في نبوات أشعياء وإتمامها والتعليق عليها - المسيح المهان
المسيح المهان
النبوة: "بذلت ظهري للضاربين وخدّيّ للناتفين. وجهي لم استر عن العار والبصق” (أشعياء 50: 6).
الإتمام: "حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه. وآخرون لطموه قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك” (متى 26: 67و68) "ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفاً قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ أجابه يسوع إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي وأن حسناً فلماذا تضربني؟” (يوحنا 18: 22و23) " فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده. وضفر العسكر إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان. وكانوا يقولون السلام يا ملك اليهود وكانوا يلطمونه” (يوحنا 19: 1-3).
التعليق: رَبّ الْمَجْد يسوع المسيح أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، ووضع نفسه فدية عن البشر. وبتنازله العجيب وقعت عليه كل أنواع الآلام التي هي منتهى ما يتصوره عقل عاقل. فلم يخضع للجلد الروماني باذلاً ظهره للضاربين فقط بل قبله مختاراً وسلم باحتمال هذه الآلام بلا خزي ولا خجل لأنه بريء من الخطية ولم يتجسد إلا لهذا القصد.
"وخدّي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق"، هذا هو الأمر الذي زاد في آلام الفادي لأن الاعتداء عليه ظلماً لا يستبعد على الأشرار الذين يريدون أن يوقعوا منتهى الإهانات والآلام على شخص شريف وقدوس سماوي لعدم موافقته إياهم على شرورهم. فقول النبوة "وخدّي للناتفين" دليل على أنهم لا يتركون شيئاً من أنواع التحقير إلا ويوقعونه بالمسيح حتى أنهم نتفوا شعور وجهه الكريم ولو لم يذكر ذلك البشيرون تفصيلاً. ولم يرد المسيح أن يدافع عن نفسه (مع قدرته الفائقة) لأنه جاء في النبوات كان رجلاً مهاناً محتقراً رجل أوجاع مخذولاً من الناس كما هو ظاهر من آلام المسيح المذكورة في البشائر.
آلام الفادي ولماذا؟
النبوة: “مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا، وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟ نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أنه قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أنه ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أنه لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أنه سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ” (أشعياء 53: 1- 12).
الإتمام: "ثم إن ملاك الرب كلم فيلبس... فقام وذهب. وإذا رجل حبشي وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائنها... وكان راجعاً وجالساً على مركبته وهو يقرأ النبي أشعياء. فقال الروح لفيلبس تقدم ورافق هذه المركبة. فبادر اليه فيلبس وسمعه يقرأ النبي أشعياء فقال ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟ فقال كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد؟ وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه. وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأ فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح ومثل خروف صامت أما الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه انتزع قضاؤه وجيله من يخبر به لأن حياته تنتزع من الأرض؟ فأجاب الخصي فيلبس وقال أطلب إليك. عن من يقول النبي هذا؟... ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع” (أعمال 8: 26-35).
التعليق: تكلم النبي هنا بنبوة إنجيلية صريحة في هذا الفصل عن الخلاص الذي تممه الفادي بذاته لجميع البشر. وفهم اليهود قديماً أن هذه النبوة صريحة عن المسيح الآتي ولكن اليهود المتأخرين انكروا وقوعها على المسيح نظراً لما فيها من الإهانات والآلام والموت ورفضوا الحق الواضح وقالوا أن هذه النبوة تمت في إرميا!
في الإتمام المذكور في سفر أعمال الرسل أن وزير مالية الحبشة سأل فيلبس: عمن يقول النبي هذا؟ عن نفسه أم عن واحد آخر؟ فأخبره أنه يقول عن يسوع المسيح. ففي مقدمة هذه النبوة نلاحظ تسمية المسيح "عبد الله " كخادم لعهد الفداء عامل لإتمام مشيئة الله ولخير ملكوته الأقدس مع أنه هو ابن الله خالق الكل وضابط الكل. إلا أنه بتجسده أخذ صورة عبد.
في الأصحاح 11 من أشعياء عن المسيح أنه يحل عليه روح الحكمة والفهم. وفي مقدمة هذه النبوة قوله: "هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً" (أش 52: 13). وهذا القول مبهم القصد في ذاته ولكن يفسره لنا قول الرسول بولس: “لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين... بل نتكلم بحكمة الله في سر. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيّنها قبل الدهور لمجدنا. التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر. لأن لو عرفوا لما صلبوا رَبّ الْمَجْد” (1كو 2: 6- 8). ولقد مارس المسيح أعماله على الأرض بحكمة كلية حتى تعجب الكل منه. ففي الجملة الواحدة في إش 52: 13 ذكر النبي تواضع المسيح وعبوديته، وارتقاءه وتعاليه، في آن واحد. وكما اندهش منه كثيرون فقد احتقره كثيرون أيضاً: أعني أن المختارين من الله اندهشوا من أعماله قائلين: "ما رأينا مثل هذا قط” (مرقس 2: 12) "لم يتكلم قط انسان هكذا مثل هذا الإنسان” (يوحنا 7: 46) "وأنه عمل كل شيء حسناً. جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون” (مرقس 7: 37) "كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة” (متى 7: 29) "نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم” (يو 4: 42) حال كون الرافضين المرفوضين الذين أحبوا مجد أنفسهم كانوا قائمين على قدم وساق دائبين على احتقاره ناسبين أعماله إلى بعلزلول قائلين أنه سامري وبه شيطان مقاطعين للذين يعترفون أنه هو المسيح الآتي لخلاص العالم. فتمت في المسيح النبوة القائلة: “أما أنا فدودة لا إنسان (مزمور 22: 6). ولكن أباه رفّعه لأنه وهو في مجد لاهوته وضع نفسه. ففي هذه المقدمة ثلاث كلمات "يعقل" "يرتقي" "يتسامى جداً". فالأولى تدل على امتلائه بروح الحكمة والفهم، والثانية تدل على تصرفه الحكيم الذي جعل الناس يشهدون برقيه عن المستوى البشري في كل أعماله، والثالثة تدل على تساميه عن جميع المخلوقات أي رجوعه بعد الفداء إلى مجده الأصلي الأسمى الذي كان له من قبل انشاء العالم (يوحنا 17: 5). فالمسيح، بناء على هذه النبوة، لا بد أن تتعبد له جميع الأمم كقوله: “وينضح أمماً كثيرة" فهو لا ينضح اليهود فقط بل أن دم الرش الذي هو أفضل من دم هابيل سيرش عليهم ويطهرهم جميعاً.
إن تعليم موسى هطل كالمطر وقطر كالندى على بني يعقوب فقط (كما في تثنية 32: 2). وأما تعليم المسيح فقد هطل على كل الأمم كقوله المجيد: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 19، مرقس 16: 15). وقد تمت أوامر المسيح فعلاً، وخضع له الجميع، حتى أن الملوك الذين كانوا مقاومين له آمنوا به وسجدوا له وعبدوه وسبحوا باسمه وسدوا أفواههم فلم يعودوا يعترضون على تعاليمه ولا على ديانته. وقد تنبأ أشعياء (في أصحاح 49: 7) أنه ينظر إليه ملوك فيقومون ورؤساء فيسجدون. والسر الذي كان مكتوماً منذ الدهور ظهر في المسيح لجميع الأمم (رومية 16: 25 و26) حتى أن "ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه" فصار واضحاً بالكرازة العامة بالإنجيل (قابل رومية 15: 21). وكما استمرت هذه الأمور في سر قبل إعلانها زماناً طويلاً فكذلك أولئك الذين أعلنت لهم هذه الأمور ظلوا مستترين زماناً طويلاً. وأما الآن فقد رأى الجميع مجد الله مضيئاً في المسيح.
نعم إن أقوال العهد القديم عن لاهوت المسيح ومجده وكل وظائفه كثيرة. ولكن لما أتى المسيح رأى الناس فيه أكثر مما سمعوا أضعافاً كثيرة كما قالت ملكة سبا عن سليمان، وخيّب أفكار اليهود الذين انتظروه ملكاً أرضياً عالمياً لا أكثر، وحقق آمال الأفراد الذين رفع عنهم البرقع فرأوا أكثر مما سمعوا ومما كانوا ينتظرون. فسمعان الشيخ دعاه خلاص الله (لوقا 2: 30) وحنة النبية وغيرها من الذين كانوا ينتظرون فداء في أورشليم عرفوا أنه هو الفادي منذ ولادته (لوقا 2: 36- 38) والسامريون آمنوا وعلموا أنه هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم (يوحنا 4: 42).
"من صدّق خبرنا؟": في ختام 52 من سفر أشعياء تنبأ النبي عن قبول الأمم وملوكهم لإنجيل المسيح، وعن فرحهم به. وأما هنا فالنبي يتنبأ مندهشاً ومستغرباً عدم إيمان اليهود بالمسيح مع معرفتهم التامة بنبوات العهد القديم كلها، ومع كثرة فراءتهم للنبوات الدالة على ارتفاع المسيح واتضاعه وفدائه.
ولقد تم العدد الأول من هذه النبوة فعلاً، وشهد البشير عن هذا الإتمام بقوله: “ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به. ليتم قول أشعياء النبي الذي قاله يا رب من صدّق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب” (يوحنا 12: 37و38). وأشار الرسول إلى هذا الإتمام متأسفاً من عصيان اليهود بقوله: “لكن ليس الجميع قد أطاعوا الإنجيل. لأن أشعياء يقول: يا رب من صدّق خبرنا” (رومية 10: 16) مع أن صوت الرسل كان قد خرج يومئذ إلى أقاصي المسكونة. كثيرون سمعوا الإنجيل وفهموا قصد الله منه ولكن قليلين هم الذين قبلوا (متى 20: 16). نودي الإنجيل جهراً أيامئذ في كل بلاد اليهود بل وفي كل أنحاء الامبراطورية الرومانية، ولكن لم يؤمن به إلا قليلون من اليهود لأن هؤلاء سبقوا فقتلوا أنبياءهم حيناً فحيناً. فلا عجب إذا كان رؤساء اليهود قد حثوا شعوبهم على رفض المسيح كما روى البشير: “ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع" (متى 27: 20)، وقل من آمن به من الفريسيين. وأما من آمن منهم فقد جبُن عن إظهار إيمانه، كنيقوديمس وأمثاله.
ولما نادى الرسل بالإنجيل بين الأمم آمن به كثيرون ولكنهم قليلون جداً بالنسبة إلى مجموع الذين سمعوا ولم يؤمنوا حتى أننا نرى في عصرنا الحاضر أن صوت الإنجيل وصل إلى كل زاوية من زوايا العالم ومع ذلك نرى مجموع الرافضين يربو على مجموع الذين آمنوا أضعافاً كثيرة.
من صدّق خبرنا؟ "ولمن استعلنت ذراع الرب": لم يعلم الذين رفضوا الإيمان بالمسيح أن ذراع الرب استعلنت لهم لعماهم الروحي مع أن ذراع الرب ظهرت في معجزاته وعجائب المسيح التي صنعها بقوته الإلهية ولكن اليهود قاوموها وكذبوها ورفضوها بكل ما استطاعوا من قوة. ولما رأوا أن اصبع الله ظاهرة في هذه المعجزات ضللوا عقول تابعيهم بأن نسبوا معجزات المسيح إلى بعلزبول. فلمن استعلنت ذراع الرب؟ أنهم لم يؤمنوا بل هربوا من النور ولذلك شكاهم النبي إلى الله في صلاته النبوية. يا رب "من صدّق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب". "نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة" فظهر كأنه ابن يوسف النجار الذي هو من نسل داود مع أنه كان في حالة الفقر المدقع يومئذ، بل كان نجاراً بسيطاً من نجاري القرى والمزارع الريفية لأنه كان في قرية زراعية بعيدة عن الحضارة وكان أقرباؤه صيادين فجاء المسيح منسوباً إلى تلك البلاد الجافة، إلى الجليل، إلى الناصرة التي حكم اليهود أنها بلدة يابسة لا يخرج منها شيء صالح. إن البذار الواقع على الأرض المحجرة ليس له أصل ولكن المسيح الخارج من الأرض اليابسة هو أصل وذرية داود.
كان اليهود ينتظرون أن يدخل المسيح إلى أورشليم دخول المنتصرين ويطرد منها العدو بالقوة المسلحة فكان انتظارهم عبثاً لأن المسيح نما نمواً روحياً أمام الله لا أمام الناس الذين تخدعهم الظواهر الكاذبة فلم يقبله الناس حينما دعاهم إلى ملكوت الله. وهكذا كان إنجيل المسيح في بداءة أمره كحبة الخردل فلم يعرف إلا بعد أن كبر ونما وتآوت في أغصانه طيور سماء النعمة.
كان اليهود ينتظرون أن يجيء المسيح بأبهة جسدية يبهر جمالها العينين إلا أنه جاء ذا جمال روحي أدبي في حكمته وقداسته وعدالته ومحبته. ولكن اليهود الجسديين لم يعلموا أنه بجمال قداسته أبرع جمالاً من بني البشر ولم يشعروا بانسكاب النعمة على شفتيه (مزمور 45).
ولما ولد موسى كان جميلاً (أعمال 7: 20). ولما مُسح داود وهوصغير كان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر (1صم 16: 12). ولكن ربنا يسوع المسيح لم ينسب إليه شيء من الجمال الجسدي لأن الغاية كانت في الجمال الروحي، ولذا قال النبي "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه". وعليه كُرز بالإنجيل بالبساطة الروحية (1كو2: 1- 5).
كان اليهود ينتظرون أن يظهر المسيح بمظاهر البذخ والإسراف والطرب، ويتمتع بكل ما يتلذذ به بنو البشر حتى يستميل إليه قلوب الجميع، ولكن بالعكس ظهر "رجل أوجاع ومختبر الحزن" فوقع باختياره تحت حكم الخطية التي جلبت الأتعاب والفقر والموت على العالم (تك3: 17). فالمسيح كرجل الأوجاع لم يكن له أين يسند رأسه واحتمل لأجلنا حتى النهاية. لم نقرأ عنه مرة واحدة أنه ضحك، ولكن قرأنا عنه أنه بكى. ولذا كتب الوالي (لنتيوس) إلى البلاط الروماني عنه قائلا: “أنه لم ير قط ضحكاً". فلا عجب إذا كان وهو ابن ثلاثين سنة توهم اليهود أنه ابن خمسين سنة (يو8: 57). لقد حمل أحزان الآخرين، وبكى لأجل المساكين كما بكى لأجل أورشليم، فلم ير أولئك الجسديون في المسيح جمالاً جسدياً ليشتهوه حسب أميالهم العالمية. نعم بلغ جمال القداسة في المسيح منتهاه، ذلك الجمال الأدبي الذي جعل المسيح مشتهى كل الأمم مع أنهم كجسديين لم يروا هذا الجمال الروحي ولم يقبلوه: "ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة... وأما الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يحكم فيه من أحد” (1كو2: 14و15). ومما لاحظنا على اليهود من عصر المسيح إلى هذا اليوم أن ذوي الأغراض منهم عموا عن الحق فلم يروا جمال ديانة المسيح الروحية بل رفضوه.
"وكمستّرٍ عنه وجوهنا" يقول النبي بلسان الإسرائيليين: لقد حجبت عيوننا عن مجد رَبّ الْمَجْد يسوع المسيح فاحتقرناه لأن برقع الخطية الذي على وجوهنا وتاج الكبرياء الذي على رؤوسنا ومحبة العالم التي في قلوبنا قد سترته عنا وسترتنا عنه. وبما أن المسيح أخذ على عاتقه نصرة العدل الإلهي الذي أهانه الإنسان بالخطية فقد تكرم بإخضاع نفسه واحتمل عنا ما كنا نستحقه من أنواع الاحتقار. وأما المؤمنون الذي رفع الله برقع الجهالة عن أعينهم فقد اتخذوا كل ما احتمله المسيح عنهم من أجل أسباب تعظيمه وعبادته وشكره.
"لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا... والرب وضع عليه إثم جميعنا... على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش".
إن أحزاننا الثقيلة جداً احتملها المسيح ولم يستعف منها بل استمر حاملاً لها إراحة للمتعبين إلى النهاية إلى أن قال "قد أكمل" على الصليب: فاحتمل الجروح والسحق والضرب والذلة والمسكنة بالحزن حتى الموت. استيقظ عليه سيف العدل وضربه، وانصب عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، فأهين بأشنع الإهانات، وحوكم بأظلم المحاكمات، ومات أشنع الميتات. وذلك بعد أن تقوّلوا عليه بالأقاويل، واتهموه بالتضليل، ولكموه وبصقوا عليه، ونتفوا شعور خديه، وجلدوه بأقسى أنواع الجلد الروماني الوحشي، فملأوا جسمه بالجروح القاتلة. فكل آثامنا وُضعت عليه في ذلك الوقت، وهي التي سحقته إلى الموت على الصليب. لم يستحق المسيح شيئاً من كل هذا الذي وقع عليه، بل نحن المستحقون. نعم أنه ظلم بالظلم الذي يحمق الحكيم (جامعة 7: 7) ويذهب بالرشد، ولكن المسيح امتلك نفسه آنئذ وصمت ولم يفتح فاه كنعجة صامتة أمام جازيها. وقعت عليه الدينونة كمجرم وهو بريء، واشتكلي عليه ظلماً، وطلب المشتكون عليه إطلاق سبيل الثائر القاتل باراباس وصلب يسوع، فأطلق المجرم وعوقب البريء وقطع من أرض الأحياء مع أنه بار أصلاً وفرعاً، قولاً وعملاً وفكراً، ظاهراً وباطناً، وجال في كل أيام حياته يصنع خيراً مع المسيئين إليه، وصلب بين لصين كأنه أكبر منهما جرماً. وقد تبرع المشير يوسف الغني كالرامي للمسيح بقبر جديد عند موته. لما صلب المسيح بين لصين مجرمين كان المنتظر أن يدفن معهما في حفرة واحدة في ذات محل الصلب حسب عادة الرومان، ولكن العناية الإلهية دبرت له المشير الرامي ليدفنه في قبره الجديد إتماماً للنبوة هذه وتمييزاً للفادي البريء عن ذينك اللذين عوقبا باستحقاق. فالذي يعيش هذه العيشة المقدسة ثم يموت موت المجرمين لا بد أن يسأل عنه: كيف حدث هذا له؟ وأي شر عمل؟ لقد ظن أعداؤه المجرمون ظن السوء أنه لم يتعذب إلا على حسب قيمة جرمه (كذا). نعم ظنوا هكذا، حال كونهم لم يقدروا أن يثبتوا عليه ذنباً واحداً أو أن يقيموا حجة أو يشهدوا شهادة على أي شر عمله. ومع كل هذا فقد ساء ظنهم وحسبوه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وبما أنهم أبغضوه واضطهدوه وظنوا جهلاً ولؤماً أن الله عدوه وأنهم يقدمون خدمة لله بقتله فقد تهيجوا عليه غضباً قائلين: "قد اتكل على الله فلينقذه الآن" (متى27: 43). وقد تنبأ المرنم عن أقوالهم بالقول: “أن الله قد تركه. الحقوه وامسكوه لأنه لا منقذ له” (مزمور 71: 11). إن الذين يستحقون الضرب عدلاً يضربون من يد الله الذي هو ديان الجميع ولكن اليهود عملوا وضلوا سواء السبيل فحسبوا المسيح مضروباً من الله زمذلولاً- وهو البريء القدوس- لأنهم شهدوا عليه كذباً ورموه زوراً بالتجديف والضلالات والكفر والعداوة لقيصر. بل أن الذين رأوه معلقاً فوق الصليب لم يستفهموا عن سبب صلبه بل أخذوا إشاعات رؤساء الكهنة قضية مسلّمة وظنوا فيه كل ما نسب إليه وأنه مستحق لهذا الانتقام. وهكذا أصحاب أيوب فإنهم حسبوه مضروباً من الله لشناعة قروحه وشدة آلامه فوق المنتظر لتقي مثله. نعم إن الرب سر بأن يسحق الفادي بالحزن ولكن ليس للسبب الذي فتكره اليهود بل لأنه "جعل نفسه ذبيحة إثم" ولأنه كان "كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" وهو البار القدوس. ولقد اتهموه أنه مضل وغاش "على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش” (راجع 1بط 2: 22). ومع أنه لم يخطىء مطلقاً حتى أنه قال في وسط أعدائه "من منكم يبكتني على خطية” (يو 8: 46) وحتى أن بيلاطس الوالي اعترف ببرارته قائلاً "أنا لست أجد فيه علة واحدة" واعترف أيضاً قائد المئة الذي نفذ عليه حكم الصلب قائلاً (كان هذا الإنسان باراً. كان هذا الإنسان ابن الله) (متى 27: 45 ولو23: 47)، ومع أن المسيح كان قادراً أن يخلص نفسه ويظهر بهتانهم ويهلكهم في الحال فقد صمت لكي يتم ما هو مكتوب "أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟- هذه الوصية قبلتها من أبي- هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (لو24: 26 ويوحنا 10: 18 ويو 1: 29). فصمته يدل على تواضعه وصبره (مز39: 9)، وعلى خضوعه مختاراً ورضاه نفسه بخلاصنا. فهو "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي” (عب 12: 2). وهو قد تألم نيابة عنا، وتألمه هذا إنما هو أفضل وأتم إكمال لهذه النبوة الصريحة. فالله قد عيّنه ليحمل إثم جميعنا وليموت متألماً بالنيابة عن الخطاة المساكين، لأن الله دبر بحكمته الفائقة طريق خلاصنا وكيفية مصالحتنا معه تعإلى مع المحافظة على قداسته وعدله ومجده. فالمسيح قدم نفسه ذبيحة إثم لأنه قدوس لم يعرف الخطية ولكنه صار خطية لنصير نحن بر الله فيه (2كو 5: 21). وذبيحته هذه هي كفارة عن العالم أجمع (1يو 2: 2)، ولذا قال النبي "إثم جميعنا" ولم يقل (إثم جماعة منا). والذين يتبررون لا يتبررون إلا بوضع خطاياهم على المسيح لأنه لا يقدر على حمل خطايا العالم إلا هو، دون سواه. وبما أنه أخذ عهد وفاء ديوننا الأدبية والروحية على عاهله فقد كان من الضروري أن يعاني آلام القصاص نيابة عنا كقول الحكيم "ضرراً يضر من يضمن غريباً” (أمثال 11: 15). لم يرد المسيح القدوس أن يشترك أحد من البشر الخطاة معه في آلامه الفدائية ولذلك قال للذين قبضوا عليه: “إن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون” (يو 18: 8) مشيراً إلى تلاميذه الذين كانوا حوله ساعتئذ. ثم أسلم نفسه مختاراً لتكون مسؤوليته ثابتة لا تتزعزع أمام عهد وفاء الديون عنا. فخطايانا المرة هي التي آلمته، وهي الشوك الذي كان على رأسه، وهي المسامير التي خرقت يديه ورجليه، وهي الحربة التي طعننت جنبه فخرج منه دم وماء، وهي الجلدة التي جلد بها عارياً، هي السحق الذي وقع عليه. ولولا احتماله كل هذه الآلام حتى موت الصليب ما شفينا من خطايانا. ولتحقيق هذه النبوة اقرأوا "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي بجلدته شفيتم” (1بطرس 2: 24) "فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب” (1كو 15: 3) "وهذا أخذتمون مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال 2: 23).
وهذا هو الإتمام الواضح في العهد الجديد. فكل ما وقع على المسيح إنما وقع عليه لسلامنا ولسلام العالم أجمع.
"تأديب سلامنا عليه" أنه بخضوعه لكل أنواع الآلام والعذاب قتل العداوة التي كانت بيننا وبين الله: "عاملاً الصلح بدم صليبه" (كولوسي 1: 20). وكما كنا بالخطية أعداء لعدل الله وقداسته قد صالحنا بالمسيح نفسه فغفر لنا خطايانا وخلصنا منها وأوجد لنا شركة معه "لأنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين واحداً” (أفسس 2: 14). وبعد أن قاسى المسيح ما قاساه "قُطع من أرض الأحياء" فمات وقبر وأخذ من الضغطة ومن الدينونة فقام من بين الأموات وخرج من سجن قبره منتصراً على الخطية والموت ولا يسود عليه الموت بعد لأنه قد أكمل الحكم الذي حكم به عليه. وخروجه من سجن قبره كان بأمره السماوي وقوته الإلهية كما قال عن نفسه "لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" (يو 10: 18)، ونزل ملاك من السماء فدحرج الحجر عن فم القبر، وشهد للذاهبين إلى القبر من الرسل وللمريمات بقيامة المسيح. وكل ما حدث حدث لتعزيتنا لأن المسيح أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا بقوة لاهوته فلم يكن للموت سلطان عليه لأنه هو الأول والآخر والحي وكان ميتاً وها هو حي إلى أبد الآباد.
"أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى وبشبع. وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين ".
إن المسيح كفادٍ خضع للمشيئة الإلهية فلم يعارضها بل استيقظ سيف العدل واحتمل ضربته (زكريا 13: 7). وهكذا شرب المسيح كأسه المرة (يوحنا 18: 11) فتم كل شيء وظهر مجد الله فزاد عدد المؤمنين به (تث 1: 11) وازداد نسله الروحي وسيزداد إلى الأبد. ولذلك باد ذلك الذي له سلطان الموت أي إبليس وتبرر المؤمنون بالمسيح لأنه حمل آثامهم وملك عليهم فصاروا له غنيمة لأنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة (راجع فيليبي 2: 8-11). وبما أنه الفادي فهو الشفيع وحده للمذنبين (1تي 2: 5و6، لوقا 23: 43) لأن هذا هو صوت الحياة الذي يشفع فينا كل حين ولأن تأثير كفارته التي اشترى بها حقوق الشفاعة كله باق مستمر إلى الأبد وستتم مسرة الله بخلاص المختارين بواسطة عمل كفارة المسيح الفعال لأن مسرة الرب بيده تنجح.
- عدد الزيارات: 71890