Skip to main content

نبوة ميخا النبي

الباب الخامس

تمام نبوات الأنبياء الآخرين والتعليق عليها

الفصل الأول

لاهوت المسيح وسلطانه ومحل ولادته الخ

 النبوة: "أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 5: 2).

الإتمام: ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود... فلما سمع هيرودس الملك اضطرب... فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح. فقالوا له في بيت لحم اليهودية. لأنه هكذا مكتوب بالنبي. وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا. لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي..." (متى 2: 1-6).

التعليق: لقد أكد النبي هنا أن العهد الذي عاهد به الله داود ثابت لا يتغير ولا يتزعزع لأن كلمة الله ثابتة الى الأبد. وهذا التأكيد واضح من سياق هذه النبوة التي ذكرها عن المسيح.وأمامنا فيها ما يأتي:

أولاً: سلطان المسيح وأزليته:

وصف المسيح هنا بأنه يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل فظهر لنا وجوده أزلاً وأبداً بصفة كونه إلهاً لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة. والكلمة "مخارجه" معناها هنا صدور أشعته وظهورها لكونها موجودة وكائنة منذ الأزل. وهذه الكلمة "مخارجه" دلتنا على أنه هو "يهوه" الكائن منذ الأزل وإلى الأبد. ولا يمكن أن يقال مثل هذا القول عن أي مخلوق مهما كان. وكلمة "الأزل" المذكورة في هذه النبوة هي ذات الكلمة المذكورة في مزمور 90: 2 في قول المرنم: “منذ الأزل إلى الأبد أنت الله". وكلمة "أيام الأزل" عبرانية الأصل والتعبير، ومعناها مُدّات الأزل التي لا حدود لها، لأن اليوم في التعبير العبراني ليس دائماً أربعاً وعشرين ساعة بل مدة ربما بلغت مئات من السنين أو أكثر حتى قال المرنم: "لأن الف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل" (مز 90: 4). وذكر غضب الله الأبدي الذي لا نهاية له على الفجار بقوله: "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب" (رومية 2: 5). وكذلك يوم الدينونة ليس كأيامنا لأنه ربما استغرق مئات السنين. فقوله: "أيام الأزل" معناه مدة الأزلية التي لا أول لها. وعلى هذا فالرب يسوع المسيح هو الذي قدر وحده أن يقول بأجهر الأصوات: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" أي (أنا يهوه الكائن الأزلي) لأن الكلمة "كائن” (يو 8: 58) ترجمت من معنى الكلمة "يهوه" العبرانية.

ثانياً: المعلنات التي سبقت فذكرتها النبوة بخصوصه:

لأهمية هذه المعلنات وجوهريتها رتبناها كما يأتي:

1- أنه سيولد في بيت لحم كما نطقت النبوة وكما شهد رؤساء الكهنة وكتبة الشعب حينما استفهم منهم هيرودس: “أين يولد المسيح؟” (متى 2: 4- 6) وكذلك عرف كل اليهود تقريباً أن المسيح يأتي من نسل داود من قرية بيت لحم التي ولد وعاش داود فيها: “ألم يقل الكتاب أنه من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها يأتي المسيح” (يوحنا 7: 42)؟ نعم إن مريم كانت مقيمة في ناصرة الجليل، ولكنّ العناية الإلهية دبرت أن يولد مخلص العالم في بيت لحم اليهودية فانتقلت مريم ويوسف لإتمام الاكتتاب فتم ما هو مكتوب في بيت لحم أفراتة (تكوين 35: 19) التي كانت صغيرة أن تكون بين ألوف يهوذا لأنها ما كانت مشهورة بكثرة سكانها ولا بجمال مناظرها ولا بحاصلاتها فلم تكن تستحق الفخر الذي نالته وخصت به، ولكن الله اختارها لأنه يرفع المتضعين ولأن المسيح يشرف المكان الذي يوجد فيه ولا يأخذ لنفسه شرفاً بحلوله في أي مكان: “وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا. لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي” (متى 2: 6). وهكذا الذين هم للمسيح ينالون الشرف به دائماً ولو كانوا في نظر العالم من الأدنياء المحتقرين.

2- أنه يولد في ملء الزمان من إمرأة كقول النبي في العدد الثالث التالي للنبوة: “لذلك يسلمهم إلى حينما تكون قد ولدت والدة" أي أن الله يسلم شعبه الى السبي والحرب والفناء وكل أنواع الضيق إلى أن يحل ملء الزمان فتأتي عذراء مباركة تكون أماً للمسيح في قرية بيت لحم في الزمن والمكان المعينين. نعم إن مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل، ولكن انتظار الفداء وتعزية الشعب المختار يكون في أورشليم قبل كل شيء (لوقا 2: 25و38). وقد أطلق اليهود اسم "الوالدة" على العذراء التي تلد المسيح كما أطلقوا اسم "الآتي" على المسيح الموعود به حتى جاء رسولا يوحنا المعمدان إلى المسيح قائلين "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر"؟

3-  إن المسيح هو الذي يرد قلوب الأبناء الى الآباء ويصلح كل ما أفسدته الطبيعة البشرية فترجع بقية إخوته إلى بني إسرائيل وعندئذ لا يستحي أن يدعوهم إخوة (عب 2: 11).

4- أنه يكون راعياً قديراً تفرح به رعيته لأنه "يقف ويرعى" أي يعلم ويحكم ويعمل كراع صالح ويعتني بهم بكل حكمة ومحبة "كراع يرعى قطيعه" ويسوقهم إلى المراعي الخضراء، وكالراعي الصالح يذهب أما الخراف وهي تتبعه لا كراعٍ عادي "بل بقدرة الرب بعظمة اسم الرب" فكان تعليمه بسلطان وليس كالكتبة، فلم يقدر أحد أن يقاوم النعمة الخارجة من فمه. ولقد صدّر الأنبياء رسائلهم بالقول: "هكذا قال الرب" وأما المسيح إلهنا فقد صدّر كلامه بالقول: "وأما أنا فإني الحق أقول لكم الخ" فدلنا كلامه على أنه كابن متسلط على بيته لا كعبد: "دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض" "وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة الخ" "إني انا حي فأنتم ستحيون” (متى 28: 18 ولو 10: 22 وفي 2: 9 ويو 14: 19). فالمولود من عذراء في بيت لحم هو سيدنا وفادينا المسيح الذي يتسلط على شعبه بعد تسلّم ملكه ويرعى شعبه بقدرة فائقة ويثبتهم معه وهم يعظمونه إلى أبد الآباد.

ملك المسيح الأبدي

النبوة: ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجري إليه شعوب. وتسير أمم كثيرة ويقولون هلم نصعد الى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب فيعلّمنا من طرقه ونسلك في سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب في ما بعد. بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب لأن فم رب الجنود تكلم... ونحن نسلك باسم الرب إلهنا الى الدهر والأبد (ميخا 4: 1- 5).

الإتمام: "أما هم المجتمعون فسألوه قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ فقال لهم ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه. لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً" (أعمال 1: 6- 8).

التعليق: لم نعلق على هذه النبوة في الفصل الثاني من سفر أشعياء بما تستحقه من الاهتمام انتظاراً لهذا التعلييق ولذا نقول هنا: في الفصل الثالث من سفر ميخا رأينا تدهور أمة إسرائيل ورؤسائها وقضاتها وكهنتها وأنبيائها وكل شعبها فرادى ومثنى وجماعات، ورأينا صهيون "بيت الرب" في حالة سيئة محزنة كما هو ظاهر من ميخا 3: 12. وأما في الفصل الرابع- في هذه النبوة- فقد رأينا وعداً نبوياً بثبات "بيت الرب" في رأس الجبال وبارتفاعه فوق التلال. نعم إن صهيون تحرث كحقل كما في ميخا 3: 12 ولكن الرب لا يرفض شعبه إلى الأبد لأنه " بزلّتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم. فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحري ملؤهم” (رومية 11: 11و12).

إن ميخا وأشعياء قد اشتركا معاً في إعلان هذه النبوة بالحرف الواحد. وهذا الاشتراك أكد لنا أن هذه النبوة قامت على فم شاهدين، وأنها هامة جداً، وأنها ستتم حرفياً ولكن في الوقت الذي جعله الآب في سلطانه، في أوقات الفرج الآتية من وجه الرب. وأمامنا في هذه النبوة:

أولاً: إن كنيسة المسيح ستقوم "في آخر الأيام" وسيعود شعب الله إلى حالة الاتصال بالله ويعبده عبادة روحية جديدة، وتصير كنيسة الله قابلة للامتداد، ويكون جبل بيت الرب ثابتاً لأن المختارين يجرون إليه ويكون مركز وحدتهم ويضم الرب إليه الذين يخلصون (أعمال 2: 47).

ثانياً: إن كنيسة المسيح ستبنى على صخرة الإيمان بلاهوته وبنوته لله الحي بناء قوياً لا تقوى عليه أبواب الجحيم (متى 16: 13- 20) "أنت ابن الله الحي".

ثالثاً: إن كنيسة المسيح ستمتد وتتسع وترتفع فوق التلال ولو كانت مبتدئة ببزرة صغيرة، وستكون كمدينة موضوعة على جبل لا يمكن أن تخفى (متى 5: 14) وسيكون مجد هذا البيت الأخير "بيت المسيح" أعظم من مجد البيت الأول لأنه يأتي إليه مشتهى كل الأمم ويكون مجده نوراً لبيته (راجع رؤ 21: 23 و22: 5). وإذ لم نتحقق بعد إتمام هذه النبوة برمتها ننتظر إتمامها بعد عصرنا الحاضر أي في وقت انتصار المسيح على أعدائه وعموم ملكوته مدة الألف السنة.

رابعاً: يجل عدد المؤمنين بالمسيح من الأمم عن التعداد لأنه "تجري إليه شعوب وتسير أمم كثيرة" ويكون إقبالهم إلى المسيح كينبوع دائم الجريان فائضاً من كل الجهات، ويسيرون إلى هيكل الرب الجديد ثانية من كل أنحاء العالم حينما يعّجل الله بيومه السعيد، ويشجع الواحد الآخر قائلين: "هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب" وسيضيئ نور مجد الفادي على الجميع فيأتون في نوره إليه ويكون للرب الأرض وملؤها.

خامساً: إن كلمة الرب تخرج من صهيون من أورشليم، من المركز الذي اختاره الله وأقام فيه الهيكل والمذبح، من المركز الذي أقام فيه الشعب المختار طقوسهم وفرائضهم وقدموا فيه عباداتهم. ففي أورشليم بنى سليمان هيكل الرب، وأقيمت أحكام الشريعة فيه، وفي أورشليم كرز المسيح وعمل العجائب التي دلت على لاهوته بكل جلاء، وفي أورشليم قدّم المسيح نفسه كفارة عن خطايا العالم أجمع فمات بناسوته وقام بلاهوته من بين الأموات وظهر لجميع المؤمنين مرات معلومة، وفي أورشليم صعد المسيح بمجده وقوة لاهوته الى السماء، وإلى أورشليم أرسل المسيح الروح القدس المعزي إلى تلاميذه بعد ذهابه إتماماً لوعده القائل: “إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم... وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق... ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم... لأني ذاهب إلى الآب” (يو 16: 7-16)، وفي أورشليم ابتدأ الرسل بالكرازة، ومن أورشليم خرجت كلمة الرب، وإلى أورشليم سيجيء المسيح ثانية.

سادساً: إن إنجيل النعمة الذي هو "كلمة الرب" سترافقه قوة مقنعة دائماً لأن صاحب الشريعة ورب النعمة يسوع المسيح سيقضي بين شعوب كثيرين لأن الآب لا يدين أحد بل قد أعطى كل الدينونة للابن، ولأننا سنقف جميعاً أمام كرسي المسيح.

سابعاً: تأثير عوامل إرادة الفادي المجيد إنما هي إيجاد السلام والمحبة على الدوام. ولذا فإننا نرى المؤمنين بالحق غير مخاصمين حلماء مظهرين كل وداعة لجميع الناس وغير طاعنين في أحد (تيطس 3: 2و 3). وعندما يتوب الأمم ويطلبون وجه الله يعم السلام، وتنصلح الهيئة الاجتماعية بروح السلام وتغطي معرفة إله السلام كل الأرض وتتعبد له الملوك، فلا ترفع أمة على أمة سيفاً لأن نعمة الله تصيّر الجميع مسالمين على الدوام وذلك- حسب اعتقاد حزب التفسير الحرفي- يكون بعد مجيء المسيح الثاني.

وحينئذ يجلسون كل واحد تحت تينته وتحت كرمته ولا يكون من يرعب لأن فم رب الجنود تكلم. ومن هو رب الجنود المتكلم بالسلام! ومن هو رب الجنود المعطي السلام؟ لا ريب أنه عند إتمام هذه النبوة يعرف جميع الناس أن المسيح هو رب الجنود المتكلم بالسلام والمعطي السلام.

ثامناً: بعد أن كان يقال يا بيت يعقوب هلم فنسلك في نور الرب” (أشعياء 2: 5) فعندما تتم هذه النبوة المباركة يقال بوجه الحق "نحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد" لأننا حينئذ لا نعمل إلا ما يأمرنا به.

من هو هذا الذي يقال له: الرب إلهنا؟ ورداً عليه لنرجع إلى قوله: "فم رب الجنود تكلم" عدد 4.

فنسأل من هو "رب الجنود؟" وليس أمامنا إلا جواب واحد: إن رب الجنود هو ذات المسيح لا سواه كما هو واضح من قول أشعياء النبي: “رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه... وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض... فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين... لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (أشعياء 6: 1-5). وقد أكد لنا الروح القدس بفم يوحنا البشير أن أشعياء وصف المسيح بأنه رب الجنود وأنه هو السيد الذي رأى مجده وتكلم عنه كما في يوحنا 12: 40و41.

وبما أن تلك الرؤيا المذكورة في أشعياء 6: 1- 5 قد أشبعته وامتزجت بدمه ولحمه وعظمه وعقله وقلبه وتأكد أن الذي رآه هو الفادي المنتظر فقد عاد فقال: “هكذا يقول الرب ملك إسرائيل وفاديه رب الجنود. أنا الأول وأنا الآخر” (أشعياء 44: 6) وكل هذه الأوصاف منطبقة على المسيح بالذات دون غيره. فهو ملك إسرائيل كما في يوحنا 1: 49، وهو فادي إسرائيل كما في لوقا 1: 68، وهو فادي جميع البشر كما في 1تي 2: 6، وهو رب الجنود الذي رآه أشعياء وتنبأ عنه ميخا، وهو الأول والآخر كما في رؤيا يوحنا اللاهوتي 1: 11 و17و22: 13.  

  • عدد الزيارات: 9020