الأصحاح الثالث
وقالت لها نعمي حماتها ألا ألتمس لك راحة ليكون لك خير. فالآن أليس بوعز ذا قرابة لنا، الذي كنت مع فتياته. ها هو يذري بيدر الشعير الليلة ( ع 1،2)
في الأصحاح السابق رأينا الأحداث التي وقعت أيام الحصاد، والعدد الأخير منه يخبرنا عن انتهاء حصاد الشعير وحصاد الحنطة، ولم يبق سوى جمع الكروم في نهاية السنة. والكروم لا تنتج طعاماً، بل خمراً فقط، فيه صورة للفرح. فماذا كان على نعمي وراعوث أن تفعلا بعد ذلك؟ لم يعد هناك الغلمان الذين ينسلون من الشمائل. لاشك أن راعوث قد جمعت مخزوناً كبيراً من دأبها في الالتقاط، ولكن هل يكفيها هذا حتى يحل العام الجديد؟ ربما اجتاز البعض منا في فترات تعذر عليهم فيها حضور الاجتماعات، قد يكون هذا بسبب المرض، أو ربما لسبب الأسر في الحرب، أو نتيجة الاضطهادات التي قد تمنعنا. حينئذ كان لابد لنا أن نعيش على مخزوننا مما جمعناه قبلاً. ولكن هذا لا يمكن أن يستمر طويلاً، وإلا فسنصاب بالهزال وسوء التغذية، وقد تكون النهاية هي الموت. هذا حق، فالكتاب يعلمنا أننا لانعتمد على "الوسائط" ولكن على الرب نفسه، ولكنه حق أيضاً أن الرب يستخدم عادة تلك الوسائط التي يعطيها لنا في الظروف العادية.
قد نسمع البعض ينوحون ويشكون، لأنهم في مثل هذه الظروف حرموا من ممارسة "الأسرار الكنسية". ولكن من يقبل إلى الرب، ويرتمي على ذاك المملوء نعمة وحقاً، سيجد عنده كل عوزه، وتكون هذه بالنسبة له أزمنة البركة. وسيعرف أن النعمة أسمى من أن تكون أسراراً وطقوساً كنسية، بل إنها توجد عنده، وتوجد عنده بوفرة. فإن سلكنا طريق الطاعة فلن نعاني من فقر أو عوز مهما كانت الظروف التي نجتازها.
ما أعظم التغيير الذي حدث في نعمي! كانت في ص9:1 تلتمس راحة من الرب لعرفة وراعوث بأن ترتبطا برجال موآب، وأن تستقر كل منهما في بيت رجلها. ولو أن الرب سمح بذلك لنالت كل منهما راحة ظاهرية، ولو إلى حين. ولكن ما كانت راعوث لتأتي إلى بيت لحم، ولا كانت تعرفت ببوعز، بل كانت ستتعبد للأوثان بدل يهوه، وما كانت لتجد شبعاً حقيقياً لجوع قلبها. وما الذي كان سينتظرها أخيراً عند وقوفها أمام كرسي المسيح للدينونة؟
ولكن الآن قد رجعت نعمي إلى بيت لحم، وقد أكلت شعيراً من غلة حقول بوعز. ونحن عندما نأكل من غلة هذه الحقول لا نبقى كما نحن، بل لابد تتغير نظرتنا للأمور. فها نعمي الآن تلتمس راحة لراعوث في أن ترتبط ببوعز في أوثق علاقة معه، فتوجه راعوث إلى أن هذا الرجل، جبار البأس، الذي أظهر كل هذا العطف عليها، والذي كانت تلتقط في حقله، إنما هو ذا قرابة لهما.
وما أجمل أن نكتشف ما تعلمنا إياه كلمة الله من جهة هذا الأمر. فنحن قد ولدنا من الله (1يو 1:5) وبذلك صرنا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 4:1). كذلك فإن الرب لا يستحي أن يدعونا إخوة (عب 11:2). إن معرفة هذا لابد وأن تثمر فينا رغبة قلبية في أن نقترب إليه أكثر، وأن نتعمق في معرفته. وكيف لرغبة كهذه أن تشبع؟ إن كلمة الله هي التي تعطينا الإجابة على هذا السؤال. بل إن الآباء من المؤمنين عادة ما يكونوا قادرين على مساعدتنا بأن يوجهوا نظرنا إلى هذا الحق المكتوب، وأن يعطونا خبرتهم في هذا الطريق، التي غالباً ما يكونوا قد حصلوا عليها من خلال تجارب وآلام، بل وربما خسارة كبيرة.
«هاهو يذري بيدر الشعير الليلة». لا نقرأ أن بوعز زرع ولا حصد بنفسه، بل كان غلمانه هم الذين يقومون بهذه الأعمال، ولكن التذرية كانت لها أهميتها الخاصة لديه، لذلك كان يباشرها بنفسه شخصياً.
والزرع هو الكرازة بكلمة الله، سواء كانت بالتبشير للخطاة بالإنجيل، أو بالخدمة للمخلصين. والحصاد هو جمع الثمار، سواء كان بأن ترى إنساناً يتغير عن طريق البشارة بكلمة الله، أو بفهم وتطبيق أفكار الله من خلال تفتيش الكتب والشركة مع الرب، مما يثمر فينا ازدياداً في القامة الروحية ونمواً في النعمة. أما التذرية فهي عملية فصل الحنطة عن التبن، فالله لا يريد التبن، وإنما يحفظه فقط لنار أبدية لا تطفأ (مت 12:3).
والتذرية تختلف عن الدراس، فالدراس هو استخراج الحبة من داخل السنبلة من بين القش، وهو عمل يستلزم قوة، وتستخدم فيه الثيران أو ماكينة الدراس (تث 4:25). وإني أرى أن الدراس يمثل الاختبارات التي تجتازها النفس في رومية 7، أو عندما تقع تحت التأديب والتدريب من الله عندما تخضع النفس للجسد، الأمر الضروري لنا لكي ندرك أننا خليقة جديدة، كما نرى في أفسس، ولكي نطبق على أنفسنا موت وقيامة المسيح. ولا أقصد بذلك أن نطبق موت وقيامة المسيح لأجلنا كما نراه في رومية 25:4 وفي البحر الأحمر، بل تطبيق حقيقة أننا متنا مع المسيح (كو 3:3؛ غل 20:2) وأننا قمنا أيضاً معه (أف 6:2) وهذا ما يمثله لنا نهر الأردن.
فبعد أن يكمل الدراس تبقى الغلة في حاجة لأن تذرى، حتى يزال عنها ما بقى من تبن. وهناك شخصان يريدان لنا التذرية، أولاً: الشيطان (لو 31:22)، ثانياً: الرب يسوع. وغرض الشيطان من ذلك هو أن يتخلص من الحنطة ليبقى التبن، ولكن على العكس من ذلك قصد الرب يسوع، الذي يريد أن يزيل عنا حتى العصافة الدقيقة التي هي بلا قيمة عنده. والتذرية تتم ليلاً عندما تهب الريح وتنشط. هكذا أيضاً في ليل رفض ربنا يسوع، أتى الروح* القدس ليسكن على الأرض في كل مؤمن كفرد، وفي الكنيسة كجماعة. وفي غلاطية 17:5 نقرأ «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» فإن كنا لا نفعل بعد ما نريده نحن، بل نعطي الروح القدس حريته الكاملة في أن يقودنا حسب إرادته، فإننا حينئذ سنمتلئ من الروح القدس، فتمتص من حياتنا كل الأمور التي لا تتفق مع مشيئة الله.
كان بوعز يذري الشعير، وقد سبق أن رأينا أن الشعير يتكلم عن حياة القيامة. فالرب يسوع كالمقام أعطانا ذات حياة قيامته (يو 22:20، أف 6:2). والآن هو يريد أن يزيل من حياتنا كل ما هو من العالم، كل ما هو أرضي، ولا يتوافق مع حياة القيامة السماوية، ذلك لأنه يريدنا أن نتوافق تماماً مع ما هو في ذاته. وهذا ما نجده موضحاً في أفسس 26:5و27. فهو الإنسان الذي من السماء، وكما هو هكذا نحن أيضاً (1كو 48:15). ولكن للأسف، كثيراً تختلط الحياة السماوية فينا مع الأمور الأرضية، وتلصق بحياة القيامة أمور من الإنسان الطبيعي. ولكن ما هو من الإنسان الطبيعي ليس ذا قيمة إطلاقاً بالنسبة للسماء، لأنه لا ينتمي إلى حياة القيامة. والتبن يختلف عن الزوان، فهو لا يشير إلى عمل الشر، ولكن مع ذلك فإن الرب يحفظه لنار لا تطفأ (مت 12:3).
فهل تعلمنا كيف نميز بين الشعير والتبن؟ وهل نحن مدركين حقاً أن الرب يريد أن يذرينا ليزيل عنا التبن؟ وهل نخضع ونسلم أنفسنا للرب في البيدر حتى يستطيع أن يذرينا؟ كان بطرس لا يرغب في أن يتعرض لعملية التذرية، ولا أن يوضع في الغربال. ولا شك أن دوافعه كانت صادقة. ولكن كان لابد أن يخبره الرب أنه إن لم يقبل الغربلة لنفسه فلن يكون له نصيب مع الرب (يو 8:13) وأنا أعتقد أن هناك تشابه كبير بين الغربلة وغسل الأرجل.
لقد عرف بولس الفرق بين الشعير والتبن، وعرف أيضاً ماذا يعني التبن بالنسبة للرب يسوع، وهذا ما جعله يحزن على أولئك الذين يفتكرون في الأرضيات، الذين يسيرون هكذا كأعداء لصليب المسيح (في 18:3). فإن كانت نهاية التبن هي حريق النار التي لا تطفأ، فما هي نهاية حياة أولئك الذين كان التبن سمة حياتهم؟
لا يمكن أن يكون لنا ملء الشركة مع الرب وفي حياتنا أمور تحزنه، أو إذا لم يكن لنا معه فكر واحد. فالشركة تعني أن يكون الفكر واحداً، والنصيب واحداً، هذا هو السبب في أننا لابد أن نظهر جميعاً يوماً ما أمام كرسي المسيح، وحينئذ فإن حياتنا كلها، قولاً وفكراً وعملاً، لابد أن تستعلن لنا في نور محضر الله، حتى الدوافع الداخلية التي نبعت منها أفكارنا لابد أن تصير ظاهرة (عب 12:4و13). سنرى كل الأشياء في ذات النور الذي يراها فيه الرب دائماً. عندئذ سوف نحكم نحن على كل شيء بذات الحكم الذي حكم هو به عليه تماماً. وهكذا يصبح هناك توافق واتحاد تام في الفكر بين الرب يسوع وبيننا. ومن تلك اللحظة، وإلى الأبد، سيكون لنا ملء الشركة معه.
على أننا لو عرفنا معنى الشركة مع الرب من خلال اختباراتنا، فلابد أنه ستكون لنا الأشواق لأن نتمتع بها إلى أقصى درجة، حتى ونحن هنا على الأرض، فإن كنت حقاً أحب الرب يسوع فمن المؤكد أنني أريد لقلبه أن يسر كلما أطل بنظره علينا، بل عليَّ أنا شخصياً. لأجل ذلك لا أسمح بأي شيء في حياتي من الأمور التي تحزن قلبه، بل أتوق إلى ذلك اليوم الذي فيه سأُظهر أمامه، وأرى كل الأشياء كما يراها هو. إن كنت أحبه فلابد أن يكون شوق قلبي أن أكون مرضياً عنده حتى وأنا هنا على الأرض، سأمد رجليَّ لكي يغسلهما، وسأنزل إلى البيدر حتى يذريني الرب مزيلاً كل تبن فيَّ. وأخيراً فإنني سأحرض المؤمنين جميعاً، صغاراً وكباراً، أن يفعلوا مثلما أفعل محبة في الرب وفي إخوتي أيضاً.
- عدد الزيارات: 27152