Skip to main content

المسيح المتألم والمسيح الممجد - في سفر المزامير

الفصل الثاني

المزامير كلمة معناها الترانيم أو التسابيح وقد ألفت في أوقات مختلفة في العصر الإسرائيلي من أيام موسى إلى ما بعد أيام السبي. والمجموعة المقصودة بالذات هنا عددها مئة وخمسون مزموراً ولكنها نسبت إلى داود على وجه التغليب لأنه ألف منها ما يربو على 73 مزموراً. وكلها روحية نافعة لتسبيح الرب في أوقات العبادة فهي تقرأ بالترتيب على مدار الشهر في بعض الكنائس ويصلي بها العباد في مخادعهم ويرتلها المسيحيون في كنائسهم ومنازلهم منظومة في كتب خاصة بها. ولم يوجد كتاب مليء بالإشارات والرموز والنبوات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا. وعليه فأهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف.

المسيح المتألم

أولاً: ورد في مزمور 22: 1- 21 ما نصه: "إلهي، إلهي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟  إلهي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.  إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.  أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ. كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ: «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».  لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إلهي.  لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأن الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.  فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.  كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.  يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.  لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.  أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.  يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.  أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.  خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي".

فكل هذه الأقوال لم يتم منها في داود قائلها شيء ولكن كل قول فيها قد تم في ذات مخلصنا الرب يسوع المسيح لأن كل هذا نبوة صريحة عن آلامه التي احتملها لأجل خلاص البشر. وها هو جدول مقابلة بين أقوال داود وما تم للمسيح بالذات يغني عن كثير من الشروحات ويؤكد للقارئ أن هذا القول تم حرفياً في المسيح في العهد الجديد وأنه هو المقصود:

مقارنة بين المزمور 22 والإتمام في الإنجيل

 

المزمور 22

الإنجيل

إلهي إلهي لماذا تركتني (22: 1)

صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إلهي إلهي لماذا تركتني (مت 27: 46)

عليك اتكل آباؤنا.اتكلوا فنجيتهم (22: 4)

قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده (متى 27: 43)

أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب (22: 6)

الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين تنبأ. من هو الذي ضربك (لو 22: 63-64 مع يو 19: 9-22)

كل الذين يرونني يستهزئون بي.يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين اتكل على الرب فلينجه لينقذه لأنه سر به (22: 7و8)

وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم... وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا

قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده. الخ (متى 27: 39-44 مع لوقا 23: 2).

لا تتباعد عني لأن الضيق قريب.

يا أبتاه... فلتعبر عني هذه الكأس.

لأنه لا معين (22: 11)

ولكن... أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي

ساعة واحدة؟ فتركه الجميع وهربوا. (مر 14: 50)، (متى 26: 39و40)

أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني (22: 12)

ثم أن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه (يوحنا 18: 12)

فغروا عليّ أفواههم كأسد مفترس مزمجر (22: 13)

فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين أصلبه أصلبه. (يوحنا 19: 6)

كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي (22: 14)

لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء. (يوحنا 19: 34)

يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي (22: 15)

فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان. (يو 19: 28)

ثقبوا يديّ ورجليّ. (22: 16)

ولما مضوا به إلى الموضع... صلبوه هناك مع المذنبين (لوقا 23: 33)

 

وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ (22: 17)

وكان الشعب واقفين ينظرون. والرؤساء... يسخرون به. (لوقا 23: 35)

يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون (22: 18)

ثم أخذوا ثيابه وجعلوها لكل عسكري قسماً. وأخذوا القميص... فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون (يوحنا 19: 23 و24)

أنقذ من السيف نفسي. من يد الكلب وحيدتي. خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي (22: 20 و21).

فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم... لم أجد في هذا الإنسان علة... ولا هيرودس أيضاً... فصرخوا.. أصلبه أصلبه (لوقا 23: 13 - 21).

ولو شئنا التوسع لأثبتنا أن كل كلمة وكل حرف من كل ما ذكر في هذا المزمور تدل على آلام رَبّ الْمَجْد وأسبابها ونتائجها. ولكنا نكتفي باليسير عن الكثير عالمين أن داود مات موتاً طبيعياً، وأما الذي ثقبت يداه ورجلاه فهو المسيح؛ وعالمين أن داود مات على فراشه وبين ذويه وبنيه بعد أن أجلس ابنه على سرير الملك، وأما الذي اقتسمت ثيابه حين صلبه وألقيت القرعة على قميصه المنسوج كله بغير خياطة فهو المسيح؛ وعالمين أن داود نشأ قائداً وصار ملكاً في فلسطين وكانت الملوك تصاهره وتخطب ودّه، وأما المسيح فكان عاراً عند البشر ومحتقر الشعب لأنه أخلى نفسه من مركزه المجيد الأزلي آخذاً صورة عبد فقير ومات على الصليب لفدائنا. فتأملوا!

ولقد جاء في كتاب (المسيح في جميع الكتب)[1] ما يأتي:

"إن المزمور 22 يقودنا إلى المكان المدعو جلجثة ويضيء لنا الطريق أثناء المسير حتى نبلغ إلى مقر الصليب. وإذا أضفنا إليه أصحاح 53 من نبوة أشعياء أمكننا أن نستخلص منهما شرحاً وافياً لواقعة الصلب أكثر صراحة مما في أي موضوع آخر، لأن مزمور 22 يبسط حادثة موت المسيح بإزاء الآلام المبرحة التي كابدها. فإنه يبتدئ بالصرخة التي صاح بها المسيح في وسط ساعات الظلمة وهو معلّق فوق الصليب حين قال: "إلهي إلهي لماذا تركتني".

ثانياً: جاء عن المسيح المتألم أيضاً في مزمور 40: 6- 8 ما نصه: "بذبيحة وتقدمة لم تسر. أذنيَّ فتحت. محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت هنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت. وشريعتك في وسك أحشائي".

في هذه الأعداد الثلاثة نبوة عن الفداء الذي بربنا يسوع المسيح. وقد صادق كاتب رسالة العبرانيين، بوحي الروح القدس، على هذه النظرية النبوية باقتباسه القائل: "لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً” (عب 10: 5) فخصص قول المرنم في نبوته للمسيح. ونستنتج من هذه النبوة:

1- عدم كفاية الذبائح الناموسية للتكفير، وعجزها عن إيجاد السلام مع الله. ولذلك قال: "بذبيحة وتقدمة لم تسر" لأنه لم يرض أن يقدم الفادي لأجلنا شيئاً من الذبائح الناموسية كعادة رئيس الكهنة لأنه لا يمكن أن تتم عملية التكفير إلاّ في جسد الفادي الرب يسوع نفسه، ولأن دم الخروف لا يذكر أمام نفس الإنسان (مت 12:12)، ولا يمكن أن تفدى نفس الإنسان فداء تاماً إلا بما هو أثمن وأعظم منها، ولا شيء أثمن من نفس الإنسان إلاّ نفس خالق الإنسان.

2- تعيين الفادي لعمل الشفاعة ووظيفتها. لذلك "أذني فتحت" أي كرّستني وخصصتني للقيام بعملية الفداء، مهما استدعت من الآلام، كالعبد الذي يخصص نفسه لسيده دائماً فيحتمل برضاه آلام فتح الأذن بتسميرها في الباب بالمثقب (خروج 21: 5و6). فيسوع المسيح أحبنا، فخصص نفسه لفدائنا، وارتضى باحتمال الآلام عنا إلى النهاية، ولم يرتد إلى الوراء (أش 50: 5و6).

3- رضى المسيح الاختياري بهذه المهمة الشاقة والمملوءة بالآلام. قال: لذلك "قلت هنذا جئت" فكأنه يقول: لما لم تنفع الذبائح الناموسية شيئاً البتة قلت هنذا جئت لأعمل ما هو لمجد أبي وامتداد ملكوته وخلاص العالم. ونرى:

أ- أنه قدم نفسه لهذه المهمة بمحض اختياره، وسرّ بأن يقدم نفسه ذبيحة ويشرب كأس الآلام حتى ثمالتها.

ب- أنه وعد صريحاً بالمجيء بصيغة المبالغة في التأكيد فلم يقل سوف أجيء ولا سأجيء بل قال: "هنذا قد جئت". ولذا أبان لنا الرسول أن مجيء المسيح إلى العالم كان إتماماً عملياً لذلك الوعد المبارك الذي كلفه ثمناً غالياً هو احتماله الآلام المستمرة على الأرض وبذل نفسه ذبيحة وضحية لأنه كان هو الحمل المذبوح المعين منذ تأسيس العالم.

ج- أنه عزم عزماً أكيداً على إتمام الفدية واحتمال ما ينشأ عنها من الإهانات والآلام والموت. ولذلك قال أمام قديسي العهد القديم بلسان النبوة "هنذا جئت". وقد لقبوه لهذا مراراً كثيرة في العهدين "بالآتي". وعلى هذا العزم بنوا إيمانهم ورجاءهم.

4- سبب مجيئه لإتمام الفداء: "في درج الكتاب مكتوب عني" أي في درج المشورة الأزلية. فإن في ذلك الدرج كتب عنه أن أذنيه فتحتا فأعلن استعداده قائلاً: "هنذا جئت" مما دل على قطع عهد الفداء في هذه النبوة بين الآب والابن حينئذ. وقد ختم المسيح على صدق هذه النظرية بقوله: "هذه الوصية قبلتها من أبي" فضلاً عن كون جميع الأنبياء من صموئيل فما بعده كتبوا عنه.

ومن أعجب الأمور أن هذه النبوة اختتمت بإظهار المسيح سروره بكل ما احتمله لأجل البشر إتماماً لقصد الله ومشيئته بقول المرنم: “أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت". وقد صادق المسيح على هذا فقال: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله". فهذه النبوة تكاد تنطق بأن المقصود بها هو المسيح المتألم لأجلك يا أيها القارئ.

المسيح المرفوض

 ثالثاً: جاء في المزمور 118: 22و 23 ما نصه: "الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا". ونستنتج من هذين العددين أن آلام المسيح على نوعين: أحدهما الآلام الجسدية، وقد مرّ بنا ذكرها. وثانيهما الآلام الأدبية وهي الرفض وهذا هو المقصود بالذات في نص هذين العددين. فالذين أهانوه جسدياً كانت إهانتهم له أيام وجوده على الأرض فقط. وأما الذين أهانوه أدبياً برفضهم إياه فقد كانت إهانتهم له غير قاصرة على أيام وجوده على الأرض بل تتعداها إلى صعوده إلى السماء وحلول الروح القدس بل وإلى الآن وذلك لعماهم الروحي. ولو علموا من هو الذي رفضوه لقالوا للجبال اسقطي علينا من وجه الرب الذي رفضناه حال كونه هو حجر زاوية الخلاص وليس أحد يأتي إلى الآب إلا به. بينما كان الشعب المختار قائمين ببناء الهيكل الثاني قدم العمال حجراً (يشبه نصف مربع) له قمة تشبه التاج. فاستهزأ البناؤون بالعمال الذين قدموه واحتقروهم. وقالوا هذا لا ينفعنا، ولا يجوز أن نضمه إلى أحجار البناء، ولا يستحق إلاّ الطرح بعيداً. فأهمله العمال فتراكمت عليه الأتربة مدة طويلة إلى أن تم ارتفاع البناء. وعندئذ طلب البناءون حجراً لوضعه على رأس الزاوية لربط البناء به وليكون خاتمة الارتفاع، فلم يجدوا المطلوب. وأخيراً تذكروا الحجر الذي كانوا قد سبقوا فرفضوه، فكان هو مبتغاهم لا سواه. فقال العمال ورؤساء العمل "الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية" فذهب هذا القول مثلاً.

وفي هذا المزمور، الذي نظمه المرنم للتسبيح به في هذا الهيكل بعد بنائه، نظر بعين النبوة إلى أن المسيح سيأتي وسيرفضه بنو إسرائيل ولكنهم سيطلبونه بدموع بعد أن يتأكدوا أنه هو حجر الزاوية الذي يربط العالم برباط المصالحة مع الله. وقال: “من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا". فإن كان المرنم يقصد الحجر المار ذكره بالذات فقط فلماذا رفع نظره إلى الملأ الأعلى والى الأجيال المقبلة؟ وهل حجر بسيط مقطوع من أحد الجبال يستحق أن يقال عنه أنه كان من قبل الرب؟ أليس هذا القول دليلاً على أن القائل كان ينظر إلى ما هو أعظم من حجر بسيط؟ ولكن ما هو البرهان الذي يدلنا على أن هذا القول المذكور في عدد 22 كان نبوة صريحة عن المسيح؟ هذا هو البرهان الذي لا يقبل نقضاً.

1- لما أراد المسيح أن يؤكد لليهود أنه هو المسيح الآتي من الله وأنه هو الموعود به وضرب لهم مثلاً أبان لهم فيه أن صاحب الكرم لا بد أن يهلك الذين رفضوا ابنه واحتقروه وقتلوه قال لهم منبهاً: " أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا!" (مت 21: 42).

2- لما أراد بطرس أن يؤكد لنا أن هذا القول كان نبوة عن المسيح لا عن غيره قال: “فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة وأما للذين لا يطيعون فالحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية” (1بطرس2:7).

3- بعد أن شفى بطرس ذلك الأعرج باسم المسيح خطب في الشعب وأمام المجمع قائلا: " فليكن معلوماً … أنه باسم يسوع المسيح الناصري … بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً. هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناءون الذي صار رأس الزاوية” (أعمال 4: 10و11).

المسيح الممجد

ليس المسيح إلاّ واحداً فهو المسيح المتألم وهو المسيح الممجد معاً. نعم أنه ممجد في أزليته وأبديته بلاهوته وهو أيضاً متألم في تنازله وكفارته بناسوته. فالذي مات عنا بناسوته هو ذات الحي إلى أبد الآباد بلاهوته. فإذا علمتم ذلك فلنتقدم إلى الكلام عن المسيح الممجد فنقول:

أولاً:

ورد في المزمور الثاني ما نصه: "لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما. الساكن في السموات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه. أما فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي. إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك. تحطمهم بقضيب من حديد. مثل إناء خزاف تكسرهم فالآن يا أيها الملوك تعقلوا. تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة. قبّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق لأنه عن قليل يتقد غضبه. طوبى لجميع المتكلين عليه” (مزمور 2).

من المؤكد، حسب شهادة العهد الجديد، أن قائل المزمور الثاني هو داود ولو كان بلا عنوان. فهو مزمور المسيح الخاص لأنه لم يتناول إلاّ موضوع تمجيد المسيح ملك الملوك ورب الأرباب، مقسماً تقسيماً طبيعياً إلى أربعة أقسام كما لاحظها القس سبرجن الشهير. الأول: هيجان الأمم على مسيح الرب، وارتجاجهم، وتفكرهم عليه بالباطل. الثاني: استهزاء الرب بهم وبهيجانهم، وعدم اكتراثه بأعمالهم ضد خالقهم، لأنه من الصعب عليهم أن يرفسوا مناخس (انظر أعمال 9: 1-6). الثالث: إعلان الابن بقضاء الآب. وهذا الإعلان صدر من ذات الابن باعتبار أن بنوته أزلية أبدية أي باعتبار أنه هو الله. الرابع: تقديم النصيحة إلى الملوك ليتعقلوا ويتأدبوا ويخضعوا للإبن ويؤمنوا به ويطيعوه ويعبدوه.

وأما الأسماء التي اختص بها المسيح في هذا المزمور الذي هو مزموره الخصوصي فقد استخلصناها من السياق كما يأتي:

مسيح الرب "على الرب وعلى مسيحه” (عدد 2)

ملك الرب أو الملك الإلهي "أنا مسحت ملكي” (عدد 6)

ملك الملوك وهذا ظاهر من خلاصة العددين 8و9

ابن الله- الابن- وهذا واضح من العددين 7و12 لا سيما قوله "أنت ابني".

الرب- وهذا ظاهر من العدد 11

تفسير هذه الأسماء الخاصة بالمسيح

مسيح الرب:

المسيح بصفة كونه إلهاً أزلياً لا يحتاج إلى المسحة لأنه رب الملوك والأنبياء ومرسلهم؛ ولكن بصفة كونه فادياً متجسداً مسح بالروح القدس مسحة سماوية منزهة عن الزمان والمكان والوسائط البشرية، مسحه الله بزيت الابتهاج السماوي (مزمور 45: 7).

ملك الرب أو الملك الإلهي:

هو المعين لملكوته من قبل أن تُخلق الخلائق. ولذلك مسحه الآب بالروح القدس على جبل قدسه، وأعطاه كل سلطان في السماء وعلى الأرض. ولذلك جاء في مجيئه الأول للفداء بالرحمة واللطف والوداعة والمحبة؛ ولكنه في مجيئه الثاني سيحطم الذين رفضوه بقضيب من حديد دينونته العادلة ويكسرهم تكسير الأواني الخزفية مع العلم أنه منذ صعوده إلى السماء وحلول الروح القدس وهو يحطم الشرور بقضيب البر ويكسر الأشرار مثل إناء خزاف.

ملك الملوك:

له السلطان الأعلى في السماء والأرض، على جميع الملوك والسلاطين والرؤساء والشعوب. يتصرف بهم كما أراد لأنه أيضاً رب الأرباب.

ابن الله- أو- الابن: ليس معناه سبق الأبوّة- كما هو النظام الطبيعي في مخلوقات الله- بل معناه المساواة بين الآب والابن.

أن الله اختار هذا التعبير الخاص ليقرب ذاته لإفهامنا مع أنه منزه عن كل ما يعبر به عنه البشر وخصوصاً في موضوع التوالد. حتى أن المفسرين في كل الأديان الأخرى التزموا أن يشرحوا الألفاظ البشرية التي عبرت بها الكتب عن الله فقالوا أن الله يفرح ويغضب ولكنه منزه عن التأثرات والانفعالات وله يد ولكن ليست مادية كأيدينا ويسمع ولكن ليس له أذن مادية ويرى ولكن ليس له عين مادية الخ. وعلى هذا المنهج يشير الله الآب (الأقنوم الأول في اللاهوت) إلى أقنوم (أعني إلى كائن) آخر تسمى الابن للدلالة على علاقة سرية غير مدركة موجودة بينه وبين الآب. وأما كُنه هذه العلاقة فلا سبيل لنا إلى معرفته. ولو فرضنا وعرفناه، فلا سبيل لنا إلى التعبير عنه إلاّ بهذه الألفاظ البشرية المحدودة القاصرة بالنسبة إلى الحقيقة الجوهرية. ولكن النتيجة هي أن ابن الإنسان هو إنسان وأن ابن الله هو الله لاتحاد الصفات والطبيعة والمقام بين الآب والابن. وعلى هذا فالمسيح إله حق كما أنه إنسان حق أيضاً. فهو بناسوته ابن الإنسان، ولكنه بلاهوته ابن الله.

الرب:

معناه أنه السيد الموجود في كل أجزاء الوجود والمعبود. ولذلك دعا داود إلى عبادته بخوف وإلى الهتاف في تسبيحه برعدة. ومما يجب الالتفات إليه قوله في أوامره للملوك: "فالآن يا أيها الملوك تعقلوا. تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة قبّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريف لأنه عن قليل يتقد غضبه. طوبى لجميع المتكلين عليه". ولنا في إصدار هذه الأوامر ثلاث قضايا: (الأولى) لولا الجريمة ما كانت العقوبة. فإننا نرى في العدد الأول فما بعده أن قد ارتجت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل وقامت الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما. ولذلك جاءتهم الأوامر الزاجرة من ملك الملوك ورب الأرباب قائلة: "فالآن يا أيها الملوك تعقلوا. تأدبوا يا قضاة الأرض" وهذا الزجر يؤكد أنهم كانوا يعملون بجنون وبوقاحة ضد الرب وضد مسيحه، كما كان يعمل شاول الطرسوسي. (الثانية) لولا المعصية ما كانت الدعوة إلى الطاعة. أمر الله الملوك والقضاة أن يقبلوا الابن لئلا يغضب. والقصد بالتقبيل هنا الطاعة والإكرام والعبادة للابن. وعلى هذا الاصطلاح قال فرعون ليوسف الصديق: “أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي” (تك 41: 40) ومعناه أن كل شعب مصر بما فيهم أفراد بيت فرعون الذي لم يحفظ لنفسه سوى الاسم يطلبون جميع احتياجاتهم من يد يوسف فأنزله فرعون منزلة أب للعائلة بل للدولة، ولا يبرمون أمراً ما دون إرادة يوسف. وهذا منتهى الطاعة والإكرام. وعلى هذا الاصطلاح خضع صموئيل النبي لشاول بن قيس الملك فإنه "أخذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقبله وقال أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيساً” (1صم 10: 1)؟ وعلى هذا الاصطلاح سار نظام كنيسة انكلترا الأسقفية.  فإنهم إذ أرادوا تتويج ملك يذهب هذا الملك مع الملكة إلى الكنيسة ويركعان أمام المذبح وهناك تجري الخدمة الدينية حسب طقوس الكنيسة ثم يتقدم رئيس الأساقفة بعد أن يقسم الملك والملكة بين يديه اليمين ويلبسها التاج ثم يقيمهما ويجلسهما على العرش ثم يركع أمامهما ويقبل يديهما. فمعنى التقبيل هنا الإكرام. وعلى هذا فمعنى قوله: “قبلوا الابن لئلا يغضب" أكرموه أطيعوه واعبدوه واخضعوا له لئلا تقعوا تحت دينونة غضبه في اليوم الأخير.

(الثالثة) تطويب المتكلين عليه. ظن بعض المراوغين أن داود قال هذا القول عن الابن سليمان الذي توج ملكاً بأمره. ولو كان داود يقصد سليمان بالمزمور ما طوب المتكلين عليه لأن سليمان بشر من بني الإنسان ولا يجوز أن يدعو داود إلى الاتكال على الإنسان لأنه والحال هذه يكون داعياً إلى الوثنية والعياذ بالله. فداود هنأ وطوّب المتكلين لا على سليمان بل على الابن الذي قال له الرب "أنت ابني أنا اليوم ولدتك"، على ابن الله، على الرب يسوع المسيح. وكيف يتفق تطويب داود للمتكلين على إنسان مع قوله هو نفسه "لا تتكلوا على الرؤساء ولا على ابن آدم” (مز 146: 3) وقول إرميا النبي: "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه” (إرميا 17: 5). وينتج مما تقدم أن الاتكال لا يكون إلا على الله، وداود دعا إلى الاتكال على الابن وطوب المتكلين عليه، وأن الابن على ذلك هو الله الغني الأزلي القدير. ومما يؤكد نظريتنا في هذا المزمور وكونه خاصاً بالمسيح فقط ما جاء في العهد الجديد عنه كما يأتي:

1- اعترف جمهور الرسل أن المسيح هو الذي قيل عنه في المزمور الثاني: “لماذا ارتجت الأمم … قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب ومسيحه" وصرخوا إلى الله قائلين "لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم …" (أعمال الرسل 4: 24- 28).

2- اعترف بذلك أيضاً بولس الرسول في موضعين: (الأول) قوله: "أن الله قد أكمل هذا لنا … إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني أنت ابني أنا اليوم ولدتك” (أعمال 13: 33). (والثاني) قوله: “وتعيّن (أي يسوع المسيح) ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رومية 1: 4). فالتعيين هنا هو الإظهار. وعلى هذا يكون معنى قول المزمور: "أنت ابني أنا اليوم ولدتك" أي أقمتك أظهرتك. واليوم المقصود هنا هو يوم قيامة المسيح من الأموات.

3- اعترف كاتب الرسالة إلى العبرانيين بذلك أيضاً في قوله أن الله كلّمنا في ابنه الذي جلس في يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم. لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟ (عبرانيين 1: 1- 5)

وبما أن هذا هو تفسير الروح القدس فنحن نقف عنده ولا نتعداه، وليس لنا إلا الإيمان بأن يسوع المسيح هو الله. ومن قال بغير ذلك فقد ضل سواء السبيل.

وكذلك نرى أن كل بركات في العالم لكل شخص كانت محدودة الزمان والتأثير وأما البركات التي أعطيت إلى العالم من الآب بخلاص الابن فأنها بركات أبدية لا نهاية لها وبها يتبارك جميع أمم وقبائل الأرض في كل زمان ومكان. وأما الفرح الذي يفرّحه الآب للابن كما في مزمور 20: 5و6 فليس هو حباً في ذات الآب أو الابن بل هو فرح بدوام وأزلية علاقة المحبة الكائنة بين الآب والابن والمتبادلة بينهما بالروح القدس، وهو فرح بالنفوس الكثيرة التي خلصت بواسطة الفداء الذي أكمله المسيح على الأرض ثم طلب المجد الذي كان له عقب هذا الإتمام كقول المسيح: “أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يوحنا 17: 4و5). وقد أوضح داود هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: "أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد” (مزمور 16: 11) وزادها المسيح إيضاحاً بقوله لتلاميذه في مدينة سوخار: “أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم … طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله … ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد. والحاصد يأخذ أجرة ويجمع ثمراً للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معاً” (يوحنا 4: 32-36).

(ثانياً):

ورد أيضاً في مزمور 24: 7-10 "ارفعن أيتها الأرتاج روؤسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ الرب القدير الجبار الرب الجبار في القتال. ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ رب الجنود هو ملك المجد". ونحن نرى أن هذا القول ناطق مباشرة بنبوة صريحة عن صعود المسيح إلى السماء بعد أن قام من بين الأموات وأكمل الفداء. وما دعاه داود هنا "ملك المجد" إلا لأنه رأى بعين النبوة أن هذا الصعود سيكون خاتمة مواكب انتصاراته الملكية وأهمها. وأنه سيعود إلى السماء كما يعود الملك الظافر إلى عاصمة مملكته، ولذلك خاطب أبواب السماء قائلاً: "ارفعنَ أيتها الأرتاج رؤوسكن فيدخل ملك المجد". ولولا أن تلاميذه رأوه بأعين رؤوسهم صاعداً ممجداً بموكب سماوي على سحابة من المجد ما رجعوا عندئذ إلى أورشليم بفرح عظيم (لوقا 24: 50- 52). ومن شاء الاستزادة فليراجع أعمال الرسل 1: 1- 12.

(ثالثاً): المزمور 45 "فاض قلبي بكلام صالح. متكلم أنا بإنشائي للملك. لساني قلم كاتب ماهر. أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار. جلالك وبهاءك وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر فتريك يمينك مخاوف. نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك. شعوب تحتك يسقطون.

كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر أبغضت الإثم من اجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج اكثر من رفقائك. كل ثيابك مر وعود وسليخة. من قصور العاج سرتك الأوتار. بنات ملوك بين حظياتك. جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير. اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها. بملابس مطرزة تحضر إلى الملك. في إثرها عذارى صاحباتها. مقدمات إليك. يحضرن بفرح وابتهاج. يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض. اذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد".

للناس في هذا المزمور آراء. فمن قائل أنه انشىء كقصيدة غرامية في يوم زواج سليمان الملك بابنة فرعون، ومن قائل أنه قصيدة لزواج سليمان ولكن الكاتب كان تقياً باطنياً متصوفاً فجعل المشهد أساساً لإنشاء المزمور ولكنه سما بأفكاره عن المستوى البشري وهام في الله، ومن قائل أنه مزمور نبوي انشىء بروح النبوة إعلاناً لاتحاد المسيح مع كنيسته ومحبته لها. ونحن نرفض الرأي الأول رفضاً باتاً، ونقول إذا صحّ الرأي الثاني فإن نتيجته تؤدي إلى حقيقة الرأي الثالث والأخير. هذا ما نراه نحن نظراً لما يأتي في شرح المزمور واستخراج كنوزه:

أقسام المزمور الطبيعية

1- إعلان قصد كاتب المزمور نفسه (عدد 1) وهذا الكاتب لم يكتب إلا بالوحي مسوقاً بالروح القدس.

2- خطاب من الكاتب إلى العريس فيه وصف جمال العريس وقوته ونصراته وما إلى ذلك (عدد 2-9). والعريس الروحي هو المسيح.

3- خطاب من الكاتب إلى العروس وفيه إرشاد لها إلى واجباتها (عدد10-12). والعروس الروحية هي كنيسة المسيح.

4- شرح الكاتب للصفات التي يجب أن تكون عليها كنيسة المسيح (عدد 13-15).

5- ذكر مجد المسيح ودوام هذا المجد جيلاً بعد جيل إلى منتهى الدهور (عدد 16و17).

وأما أسماء المسيح المذكورة في هذا المزمور والمستنتجة منه فهي كما يأتي:

ا- الملك عد 1. 2- البارع الجمال عد 2. 3- الجبار عد 3. 4- صاحب الجلال والبهاء عد 3. 5- الله عد 6. 6- محب البر ومبغض الإثم عد 7. 7- الممسوح وحده بزيت الابتهاج عد7. 8- العريس المقتني لبنات الملوك عد 9. 9- سيد الكنيسة عد 11. 10- المسجود له عد 11. 11- الممدوح من جميع الشعوب إلى الأبد عد 17. وسيأتي شرح هذه الأسماء في سياق الموضوع.

1- استهل الشاعر العبراني موضوعه بإيضاح قصده فأبان أنه مدفوع إلى إنشاء هذا المزمور لا على سبيل العادة ولا تملقاً لملك تزوج بل لأن قلبه فاض بالكلام الصالح الدال على ما فيه من التقوى وما له من الروحانية. ولذلك أشار أنه كرس مواهبه لله في قوله: “متكلم أنا بإنشائي للملك". وأعلن أنه مبتهج بهذا التكريس في قوله "لساني قلم كاتب ماهر". وفي هذا من البراهين على الإلهام ما تعجز عن حصره الأقلام، ولا تحيط به الأفهام. وما الكاتب الماهر هنا إلا الروح القدس له المجد على الدوام.

2- خاطب الكاتب عريسنا مبتدئاً بقوله: “أنت أبرع جمالاً من بني البشر". ولئلا يفهم الناس أن الجمال المذكور هنا هو جمال الذات الجسدية فنؤكد لهم هنا أن المخاطب قصد الجمال الأدبي في الصفات الطاهرة والأعمال القدسية. نعم إن المسيح، عريس الكنيسة، أبرع جمالاً من كل بني البشر لأنه في حياته وأفكاره وأعماله وأقواله ومراحمه مظهر الله بكامل صفاته القدسية لأن الذي رآه رأى الآب (يوحنا 14: 1). فهو الكائن الأزلي الجميل الذي تمت فيه صفات الجمال الأدبي، وهو الذي فعل العجائب المملوءة بالخيرات والمراحم. فيا له من جمال فائق! "انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد "وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يوحنا 1: 17)، فهو الواهب كل نعمة. "تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك” (عبرانيين 4: 12 وأفسس 6: 11- 17) المراد به سيف الحق الذي به يمزق مملكة الشيطان ويتمم الفداء ويخلص بني الإنسان. "وبجلالك اقتحم. اركب. من أجل الحق والدعة والبر فتريك يمينك مخاوف". أنه ركب مطية العزم الأكيد، واقتحم مملكة الشيطان بجلال قداسته مدفوعاً بعوامل الحق والدعة والبر، وحارب الشيطان حرباً دراكاً فأرته يمينه المخاوف التي كان الشيطان قد نصبها للناس لأنه كشفها وفضحها. "نبلك مسنونة في قلب أعداء الملك. شعوب تحتك يسقطون" كل الملوك حاربوا ليقتلوا وأما ملكنا وعريسنا المسيح فإنه حارب الشيطان ليحيي الإنسان حتى أن جميع الذي آمنوا من كل الشعوب الذين سقطوا تحته أعطوا حياة جديدة بالخلاص فصاروا رعية مقدسة. فنبله نبل حياة. "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك" اعتراف صريح بأن الملك العريس المذكور هنا هو الله. فالمسيح هو الله (راجع عبرانيين 1: 8). "أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك" المسيح أحب البر فدعا إليه، وأبغض الإثم فمات بسببه ليخلصنا منه. في العدد السابع رأينا أن المسيح هو الله وفي هذا العدد رأينا أن الله مسحه بزيت الابتهاج. فلا يوجد في الوجود إلهان مختلفان متزاحمان. ولكن الله الواحد مثلث الاقانيم. فأقنوم الآب هو الله. وأقنوم الروح هو الله، وأقنوم الابن هو الله. فالله الآب مسح الله الابن بزيت الابتهاج بالروح القدس. فالمسيح كإله يعيّن ويمسح، ولكنه كالفادي المتجسد ممسوح بزيت الابتهاج. وقد ابتدأ إعلان هذه المسحة للفداء من اليوم الذي فيه سقط آدم حينما أعلن الله أول وعد بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية. فهي مسحة للوظيفة ولذلك سمي "المسيح". وقد صودق على هذه المسحة من السماء بحلول الروح القدس على المسيح عقب العماد وبإعلان الآب سروره بالابن من السماء. وصودق عليها أيضاً في الجبل الذي تجلى عليه المسيح بمجده بظهور موسى وإيليا أمامه وبإعلان الآب سروره بالابن من السماء ودعوة العالم إلى طاعته. وأشار بقوله "أكثر من رفقائك" إلى أن مسحة المسيح سماوية روحية بخلاف الذين اتخذ المسيح طبيعتهم البشرية للفداء من الملوك والكهنة والأنبياء، لأن هؤلاء مسحوا في أوقات معينة بمواد طبيعية وبأيد بشرية. فهو قد دعي في عدد 6 الله، وفي عدد 7 إنسان، فهو الإله المتأنس. وما سميت مسحة المسيح بزيت الابتهاج إلا لأنه ابتهح بتعيينه لخلاص البشر. "من قصور العاج سرتك الأوتار" إن المسيح يفرح بالأغاني والأناشيد الخاصة بالطهارة والعفة والعبادة المقدسة لا بغير ذلك. "بنات ملوك بين حظياتك. جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير" أشار ببنات الملوك إلى الطوائف والأمم والأديان التي انضمت نهائياً إلى المسيح وصار أفرادها أفراد شعب المسيح فحظوا بمحبته ونعمته وخلاصه. والمراد بالملكة هنا كنيسته العروس التي جلست عن يمينه بحليها المقدسة التي هي إيمان وأمانة وسلام ومحبة وهدوء وصلاح وبر وفرح روحي وطول أناة ووداعة وتعفف وطهارة وفضيلة الخ.

3- ثم انتقل الكاتب من مخاطبة العريس إلى مخاطبة العروس التي هي كنيسة المسيح، فحرّضها على القيام بواجباتها نحو عريسها الفادي. "اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك" فهو يفرض على الكنيسة أن تطلّق العالم وتحصر آمالها في المسيح وحده بشغف ومحبة كما أن العروس تفرح بعريسها وتنسى ما عداه من الأهل والخلان. حقاً أن الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله. "فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له". لا يسكن المسيح في قلب من قلوب المؤمنين إلا إذا كان طاهراً من كل شر ومعداً لسكناه. وأما إذا كان في القلب شيء من محبة العالم فلا يلتفت إليه المسيح ولا يقترب منه لأنه: "أية خلطة للبر والإثم. وأية شركة للنور مع الظلمة. وأي اتفاق للمسيح مع بليعال. وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟” (2كو 6: 14-16). وهكذا إذا كانت الكنيسة خالية من الفتور وأنواع العيوب فإن المسيح يراها قد هيأت نفسها له بالزينة الروحية فيشتهيها وتسجد له لأنه هو سيدها الوحيد. حقاً أن عرس الحمل قد جاء وامرأته هيأت نفسها له، وكعذراء عفيفة قدمت نفسها له. فهل أنتم من أفرادها؟ (راجع رؤيا 19: 7و2كو 11: 2).

4- انتقل الكاتب من مخاطبة العروس إلى الإطناب في أوصافها بذكر ما هو لازم لحياة كنيسة المسيح في قالب المدح فقال:

"كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها". كل الكنيسة مجد لأننا أمرنا أن نضيء بنور إيماننا ليرى الناس أعمالنا الحسنة فيمجدوا أبانا الذي في السموات (متى 5: 16)، ولأننا أولاد الله قد انتقلنا من الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (رومية 8: 21)، ولأن الله الابن الذي طهّر كنيسته بغسل الماء بالكلمة سيحضرها لنفسه كنيسة مجيدة … مقدسة وبلا عيب (أفسس 5: 25-27). وأما الذهب المنسوجة به ملابس العروس فهو أعمال البر والمراحم التي تقوم بها كنيسة المسيح دائماً.

"في إثرها عذارى صاحباتها … يدخلن إلى قصر الملك" هذا وصف لاحتفالات الكنيسة بقبول الموعوظين وترشيحهم وبإيمان الطالبين الآتين من وادي الخطية الذي لا يحتفل بهم ولا يفرح بهم إلا الذين أفرزوا أنفسهم الباطنية عن العالم وكرسوا حياتهم للمسيح عريس الكنيسة (راجع متى 25: 10-13).

5- ثم انتقل الكاتب إلى ذكر مجد المسيح عريس الكنيسة وإلى دوام هذا المجد إلى أبد الآباد. فقال: “عوضاً عن آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض"- عوضاً عن آبائك حسب الجسد يكون بنوك حسب الروح وتقيمهم رؤساء في كل الأرض بقوة لاهوتك.

"أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد". في هذا العدد إعلان ظاهر لمجد المسيح، لأنه يذكر اسمه في كل دور فدور، وفيه شهادة ظاهرة بأن الشعوب يسبحونه ويعبدونه على الدوام، وفيه إعلان لمجد الفادي إلى الدهر والأبد- إلى ما لا نهاية. وهل يوجد في العالم أجمع من حاز هذا المجد غير المسيح؟ وهل تقلّد سيف البر غير المسيح؟

يقولون أن هذا المزمور خاص بزواج سليمان! فهل سليمان هو الله حتى يخاطبه الكاتب بالقول: “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم؟" فإذاً هذا المزمور إنما هو لاهوت المسيح من جهة واتحاده بالكنيسة من جهة ثانية. ومما يدل على أن هذا المزمور عن المسيح لا عن غيره ما جاء في عبرانيين 1: 8و9 وأفسس 5: 22-32 ورؤيا 19: 6-8 فراجع هذه الشواهد في الكتاب لتعلم أن الحق لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد إلا في المسيح إلهنا الذي قال الوحي أن كرسيه إلى دهر الدهور.

(رابعاً):

ورد في المزمور الثاني والسبعين: “أللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك. يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق. تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين ويسحق الظالم. يخشونك ما دامت الشمس وقدّام القمر إلى دور فدور. ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر. ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض.

أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب. ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة. ملوك شبا وسبا يقدّمون هدية. ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له. لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له. يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء. من الظلم والخطف يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه. ويعيش ويعطيه من ذهب شبا. ويصلي إلى الله لأجله دائماً. اليوم كله يباركه.

تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال. تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض. يكون اسمه إلى الدهر. قدام الشمس يمتد اسمه. ويتباركون به. كل أمم الأرض يطوبونه. مبارك الرب الله … الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين".

من عنوان هذا المزمور نرى أن سليمان هو مؤلفه. ولكننا في آخره نراه يقول "تمت صلوات داود بن يسّى"، وهذا يؤدي إلى التجاذب في الرأي هل المزمور هذا لسليمان أم لداود. والحقيقة أنه لسليمان، ألفه بعد أن توّج ملكاً وقبل أن يموت أبوه ولذلك استهله بقوله: “أللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك". وأما قوله "تمت صلوات داود بن يسى" فهو قول عام لصلوات داود في مزاميره المعنونة باسمه والتي ذكرت قبل هذا المزمور في الكتاب لأن هذا يختم الجزء الثاني من خمسة أجزاء سفر المزامير، وأكثر مزامير داود متضمنة في الجزئين الأولين.

أقسام المزمور الطبيعية

1- بر الملك وعدله وحكمته في إدارة ملكه ورفاهية شعبه. (عدد1-7)

2- اتساع ملكوته بانضمام الأمم إليه وخضوع الشعوب له (عدد 8-11)

 3- المجري فداء " للمساكين وخلاصاً للبائسين (عدد 12- 14)

 4- دوام ملكه إلى أبد الدهور (عدد 15-17)

5- تسبيح وبركة (عدد 18و19)

أسماء المسيح في هذا المزمور بالاستنتاج من النصوص

1-  الملك ع1. 2-  الديان ع2 3-  القاضي لمساكين الشعب ع4 4- المخلّص ع4 5- المهوب على الدوام ع5 6- المسجود له والمعبود ع9و11 7- الرب الله الصانع العجائب وحده عدد 18.

قادنا هذا المزمور إلى ملك مرتفع ممجد، وأتانا ببركات نتجت عن ملكه. ويدلّنا هذا على أن الملك المذكور هنا ليس من البشر بل ملك سماوي أمر البشر في يمينه لأن ملكوته عام لا خاص وشامل لا محدود ودائم لا مؤقت وهو معبود لا عابد بل هو الرب الإله. ولننظر في الأقسام:

1- نظر سليمان إلى نفسه فرأى نفسه ملكاً وابن ملك، فأقام الروح القدس في نفسه أنه رمزاً للمسيح الملك وابن الملك، فتضرع بلسان النبوة قائلاً: “أللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك". ثم نظر بعيني الإيمان إلى ما يوصف به الملك الآتي باسم الرب، فقال: “يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق. تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين وسحق الظالم. يخشونك (يا ابن الملك) ما دامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور … يشرق في أيامه الصدّيق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر". فوصفه لنا بأنه الديان، كما قال المسيح: “لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يوحنا 5: 22).

ووصفه لنا قائلاً أنه "يقضي لمساكين الشعب" وهذا يوافق تضرعات شهداء الضيقة المرفوعة إلى المسيح: “حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض” (رؤيا 6: 10) ووصفه لنا أنه يخلص البائسين وهذا يوافق قول المسيح عن نفسه: " لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص” (لوقا 9: 56) ووصفه لنا أنه يسحق الظالم وهذا يوافق قول الرسول بولس عنه: “وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً” (رومية 16: 20). ووصفه لنا أنه المهوب على الدوام الذي يخشاه الجميع ما دامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور وأن الصدّيق يشرق في أيامه وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر. وهذا يدل على أزليته. وأن الذي يخشاه ويكرمه كأنه أكرم الآب. وعلى أنه هو ملك السلام ورئيس السلام إلى أن يضمحل القمر.

2- ونظر سليمان إلى مساحة الأرض التي مسح ملكاً عليها فابتهجت نفسه وسما بأفكاره إلى ملك المسيح والى سموه عن جميع ملوك البشر فقال: “ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض … ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له".

فأبان لنا أن المسيح سيملك على الجميع بلا نهاية كما قال الرسول بولس: “المسيح باكورة … لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه” (1كو15: 15). وهذا يوافق ما جاء في رؤيا يوحنا: “ثم بوّق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه فسيملك إلى أبد الآبدين” (رؤيا11: 15). وأبان لنا أن كل الملوك يسجدون للمسيح الملك وأن كل الأمم تتعبد له وهذا ما سيتم في ملك المسيح الألفي. وهذا يوافق قول الرسول بولس: “لذلك رفّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فيليبي2: 9-11).

3- تأمل سليمان في ما عسى أن تكون وظيفة الملك الآتي فملأه روح الإلهام فقال: “ينجي الفقير … يشفق على المسكين والبائس ويخلّص أنفس الفقراء. من الظلم والخطف يفدي أنفسهم". وقد تمت هذه النبوة عملياً بظهور الملاك للرعاة وتبشيرهم بولادة الفادي (لوقا2: 8-13) وبحمد الفادي لأبيه لأنه أخفى سر الخلاص عن الحكماء والفهماء وأعلنه للبسطاء الذين اهتم بهم وقال لهم "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين” (متى 11: 25-30)، وباختيار المسيح رسله من بين الصيادين الفقراء (مرقس 1: 16-20 وغيره). وقد صادق الرسول بولس على النبوة واتمامها بقوله: “بل اختار الله جهّال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود” (1كورنثوس1: 27و28)، وتبعه في ذلك يعقوب الرسول بقوله: “أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه" (يعقوب2: 5).

4- ولما رأى سليمان أن أباه أوشك أن يموت وأنه هو سيأتي دوره فيموت ويتخلى عن هذا الملك الضخم تأكد لديه أن ملكوت الملك الآتي لا يزول بل يدوم فقال: “ويعيش ويعطيه من ذهب شبا … يكون اسمه إلى الدهر. قدام الشمس يمتد اسمه … كل أمم الأرض يطوبونه". وهذا يوافقه قول أشعياء عن المسيح (أشعياء 9: 6و7) الذي أكّده جبرائيل الملاك لمريم بقوله: “هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لوقا 1: 32و33). وسنراه متوجاً على المسكونة كلها قريباً فانتظروا.

5- وعندئذ اشتد بسليمان إلهيام فخرج من باب الألغاز إلى ميدان الحقيقة وهتف قائلا: "مبارك الرب … الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين" فأوضح لنا أن هذا الملك الدائم الملكوت إنما هو الرب الله الذي سيتآنس لفداء العالم فيملأ الأرض كلها بالبركات ثم يعود إلى المجد الذي كان له قبل كون العالم. وهذا هو مسيحنا الممجد الذي دخل إلى مجده بعد آلامه وصلبه وموته وقيامته (لوقا 24: 26) له المجد إلى دهر الدهور. آمين.

ونحن نرى أن هذا المزمور إنما هو خلاصة ما جاء عن المسيح في تكوين 22: 15-18 وزكريا 9: 9 وأشعياء 9: 6و7 وص 11: 1-5 فضلاً عما ذكرناه من شواهد العهد الجديد في سياق الموضوع. ومن المعلوم أن سليمان كان ملكاً زمنياً فقط، فلا يتصور عاقل أنه قال هذا القول عن نفسه أو عن أبيه، بل أن كل الدلائل التي مرّ بكم ذكرها تدل على أنه لم يقصد سوى فادي الأنام، له الملك والقوة والمجد على الدوام.

(خامساً)

ورد في مزمور 110: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. يرسل الرب قضيب عزك من صهيون. تسلّط في وسط أعداءك. شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك. أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك يحطّم في يوم رجزه ملوكاً. يدين بين الأمم. ملأ جثثاً أرضاً واسعة سحق رؤوسها. من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع الرأس".

إن قائل هذا المزمور هو داود لا سواه، بدليل مثلث: 1- من عنوان المزمور: “لداود ". 2- من اقتباس المسيح للعدد الأول منه باعتبار أن داود قائله. 3- من تسليم الفريسيين بنسبته إلى داود وعدم اعتراضهم على هذه النسبة.

أقسام المزمور الطبيعية

1- رفعة المسيح ومجده وملكوته وجلوسه على عرش ملكه وصفات شعبه (عدد 1-3)

2- المسيح كاهن أبدي لا زوال لكهنوته (عدد 4)

3- مناصرة الله الآب لابنه المسيح الكاهن والملك (عدد 5-7)

أسماء المسيح المستفادة من هذا المزمور وتفسيرها

الرب:

شهد داود بالوحي أن الرب الآب خاطب الرب الابن الذي هو رب داود حيث قيل "قال الرب لربي" فالمسيح هو الرب.

الملك العزيز:

المسيح ملك روحي وقضيب عزّه روحي هو سلطان الوحي الإلهي الذي ابتدئ به من صهيون كما بالتوراة من سيناء

المتسلط على الأعداء: وبالحق تسلط المسيح في وسط أعدائه لأن خلاصه ابتدأ من أورشليم مركز أعدائه اليهود وانتشرت في البلاد التابعة للرومان الذين كانوا يحاولون القضاء على الشيعة الناصرية ولكن المسيح تسلط في وسط الجميع وغلبهم فدانوا له

الكاهن إلى الأب:

من وظيفة الكاهن ممارسة وظيفته في سن معيّن من حياته وفي مكان معيّن ولقوم معنيين فقط. وأما المسيح فهو كاهن إلى الأبد في كل زمان ومكان ولكل الناس. وها هو بكهنوته يشفع فينا كل حين في السماء. وأما أقسام المزمور الطبيعية فأمامنا فيها ما يأتي:

1- أخبر داود بالوحي أن الرب (الآب) قال لربي- أي رب داود (الابن)، وهذا اعتراف واضح من داود بربوبية المسيح وبعبوديته للمسيح. ويؤخذ من هذا القول الطاهر أنه يوجد في وحدانية الذات الأحدية أكثر من أقنوم واحد، لأنه أظهر أن الأقنوم الأول خاطب الأقنوم الثاني. وهذا برهان قويّ على لاهوت المسيح ومجده من جهة، وبرهان على الثالوث من جهة أخرى. وقد اقتدى توما الرسول بداود النبي فهتف في حضرة المسيح قائلاً: "ربي وإلهي” (يو 20: 28). وقد تمت نبوة داود القائلة: “اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك" بصعود المسيح وجلوسه عن يمين العظمة في الأعالي (عبرانيين 1: 3و8: 1و10: 12و12: 2 وأعمال 2: 30) وقوله: “يرسل الرب قضيب عزك من صهيون" ويمتد إلى أطراف الكون فيملك ويتسلط على الجميع بعزّة ربانية. ولا بد من إتمام هذه النبوة بحذافيرها حينما يصير الملك كله للرب ولمسيحه ويبيد الشيطان وكل عمله. وأما قوله: “شعبك منتدب الخ" فيفسره قول المسيح: “لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب” (يوحنا 6: 44)، "كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون” (متى 26: 52). فكل شعب المسيح آمنوا مختارين متطوعين.

2- رأى دواد أن مَلكه وربه يسوع المسيح سيمارس وظيفة الكهنوت. ولعلمه بشروط كهنوت البشر فقد نزّه المسيح عنها جميعها، لأن كهنوت البشر معناه القيام بتأدية الوظيفة المعينة كتأدية واجب فقط، وأما كهنوت المسيح فمعناه الجلوس عن يمين الآب ليشفع في شعبه المؤمنين شفاعة متواصلة دائمة لا انقطاع لها ولا نهاية لها، باعتبار أنه الفادي في الأرض والشفيع الدائم في السماء (يوحنا 2: 1و2).

3- ومما يدل على أن الآب والابن اقنومان من أقانيم اللاهوت، أن الرب الابن، عن يمين الرب الآب، ينحطم ملوكاً يوم غضبه على الرافضين. ومعناه أن الآب ينتصر للابن باعتبار الابن كاهناً أبدياً وملكاً سماوياً أعلى. ويدين الأمم- أي أن الابن هو الذي يدين لأنه هو الذي فدى.

وقد برهن المسيح بنفسه على أنه، وأن كان ابن داود حسب الجسد، إلا أنه رب داود وخالقه بالروح، فأفحم المعارضين (متى 22: 42 -46). وقد برهن بطرس الرسول على أن داود لم يصعد إلى السموات ولم يجلس عن يمين الله بل كان متنبئاً عن الرب يسوع المسيح (أعمال 2: 32-36). وبرهن بولس الرسول ذلك فقال أن الجميع ماتوا في آدم ولكنهم سيحيون جميعاً في المسيح الذي يجب أن يخضع الكل تحت قدميه (1كو 15: 22-25). واعترف بولس الرسول أيضاً أن الله أقام المسيح من بين الأموات وأجلسه معه في السماويات فوق كل رئاسة وسلطان ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً وأخضع كل شيء تحت قدميه (أفسس 1: 20-22).

وهذا المزمور يرينا أن المسيح تمجد ولكن بآلامه وفدائه وشفاعته، وأنه إله تجسد أيضاً كما أسلفنا.

[1] - أعاد مركز المطبوعات المسيحية (مطبعة النيل المسيحية سابقاً) طباعة هذا الكتاب النفيس. فبادر إلى اقتنائه. 

  • عدد الزيارات: 12784