بعد أن ضاع كل شيء بالموت، ولم تعد لنعمي الحياة حسب مركزها ومقامها، إذ مات جميع الذكور، فإن استرداد ما ضاع لم يكن ممكناً إلا على أساس قوة القيامة، وبالارتباط بمن له الحق، ولديه القدرة على الفكاك، وهذا ما نجده في بوعز الذي يشير إلى الرب المقام.
إن الإنقاذ من موآب، والرجوع إلى بيت لحم عند ابتداء حصاد الشعير هو بكل تأكيد بدء الفداء. ولكن النفس التي تتوق لأن تتذوق ملء الفرح بالفداء، وتكون لها شهادة حقيقية للرب الممجد في السماء عليها أن تأتي لتعرفه كالفادي معرفة شخصية. لاحظ معي أن هناك فرقاً كبيراً بين أن ننشغل بالفداء وبين أن ننشغل بالفادي نفسه.
يعني اسم بوعز "فيه القوة" ويلقب بجبار البأس، أي صاحب ثروة وغنى، أو ذا شجاعة ومروءة. وهذا اللقب نودي به جدعون ويفتاح، وكان كل منهما مخلِّصاً لإسرائيل (قض 2:6، 1:11) وهما من هذه الوجهة رمزان للرب يسوع، الذي استطاع أن يقول «دفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» وهو الوحيد الذي حق له أن يقول «أنا هو الأول والاخر، والحي وكنت ميتاً. وها أنا حي إلى أبد الآبدين، ولي مفاتيح الهاوية والموت» (مت 18:28، رؤ 17:1و18).
إن الله يريد أن يوجه أنظارنا إلى شخص فريد، هو الإنسان الحي الممجد في السماء، وهو كابن الإنسان قد أخذ كل السلطان، بل كل شيء قصد الله في محبته الإلهية أن يمنحه لنسل آدم. علاوة على ذلك فقد أجلسه الله عن يمينه رأساً فوق كل شيء.
هذا الشخص العجيب كان قريباً لرجل نعمي، فكان له حق الفكاك (عب 11:2-15). كان هذا جميلاً بالنسبة لنعمي، وكم هو جميل لنا أن ننتبه إلى هذا إذا كنا لم نقدر عملياً المركز الذي أعطي لنا. ونلاحظ أن بوعز كان قريباً لأليمالك، إلا أن نعمي لم يكن لها أن تلجأ إليه إلا عن طريق راعوث، التي تمثل هنا الإيمان. كذلك نعمي لم تأت إليه إلا بعد أن أدركت عملياً سلطان الله الفائق المطلق، الأمر الذي كان قبلاً بالنسبة لها ليس أكثر من مجرد اسم لزوجها "أليمالك - إلهي ملك".
أما راعوث، فمع أنها لم تكن تعرف بوعز حتى ذلك الوقت، إلا أنها بفطرة الإيمان كانت تتوق إلى الشخص الذي يجب أن تتجه إليه عواطفها وتبحث عنه. كانت تتطلع إلى من «تجد نعمة في عينيه».
فقالت راعوث الموآبية لنعمي دعيني أذهب إلى الحقل وألتقط سنابل وراء من أجد نعمة في عينيه. فقالت لها اذهبي يا بنتي. ( ع 2)
لقد ذاع الخبر بأن الله قد أعطى شعبه خبزاً. ونعمي وراعوث آمنتا بهذا الكلام. وهاهما قد أقبلتا إلى بيت لحم، نعمي امرأة ثكلى، وراعوث امرأة غريبة. فوجدتا الخبر صحيحاً. فالإيمان بكلمة الله وصلاحه لا يُخزي إطلاقاً. وقد وصلتا في ابتداء أيام الحصاد، ولكن كيف يكون لهما نصيب في الخبز وقد فقدتا ميراثهما، فهما لم تحرثا ولا زرعتا. ولكن الله مرة أخرى دبر في نعمته ما يلزم لذلك. ما أجمل ما نقرأه في سفر التثنية عن اهتمام الله بالغريب والفقير. فعندما تكلم عن الحصاد أوصى بأن الحزمة التي تُنسى في الحقل تكون نصيباً للغريب واليتيم والأرملة. كذلك في لاويين 9:19و10 ، 22:23 أعطى الرب للمسكين والغريب زوايا الحقل ولقاط الحصيد ونثار الكرم. لم يكن للمسكين والغريب أية حقوق في ذلك، فالغريب بالطبع لا محل له لأن يشترك في ميراث شعب الله. كذلك المسكين فقد حقه في الميراث أيضاً، إذ أن الله أعطى الميراث لكل بني إسرائيل. لذلك فلا مبرر لأن يصير أحد مسكيناً. وإن حدث هذا فمعناه أنه أخطأ حتى أنه وقع تحت تأديب من الله، فكيف لإنسان كهذا أن يطالب بأية حقوق.
لقد أعطى الله هذه الوصايا لأولئك الذين من محض صلاحه جعل لهم حقولاً وكروماً، حتى يظهروا عطفه نحو الناس الذين لا حقوق لهم من أي وجه، ويبينوا نعمته ورحمته وصلاحه.
ولنلاحظ أن المبادرة بفكرة الذهاب لالتقاط السنابل لم تأت من جانب نعمي، بل من جانب راعوث، مع أن نعمي كانت تعرف كلام الله ووصاياه أكثر من راعوث. ولكن راعوث كانت تتوق من قلبها لأن تعرف أكثر عن الخير الذي منحه الله لشعبه. فمع محدودية معرفتها كانت عندها رغبة ملحة لأن تبحث عن هذه الخيرات. فكان أنها التقت ببوعز. إن الشرط الأول للنمو الروحي للمؤمن هو الإخلاص والبساطة في الرغبة في معرفة الحق، وهذا ما ظهر بصورة جميلة في راعوث، التي ضحت بكل آمالها الطبيعية لكي تتبع نعمي وتلتصق بها وبكل ظروفها.
عندما يحصر الحق نفساً فإنها تتمسك به، رغم كل المقاومات، تشتري الحق ولا تبيعه، ومن هنا يبدأ النمو السريع، «لأن كل من له يعطى ويزداد».
إن تكريس المرأة وإخلاصها هو ما يرفع من قدرها، فهذا ما يليق بالمرأة. فإن لم تكن لها صفة الإخلاص فإنها تكون قد سقطت عن الفضيلة. والمرأة التي تسقط مثل هذا السقوط، فتفكر في نفسها فقط، كما فعلت حواء مع آدم، وكما فعلت الكنيسة بالنسبة للمسيح، فلابد أن تنتهي إلى البوار. هكذا أيضاً الإخلاص للحق - لكل ما نتعلمه أنه صالح وحق - هو أول مؤشر صحيح لأهليتنا للشهادة والخدمة. أما إذا لم يكن لدينا مثل هذا الإخلاص للحق فإن أعمالنا وأقوالنا سيشوبها النقص، إذ ليس هناك مرجع يحكمها، ولا أساس راسخ تثبت عليه. إن الإنسان يصدق دائماً أكاذيب الشيطان ويتبعها، كما رفَّع الإنسان نفسه في طريق العداوة للمسيح. لذلك لكي نكون شهوداً لله في وسط هذا العالم يلزمنا أن تكون لنا الشجاعة التي بها نقف في جانب الحق. ولكن إن تراخينا في هذا الأمر فلا يمكن أن تكون لنا الشهادة المؤثرة، بل إننا في الحقيقة نكون سبب إهانة لهذا الاسم الذي نعترف بأننا عبيد لصاحبه إذا كنا نحاول أن نكون شهوداً له دون تكريس وإخلاص. إذ أننا في هذه الحالة لا تكون لنا الشجاعة القلبية التي تتمسك بالشرط الأول من شروط الخدمة. فقد تكون لنا المحبة، كما عبرت عن ذلك قبلة عرفة، ولكنها عواطف غير مؤسسة على الحق وحده. فإذا تبعنا تلك العواطف فستقودنا إلى طرقنا الخاصة. لذلك فإنه من الضروري التشديد على أهمية التكريس والإخلاص للحق.
كم هو جميل أن نرى شباباً يرغب في أن يلتقط في الحقل أثناء الحصاد. وهل هناك حقل للحصاد أعظم من كلمة الله؟ إننا يجب علينا أن نشجعهم حتى يحصدوا منها. فمتى كانوا يتبعون الحصادين عن قرب فلابد لهم أن يجدوا خيراً جزيلاً. فالحصادون هم المؤمنون الذين عرفوا أعماق الحق، لذلك فهم ينسلون لهم من الشمائل حقاً صافياً، هو بالنسبة للشباب الملتقط طعام في حينه، وغذاء في أوانه.
إن قبول هذه الحقائق ببساطة الإيمان من كل القلب يعطينا من المعرفة عن الله القدر الكافي لأن نستند على نعمته. لذلك لم تقل راعوث في قلبها "إني لست بمستحقة، لذلك لا مجال لي لأن ألتقط في ميراث شعب الله"، بل إنها ركنت إلى نعمة الله وإحسانه، مع أنها كانت مدركة تماماً لعدم استحقاقها، ولكنها عظمت الله بتصرفها، فالله يتمجد عندما نثق أكثر في محبته ونعمته.
إلا أن بعضاً من حديثي الإيمان لا يقتنع بأن يأخذ مكان الملتقط باتضاع، بل كثيراً ما نراهم يريدون أن يأخذوا مركز الحصادين - كمعلمين ومبشرين - الذين يجب أن يكونوا «بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر» (عب 13:5 و14). ولكن ليس هذا هو الطريق الصحيح لأن نأتي إلى معرفة حقيقية للرب يسوع. فهو السيد ولكنه متواضع القلب، ويعلمنا أننا يجب أن نكون كذلك مثله (مت 29:11) فهو يعلم الودعاء طرقه.
وأيضاً نجد من خلال قصة راعوث شرطاً آخر للنمو الروحي. هو الطاعة المجردة بلا جدال. لم تجد راعوث طريقاً للبركة سوى الالتقاط، فلم تبحث عن طريق آخر. ومع أن عملاً كهذا كان مهيناً للنفس، وبالرغم من أنه لم يكن أمامها خيار آخر غيره، إلا أنها لم تتصرف بالاستقلال عن حماتها، التي كان لها التأثير الروحي المقدس على حياتها. إن روح الخضوع هو علامة أكيدة على وجود عمل الله في الداخل. فالله عندما يرى طاعة المؤمن المجردة، ممتزجة بتكريس للحق، فعندئذ يمكن أن يعطى نمواً روحياً، ويرقى به حتى تكون لنا الشركة الشخصية مع الرب.
فذهبت وجاءت والتقطت في الحقل وراء الحصادين. فاتفق نصيبها في قطعة حقل لبوعز الذي من عشيرة أليمالك ( ع 3)
كان أن «اتفق» نصيبها في قطعة حقل لبوعز. فالله في عنايته يتحكم في كل ظروفنا. صحيح أنه لا يريدنا أن نكون دائماً مسيَّرين بأعمال عنايته، بل يريد لنا أن ننقاد «بعينه التي علينا» (مز 8:32،9)، أي أن نسير قدامه ونحن مدركين وفاهمين لمشيئته.
ولكن إن كنا نسلك بالإيمان فإنه سوف يعمل في عنايته الإلهية بما يتفق مع إيماننا، وحتى ولو كنا لا نزال في بداية طريق الإيمان، ولم نصل إلى المعرفة الكاملة عن شخصه وكلمته، ولا نفهم توجيهات روحه. فهو لابد في عنايته الإلهية أن يتعامل معنا حسب حالة قلوبنا. هكذا كانت راعوث، وهكذا قادها الله في عنايته إلى حقل لبوعز، حيث كان لها أن تجد شبعها، بل تتحقق أشواقها الروحية أيضاً. فهل كان حقل بوعز يختلف عن سائر حقول بيت لحم؟ نعم، ففيه يتمثل الاعتراف بحقوق وسلطان الرب يسوع. ففي حقوله خدام هم العاملون، فإن كلف الرب خادماً له بعمل معين فعليه أن ينفذه طاعة لمن أعطاه هذا التكليف، وبذلك تكون هذه خدمة للسيد. بهذا يتميز أيضاً مثل هذا الخادم عن كل الخدام الذين قبلوا تكليفاً بالخدمة من يد البشر، مما يلزمهم أن يكونوا خاضعين لأمر من أرسلوهم، وأن ينفذوا تعليمات الرئاسة البشرية التي عينتهم لهذه الخدمة، ولكن ليس هكذا خادم الرب.
لذلك فحقل بوعز هو الحقل الذي يحق لبوعز فيه أن يدير وينظم كل عمل، حيث الجميع لهم سؤال واحد «ماذا تريد يا رب أن أفعل، وكيف أفعله؟». في هذا الحقل لابد وأن نجد «الغلام الموكل على الحصادين» (1كو 1:12-11، غل 17:5).
في سفر الأعمال ص 6:16-10 نجد مثالاً عملياً لعمل الرب والعاملين معه. إن ربنا يسوع له الحق أن يتسلط، وفي يوم قادم لابد وأن يوضع كل شيء تحت قدميه، وتسجد له كل ركبة، ويعترف كل لسان به رباً (في 9:2-11). ولكن الله يريد من هؤلاء الذين قبلوه رباً وسيداً من الآن أن يعترفوا بقوته وسلطانه «ليكون هو متقدماً في كل شيء». من أجل هذا دفع الله إليه كل سلطان، وإياه جعل رأساً للكنيسة (أف 22:1، كو 18:1). لذلك فإن الرب يمارس سلطانه بالروح القدس في الكنيسة. فحقل بوعز هو المكان حيث يجتمع المؤمنون كأعضاء جسد المسيح، متكلين عليه، ومعترفين بحقه في أن يقود ويحرك كل شيء وفق إرادته. يالها من صلة عجيبة تربط الرب بهؤلاء العاملين في فلاحته، وكل من عمل في حقل بوعز يعرف جيداً امتياز الوجود فيه. ففي حقل بوعز، وليس في أي حقل لآخر، نختبر صلاحه وحكمته ومعونته، ونجد رحمة وتعزية.
وإذا ببوعز قد أتى من بيت لحم وقال للحصادين الرب معكم. فقالوا له يباركك الرب ( ع 4)
من عدة سنوات خلت كنت عائداً مع أحد الإخوة من بلد قضينا فيه عدة أسابيع في العمل، وقد أعيانا الإجهاد إذ كنا قد تدخلنا لعلاج مشاكل كثيرة، حتى شعر كل منا بأنه منهك جسدياً وروحياً. فقال أخي "إن من يريد أن يعيش مستريحاً عليه ألا يدخل نفسه في خدمة الرب. أما كان ممكناً أن نقضي وقتنا هذا في أمر أكثر راحة وفائدة؟". فأجبته "هذا صحيح، ولكن تذكر أن خدمة أخرى تعني سيداً آخر" فرد على الفور "إذاً لنبق كما نحن".
إن كفة شخصية السيد هي الأرجح لو وزنت بثقل المتاعب التي نواجهها في خدمتنا.
ولقد جاء بوعز إلى حقله، إلى غلمانه وفتياته، وباركهم قائلاً «الرب معكم». ألا يذكرنا هذا بما فعله الرب مع تلاميذه في يوحنا 19:20-23؟
إن الرب المقام من الأموات، بوعز الحقيقي، جاء في وسط خاصته التي اجتمعت هكذا منفصلة عن كل من هم ليسوا للرب. «ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم. ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب».
أليس هذا هو اختبارنا لحضور الرب متى اجتمعنا حوله؟ فعندما نجتمع حول مائدته فإنه يرينا يديه وجنبه في الخبز المكسور وفي كأس الخمر. ألا نفرح عندما نراه، فنباركه، وتفيض ألسنتنا بالشكر له. وإذ هو باقٍ في الوسط فإنه يفتح بعد ذلك فاه ويعلمنا، ويزودنا بالقوة، ثم يرسلنا في خدمته. (يو 21:20-23).
وكل من يربط نفسه بشعب الرب الذين يجتمعون إلى اسمه (مت 20:18) لابد وأن يدركوا على التو غبطة الوجود في شركة مع صاحب الحقل ذي السلطان، وكيف يهتم هو بكل صغيرة وكبيرة في الحقل الذي هو له.
فقال بوعز لغلامه الموكل على الحصادين لمن هذه الفتاة ( ع 5)
ونرى في الغلام الموكل على الحصادين صورة للروح القدس المرسل من السماء ليبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة. وليقودنا إلى كل الحق. فهو الممثل الحقيقي للرب في هذا العالم، وهو يمارس سلطان الرب يسوع في اجتماعات الكنيسة، وكذلك على خدام الرب (1كو 4:12-11، غل 17:5، أع 6:16-10). بذات هذا السلطان أيضاً نراه في تكوين 24.
إنه حق مبارك الذي نستعرضه الآن. فهناك حديث في اللاهوت يجري، وموضوعه هو نحن. في تكوين 16:1 يتحادث اللاهوت عن خلق الإنسان، وفي عبرانيين 5:10-10 محادثة أخرى عن فداء الإنسان. وأيضاً في زكريا 13:6 يتحادث اللاهوت عن البركات الألفية. وفي يوحنا 17 يخاطب الابن الآب عنا. كما نرى صورة لمحادثة ستكون عندما يؤتى بالكنيسة إلى بيت الآب في تكوين 66:24، إذ سيحدِّث الروح القدس الرب يسوع عن كل ما فعل في دعوته للعروس وإعدادها للعرس، ورفقته لها في البرية حتى أحضرها للعريس.
أما هنا في سفر راعوث فإننا نسمع حديثاً موضوعه مؤمن واحد حديث. فيسأل بوعز غلامه «لمن هذه الفتاة؟». لم يسأل «من هذه الفتاة». فالرب يعلم الجميع، حتى أصغر القديسين (ع11). ولكن سؤاله هو عمن نحن له. أنحن للعالم؟ أم نحن لأنفسنا؟ أم نحن للرب؟ ليس السؤال هنا هل نحن تغيرنا بمعرفة المخلص أم لا. فكل من ولد ثانية هو لا شك للرب يسوع ملكاً له (1كو 20:6). ولكن السؤال بالأحرى: هل حياتنا العملية تتفق وكوننا ملكاً للرب؟ في رومية 9:8 نقرأ «ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له». معنى ذلك أنه طبقاً للمكتوب فإن الذين قبلوا الروح القدس فقط هم الذين لهم أن يُدْعوا مسيحيين، وهذا يعني في الحقيقة - كما سنرى فيما بعد - أن يكون لديهم اتحاد، عن إدراك، بالمسيح في موته وقيامته.
إن تمتع المؤمن روحياً أمر يهم الرب يسوع جداً، حتى بالنسبة لأصغر مؤمن. لذلك يهمه أن يعرف لمن نحن على وجه التحديد، فهلا سألنا أنفسنا هذا السؤال؟ لمن نكون عندما تمتلك حياتنا أمور هذا الزمان؟ لمن نكون عندما نريد أن نحيا لأنفسنا؛ أو عندما نريد أن نختار لأنفسنا ما يطيب لها؟ ألا نكون حينئذ لأنفسنا؟ ولكن إن كنا حقيقة وعملياً للرب فإن سؤالنا سيكون إليه عما يريد هو منا، حينئذ تكرَس الحياة بالتمام له. هذا هو شوق قلبه، وهذا أيضاً شوق الروح القدس الساكن فينا، إذ أن غرضه أن يمجد ربنا يسوع (يو 14:16).
فأجاب الغلام الموكل على الحصادين وقال هي فتاة موآبية قد رجعت مع نعمي من بلاد موآب، وقالت دعوني ألتقط وأجمع بين الحزم وراء الحصادين. فجاءت ومكثت من الصباح إلى الآن. قليلاً ما لبثت في البيت ( ع 6و7)
لنلاحظ الإجابة الجميلة التي رد بها "الغلام"، فهو لم يتكلم عن معاملاته مع راعوث، ولا عن توجيهاته لها، ولكنه فقط يتكلم عن من هي، ويعطي تقريراً أميناً عن سلوكها وتصرفاتها. فما زال يدعوها «الفتاة الموآبية» وإن كان ينبر على كونها تركت موآب وجاءت إلى بيت لحم، كما أنه يذكر أنها قد التصقت بنعمي، التي لم تكن سوى شهادة فاشلة، ولكن إذ لم تكن قد اتحدت ببوعز بعد فمازالت هي «فتاة موآبية».
عند رجوع الإنسان إلى الله رجوعاً حقيقياً فإنه يتقدس - أي ينفصل عن العالم - بواسطة الولادة الجديدة (1بط 2:1، 2تس 13:2). وهو بذلك لم يعد «في الجسد» (رو 5:7) ولكنه ليس بعد في الروح (رو 9:8)، ولا هو «روحي» (1كو 15:2)، بل قد يكون جسدياً لم يتحرر بعد من سلطان الخطية،(رو 14:7، 1كو 3:3) بمعنى أنه قد يكون مولوداً ثانية، ولكن لم يخلص بعد من سلطان الخطية، لذلك لم يختم بعد بالروح القدس (رو 14:7، 1كو 1:3)، أو ربما يكون قد ختم، ولكن مازالت للجسد جاذبياته، كالحكمة الإنسانية، والقدرات الشخصية، وما إلى ذلك، وهذا ينم عن ذهن وإرادة جسديان.
لقد احتمى الإسرائيليون في دم خروف الفصح، ثم عبروا البحر الأحمر، الذي فيه رمز لموت وقيامة المسيح لأجلنا، وبذلك اشتركوا رمزياً في كل النتائج العجيبة لعمل المسيح، كما اعترف الله بهم كشعبه في حوريب. إلا أنهم كانوا لا يزالون يحملون عار مصر (يش 9:5). ولم يدحرج عنهم هذا العار إلا عندما دخلوا طواعية مع التابوت في الأردن وخرجوا من الجانب الآخر. بمعنى أن هذا العار لم يرفع عنهم إلا عندما خصصوا لأنفسهم - عن إدراك - موت وقيامة المسيح، ثم نتيجة لذلك اختتنوا - أي طبقوا عملياً موت المسيح على حياتهم (2كو 1:4-12) - حتى أصبح في إمكانهم أن يقولوا «متنا مع المسيح وقمنا أيضاً معه». هذا ما يريد الروح القدس أن يقود كل مؤمن إليه، وهذا هو المركز الذي تخبرنا به رسالة أفسس كمقامين مع المسيح وجالسين فيه في السماويات (أف 6:2)، وهذا معناه الاتحاد الكامل مع المسيح - الإنسان الممجد في السماء.
كان لابد أن تصل راعوث إلى هذه الحالة، ولكن إلى أن تخضع نفسها خضوعاً كاملاً لبوعز بأن تتحد معه كانت لا تزال تحمل نسبتها إلى أجدادها، فحتى ذلك الحين كانت تدعى «الفتاة الموآبية». نعم «فتاة» فهي لم تصل بعد إلى البلوغ، ومع ذلك فشهادة حسنة أعطيت عنها إذ أنها «رجعت مع نعمي من بلاد موآب».
تتكرر هنا كلمة «رجعت» كما في ص 22:1. والكلمة هنا بمعناها الحرفي تعطي انطباعاً عنها كما لو أنها لم تكن تنتمي أصلاً لموآب، مع أنها موآبية فعلاً، فقد ذهبت عنها روح الكبرياء والاستقلالية التي لموآب (إش 6:16) وعلمت الآن أنها لن تنال شيئاً إلا بالنعمة فقط. وفي اتضاع طلبت أن يسمح لها بأن تلتقط، واتضاع كهذا هو ثمين جداً عند الروح القدس، حتى أنه يعيد ذكره. لم تطلب راعوث أن تلتقط فقط، بل أيضاً أن تجمع بين الحزم، فالالتقاط هو الخطوة الأولى، ففيه التقدير لقيمة طعام بيت لحم. ثم يأتي بعد ذلك «الجمع». ويظل هناك، ما هو أبعد وأبعد، ألا وهو «حزم الشمائل». كانت راعوث مثلها كمثل النفس التي تطلب الأفضل دائماً، وتريد أن تفهم العلاقة بين الأمور الموهوبة لنا من الله. كانت لها الأشواق لأن تدخل إلى أفكار الله الصالحة، وعرفت أنها لن تجد مرغوبها إلا حيث توجد الحزم، خلف الحصادين.
أليس حري بنا أن تكون أشواقنا أن نوجد في المكان الذي فيه من سبقونا في الاختبار، وقد تعمقوا في معرفة الرب يسوع المسيح وفهم أفكار الله، فصاروا كعبيد بوعز الحقيقي يجمعون الحنطة.
والروح القدس يلاحظ نفس المؤمن الحديث ليرى هل هو يشتاق حقاً إلى كلمة الله، ومدى إقباله على الأماكن التي يجد فيها إشباعاً لهذه الرغبة التي تمثل ظاهرة صحية. فالجوع دائماً دليل الصحة، ومتى كان المؤمن الحديث لا يشعر بالجوع إلى كلمة الله فهذا يكون مؤشراً لضعف الحالة الروحية.
كان هذا الجوع شديداً عند راعوث، حتى أنها من الصباح الباكر - ويسوغ أن نقول من وقت ميلادها الثاني - كانت ممتلئة غيرة، فتلتقط وتجمع باجتهاد، قليلاً ما لبثت في البيت.
وهكذا يعطي الروح القدس تقريراً للرب عن مدى ارتباط حياتنا بالأمور التي تخصه، فهذا هو مقياس حرارتنا وغيرتنا الروحية. ونستطيع أن نفهم هذا من مواضع أخرى في كلمة الله، ففي 1تسالونيكي 3:1 مثلاً. نقرأ «متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكمربنا يسوع المسيح».
فقال لها بوعز ألا تسمعين يا بنتي، لا تذهبي لتلتقطي في حقلِ آخر، وأيضاً لا تبرحي من هنا، بل هنا لازمي فتياتي ( ع 8)
ثم تكلم أخيراً بوعز إلى راعوث، ولنلاحظ أن المبادرة جاءت أولاً من جانب راعوث في الالتقاط، وهكذا قادتها العناية الإلهية التي تجاوبت مع قلبها إلى حقل بوعز، وهنا يأخذ بوعز زمام المبادأة بالتمام في يديه.
كان بوعز يشجع هؤلاء الذين في حقله، ويقودهم خطوة بعد خطوة إلى أن يصل بهم إلى البركة الغزيرة. وأنَّى لهؤلاء الفقراء أن يصلوا إلى ذلك من ذواتهم؟ كان هو «جبار البأس» الذي يريد أن يقودهم، والقادر على أن يفعل ذلك. كان شوق قلبه أن يكون لهؤلاء الذين حوله الثقة الكاملة فيه، حتى يعطيهم حسب غنى محبته وقدرته.
ويتكلم بوعز إلى راعوث بكلمات رقيقة جعلتها حالاً تشعر أنها وجدت نعمة في عينيه. إنه مثال رائع لنا لنتبعه، فهل نحن نعتني بالمؤمنين الأحداث الذين بيننا؟ وهل نشجعهم حتى نساعدهم في نموهم الروحي. إن هذا ليس عمل الشيوخ من المؤمنين فقط، بل أيضاً الشباب لهم أن يؤدوا مثل هذه الخدمة.
في سفر الأمثال ص 25:12 نقرأ «الغم في قلب الرجل يحنيه، والكلمة الطيبة تفرحه»، والعالم مليء بالمثقلين، بل إن كثير من المؤمنين قد أحنت كاهلهم التجارب، ولكننا كثيراً ما نضن عليهم بكلمات قليلة مشجعة، كما لو أن كل كلمة طيبة كهذه تكلفنا ثمناً باهظاً.
بسمةٌ بالحب تمحو |
|
ذكرى أحزانٍ طويلةْ |
لو أننا قارنا نتائج الآيات والعجائب الكثيرة التي صنعها الرب يسوع بنتائج كلماته التي تكلم بها سنجد أن المعجزات والآيات لم تثمر تغييراً في الكثيرين كما فعلت كلماته.
في يوحنا 23:2 نقرأ «آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع» ولكن في العدد التالي مباشرة يستطرد «لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه، لأنه كان يعرف الجميع». فالآيات والعجائب لها تأثير على الحواس، بل وعلى الذهن أيضاً، ولكنها قلما تصل إلى الضمير. أما كلمات الرب فقد ردت ملايين إلى الله على مر العصور، كما كانت فيها تعزية لكثيرين، وهو يريدنا أن نتَّبع نهجه هذا. لذلك يقول بروح النبوة في إشعياء 4:50 «أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعييَ بكلمة. يوقظ كل صباح، يوقظ لي أذناً لأسمع كالمتعلمين». كم أخشى أن تكون رغبة الكثيرين منا أن يكون لهم «لسان المتعلمين» لكي نتباهى به بعلمنا وفصاحتنا. أما الرب فلم يكن له «لسان المتعلمين» لغرض كهذا، بل كما تغنى عنه بنو قورح قائلين «أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك. لذلك باركك الله إلى الأبد» (مز 2:45).
ألا تمس قلوبنا كلمات الروح القدس في كولوسي 17:3 «كل ما عملتم بقول أو فعل». وهل نحن نعطي للقول أهميته كما للفعل؟ قد لا تكون لنا نظرة كهذه، ولكن كلمة الله كثيراً ما تعتبر القول فعلاً. وما أكثر ما نعمله بالقول، نستطيع به أن نعمل شراً، كما نستطيع أن نعمل به خيراً. ولكي نعمل به الخير دائماً يلزمنا أن نكون أكثر قرباً إليه، ذاك الذي قال «تعلموا مني» كما كان هو يتعلم لما كان على الأرض (إش4:50)
والرب يريد أننا «لا نذهب لنلتقط في حقلِ آخر» حيث لا يكون هناك اعتراف كامل بسلطانه، وحيث لا تعطى الحرية الكاملة للروح القدس في توجيه كل شيء. صحيح أن الرب هو الذي غناه لا يستقصى، وكل الحقول تخصه، وعنده من الخير الوفير ما يكفي لإشباع كل احتياج لنا، ولكن في «حقله» هو الذي يرتب كل شيء، فليس هناك مكان لإرادة الإنسان، بل في حقله يتحقق مبدأ «الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً». هذا ما لا يستريح إليه المؤمن الجسدي، لذلك «من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه» (يو 60:6-69). عندئذ سأل الرب الإثني عشر «ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟» فالذين سبق ومضوا كانوا "تلاميذ"، وظلوا حتى بعد هذا "تلاميذ"، ولكن لم تعد لديهم الرغبة في السير وراء الرب. فأن أسير وراءه في طاعة مطلقة دون أن يكون لي رأياً أُبديه فهذا كثير جداً على الجسد أن يتحمله.
ولا شك أن الرب سُر كثيراً وامتلأ قلبه بالفرح حين سمع كلمات بطرس «يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك». كان هذا تعبيراً عن كفاية الرب الكاملة لقلوبهم، فتلك كلمات من يشعرون بأن الحياة الحقيقية والبركة لا توجدان إلا في عيشة الشركة معه، فصارت رغبتهم أن تتشكل حياتهم حسب حكمته ومحبته وقوته.
«لا يقدر أحد أن يخدم سيدين...لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (لو 13:16). كذلك لا يمكن أن نخدم الرب يسوع مع العالم أو ذواتنا، ولكننا أحياناً نحاول ذلك، وهذا هو السبب في برودة القلب وأحزانه التي عند الكثيرين بيننا. كان السبب الذي جعل بني إسرائيل يبكون لأول مرة بعد خروجهم من أرض مصر هو وجودهم في شركة غير مقدسة مع اللفيف الذي في وسطهم (عد 14:11).
ويقول نحميا «في تلك الأيام أيضاً رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف كلام بنيهم باللسان الأشدودي، ولم يحسنوا التكلم باللسان اليهودي» (نح 23:3و24). وكم من المؤمنين في هذه الأيام ينطبق عليهم مثل هذا الوصف، فقد يبدأون كلامهم كما لو كانوا قد أتوا لتوهم من حقل بوعز، ولكنهم سريعاً ما يتحولون إلى لغة حقول الآخرين. والنتيجة أن أولادهم لا يحسنون التكلم «بلغة الأرض».
قد نأخذ حسب الظاهر مركز الانفصال، ونوجد في الحقل الذي لا سلطان فيه إلا لبوعز، حيث «الغلام الموكل على الحصادين» يقود ويحرك كل عمل، فإذا كنا بعد ذلك ننتقل إلى أي مكان آخر لا يعترف بسلطان الرب المطلق، وليس فيه حرية كاملة للروح القدس، فإننا بذلك نظهر عدم اكتفائنا بالرب، وعدم ثقتنا فيه وفي محبته وقدرته، كما أننا بهذا نبدي عدم استعدادنا لإخضاع إرادتنا له حتى نسأله «ماذا تريد يارب أن أفعل؟».
إن الله يريد لنا الاكتفاء والانفصال. «هوذا شعب يسكن وحده» (عد 9:23). «كونوا قديسين (أي منفصلين) لأني أنا قدوس» (1بط 14:1-17). فهو يسر بالحق في الباطن، في الإنسان الداخلي. فإن كنا قد أخذنا مكاننا كمنفصلين فعلينا أن نمارس الانفصال عملياً. عندئذ يستطيع الله أن يقول عنا أيضاً «هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب» (رؤ 4:14).
قد تقول إنك لم تر مظاهر للقوة بين هؤلاء الذين يجتمعون على هذا النحو من الانفصال، وقد تكون على صواب فيما ذهبت إليه، إذ أن القوة ليست من الإنسان، بل من الله. وكيف تتوقع أن ترى مظاهر القوة فيمن يقول الرب عنهم «لك قوة يسيرة» (رؤ 8:13). ولكن ما هي القوة الحقيقية؟ نستطيع أن نقرأ عنها في 1ملوك 19. فلم يكن إيليا أيضاً مقتنعاً بما ظهر من قوة الله. لذلك قال له الله «اخرج وقف على الجبل أمام الرب، وإذا بالرب عابر، وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب، ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار، ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت منخفض خفيف. فلما سمع إيليا لف وجهه بردائه وخرج ووقف في باب المنارة، وإذا بصوت يقول له مالك ههنا يا إيليا؟»
لربما يقول الإنسان الطبيعي أو المؤمن الجسدي عن الريح الشديدة، والزلزلة والنار: ما أعظمها قوة وما أرهبها. قوة تأكل المضادين، تغير المشهد. ومع أن هذا صحيح، والله يستخدمها بالفعل، ولكنه ليس فيها. أما عن الصوت المنخفض الخفيف فالإنسان الطبيعي يقول: ما أضعفها حالة، ولكن الله في هذا. فالصوت المنخفض الخفيف هو الذي جعل إيليا يخرج من المغارة ويلف وجهه بردائه، ويتضع ويخضع خضوعاً حقيقياً، حتى أن الرب استطاع أن يعلمه ويلقنه ما الذي يجب أن يفعل بعد ذلك. «ليس بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود» (زك 6:4، 1كو 1:2-5، 2كو 9:12-10)
«لا تبرحي من ههنا، بل هنا لازمي فتياتي» يبدو للوهلة الأولى أن هذه الكلمات ما هي إلا تكرار للعبارة السابقة لها التي يقول فيها بوعز «لا تذهبي لتلتقطي في حقل آخر»، ولكنها ليست كذلك. فالمقصود هنا أننا يجب أن نلتمس الشركة والرفقة الصحيحة داخل حقل بوعز، فليس كل من وجد في حقل بوعز على نفس الدرجة من السمو الروحي.
كانت رفقة - وهي رمز للكنيسة - عذراء لم يعرفها رجل كما يذكر الوحي صراحة في تكوين 16:24، وكان ذلك أحد مسوغات زواجها من اسحق. كذلك كان الكاهن العظيم غير مسموح له أن يتزوج إلا من عذراء (لا 13:21،14). هكذا أيضاً يقول الرسول بولس في 2كورنثوس 2:11 «لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح». كما أننا نقرأ في رؤيا 14 عن المائة والأربعة والأربعين ألفاً «الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أطهار» فمـا هو الزنى إذاً حسب لغة الكتاب المقدس؟ هذا ما يوضحه لنا حزقيال (ص 26:16-29) أن الزنى هو هدم سور الانفصال، والدخول في شركة مع غير الرب أو مع العالم بدلاً من الشركة مع المسيح.
إننا نكون في وضع عدم الانفصال إلى المسيح وحده حينما تكون لنا شركة مع العالم، سواء في عداوته السافرة لله، أو ربما تحت ستار المسيحية الاسمية. ولكن ليس كذلك من هم في حقل بوعز، حيث كل شيء خاضع لسلطان الرب الممجد في السماء، الذي يشير إليه بوعز. إلا أنه من الوجهة العملية للأسف، يوجد بين هؤلاء الذين في حقل بوعز بعض ممن لم يحفظوا طهارتهم. فهم ليسوا للرب وحده، بل لهم شركة أيضاً مع العالم «لأن كثيرون يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً، وهم أعداء صليب المسيح»، «صليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم» (في 8:3، غل 14:6). لذلك يريد الرب منا أن نطلب الشركة والرفقة الروحية. «أما الشهوات الشبابية فاهرب منها، واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي» (2تي 22:2). كان هذا تحريضاً للذين يحيون في انفصال حسب الظاهر، ولكن هذا الانفصال الظاهري لا يكفي، فقد لا تصحبه الطهارة الداخلية واتباع البر والإيمان والمحبة والسلام. فليس ممكناً أن ننمو في النعمة إذا كانت شركتنا مع مؤمنين جسديين أو عالميين، أو غير فاهمين للحق. فإن كنا نبغي لأنفسنا نمواً روحياً فعلينا أن نجعل شركتنا مع أولئك الذين يحققون في حياتهم تعليم كلمة الله، الذين قلبهم موحد للرب يسوع المسيح، ولا يشركون فيه العالم معه. وهكذا فقط يمكننا أن ننال بركة من الرب.
عيناك على الحقل الذي يحصدون واذهبي ورائهم. ألم أوص الغلمان أن لا يمسوك. وإذا عطشت فاذهبي إلى الآنية واشربي مما استقاه الغلمان ( ع 9)
هناك حصاد دائم في حقل بوعز، لذلك فعيوننا يجب أن تتثبت على الحقل ولا نسمح لها أن تتحول عنه إن كنا نريد أن نشترك في بركاته، وإن كنا نريد أن ننمو في النعمة ولا نتقهقر إلى الوراء. وأيضاً يجب أن نظل ذاهبين «وراء الحصادين» ليكون لنا نصيب في محصوله، فلا يكون عندنا "نقص تغذية"، بل نكون بلا عيب كأولئك الذين قيل عنهم «كلم هرون قائلاً. إذا كان رجل في أجيالهم فيه عيب فلا يتقدم ليقرب خبز إلهه. لأن كل رجل فيه عيب لا يتقدم. لا رجل أعمى ولا أعرج ولا أفطس ولا زوائدي. ولا رجل فيه كسر رجل أو كسر يد، ولا أحدب ولا أكشم، ولا من في عينه بياض...» (لا 17:21-23، 2بط 9و10، في 3:3). فالرب لا يريد لنا أن نكون أقزاماً، ولا ذوي عاهات روحية، بل يريدنا كاملين. لذلك نحتاج إلى النمو حتى ندرك عملياً مركزنا الفعلي كمسيحيين كما نتعلمه من رسالة أفسس. ولكن يجب أن نتعلم أولاً اختبارياً الحقائق المعلنة في باقي الرسائل، كرسالة رومية ورسالتي كورنثوس والرسائل الأخرى.
«ألم أوصي الغلمان أن لا يمسوك» وهنا يلقب بوعز الحصادين «بالغلمان» أي «الأحداث» بلغة رسالة يوحنا الأولى. فيقدمهم لنا في قوة الرجال، فهم أقوياء، وقد غلبوا الشرير، وكلمة الله ثابتة فيهم (1يو14:2) ولكن هناك خطراً أن ينسوا أنهم كانوا مرة أطفالاً في المسيح، فلا يستطيعوا أن يفهموا ويترفقوا بالأطفال في المسيح. ولنا مثال على ذلك في متى 23:15 و لوقا 55:9، 15:18. فلا يجب علينا أن نتوقع من أولئك المولودين حديثاً، أو الآتين من دوائر لم يتعلموا فيها كلمة الحق أن تكون عندهم البصيرة، أو أن يتصرفوا كما يجب. لذلك علينا أن نصبر عليهم، وأن نعلمهم حتى يصيروا «غلماناً»، أي أحداثاً. بل ربما يصبحون يوماً آباء في المسيح. يجب أن نعترف أننا كثيراً، نفشل في ذلك، ولكن لنتأمل تشجيع بوعز لراعوث، وكيف أنه هدَّأ من روعها.
«وإذا عطشت فاذهبي إلى الآنية واشربي مما استقاه الغلمان». سبق ورأينا أن عملية الحصاد تشير إلى خدمة الكلمة وممارسة المواهب. ولكن هنا نجد خدمة أخرى، قد تمت بالفعل قبلاً، ونحن الآن نجني ثمارها. فبوعزنا أعد لنا بواسطة خدامه أواني، وقد ملأها بالماء المنعش، حتى يكون لنا أن نذهب إليها دائماً كلما شعرنا بالعطش (يو38:7).
فبداية نستطيع أن نجد هذه الآنية في كلمة الله المعطاة بالروح القدس، الذي من خلال هذه الكلمة يوصِّل لنا الأمور الروحية بوسائل روحية (1كو 9:2-13). ولكن بالإضافة إلى ذلك فعندنا كنز عظيم من تأملات «الغلمان» الذين كانوا أقوياء، وكانت كلمة الله ثابتة فيهم، وقد غلبوا الشرير (1يو 14:2). فهل نقدَّر نحن هذا الكنز العظيم الذي أودعه الرب يسوع بين أيدينا؟ إننا قلما ذهبنا لنستسقي منه، ونادراً ما نستخدمه، وهذا معناه أنه لا يوجد لدينا عطش، فلم يعد عندنا الاهتمام بالحقائق الثمينة الإلهية ولا بعطايا المسيح الغالية. ومع ذلك فما زالت هذه الآنية متاحة لنا لنشرب منها.
فسقطت على وجهها وسجدت إلى الأرض وقالت له كيف وجدت نعمة في عينيك حتى تنظر إليَّ وأنا غريبة ( ع 10)
إن النفس البشرية صغيرة جداً عن أن تستوعب رحمة الله غير المتوقعة، مع أن ما يقدم من مراحم لا يقارن بتلك التي ذخرها الله ليؤتى بها إلينا. ومع ذلك فما أجمل أن نرى تقدير راعوث لصلاح بوعز بالمقابلة مع عدم استحقاقها. كان لمفيبوشث ذات هذا الشعور عندما وقف أمام داود، سليل بوعز، فقال «من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلي» (2صم 8:9). إن اتضاعاً كهذا هو النتيجة الحتمية لوجود النفس في محضر الرب. لقد وصف الرب أيوب بأنه «ليس مثله في كل الأرض، رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر» (أي 8:1) ولكن أيوب يقول «بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد» (أي 5:42،6). وكيف نفتكر في أي شيء صالح فينا ونحن في محضر الرب، الذي يستحق السجود. فإن افتكرنا شيئاً في أنفسنا، أو دخل يوماً العُجب إلى قلوبنا، فإن ذلك مرده أننا في ذلك الوقت لم نكن نراه. فلا يمكن أن يجتمع الإعجاب بالذات مع محضر هذا الشخص المبارك. بل إن رحمته ونعمته هما اللتان تجعلان النفس تتضع في محضره فتهتف «كيف وجدت نعمة في عينيك؟».
إن نعمته غير المحدودة هي التي تقودني لأن أغني عن الرب يسوع «ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل 20:2). ولكن كيف يتسنى لي أن أدرك ذلك طالما كنت أنظر إلى ذاتي؟ فليس شيء أجده فيها يدعو إلى هذه المحبة، بل على العكس، أستطيع أن أجد فيها الكثير مما ينفره ويجلب غضبه، ولكن إن حولت النظر إليه طالباً معرفته فسأدرك محبته ونعمته أكثر، وعندئذ فقط سأفهم لماذا أحبني ذلك الشخص العجيب حباً كهذا، حتى ارتفع بالصليب لأجلي، واحتمل عني دينونة الله القدوس الذي يكره الخطية. فكل ما فيه كامل وغير محدود، فهو ليس يحب فقط، بل هو المحبة ذاتها. وعندما أتأمله هكذا فكم يتعظم في عيني جداً، حتى أنني في مقابل ذلك أصغر جداً أمامه، حقاً إن نعمته ورحمته تجعلاني أتضع وأتصاغر.
فأجاب بوعز وقال لها إني أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك، حتى تركت أباك وأمك وبيت مولدك، وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل ( ع 11)
بعد أن سمعنا شهادة «الغلام الموكل على الحصادين»، رمز "الروح القدس" نسمع الآن شهادة بوعز، الذي هو رمز لربنا يسوع، إذ يخاطب راعوث نفسها رمز المؤمن. عندما لا نشهد عن أنفسنا، بل نتكلم فقط عن النعمة التي أعطت لنا كل شيء، فإن الرب هو الذي يشهد عنا. إن الرب لا يطلب أبداً منا أن نتحدث بما فعلنا أو نفعل، ولا أن ندافع عن أنفسنا، وإنما يطلب منا أن نشهد عنه وعن عمله، بل وأن نجاهد. ومتى فعلنا ذلك فهو أيضاً سيشهد لنا ويدافع عنا. ولا شك أنه يستطيع أن يفعل ذلك أفضل كثيراً مما نستطيع نحن. فضلاً عن ذلك فإنه سيفضي إلينا شخصياً بما هو مفتكر من جهتنا. وكم كان هذا مشجعاً لراعوث، فهي لم تكن تتصور أن قصة فتاة فقيرة وغريبة تصل إلى سمع جبار بأس، ذي ثروة عظيمة كبوعز. ولو وصلت إلى مسامعه فما كانت تتوقع أن تلقى اهتماماً وتقديراً منه.
ربما لم تكن راعوث تعتبر أن تركها موآب وذهابها وراء نعمي إلى بيت لحم تضحية من جانبها. فأي واحد من أولاد الله لا يمكن أن يفكر في أنه صنع عملاً صالحاً عندما أتى بذنوبه وخطاياه إلى المسيح، وقبله كرب ومخلص، بل أنه يكون شاعراً فقط بحقيقة نعمة المسيح وأنها هي التي اجتذبته إلى هذا الشخص الفريد، ولكن الله أيضاً في نعمته الغنية يحسبه لنا عملاً صالحاً أننا قبلنا الرب يسوع في وقت هو فيه مرفوض من العالم. لذلك فقد أعطانا مكافأة عظيمة، بل وسيعطينا في يوم قادم مجازاة أعظم. فقد صار لنا الآن مقام أسمى من المؤمنين الذين سبقونا قبل صليب المسيح، ومن الذين سيأتون بعد زفاف الكنيسة إلى عريسها، وسنظل في هذا المقام الأسمى طوال الأبدية.
يالها من تعزية قوية أن نعلم أنه يعرف كل شيء عنا، حتى خدمتنا له. قد لا يلحظها أحد من الناس، وربما نكون مختفين خلف الآخرين ولكنه هو يرى كل شيء ولا ينسى شيئاً. وتكفينا ابتسامة الرضا من ثغره، التي هي أثمن من مدح أي إنسان أياً كان. فعندما تدرك النفس أن الرب يعلم كل شيء عنها لأول مرة يكون هذا كريماً في عينيها. وكلما تعمق هذا الإدراك زادت كرامته. فالرب يعرف كل شيء عنا معرفة كاملة، لذلك يقول بوعز لراعوث إنه يعلم بما فعلته بحماتها بعد موت رجلها، الذي كان هو حبل الصلة بينهما حسب الطبيعة، ويُظهر لها تقديره لكونها في طريق الذهاب وراء نعمي تركت أبيها، الذي كان هو الرجل الباقي لها حسب الجسد، والملجأ الطبيعي لها. كذلك تركت أمها، التي هي موضوع اتجاه العواطف والميول الطبيعية، وذهبت وراء حماتها. تركت أرض مولدها لتذهب إلى شعب لم تعرفه، لمجرد أنه شعب نعمي. لذلك يتكلم إليها بصيغة تربطها بإبراهيم أبي المؤمنين (تك 1:12، عب 8:11). نعم، إن الرب يعلم كل ظروفنا، والصعوبات التي أمامنا، والمخاطر التي نواجهها. وهو قادر على أن يتفهمنا جيداً، إذ أنه هو نفسه، في نعمته المتنازلة، قد اجتاز كل هذه الظروف قبلنا (عب 10:2و14و8 ، 15:4). فلماذا إذاً نخاف؟
متى وجد الرب قلباً مخلصاً، وعيناً مثبتة عليه، فإنه قادر على أن يجعل من المؤمن المسكين الضعيف شهادة له. لكننا كثيراً ما نخطئ حين نجعل من الشهادة له هدفنا الأوحد، ولكننا بهذا لا نصبح شهوداً حقيقيين له. ربما نبدو كذلك في أعين البعض، الذين ليست لهم القدرة على التمييز، ولكن مصدر القوة الحقيقي والدافع الصحيح للشهادة القوية لشخصه ليس هو أن نفكر في ذواتنا، بل أن ننشغل كلية بالرب يسوع.
إن راعوث لم تذهب إلى هنا وهناك في محاولات لتكون شاهدة، ولكنها ببساطة كانت مجتهدة في أداء واجبها اليومي. لكن كان وراء هذا الاجتهاد محبة وارتباط من جانبها بنعمي. لذلك رأت أن أداء واجبها لا يمكن يتم بالانفصال عن الإله الحقيقي. فعندما نسلك في بساطة الطاعة مدفوعين بمحبة من نحو الرب يسوع، فإن هذا يؤول إلى شهادة حقيقية له. وعندما نفعل ما يطلبه منا فإنه يُستعلن بذلك للعالم من خلال حياتنا. فالتكريس الحقيقي لإرادته يظهر للعالم كيف أن هذا الشخص الذي امتلأنا به هو شخص فريد وعجيب.
لنلاحظ أيضاً أن راعوث كوفئت أكثر من أجل تكريسها عما كوفئت به لأجل اجتهادها. فلو أنها كانت مجرد فتاة تلتقط كباقي الفتيات لنالت ما التقطته ليس أكثر. ولكن إذ كان عندها تكريس لشخص واحد، وكان هذا التكريس هو المحرك لها في عملها، فقد حظيت بما هو أكثر كثيراً، كما سنرى في الأعداد المقبلة. فلا شك أن الخدمة الأمينة للرب لها مكافأتها، ولكن متى اقترنت هذه الخدمة بتكريس للرب فإن المكافأة ستكون أعظم كثيراً. علاوة على ذلك - كما سنرى في راعوث - فإن التكريس سيزداد باطراد حتى يكمل بالراحة الكاملة والكرامة التامة، إذ نتحد كلية بمن هو غرض تكريسنا.
ليكافئ الرب عملك وليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئت لتحتمي تحت جناحيه ( ع 12)
هنا يبارك بوعز راعوث، ثم بعد ذلك يشاركها هذه البركة. وهذا هو نصيب كل من يبارك. طلب بوعز أن يكافئ الرب راعوث لأجل عملها، وقد باركها الرب فعلاً. فقد كانت عينا الرب عليها عندما رفضت العودة إلى بلاد موآب، وسمع منها كلمات الإصرار على أن تدخل من الباب المفتوح حين حاولت نعمي أن تثني عزيمتها لترجع، وقد حسب ذلك كله عملاً لأجله. وكان بوعز، الذي نطق بهذه البركة، يريدها أن تختبر أنها لم تجر وراء سراب حين جاءت لتحتمي تحت جناحي إله إسرائيل، وهكذا يربطها مرة أخرى بإبراهيم (تك 1:15).
ما أجمل التشبيه الذي يستخدمه بوعز في قوله «تحت جناحي إله إسرائيل». لقد سبق أن استخدم الله نفسه هذا التشبيه (خر 4:19، تث 11:32). كما استخدم الرب يسوع نفس هذا التعبير في معرض محاولاته لأن يأخذ بيد أورشليم (مت 27:23). إن الفراخ الصغيرة في أمن ودفء تحت جناحي الدجاجة. هكذا أيضاً أجنحة النسور قادرة على حمل صغاره، فكم بالحري نحن ولنا جناحا القدير. فلماذا نهتم بما لنا؟ وهل لو أن راعوث بحثت عن سداد أعوازها بنفسها كانت ستسير معها الأمور بمثل هذا اليسر وهذه السرعة؟
فقالت ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي، لأنك عزيتني وطيبت قلب جاريتك، وأنا لست كواحدة من جواريك ( ع 13).
في هذا العدد نرى كم كان لكلمات بوعز من أثر مشجع لراعوث، فالمكافأة ليست هي غرض ولا هدف الإيمان الحقيقي، ولكنها تشجعه وتقويه. كما أن الإيمان يميز أنه أخذ كل شيء بالنعمة، فيطلب أيضاً مزيداً من هذه النعمة. هذا هو طابع الإيمان الحقيقي.
ولكن في مقابل ذلك فإن الجسد لا يريد النعمة إطلاقاً. فإن قبول النعمة هو عين الاتضاع. وعندما يدرك الجسد أنه ليس مصدر للمعونة سوى النعمة فإنه يرفض المعونة بزعم أنها أعظم من أن تصدق، أو لأنه غير مستحق لها. وهذا في حقيقة الأمر انتفاخ وليس تواضعاً. فهذه هي كلمات الجسد، الذي محور أفكاره واهتماماته هي الذات. لذلك يقيس نعمة الله بمقاييسه الخاصة.
ولكن النعمة تشجع النفس، وتوحي إليها بأن تثق فيها ثقة مطلقة، ثم تشبع النفس شبعاً كاملاً. فالإيمان يغلب العالم، ويلقي رجاءه في ثقة تامة على الله، ولا يتشكك في نعمته مطلقاً. بل يصدق الله تماماً ويقبل كل كلمة من كلمات نعمته، ثم يطلب أيضاً المزيد من النعمة، وبهذا يتمجد الله، إذ هو إله كل نعمة، وبهذا أيضاً يظهر الإيمان معرفته بالله كالوهاب الأعظم.
هكذا تلاقت نعمة بوعز مع إيمان راعوث، فهي صدقت كلماته، بالرغم من أنها كانت تعلم وتعترف بأنها لم تكن سوى نعمة مطلقة، ولكنها آمنت أنها الآن قد وجدت نعمة في عينيه، كما آمنا نحن بنعمة الله تجاهنا، وأصبحنا نقيم في النعمة منذ أن آمنا «بمن أقام يسوع ربنا من الأموات، الذي أسلم من أجل خطايانا، وأقيم لأجل تبريرنا» (رو24:4و25).
كانت راعوث مغتبطة بما نالته، ولكن بلا كبرياء، فقد ميزت سلطان بوعز واعترفت به. وهذا ما يفعله الرب معنا دائماً، فهو لا يتكلم إلى العقل كثيراً، بل إلى القلب والضمير، ليحرك العواطف في القلب، ولينبهنا إلى حالتنا التي نحن فيها بالضمير. وحسن لنا أن نتعلم ذلك، فلا قيمة لاقتناع العقل، وإنما المهم هو أن يُستحضر الضمير إلى نور محضر الله الفاحص، وأن توجه عواطف القلب نحوه.
وكما ذكرت آنفاً، لقد اعترفت راعوث بسلطان بوعز، فدعت نفسها جاريته، ثم تضيف «وأنا لست كواحدة من جواريك» فقد كانت تعرف بنات موآب من هن، إذ كانت هي قبلاً واحدة منهن، ولكنها ترى الآن بنات بيت لحم اللواتي كن يخدمن بوعز في حقله، فما أبعد الفرق، فقد كن جميعهن عذارى لا علاقة لهن بالعالم.
قصت عليَّ مرة إحدى الأخوات أنها عندما آمنت بالرب حديثاً ذهبت يوم الأحد إلى اجتماع السجود. فرأت الأخوات وقد أرخين جميعاً شعور رؤوسهن، وقد غطين رؤوسهن جميعاً. كما لاحظت تصرفاتهن أثناء العبادة، فقالت في نفسها: إن هذا شعب مقدس، فلا مكان لمثلي في وسطهم. فأنا لست من هؤلاء. وهذا عين ما رأته راعوث. ولكن هذه الأخت لم تستطع أن تترك هذا الاجتماع، إذ لمست أن بوعز الحقيقي موجود هناك، وكانت رغبة قلبها أن تبقى معه.
متى كانت الأخت تريد أن تتكرس بالتمام للرب، وأن تكون «جاريته» فلا شك أن ذلك سيظهر في تصرفاتها وفي ملابسها، ستكون مهتمة أن تسر الرب في مظهرها الخارجي، وسوف تتزين «بلباس الحشمة...مع ورع وتعقل، لا بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن. بل كما يليق بنساء متعاهدات بتقوى الله بأعمال صالحة» (1تي9:2،10). وبالتأكيد سترخي شعرها وتغطي رأسها (1كو 11).
كانت نعمة ولطف هذا الرجل، جبار البأس، الذي من بيت لحم، قد ظهرت لتلك الموآبية المسكينة من خلال كلماته وأفعاله، وكأن كل اهتمامه أصبح مركزاً عليها، فلمست نعمته غير المتوقعة قلبها، لكنها لم تسيء فهم صلاحه، فلم ترفع الكلفة بينها وبينه، ولم تتجاوز حدودها لا في كلماتها ولا في أفعالها. فقد تنازلت نعمته جداً حتى وصلت إليها، فلم تزدها إلا اتضاعاً في نفسها، وتعظيماً له، حتى أنها «سقطت على وجهها وسجدت إلى الأرض» معترفة بعدم استحقاقها، فهي ما كانت سوى غريبة لا يمكن أن تقارن بواحدة من جواريه. وبمزيد من الإعجاب قبلت بكل تواضع كل ما عمله معها. إن هذا كافٍ لأن توضع بجدارة في مصاف كثيرات من فضليات الأناجيل.
فقال لها بوعز عند وقت الأكل تقدمي إلى ههنا وكلي من الخبز واغمسي لقمتك في الخل. فجلست بجانب الحصادين. فناولها فريكاً. فأكلت وشبعت وفضل عنها ( ع 14).
كما رأينا فيما تقدم، سلكت راعوث في بساطة التكريس والاتضاع. ولكن بوعز كان مهتماً بها، وكان يريد أن يظهر نعمته للآخرين، وماذا تعمله مع فتاة موآبية، بل وما تعمله فيها. فأي لطف يمكن أن يبسط لفتاة غريبة مسكينة كهذا اللطف. أما راعوث فلم ترفض، إذ كانت تفعل كل ما يأمرها هو به، وهذا هو سر نوالها كل هذا الكم من البركات، فلم تعتذر عن قبول دعوته لعدم استحقاقها، ولا لملابسها الرثة التي لا تليق بالجلوس على مائدته. هكذا أيضاً بالنسبة لنا، فالسبيل إلى نوال المزيد من البركة، وللنمو في النعمة، هو الطاعة للرب عن ثقة ويقين بأنه لا يطلب منا أن نعمل شيئاً لا يريدنا حقاً أن نعمله، وبأنه هو نفسه الذي يعطينا القوة للطاعة.
كانت راعوث ملتقطة مجتهدة، ولكن الرب لا يريدنا أن نعمل بنشاط بلا توقف. بل يريد أننا نأخذ وقتاً لأن نأكل معه ونجالسه، فلما جاء إليه التلاميذ ليقصوا عليه «كل ما فعلوا وعلموا» قال لهم الرب «تعالوا إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً» (مر 30:6،31). فكثيراً ما نكون مشغولين بما تكلمنا وما عملنا، حتى أننا قد نتصور أن فضل القوة يرجع إلينا وليس إليه، أو أننا كفاة في أنفسنا. فحينئذ يكون من الألزم لنا أن نختلي به قليلاً لنستريح.
وكلما أكثرنا من الجلوس عند قدميه لنسمع كلامه ونكون في شركة معه لننطلق بقوتها إلى العمل، كلما كانت خدمتنا أكثر ثمراً وبركة. فلو أن راعوث قضت وقت الأكل في الالتقاط لما حصَّلت أكثر، بل على العكس، كانت ستخسر ما أولاها به بوعز من اهتمام، وما قدمه لها حتى شبعت وفضل عنها، فأخذت ما فضل عنها إلى حماتها.
لا يمكن أن تكون الحياة اليومية لأي إنسان أن يعمل فقط ستة أيام في الأسبوع، ثم يقضي يوماً واحداً في الأكل فقط. إلا أن هذا هو نمط الحياة الروحية لكثيرين من المسيحيين، إذ يظنون أنه يكفيهم طعاماً روحياً أن يجلسوا عند قدمي الرب يوم الأحد فقط، وهذا ما يفسر لماذا هم مسيحيون بلا قوة. إذ أن الحياة الروحية التي نلناها بالولادة الجديدة تحتاج إلى أن نتغذى يومياً بالطعام الحقيقي. إن المسيح هو خبز الحياة (يو 35:6). فإذا أردنا نمواً للحياة الروحية فعلينا أن نشبع به يومياً، وأن نقدر شخصه وعمله (يو 56:6). علينا أن نجمع «أمر كل يوم بيومه» من المن ومن غلة الأرض، وأن نأكله ونهضمه (يو 21:6، يش 11:5).
كانت راعوث تجمع طعامها بأن تلتقط، وهكذا نحن نستطيع أن نأخذ الكثير من قراءة كلمة الله، والمجلات الكتابية، أو من الخدمات أو الأحاديث الروحية مع الآخرين، أو قراءة التأملات. إلا أننا هنا أمام أمر آخر، فقد دعيت راعوث لأن تأخذ مكانها على مائدة بوعز وأن تأكل معه. لم يكن الطعام مختلفاً عما التقطته، إلا أنها الآن تأخذه من يده مباشرة، وتأكله معه، وهذا ما يوجد الشركة والرابطة والتوافق. هذه هي الأمور التي يربطها الكتاب دائماً مع "المائدة". على هذه المائدة رأت راعوث كيف يهتم بوعز بغلمانه وفتياته، وكيف يقدم لهم الطعام الثمين والشراب الجيد بسخاء، وهم يتقبلونه بشكر من يد ذاك «جبار البأس». فهل رأينا نحن ما رأت راعوث؟ بل إن راعوث وجدت أن كل هذه الامتيازات قد صارت لها هي أيضاً، بالرغم من شعورها بعدم الاستحقاق، ولكن يد بوعز كانت مفتوحة لتعطيها كما أعطت للغلمان الحصادين الذين خدموه طويلاً ولم تفرق بينها وبينهم. فكان لها أن تجلس بجانب الحصادين الذين لهم خدمتهم العظيمة في الحصاد، فتمتعت معهم ونظيرهم بصلاح بوعز الذي أغدق عليهم جميعاً. كانت هذه مائدة شركة لكل من ارتبطوا ببوعز، وكان هو رأس الجالسين إليها. إنها مائدة تذكرنا بذبيحة السلامة في لاويين 3و7، حيث كانت عائلة الله بأكملها تجتمع حول المذبح لتأكل من الذبيحة، الكاهن ابن هرون مع مقدم الذبيحة، مع كل طاهر من شعب الله. وليس ذلك فقط، بل الله نفسه له أيضاً نصيبه الذي يسمى حرفياً في لاويين 11:3و16 «طعام» الرب. كذلك هرون، كرمز لربنا يسوع المسيح، كان أيضاً له نصيبه (لا 31:7).
في يوحنا 27:6-35 نرى أن الرب يسوع، بوعزنا، يعطي لنا المن، مذكراً إيانا بحياته التي عاشها هنا على الأرض. والمن هو الطعام الذي نحتاجه طالما نحن في ارتحال في البرية في هذا العالم. فهو قد جاء إلى العالم كإنسان، واجتاز في كل الظروف التي يمكن أن نجتازها نحن المؤمنين ونحن هنا على الأرض. قد جُرب واختبر كل ما يحدث معنا، لكنه كان بلا خطية. فهو أيضاً قد جاع وعطش وتعب (يو 4). كذلك وقف عند قبر واحد من أحبائه فبكى (يو 11). وكثيراً ما صار منفرداً (مز 7:102،8). لقد انتظر رقة فلم تكن، معزين فلم يجد (مز 69). وهكذا في كل ضيقنا تضايق (إش 9:63) وتألم بكل ما نتألم به (عب 10:2 و14و18). وعندما نتأمله هكذا متعبدين له فإننا نتقوى به. هذا هو المن، خبز الملائكة، خبز الأقوياء، الذي تقوى به خدام الله الأشداء ليخدموا الله ويتمموا مشيئته في عالم يسود عليه الشيطان، وحيث الرب مرفوض. نعم، إنه الطعام الذي نحتاجه نحن المؤمنين ونحن في هذا العالم. والرب من جانبه يعطيه لكل واحد.
ولكن راعوث كان لها أيضاً أن «تغمس لقمتها في الخل». والكلمة المترجمة «الخل» هنا نجدها أيضاً في (عد 3:6، أم 26:10، 20:25، مز 21:69، مت 34:27 و48، مر 36:5، لو 36:23، يو 29:19 و30). في الشواهد المذكورة من العهد الجديد جميعها، بالإضافة إلى المرة الواردة في مز 21:69 ارتبطت هذه الكلمة بآلام الرب على الصليب، خاصة في اجتيازه تحت دينونة الله حين جُعل خطية لأجلنا. وهكذا ترجع بنا الإشارة هنا إلى أن راعوث كانت تغمس لقمتها في الخل إلى ما حدث مع بني إسرائيل عندما عبروا الأردن ثم اختتنوا (يش 4و5). فالبحر الأحمر يرمز إلى موت وقيامة الرب يسوع لأجلنا، والذي به دخلنا إلى البرية. أما الأردن فيمثل إدراكنا لموتنا وقيامتنا مع المسيح، الذي به ندخل عملياً إلى أرض الموعد. وبمجرد أن دخل الشعب إلى الأرض اختتنوا، الأمر الذي لم يفعلوه في البرية. فعندما نطبق على أنفسنا موت وقيامة ربنا يسوع فإننا نرى أنفسنا وقد متنا مع المسيح وأقمنا معه، عندئذ لابد أن نختتن، إذ يجب أن نطبق عملياً على حياتنا حقيقة الموت مع المسيح والقيامة معه، ونتصرف طبقاً لهذا الحق.
وإذ نوجد في الأرض مختتنين فإنه يكون لنا طعام من نوع آخر، فيمتنع المن، وبدلاً منه نأكل من غلة الأرض فطيراً وفريكاً (يش 11:5،12) وهذا هو نفس الطعام الذي قدمه بوعز لراعوث. إنه الطعام الذي يشير إلى الرب الممجد في السماء، الذي هو طعام للذين أُجلسوا معه في السماويات (أف 6:2)، ولكن ما أقل الذين يدركون هذا بقلوبهم. صحيح أن كل مؤمن هو الآن قد أُجلس في المسيح في السماويات، ولكن كثيرين لم يذهبوا في إدراكهم إلى ما هو أبعد من الفصح (خر 12). فقد أدركوا أنهم خطاة فاحتموا في الدم الثمين المسفوك من الحمل حتى لا يأتوا إلى دينونة من الله. فهم يرون في الله دياناً رهيباً، وكل ما يرجونه أن لا تقع عليهم دينونته. ولكن غالباً ما لا يكون عندهم اليقين، ويظنون أنه لا يجب أن يكون، حتى يعبر عنهم يوم الدين.
ولكن بعضاً من المؤمنين تقدموا حتى البحر الأحمر. فأدركوا أنهم قد أفلتوا من الدينونة، وهكذا صار الله دياناً مخيفاً لأعدائهم، وأما لهم فصديق. فالله نفسه بذل ربنا يسوع لأجلهم. وهذا هو وضع الإنسان في رومية 8. فهو في البرية، ولكنه محاط بنعمة الله كما في خروج 15-18.
على أن القليلين هم الذين أدركوا بقلوبهم الحق الخاص برسالة أفسس. ففي هذه الرسالة نرى أننا كنا أمواتاً، ولكننا أُقمنا مع المسيح، وأُجلسنا فيه في السماويات، حتى أننا نستطيع الآن أن نحيا في السماء بالإيمان، ونمتلك كل الكنوز السماوية لأنفسنا (أف 3:1). وهذا هو المركز الحقيقي للمسيحي، وهو ما يريد الرب أن يأتي بنا إليه. لأجل هذا أعطى بوعز لراعوث «فريكاً»، فهذا هو طعام الذين هم في السماويات. ولما نتناول من هذا الطعام العجيب - المسيح الممجد في السماء - ستتولد فينا الرغبة لأن ندخل إلى أعماق أبعد من المعرفة، وأن نمتلك هذا المركز عملياً.
هناك نصيب متساوٍ لكل المؤمنين، يشتركون فيه بالسوية، يستطيع كل منهم أن يشترك فيه لأنه معد لأجل الجميع، هو كل ما يتعلق بمركز ومقام المسيحي. فكل مسيحي يستطيع أن يأكل من المن، وكل مسيحي يستطيع أن يخصص لنفسه موت وقيامة المسيح. كما أن له أن يأكل من غلة الأرض فريكاً، وكل مسيحي له مكانه على مائدة الرب، وله أن يشترك في عشاء الرب، ما لم يكن في حياته وظروفه ما يمنع ذلك. لكن هناك أيضاً نصيباً شخصياً فردياً لنا أن نناله من خلال الشركة الفردية مع الرب. وهو يتعلق أكثر بحالتنا العملية. لذلك يقول الرب «إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإله نأتي، وعنده نصنع منزلاً» (يو 23:14). هذه هي البركات التي لنا، والشركة التي نتمتع بها، إلى جانب تلك البركات والشركة العامة التي لجميع المؤمنين.
وعد الرب المؤمن الذي يغلب في برغامس «أن يأكل من المن المخفى، وأعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة اسم جديد لا يعرفه إلا الذي يأخذ» (رؤ 17:2). هذه نعمة خاصة من الرب، وهناك أمثلة عديدة على ذلك في المكتوب. علاوة على ذلك فهناك المعاملات الفردية، التي هي جزء من طرق الآب في تدريباته. في هذا نحن لسنا فقط جزءاً من الجسد الواحد، بل لنا أيضاً الشركة الشخصية مع الآب ومع ابنه. فهو يريد أن يقودنا ويدربنا فردياً بنفسه. (اقرأ أع 11:23، 2كو 2:12-9، 2تي 17:4).
ومتى تعلقت قلوبنا بالرب وارتبطت به، فإنه حتى البركات العامة نستطيع أن نأخذها من يده كعطية خاصة أيضاً. وهذا ما حدث مع راعوث، فقد ناولها بوعز فريكاً بيده هو شخصياً. ولا شك أن هذا قد زاد من قيمته في نظرها. فهل نحن نختبر ذلك أيضاً؟
كذلك فإن الرب يعطي بسخاء، فلا نشبع نحن فقط، بل نستطيع أن نشرك الآخرين أيضاً. لقد أكلت راعوث وشبعت، وحفظت ما بقى لتعطيه لنعمي فيما بعد. هكذا أيضاً ما يحدث معنا. فإن ما نأخذه من الرب في الشركة الفردية الشخصية هو ما يجعلنا سبب بركة وتشجيع للآخرين.
ثم قامت لتلتقط، فأمر بوعز غلمانه قائلاً دعوها تلتقط بين الحزم أيضاً ولا تؤذوها. وانسلوا لها أيضاً من الشمائل ودعوها تلتقط ولا تنتهروها ( ع 15و16).
من هذا تعلمت راعوث أن نتائج التقاطها لا تتوقف فقط على مدى اجتهادها، بل إن «بركة الرب هي تغني» (أم 22:10). في سفر الأعمال نقرأ عن نتائج كرازة بولس وبرنابا أنه «آمن جمهور كثير» (أع 1:14). ولكن إذا رجعنا للوراء خمسة أعداد نقرأ «وآمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الأبدية». إن الله هو الذي ينمي (1كو5:3-8). كانت راعوث مجتهدة، وهذا ما جعلها تقوم فوراً بعد الأكل وتشتغل حتى المساء. ولكن مع كل هذا الاجتهاد لم تحصل على نتائج كالتي نالتها من يد بوعز في صلاحه.
استطاع بوعز أن يظهر لطفه لراعوث لأنها كانت تفعل كل ما يقوله لها، حتى ولو كان أمره لها أن تستريح بعض الوقت لتأكل. ولنلاحظ أن راعوث لم تتباطأ أو تتهاون في الالتقاط لما وجدت أنها حققت أكثر مما كانت تتوقع، بل كانت امرأة أمينة، فكانت كل سنبلة تلتقطها تحثها على مزيد من الالتقاط، وكأنها تريد أن تحظى بأكبر قدر من الحنطة الثمينة التي في حقل بوعز.
وكم كان بوعز حكيماً وطيباً ورقيقاً في معاملاته مع راعوث، فهو لم يأمر غلمانه أن يعطوها كومة من الحزم دفعة واحدة، ولو فعل لكان ذلك أيسر على غلمانه، كما على راعوث نفسها أيضاً. ولكن بوعز كان يعلم أن ما نحصل عليه بمجهودنا يكون أكثر غلاوة على نفوسنا مما نحصل عليه كهبة. وهذا عين ما يعمله الرب معنا، فهو لا يمنحنا الحكمة دفعة واحدة، ولا بعد جهد بسيط منا، بل يبدأ أولاً بأن يجعلنا نمسك بأول الخيط، الذي قد يكون واقعة معينة، أو شخصية كتابية، ثم يعرفنا جانباً آخر من الحق بالارتباط بأمر آخر، حتى هكذا نتعلم كيف نفهم كلمته وحقه بالبحث والاجتهاد والدراسة، فكل من يقدر الحق لكونه الحق، ويصرف الوقت والجهد لفهم أفكار الله، فلابد له أن يكافأ على ذلك.
هكذا أيضاً بالنسبة إلى خدمتنا. فكثيراً ما يعطينا الرب بوفرة في وقت لا نتوقع فيه ثمراً على الإطلاق، ثم يكلفنا الرب بأن نفرق ما جمعناه على الآخرين بين حين وآخر، ولا نحتفظ به لأنفسنا، لأنه «يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء ولا نرضي أنفسنا» (رو 1:15) «احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا ناموس المسيح» (غل 2:6 اقرأ أيضاً 1تسالونيكي 14:5،15).
متى كان الإخوة الذين يخدمون في الاجتماعات يهتمون بصغار النفوس المولودين حديثاً فسيظهر ذلك بوضوح في خدمتهم. قد يكونون معتادين على مواجهة احتياجات معينة، وقد يكونون قادرين على أن ينسلوا من الشمائل التي تملأ أيديهم هنا وهناك، ولكن عليهم أن يتبعوا مثال بوعز. كان أمره لغلمانه أن يسقطوا مما بيدهم حتى تستطيع راعوث أن تلتقط. فلا الذي لأجله نُسلت السنابل، ولا أحد من الذين حوله، يجب أن يلحظ أنها ألقيت لأجل شخص بذاته. فالخدمة لا يجب أن تكون موجهة إلى شخص محدد، ولا يجب أن تلفت الأنظار إلى شخص بعينه.
فالتقطت في الحقل إلى المساء، وخبطت ما التقطته، فكان نحو إيفة شعير ( ع 17)
سبق ورأينا سمة الجدية والاجتهاد التي كانت لراعوث، إذ كانت تريد أن تمتلك كل ما أتاحته لها النعمة الإلهية. وهنا تستمر في نشاطها، فتعود إلى الالتقاط حتى المساء. فهل نحن لنا مثل هذا الاجتهاد؟
كثيراً ما يظن الشباب أن الدراسة الجادة لكلمة الله هي من اختصاص الإخوة والأخوات المتقدمين، وهذا أكبر خطأ يقعون فيه. فأفضل فترة من العمر لدراسة الكتاب هي ما بين الخامسة عشر والخامسة والثلاثين. لما كنا في مقتبل العمر كان كل شيء جديداً ومشوقاً لنا، وكان تمتعنا بالبركات التي نحصلها من كلمة الله مضاعفاً. كانت حياتنا مازالت تتشكل، وكانت أفكار الله تستطيع أن تؤثر في أعماق قلوبنا وفي حياتنا. علاوة على ذلك كانت الذاكرة مازالت في اتساعها وقابليتها لأن تحفظ ما تقرأه. وكم من المؤمنين الذين يحبون كلمة الله يندمون على ما فاتهم من أيام الشباب التي لم يستغلوها جيداً في دراسة مركزة لكلمة الله.
ثم تخبط راعوث ما جمعته، فالحنطة لا تنضج بغير التبن، ولكن التبن ليس طعاماً للإنسان، فلا مفر من وجود "التبن" في عظاتنا وتأملاتنا. فقد نسوق بعض التشبيهات لتوضيح حق أو مبدأ ما، وقد نضطر أحياناً لتكرار الكلام مرة أو مرتين حتى يصبح مفهوماً ويرسخ في ذهن المستمعين، هذا علاوة على عدم قدرتنا أحياناً أن نعبر عن أفكارنا كما يجب. وقد يعمد المتكلم إلى التبسيط الزائد في كلامه ليكون أكثر جذباً لانتباه السامعين، أو أن يقول ما لم يُقل من قبل، أو أن يأتي بالجديد، وما إلى ذلك من الأمور التي تجعل أمامنا تبناً كثيراً لنفتش فيه على الحنطة.
ولكن هناك سبيلاً واحداً لأن نعطي السامعين حنطة أكثر، وهو «إن كان أحد يتكلم فكأقوال الله. إن كان أحد يخدم فكأنه من قوة يمنحها الله لكي يتمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح» (1بط 11:4). والكلمة اليونانية المترجمة هنا «كأقوال» ترد أيضاً في أعمال 38:7، رومية 2:3، عبرانيين 11:4، وهي في اليونانية القديمة تطلق على أقوال الآلهة عندما تُسأل عن فكرها من جهة أمر ما. مثالاً على ذلك أقوال دلفي الشهيرة. من هنا نفهم أن أقوال المتكلم لا يجب أن تكون مطابقة لكلمة الله فحسب، بل أيضاً يجب أن ننطق بها حسب مشيئة الله. فلا نتكلم بها إلا في الزمان والمكان اللذين يريدهما الله، فيكون كلامنا «وحي (أي قول) الذي يسمع أقوال الله، الذي يرى رؤيا القدير» (عد4:24) - اقرأ أيضاً 1كورنثوس 13:2 - هكذا لابد أن نتكلم إذا كان الروح القدس هو الذي يستخدمنا ولسنا نخدم من تلقاء أنفسنا.
لأجل ذلك كثيراً ما نرجع بالتبن فقط إلى بيوتنا. فلا نذكر سوى ضعفات وأخطاء المتكلم، أو ربما نتذكر فقط المظهر الخارجي للخدمة، أما راعوث فلم يكن يهمها التبن، لذلك خبطت الشعير لتستخلص حباته التي تريدها، فهي فقط الطعام الحقيقي، لذلك غربلته ورجعت به صافياً إلى البيت.
في لاويين 11 يذكر أن الحيوانات الطاهرة التي يمكن أن تؤكل تتصف بأنها تجتر. ثم في تثنية 3:18 نقرأ عن معدةالحيوان أنها جزء من نصيب الكاهن. وكأنه على الكاهن أن يجتر على طعامه، وأن يهضمه جيداً. فهل نحن نهضم طعامنا الذي نحصل عليه من قراءة الكلمة أو من التأملات، أو مما نسمعه في الاجتماعات. وهل نحن ننفض التبن أولاً حتى تبقى لنا حنطة صافية، كما كان اسحق «يتأمل في الحقل» كما يذكر في تكوين 63:24.
والآن قد أدركت راعوث قيمة ما التقطته، لقد كان «نحو إيفة شعير». وحسب خروج 16:16،36 فإن الإيفة تكفي طعاماً للفرد لعشرة أيام. كما كانت تكفي كخبز تقدمه لتقديس عشرة كهنة. وهاهي ترجع بهذا الخير الوفير لتشرك فيه حماتها نعمي. فعندما نستوعب ما نلناه ونهضمه بالتأمل الواعي فإننا حينئذ نكون قادرين على أن نفيض بالخير الذي نلناه على الآخرين.
فحملته ودخلت المدينة، فرأت حماتها ما التقطته، وأخرجت وأعطتها ما فضل عنها بعد شبعها (ع18).
في رومية 7:14 نقرأ «لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته». جمعت راعوث والتقطت، وهاهي الآن تحمله بلا خجل. فحسناً أن يرى الآخرون ما استطاع الملتقط أن يخرج به من حقل بوعز. وهكذا حملت هذا الخير الوفير ودخلت المدينة، ليكون لشبع الآخرين أيضاً. هذا على النقيض مما أراد بني بليعال أن يفعلوا في 1صموئيل 22:30. فهم كانوا مع داود حين حارب العمالقة، واغتنموا غنيمة وافرة. ولكنهم كانوا يريدون أن لا يعطوا شيئاً لهؤلاء الذين اضطرهم الإعياء لأن يبقوا مع الأمتعة. ولكن هذا لم يكن منهج داود على الإطلاق، بل وزع الأنصبة بالتساوي على الجميع. هكذا أيضاً فعلت راعوث مع حماتها، فما أن دخلت المدينة حتى أتت بما حملته إلى حماتها حيث كانت تعيش معها.
رأينا فيما سبق أن نعمي تجسد أمامنا الشهادة، فإلى هذه الشهادة حملت راعوث ما التقطته. فهي لم تفكر في نفسها فقط، بل في الشهادة. فكل ما حصلت عليه بقوة وبوسائل روحية كان لصالح الشهادة ولكل الجماعة - ممثلة في المدينة - فحملت ما خبطته إلى حماتها التي تمثل الشهادة التي أتحدت راعوث نفسها بها.
هذه هي إرادة الرب كما نتعلمها من كلمة الله، فعلى سبيل المثال في كولوسي 19:2، أفسس 11:4-16، 1كورنثوس 14:12-27 نقرأ عن «المسيح الذي منه كل الجسد مركباً معاً ومقترناً بمؤازرة كل مفصل، حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة». ليت الرب يهبنا أن نكون جميعاً واعين لهذا، حتى نأتي بكل الفوائد الروحية إلى الشهادة لخير وبركة الجميع. وهذا ليس معناه أنه يجب أن نشارك في كل شيء جماعياً في الاجتماع. فليس ممكناً لجميع الأخوات، وكذلك معظم الإخوة أن يشاركوا بما عندهم من فوائد. ومع ذلك فإذا رجعنا للآية السابقة للآية التي تأملنا فيها في أفسس4 سنجد أن كلمة «كل» تتكرر عدة مرات. ففي أحاديثنا في زياراتنا وافتقادنا بعضنا لبعض، وفي كل فرصة أو مناسبة، يمكن لنا جميعاً أن نُشرك الآخرين في البركات التي حصَّلناها، حتى تثمر في الجميع نمواً في النعمة. وهذا بلا شك سوف يكون له تأثيره الإيجابي على العبادة في اجتماعاتنا، إذ سيكون الجو كله مشبعاً بهذه البركات. حتى اختباراتنا، وشركتنا وعلاقتنا الشخصية مع الرب، وأفضاله على كل فرد منا يمكن أن تكون طعاماً للآخرين. هكذا أعطت راعوث ما فضل منها لحماتها نعمي بعد أن شبعت هي من الفريك الذي ناولها بوعز. وأنا لا أقصد بذلك أن يكون موضوع أحاديثنا دائماً هو مشاعرنا وعواطفنا، أو اختباراتنا، أو ما نتصوره كاختبارات. ولكن الشركة الشخصية مع الرب واختباراتنا معه لابد وأن تؤثر على سلوكنا وخدمتنا. فأحياناً يستخدم الرب اختباراً معيناً أجتاز فيه لمجرد أن أكون سبباً لتشجيع مؤمن آخر. فقد ذكر بولس مثلاً بعض إحسانات الله نحوه حتى نتشجع نحن بها. تأمل مثلاً أعمال 11:23، 2كورنثوس 2:12-9، 2تيموثاوس 17:4 وقارنها بعدد 14 من هذا الأصحاح.
فقالت لها حماتها أين التقطت اليوم وأين اشتغلت. ليكن الناظر إليك مباركاً. فأخبرت حماتها بالذي اشتغلت معه وقالت اسم الرجل الذي اشتغلت معه اليوم بوعز (ع19).
يقول الرسول بولس للمؤمنين في تسالونيكي «لأنه من قبلكم أُذيعت كلمة الله ليس في مكدونية وأخائية فقط، بل في كل مكان ذاع أيضاً إيمانكم بالله، حتى ليس لنا حاجة أن نتكلم شيئاً. لأنهم هم يخبرون عنا أي دخول كان لنا إليكم، وكيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي وتنتظروا ابنه من السماء» (1تس 8:1-10). فقد كان الآخرون هم الذين يذيعون رجوعهم ونتائجه. هذا عين ما حدث مع راعوث، فهي لم تتكلم بكلمة واحدة عندما سألتها حماتها، ولكن الثمر الذي كانت تحمله كان هو المتكلم والشاهد عنها. فلابد أن يلحظ الآخرون على من يقضي اليوم كله في الالتقاط في حقل بوعز آثار هذه الشركة الشخصية معه على تعبيرات وجهه وعلى ملابسه وتصرفاته. بل إن الغنى الروحي لابد وأن ينم عن حقيقة الشركة التي لنا مع ربنا يسوع، وعن أننا بحثنا عن الطعام والخير في حقوله فوجدناه. «لماذا تزنون فضتكم لغير خبز وتعبكم لغير شبع. كلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم» (إش 2:55). فمع أن راعوث لم تتكلم، إلا أن نعمي لاحظت أنه لابد وأن يكون هناك شخص قد نظر إليها وصنع معها إحساناً، ولابد أنه يكون شخصاً فريداً، لذلك باركته نعمي.
وماذا كان رد راعوث؟ كانت تعلم ما الذي التقطته، بل والأهم، كانت تعلم مع من اشتغلت. لقد سألتها نعمي «أين التقطت؟» ولكن راعوث ترد «بالذي اشتغلت معه». فما يشغلها الآن هو الشخص، وليس المكان. لاشك أن المكان كانت له أهميته. ولكن أهميته هذه ترجع بالدرجة الأولى لكون راعوث تستطيع أن تجد بوعز فيه، ولأنه حقل مملوك له.
إن المكان الذي يجتمع فيه الرب يسوع بخاصته (مت 20:18) هو لاشك غالٍ جداً على قلب كل من عرف قيمته. ولكن قيمته الثمينة هذه لا ترجع فقط لكونه مكان البركة التي نتزود بها - مع أن هذا حقيقي - بل بالحري لأن الرب هناك، ولأننا فيه نستطيع أن نكون معه هناك، حتى وإن كنا مازلنا على هذه الأرض.
واضح من سياق الحديث أن راعوث لم تكن تعلم أن نعمي تعرف بوعز، ويبدو أن نعمي لم تذكر اسمه قبلاً أمام كنتها. فلم يكن لبوعز قبلاً أي موضع في قلب نعمي وحياتها. لم يكن قد سبق لنعمي أن تعلمت كيف ترنم:
في القربِ منكَ أنظرُ جمالَكَ |
|
ويثقُ القلبَ بعونِ يدِكَ |
هل يميز الذين يتعاملون معنا أننا نعرف الرب يسوع؟ هل يستطيعون أن يعرفوا «من هو» بأن يروا ماذا يكون هو بالنسبة لنا؟
لقد صارت لراعوث معرفة شخصية ببوعز من اختبار هذا اليوم. وصارت تعرف اسمه، فهو «بوعز» أي "من فيه القوة". فياله من اسم معزٍ. لقد كان اختبارها لصلاحه واهتمامه بها خير مشجع لأرملة مسكينة كسيرة الجناح نظيرها، ليس لها من يشفق أو يحنو عليها، فلا عجب أن نسمعها تذكر اسمه لنعمي بفرح وإعزاز، وكأنها تقول «اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى» (نش 3:1). هذا ما قالته العروس نبوياً عن المسيح، كما تغنى عنه بنو قورح في مزمور 45 «أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك».
ومن هو الذي يستطيع أن يسبر غور معنى اسم «يسوع». ومن الذي يمكنه أن يعبر عما يجيش به قلب إنسان قد أدرك معرفة الرب يسوع. إن معرفته كالمخلص رائعة، وأما عندما نصل إلى معرفة شخصه، ومن هو بالنسبة لنا في كل أحوال الحياة، صعوباتها وآلامها، أخطارها وخداعها، بل في ريائها ومباهجها الزائفة أيضاً، فإن هذه المعرفة أروع بما لا يقاس. بل الأعظم من ذلك أن نبلغ إلى معرفته في ذاته وطبيعته، وأمجاد شخصه وعمله على الصليب كما أعلنها الآب لنا على صفحات الوحي من خلال الآلاف من الأمثلة والرموز في كلمته.
لقد فاض قلب يوحنا هاتفاً «والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 14:1) لقد أعطى الله له ولآخرين معه أن يكتبوا ما رأوه حتى نراه نحن أيضاً معهم، فهل حقاً رأيناه؟ وهل نراه الآن؟
إن سفر راعوث يتميز بطابع النعمة التي تحرك المشاعر والعواطف في القلب، وتنبه الحاسيات التي تحتاج إلى إشباع. فمتى استيقظت هذه الأحاسيس فإن الإيمان يمسك بالنعمة لتشبعها. وليس هناك أحب إلى النعمة من أن تشبع احتياجات الإيمان. هذا ما سنراه في الأصحاحين التاليين. ولكننا هنا نرى بوضوح المحبة في قلب راعوث، التي أثمرتها نعمة بوعز.
وقالت نعمي مبارك هو من الرب، لأنه لم يترك المعروف مع الأحياء والموتى. ثم قالت لها نعمي الرجل ذو قرابة لنا. هو ثاني ولينا ( ع 20)
رأت نعمي بوضوح يد الرب في أنه قاد راعوث لتتقابل مع بوعز، الذي قدم لها عوناً. وكانت نعمي هي التي قالت قبلاً في ص21:1،22 عن الرب القدير أنه أذلها وأمرَّها. لكنها الآن أدركت أن الرب يؤدبها ويدربها لكي يحسن إليها في آخرتها (تث 16:8).
كانبوعز هذا الذي أحسن إلى راعوث ذا قرابة لنعمي، ولم يكن ذا قرابة عادية، بل كان ولياً لها. والكلمة العبرية المترجمة هنا «وليّ» تعني أيضاً «فادي» وتترجم أيضاً "فداء" أو "يفك" أو "ولي الدم". وتتكرر هذه الكلمة في الأصحاحين الثالث والرابع مرات أخرى. ولكن الكلام يأتي تفصيلاً عن «الوليِّ» الفادي أو «ولي الدم» المنتقم في سفر اللاويين 25، وسفر العدد 35. وفي سفر التثنية ص25. وفي ترجمة داربي يشير في هذا العدد إلى عدد 25:25، مزمور 18:69 في الحاشية السفلية.
فإذا باع واحد ميراثه لأنه افتقر، فيكون للميراث فكاك، أي استعادة شراء. تماماً كما كان الإسرائيلي الذي يفتقر حتى يبيع نفسه عبداً، إذ يكون له فكاك أو فداء. ولكن يفديه من له الحق في ذلك فقط. وكان الذي يكون له حق الفداء أو الفكاك مسئولاً أيضاً عن أن يثأر لدم قريبه إذا قتله قاتل (عد 16:35-27). كما كان لزاماً عليه أن يأخذ امرأة قريبه الأقرب الذي مات بلا وارث، ليقيم اسم الميت على ميراثه. فالرب لم يكن يريد أن يُمحى اسم الميت، ولا أن يقع ميراثه في يد الغرباء. لذلك كان لابد أن يكون للفقير أو الميت «ولي»، هو أخوه، أو عمه، أو ابن عمه، أو أقرب الأقربين إليه، فيكون له "حق الفداء" أو "حق الفكاك" (لا 48:25 و49).
والرب يسوع هو فادي إسرائيل. فهو الذي سيفدي الميراث ويخلص إسرائيل، ويقيم نسلاً جديداً، ويحطم بالقضاء أعداء ومستهلكي شعبه. فإذا استبعدنا مسألة القضاء على الأعداء فإننا نجد كل ما عداها في أمر الولي ممثلاً في قصة راعوث وبوعز نبوياً.
على أن الرب هو ولينا وفادينا أيضاً. فنقرأ عنه في عبرانيين 14:2و15 كولي الدم لنا «فإذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية». وفي عبرانيين 10، 1بطرس 18:1-20 نقرأ عنه كالفادي الذي يدفع ثمن فدائنا. وفي أفسس 14:1، كولوسي 20:1 نرى فداء - أو فكاك - الميراث. أما في 1كورنثوس 45:15، رومية 12:5 فنجده كأخي الميت الذي يقيم له نسلاً وارثاً، يستطيع أن يرث ويمتلك ميراث الميت - آدم الأول - الذي مات بالذنوب والخطايا.
وأخيراً نقرأ عن الرب في رؤيا 2و3 كولي الكنيسة في فشلها وانحطاطها. لقد تركت الكنيسة محبتها الأولى، فافتقرت. باعت ميراثها، وذهبت وسكنت حيث كرسي الشيطان (رؤ 13:2). والآن لها اسم أنها حية، ولكنها ميتة (1:3). ولكن الفادي بوعز الحقيقي، الذي له مفتاح داود، يأتي ويفتح فلا أحد يغلق، ويغلق فلا أحد يفتح، يأتي إليها في وضعها كساردس التي بلغت الموت، ويقيم وارثاً جديداً، ويفتح باباً إلى الميراث، ويربط فيلادلفيا بنفسه وبكلمته. ولمجمع الشيطان يظهر نفسه "كولي الدم". هذا ما أعتقد أننا نراه رمزياً في قصة راعوث، وفي هذا أريد أن أحصر تأملاتي.
لقد سمعت نعمي عن حق الفكاك في الأيام القديمة، ولكنها لم تعلق عليه أي أهمية. ولو كانت قد فعلت ذلك لما توانت كل هذا الزمان دون أن تلجأ إلى استخدام هذا الحق. لذلك أدخلت نفسها في تجارب وتأديبات وهي ذاهبة في طريق الانحلال والضعف. وقد تطهرت فعلاً بواسطة هذه التجارب والتأديبات. وهاهي الآن ترى كم كان بوعز صالحاً، فتذكرته وتذكرت أن له حق الفكاك إذ هو "ولي". وإن كانت ما تزال أفكارها مشوشة، ولكننا نتعلم منها دروساً نافعة. فعندما يختار الواحد طريقه، ويفرَّط في الحق الإلهي، فلا بد أن يفقد النور، ولكن عندما يرجع عن طريقه الخاص فلا بد أن يعود النور فيضئ له ثانية شيئاً فشيئاً، ولربما يرجع إليه كاملاً. قالت نعمي عن بوعز إنه «ذا قرابة لنا» أي أنه واحد من الذين لهم حق الفكاك. ولكن لم يكن قد وضح أمامها أنه هو وحده القادر أن يفعل، وأنه هو وحده فقط يستطيع أن يعينها في كل ظروفها وأمورها.
فقالت راعوث الموآبية إنه قال لي أيضاً لازمي فتياني حتى يكملوا جميع حصادي ( ع 21).
كل ما في حقل بوعز ينتسب إلى بوعز، فالفتيان، والحصاد كانا لبوعز، وما كان لأي شيء قيمة إلا لكونه يخصه.
ونلاحظ أن راعوث مازالت حتى الآن تسمى بالموآبية، فكلماتها تظهر أنها لم تكن قد بلغت النضوج بعد، أو أنها رمزياً لم تبلغ إلى الوضع المسيحي الصحيح، فهي لم تعرف بعد غنى مقاصد الله بالارتباط بالفداء، إذ لم تكن قد عرفت سوى القليل من كلمة الله. وإذ لم تكن قد عرفت بوعز في كل كماله لم يكن لها أن تفهم المعاني الواسعة التي وراء قول حماتها «هو ثاني ولينا». فكل ما أعطاه الله، وما يريد أن يعطيه للإنسان من بركات إنما هو في الرب يسوع (أف 3:1-11)، ولكن إدراكنا لقيمة هذه البركات يزداد على قياس ما نعرفه عن مجد ذاك الذي امتلكنا فيه كل هذه البركات. فلا يمكن أن نقدَّر غنى هذه البركات ما لم نر أولاً مجده، وهذا عين ما حدث مع راعوث. فلم يكن ممكناً أن تدرك قيمة كون بوعز أحد أوليائها الذين لهم حق الفكاك لها إلا بعد أن تفهم أفكار الله من جهة هذه الحقيقة، بل إنها ازدادت تقديراً لذلك بعد أن تعرفت على بوعز عن أكثر قرب. لذلك لم تعر هنا ملاحظة حماتها عن قرابة بوعز لها اهتماماً، واستطردت في كلامها عما كان يشغل قلبها، ألا وهو كلمات بوعز وإحسانه. كان هذا هو الطريق الصحيح بالنسبة لها لتعرف أكثر عن بوعز وتدرك قيمة كونه ولياً.
في البداية قال بوعز لراعوث «لازمي فتياتي». ولكنه في نهاية اليوم يقول لها «لازمي فتياني حتى يكملوا حصادي». ونحن لا نستطيع أن نثبت في حياتنا الروحية حتى ندرك عملياً مركزنا المسيحي ونستوعبه بعمق. سبق ورأينا في عدد 8،9 أن الذكور في كلمة الله يرمزون إلى الحالة العملية. بينما الإناث يرمزن إلى المركز والمقام. فقوله أولاً «فتياتي» يشير أن هناك انفصالاً عن العالم وتكريساً للرب. ولكننا نجد فكراً أبعد في نشيد 1 «لرائحة أدهانك الطيبة اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى...أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض عند الظهيرة. لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك» (نش 3:1-7) فالعذارى تحبه لأجل رائحة أدهانه الطيبة، لذلك فهن يتبعنه، وهذا عظيم، ولكن ما زال هناك ما هو أعظم، ألا وهو الاتحاد بالمسيح والشركة مع الآب ومع ابنه (يو 3:1).
أما «الفتيان» فيمثلون الحالة العملية المتسمة بالقوة، كما يتكلم يوحنا إلى «الأحداث» في1يوحنا 14:2. فهم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيهم، وقد غلبوا الشرير وهم مثابرون في حصاد الحنطة حتى يكمل حصاد الله وجمعه. وبينما هم يفعلون ذلك ينسلون من الشمائل لمن يلتقطون. هؤلاء هم الذين أوصى بوعز راعوث أن تلازمهم حتى ينتهي حصاده. أفليس هذا امتيازاً عظيماً؟
فقالت نعمي لراعوث كنتها إنه حسن يابنتي أن تخرجي مع فتياته لئلا يقعوا بك في حقل آخر. فلازمت فتيات بوعز في الالتقاط حتى انتهى حصاد الشعير وحصاد الحنطة وسكنت مع حماتها ( ع 22،23).
ربما لم تستطع راعوث أن تميز بين فتيات بوعز وفتيانه، فكلا الفريقين يجمع بينهما الكثير، كلاهما ينتمي إلى بوعز، وكلاهما يعمل في حقل بوعز. أما بوعز فكان يعلم الفرق جيداً، ويا ليت راعوث تبعت صوت بوعز وحده، فالطاعة للرب تقود إلى أسمى البركات، كما أنها تسر قلبه. ولكن راعوث أصغت إلى صوت حماتها ومشورتها، التي لم تدرك - كراعوث - الفرق بين الفتيان والفتيات جيداً، وأنَّي لها ذلك وهي التي هجرت بيت لحم زماناً، وفقدت الشركة مع بوعز، فرأت أن الأفضل لراعوث أن تبقى في صحبة الفتيات. ولم لا، ألم تتبارك كثيراً في صحبتهن ذلك اليوم. ولكن يجب أن نفهم أن الكنيسة في حالة انحرافها عن المسيح لم يعد لها سلطان علينا. فكلمة الله تعلمنا أن «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ 7:2،11،17،29؛ 6:3،13،22). صحيح أنه حسن أن يطيع الأحداث صوت من هم أكبر سناً، الذين لهم خبرة أطول. ولكن متى كانت مثل هذه المشورة تتعارض مع قول الرب فليس هناك سوى مبدأ واحد أمامنا وهو «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس».
أطاعت راعوث قول نعمي بدلاً من أن تعمل حسب قول بوعز، وكأنه يقول لها «يا صديق ارتفع إلى فوق» (لو 10:14)، ولكنها بقيت في مكانها المتأخر، تلتقط مع فتياته، وتسكن مع حماتها. وإن كانت في جوانب أخرى أكثر طاعة لبوعز، فظلت تلتقط في حقله حتى انتهاء حصاد الشعير وحصاد الحنطة، حتى ولو أنها لم تمسك بمكان البركة الذي عينه لها بوعز، إلا أنها أدركت ملء حصاد الله.
في نهاية الأصحاح الأول رأينا حزمة أول الحصيد تفتتح حصاد الشعير عقب الفصح مباشرة، ورأينا فيها قيامة الرب يسوع بعد موته الذي يتكلم عنه الفصح. ورأينا أنه في ذلك الوقت تحديداً وصلت نعمي وراعوث إلى بيت لحم، وهذا بلا شك يشير إلى أنه لا رجوع إلى الله إلا على أساس موت وقيامة ربنا يسوع.
أما الأصحاح الثاني فينتهي باكتمال حصاد الحنطة، الذي كان يتم في يوم الخمسين بعد سبعة أسابيع من تقديم حزمة الباكورة (اقرأ خر22:34، لا 15:23-21، تث 9:16-12). ولعل السبب في أن يوم الخمسين كان لابد أن يأتي بعد انتهاء حصاد الحنطة هو أنه لم يكن مطلوباً تقديم سنابل خضراء فيه كما في يوم الباكورة، بل كان يقدم فيه رغيفين، وهذا كان يستلزم اكتمال الحصاد. هذا علاوة على أنه كان على كل ذكر أن يصعد إلى أورشليم ليعيد عيد الأسابيع، ولم يكن ممكناً أن يأمرهم الله بذلك خلال أيام الحصاد.
معنى ذلك أن أحداث الأصحاح الثاني وقعت في السبعة الأسابيع ما بين الفصح والخمسين، بين عمل الرب على الصليب وقيامته وبين انسكاب الروح القدس في (أع 2) حين تكونت الكنيسة (1كو 13:12) واتحدت برأسها السماوي (أف 20:1-23). وكان على كل يهودي أن يحسب هذه الأسابيع السبعة (تث 9:16). وهكذا حسبها التلاميذ كما نقرأ في الأصحاحات الأخيرة من الأناجيل وفي الأصحاح الأول من سفر الأعمال. فكانت تلك الأسابيع مرحلة نمو روحي كما نفهم من لوقا 26:24،27،45-49،يوحنا 17:20-23، أعمال 2:1-4،9-11. فكانت كمدخل لأن يعطيهم الرب اختبار أعمال2.
وهكذا يريدنا الرب أن نحسب تلك الأسابيع السبعة، إذ هو يريد أن يقود كل مؤمن من يوم رجوعه إلى أن يصل إلى مركز المسيحي الكامل، ألا وهو الاتحاد معه كالإنسان الممجد في السماء، وبالله الروح القدس، الساكن على الأرض في الكنيسة، وفي كل مؤمن فردياً. ولاشك أن هذا هو مركز كل من يؤمن بالإنجيل، ولكننا لا نستطيع أن نتمتع عن إدراك بهذا المركز إلا على قدر ما نفهمه ونمتلكه روحياً. لقد ضاع من المسيحية إدراك هذا المركز، ففي ثياتيرا اغتصبت إيزابل مكان الكنيسة، وفي ساردس غابت تماماً حقيقة الكنيسة وما هي كجسد الإنسان السماوي وكمسكن لله في الروح، وصار أسمى ما يستطيع أن يصل إليه الإنسان هو أن يعرف أن خطاياه قد غفرت، وحتى هذا الحق لم يستطع أن يدركه سوى القليلين.
ولكن في فيلادلفيا نرى الروح القدس يعمل لكي يستحضر البقية الباقية في الكنيسة إلى يوم الخمسين مرة أخرى، إلى حيث مكان الكنيسة الصحيح. ففي راعوث 1:2-21 رأينا حصاد الشعير، الذي يمثل الرجوع إلى المسيح المقام والممجد في السماء، وفيه نرى تناول الطعام من الرب مباشرة، وكيف ينبغي أن نقدر البركات السماوية، ولكن في ع23 رأينا حصاد الحنطة، الذي يشير إلى القديسين وقد صاروا مشابهين تماماً لربنا يسوع (يو 24:12، 1كو 48:15). وهذا هو أساس وحدة الكنيسة مع الإنسان الممجد في السماء. وهذه هي أسمى صفات الكنيسة.
وفي الأصحاحين التاليين سوف نرى يوم الخمسين.
- عدد الزيارات: 34701