بشارة يوحنا
الفصل الثاني
إن يوحنا كاتب هذه البشارة كان أحد الرسل الثلاثة الذي اصطفاهم المسيح ليكونوا رفقاءه الخصوصيين وهم بطرس ويعقوب ويوحنا وهؤلاء وحدهم هم الذين رخّص لهم أن يعاينوا قيامة ابنة يايرس (مر 5: 37) والتجلّي (مت 17: 1 ومر 9: 2 ولو9: 28) وجهاده في جثسيماني (مت 26: 37 ومر 14: 33). وقد صار لهذا الرسول بينات خصوصية عن محبة سيّده له وثقته به وذلك بتسميته إياه تكراراً التلميذ الذي كان يسوع يحبه وجلوسه بجانبه في الفصح الأخير وتوصيته إياه وهو على الصليب أن يهتم بأمه (يو 13: 23 و19: 26 و27). وعلى الأرجح أنه كان أحد الاثنين المذكورين في يو 1: 35- 40 فيكون من أول الذين دعاهم الرب إلى الرسالة. وبناء عليه يكون هذا الرسول فضلاً عن حصوله على إرشاد الروح القدس وإنارته الفائقة قد حصل أيضاً على كل الصفات والفضائل والمواهب التي تؤهله ليكون شاهداً لحياة مخلصنا وتعاليمه.
وهذه البشارة موضوعة في آخر البشائر وذلك بحسب اعتقاد الكثيرين أنها كتبت بعد خراب أورشليم في أثناء سنة 98 م بعد رجوع يوحنا من النفي. وذكر هذا البشير بعض أقوال المسيح المهمة وأعماله العجيبة التي لم يذكرها غيره من البشيرين، وقلّما يذكر من الأمور التي يذكرها غيره. وهم يتكلمون أكثر منه عما فعل الرب في الجليل، وهو يتكلّم أكثر منهم عما فعل الرب في أورشليم. ومن جملة الأمور التي يتركها هذا الإنجيلي- مما يذكره غيره– خبر ميلاد المسيح ومعموديته وتجربته وكثير من أمثاله وأحاديثه وأسفاره ودعوة الاثني عشر رسولاً وجميع عجائبه ما عدا إشباع الخمسة الآلاف ص 6.
ومن جملة الأمور الكثيرة التي يذكرها– مما يتركها غيره من الإنجيليين– إرشاد يوحنا المعمدان تلاميذه لاتّباع يسوع (ص1) وتحويل الماء إلى خمر (ص2) وشفاؤه ابن خادم الملك (ص4) وشفاؤه مريضاً في بركة بيت حسدا (ص5) والأعمى في بركة سلوام (ص9) وإقامته لعازر (ص11) وحديثه مع نيقوديموس (ص3) ومع المرأة السامرية (ص4) ومع الفريسيين بخصوص لاهوته (ص5) وفي كفرناحوم عن كونه هو خبز الحياة (ص6) وخطبه في عيد المظال (ص7) وكونه نور العالم (ص8) وكونه الراعي الصالح (ص10) ومع اليونانيين (ص12) وغسل أرجل تلاميذه وكلامه معهم بهذا الخصوص (ص13) وخطابه الطويل بعد أكل الفصح (ص14و 15 و16) وصلاته الشفاعية (ص17) وظهوره بعد قيامته على بحر الجليل وإرجاع بطرس إلى وظيفته الرسولية (ص21). فهذه البشارة تحوي روحانية المسيحية المؤسسة على المسيح ابن الله الأزلي الذي صار إنساناً في ملء الزمان ليفدي البشرية إذ هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم.
وإن ذات هذا الذي تأنس هو خالق كل الأشياء.ويحتوي على مخاطبات المسيح الوديعة الحكيمة مع اليهود ومع تلاميذه ويحتوي على وعده الصريح بإرسال الروح القدس ليكون معزياً للرسل وللكنيسة وليعلّمهم التعليم الصحيح ويذكرهم بكل ما قاله لهم ويحتوي على صلاة المخلّص لأجل رسله ولأجل كل مؤمن باسمه.
فهذه البشارة كتبت للكنيسة لتنمّيها في الحياة الروحية ولتجعل شركة متينة بينها وبين الله الابن مخلّصها.ونحو ثلثي هذه البشارة يتضمن أخبار الشهور الستة الأخيرة من حياة مخلصنا على هذه الأرض وثلثها يتضمّن خبر ما حصل في الأسبوع الأخير فقط.
ويذكر في هذه البشارة ما لم يذكر في غيرها من البشائر عن الثماني سياحات التي ساحها المسيح في خدمته الجهارية بالترتيب ملاحظاً الإشارة إلى أعياد الفصح الأربعة التي مرّت على المسيح في مدة تلك الخدمة. فالسياحة الأولى في اليهودية وبداءة خدمته (ص1: 29- 2: 12)، والثانية قرب الفصح في السنة الأولى من خدمته (ص2: 13 إلى آخر أصحاح 4)، والثالثة في السنة الثانية من خدمته قرب الفصح (ص5)، والرابعة قرب الفصح في السنة الثالثة من خدمته وراء الأردن (ص 6)، والخامسة تبتدئ في عيد المظال قبل موته بستة أشهر (ص7-10: 21)، والسادسة في عيد التجديد (ص 10: 22- 42)، والسابعة في اليهودية جهة بيت عنيا (ص11: 1- 54)، والثامنة قبل الفصح الرابع وهو الأخير (ص 11: 55 إلى آخر أصحاح 12).
ونختم بما قلناه أن هذه البشارة كتبت لتنمي المسيحيين الذين دخلوا إلى ملكوت المسيح الجديد في الحياة الروحية. وبموجب الغاية التي ذكرناها في كتابة هذه البشارة ينتظر بالطبع أن تحتوي على أدلّة أكثر من غيرها على لاهوت المسيح كما يظهر من الجدول الآتي:
تسمية المسيح بالأسماء والألقاب الإلهية في بشارة يوحنا
يو 1: 1 "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله " ففي هذه الآية سمّي الله، و1: 14 و18 و3: 16 و18 سمّي ابن الله الوحيد أي الذي لا يليق أن يقال عن واحد آخر أنه ابن الله بالمعنى الذي به نقول عن المسيح " ابن الله". نعم وهو الوحيد في مساواته للآب في وجوده وصفاته وأعماله. وكذلك في 1: 34 و49و3: 17 و35و36 و5: 19 و21 و6: 69 و9: 35 و10: 36 و11: 27 و20: 31 سمّي ابن الله، وابن الآب، والابن، وابن الله الذي يحب أن يؤمن به، والمسيح ابن الله، والمسيح ابن الله الحي، وفي 5: 17 و10: 37 و15: 23 و24 نرى أن الله أبوه، وفي 1: 23 و4: 1 و6: 23 و12: 38 و20: 18 و20 و25 و21: 7 و12 سمّي "الرب"، وفي 3: 17 و4: 42 و12: 47 نرى أن المسيح هو مخلص العالم. وبالمقابلة مع أشعياء 43: 11 "أنا أنا الرب (يهوه) وليس غيري مخلص" نفهم أن المسيح هو يهوه بعينه الذي ليس غيره مخلص.ولذلك سمّي في 1: 17 "يسوع" أي يهوه مخلّص، وفي 20: 28 "أجاب توما وقال له (ليسوع) ربي وإلهي" وقد صادق المسيح على تسميته من توما "ربي وإلهي" وبين أن الإيمان به يقتضي هذا الاعتراف عدد 29 فإذا آمن كل واحد إيمان توما الذي صادق عليه المسيح بقوله "هل آمنت" فحينئذ نقول كلنا له "ربنا وإلهنا". وعليه نجد أنه كان ينادي بالقول "يا رب" في 6: 68 و21: 15 و21.
نسبة الصفات والأعمال الإلهية للمسيح في بشارة يوحنا
يو 1:1 "والكلمة كان عند الله” (العنديّة في اللغة تفيد هنا الرفعة وعلو المنزلة)؛ وفي 1: 2 موصوف أنه كان في البدء أي في الأزلية قبل بدء كل شيء ومثله 1: 15 لما قال يوحنا المعمدان "لأنه كان قبلي" التي تعني– أنه أصل وجودي أو مبدئي ومثلها أيضاً قوله هو له المجد "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" في 8: 58 ومثله 1: 10 أيضاً. وقوله في 1: 3 "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" كان يصرّح البشير أنه خالق كل شيء وأنه لا يوجد خالق سواه، وهذا يدل على وحدة الله في الجوهر وأن ما نسب للمسيح ابن الله نسب الثالوث. ومثله 1: 10– "كوّن العالم به"، وكذلك قوله في 1: 4 " فيه كانت الحياة "، وفي 5: 21 أنه "يحيي من يشاء" و5: 25 أن صوته يحيي الأموات روحياً، و5: 28 و29 أنه يحيي الأموات جسدياً، و5: 26 أن له حياة في ذاته، و5: 40 أن الذي يأتي إليه تكون له حياة. ولذلك يقول في 10:10 أنه أتى ليعطي الحياة، وفي 10: 28 أنه يعطي خرافه حياة أبدية، وفي 11: 25 أنه هو القيامة والحياة.وفي 11: 25 و26 نرى أن من آمن به فسيحيا ولن يموت إلى الأبد؛ ولذا يقول عن نفسه في 14: 6 أنه الطريق والحق والحياة.وهو موصوف بل ملقّب في 1: 7 و3: 19 و8: 12 و12: 36 بالنور، وفي 1: 9 أنه النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، وفي 1: 12 هو يعطي السلطان لصيرورة المؤمنين به أولاداً لله، وفي 1: 4 نرى أن له المجد ومجده مجد ابن الله الوحيد بمعنى أن له كل المجد الذي للآب. وكذلك 2: 11 وخصوصاً في 12: 41 "قال أشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه ". فبمراجعة إش 6: 1- 5 نرى أن الذي رآه أشعياء هو "السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع … السرافيم واقفون فوقه … وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض … إني قد هلكت … لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" فمن يمكن أن يكون مثلّث القداسة ويقال عنه رب الجنود والملك رب الجنود ومجده ملء كل الأرض سوى الله جلّ جلاله؟ وبمقابلة قول أشعياء "إني قد هلكت … لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود" مع قول الرب لموسى في خر 23: 20 "لأن الإنسان لا يراني ويعيش" نفهم أن أشعياء قد قال ما قال بناء على هذا القول الوارد لموسى. ونستنتج أن الرب الذي رآه أشعياء هو ذات يهوه الذي كان يكلّم موسى ([1]) وفي 17: 5 نقرأ أن المسيح كان له المجد قبل كون العالم، ومثله 17: 24؛ وفي 1: 14 نرى أنه مملوء نعمة وحقاً، وفي 1: 16 نقرأ أن المؤمنين يأخذون من ملئه نعمة فوق نعمة، و1: 17 به صار النعمة والحق، وفي 1: 18 نرى أن المسيح ابن الله كان في حضن الآب وهو هنا على الأرض؛ ومثله في 3: 13 "ابن الإنسان الذي هو في السماء" بينما كان على الأرض ونزل من السماء. و14: 18و19 يبيّن أنه يقدر أن يحضر مع المؤمنين هنا وهو في السماء، و3: 31 و8: 23 يبيّن أنه أتى من فوق ولذا هو فوق الجميع وأنه أتى من السماء. و5: 36 و38 يبيّن أنه مرسل من الآب، و7: 29 يبيّن أنه من الله وأن الله أرسله إلى هذا العالم و8: 23 يظهر أنه ليس من هذا العالم، و8: 42 أنه خرج من قبل الله وأتى إلى هذا العالم، وكذلك 16: 27 و30 و17: 8 أنه من عند الله خرج، و16: 28 أنه كما أتى من عند الآب ذهب إليه، و17: 16 أنه ليس من هذا العالم. وفي 1: 27 يقول يوحنا المعمدان عن نفسه أنه ليس مستحقاً أن يحلّ سيور حذائه، وفي 1: 29 يقول يوحنا عن المسيح أنه هو حمل الله الذي يرفع (يحمل) خطية العالم، وفي 1: 33 يقول أن المسيح هو الذي يعمّد بالروح القدس، وفي 14: 16 و26 يبيّن أن الروح القدس يعطى بطلبه، بل في 15: 26 و16: 7 يبيّن أنه هو الذي يرسل الروح القدس، وفي 20: 22 أنه يعطي الروح القدس، وفي 1: 41 هو مسيّا (الملك الإلهي المنتظر) وعند اليهود هو يهوه بعينه (راجع إرميا 23: 5 و6)، وفي 1: 49و12: 13 هو ملك إسرائيل، و12: 15 هو ملك صهيون، وفي 18: 36 هو الملك الذي مملكته ليست من هذا العالم، وفي1: 42 نجده يعرف أسماء الناس بدون سابق معرفة طبيعية بهم. كما ويبيّن من 1: 47 أنه فاحص حالة الإنسان الداخلية، ومن 2: 24 أنه عالم بقلوب الجميع، وعدد 25 أنه عالم ما في الإنسان، ومن 1: 48 و4: 1و11: 11و14 أنه عالم بالغيب، ومثله في 4: 18 و29 و39 و6: 6 و61 و64 يبيّن أن يعلم كل شيء من البدء، ومن 6: 70 أنه بعلم قلوب الناس، ومن 13: 11 أنه عالم القلوب، و16: 19 أنه يعلم الأفكار، و16: 30 و21: 17 أنه عالم بكل شيء ويقدر أن يقول ما يحتاج إليه الإنسان بدون أن يسأله. ويظهر من 18: 4 أنه عالم بكل ما يأتي عليه ومن 21: 19 أنه عالم بالمستقبل.
ويظهر من 1: 51 أنه رابط السماء بالأرض بل هو السلّم التي رآها يعقوب تصعد الملائكة وتنزل عليها (انظر تكوين 28: 12-22) ونرى من 2: 4 أنه ليس لأحد حق أن يتدخل في أموره مهما كانت الحال، ومن 2: 5 أن أمره يجب أن يطاع إلى التمام، ومن 2: 8 أن العجائب تتم بإرادته، ومن 2: 16 نرى أ، الهيكل هو بيت أبيه، ومن 2: 19و21 و10: 18 نفهم أنه مقيم ذاته من الموت.فكيف ذلك إن لم يكن لاهوته هو الذي أقام ناسوته؟ ومن 2: 23 نرى أن المؤمنين يؤمنون باسمه، و3: 15 من يؤمن به لا يهلك، و3: 15 و16 و36 من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية، و3: 18 من يؤمن به لا يدان ومن لا يؤمن قد دين، و3: 36 من لا يؤمن به لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله، ومن 4: 10 نرى أنه هو الذي يعطي الماء الحي، و4: 14 الذي يشرب من الماء الذي يعطيه لن يعطش إلى الأبد بل يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية، و6: 27 هو الذي يعطي الطعام الباقي للحياة الأبدية، و6: 33 و35 و41 و48 و51 نرى أنه هو خبز الحياة والخبز الذي نزل من السماء والخبز الحي الذي نزل من السماء والذي يأكله يحيا إلى الأبد. ومن 8: 51 نرى أن الذي يحفظ كلامه لن يرى الموت إلى الأبد، و10: 28 نرى أنه يحفظ خرافه حتى لا تهلك إلى الأبد، ومن 3: 2 نرى أنه أتى من الله معلّماً ولا يقدر أحد أن يعمل الآيات التي يعملها هو، ومن 3: 12 نراه يقدر أن يقول السماويات.
ومن 3: 27 نرى أن ما له معطى من السماء، و4: 26 هو الذي يخبر بكل شيء، و7: 46 لم يتكلم قط إنسان مثله، و9: 3 أعماله هي أعمال الله، و9: 33 هو من الله، و17: 10 كل ما للآب فهو له، ومن 3: 19 يظهر أنه هو النور الذي يدان الناس بناء على عدم قبوله، ومن 8: 12 هو نور العالم الذي كل من يتبعه لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة (قابل هذين مع 1: 5). ويظهر من 3: 28 أن يوحنا المعمدان مرسل أمامه (قابل مل 3: 1) فينتج أن المسيح هو رب الجنود. و3: 29 هو العريس– عريس شعبه (وبمقابلة هذا مع إش 54: 5 وقوله "لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه" يظهر لنا أن المسيح هو رب الجنود خالق شعبه). و3: 30 هو الذي ينبغي أن يزيد وغيره ينقصون، و3: 35 هو الذي دفع في يده كل شيء. و4: 50 نرى أن قوته تصل إلى بعيد. و6: 39 و40 و44 و54 هو الذي يحفظ من التلف والمقيم في اليوم الأخير. و8: 36 يقدر أن يحرّر الناس من الخطية. و10: 28 لا يستطيع أحد أن يخطف من يده. و8: 16 هو مع الآب، و10: 30 هو والآب واحد، و10: 38 و14: 10 هو في الآب والآب فيه وحال فيه. و12: 45 و14: 9 من رآه فقد رأى الآب. و14: 23 يقدر أن يسكن في القلوب مع الآب. و16: 15 كل ما للآب فهو له. و17: 2 له سلطان على كل جسد.و17: 6 المؤمنون معطون له. ونرى في 4: 10 أنه عطية الله للعالم.و4: 21 ينبئ من نفسه بأمور مستقبلة، ومثله 10: 16 و11: 23. وفي 13: 1 و38 و16: 2- 4 و32 و21: 19 و7: 15 نرى أنه يعرف الكتب وهو لم يتعلم كما كان يتعلم اليهود.وفي 5: 8 و9 نراه يأمر بالبرء فيتم سريعاً وكاملاً. وفي 8: 31 الذي يثبت في كلامه يتحرّر. و14: 27 يعطي السلام الذي لا يقدر العالم أن يعطيه. و5: 22 له كل الدينونة. و5: 23 يجب أن يكرمه الجميع كما يكرمون الآب ومن لا يكرمه فلا يكرم الآب. و6: 27 هو مختوم من الآب. ونقرأ في 6: 29 أن الإيمان به هو العمل الذي يطلبه الله من الناس. وفي 14: 6 أن ليس أحد يقدر أن يأتي إلى الآب إلا به. وفي 6: 68 نرى أنه الوحيد الذي لا يجد الإنسان من يذهب إليه سواه لأننا نجد بطرس الرسول يقول له " يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك ". وفي 7: 37 و38 "وقف يسوع ونادى قائلاً إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه (باطنه) أنهار ماء حي" فهو يدعو الناس إليه ويعدهم دعوة ووعداً لا يقدر عليهما سوى الله فالمسيح المنادي للعطاش هنا هو ذاته الذي نادى على لسان أشعياء ص 55. وفي 10: 7 و9 نرى أنه مكنّى عنه بباب الخراف الذي كل من يدخل به يخلص، وفي 10: 11هو الراعي الصالح، وفي 10: 14 يعرف خاصته و11: 52 يجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحد، و12: 32 يجذب الجميع إليه بموته على الصليب، و18: 36مملكته ليست من هذا العالم، ونرى في 8: 29 أنه قال أنه في كل حين يفعل ما يرضي الآب، وفي 8: 46 لم يستطع أحد أن يبكّته على خطية، و14: 30 الشيطان ليس له فيه شيء، وفي 11: 11 يقدر أن يقيم الميت بأمره، و11: 43 و44 يأمر الميت بعد أربعة أيام أن يخرج من القبر فيخرج، و13: 13 هو السيد والمعلّم، و14: 14 هو الذي يجيب الصلاة، وفي 12: 47 هو مخلّص العالم.
وفي 14: 2 نرى أنه هو الذي يعدّ مكان المؤمنين في السماء، و17: 12 هو الحافظ ومن يحفظه لا يهلك، و13: 32 و17: 1 الآب يمجده. و16: 14 الروح القدس يمجّده. وفي 15: 1 هو الكرمة الحقيقية. و15: 5 يقول المسيح "لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. ففي قوله هذا لو لم يكن هو الله لكان أشنع تجديف، ولو لم يكن جوهر الثالوث الأقدس واحداً، ولو لم يكن جوهر الابن هو جوهر الآب وجوهر الروح القدس لكان يمكن أن يعترض عليه بالقول– لا بل نقدر أن نعمل كل شيء بغيرك أي بالآب أو بالروح القدس.ولكن ما دام المسيح قال "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" فيفهم واضحاً أن الله واحد في الجوهر، وإن ما يعمله أحد الثلاثة الأقانيم من الأعمال الإلهية يحسب أن الله الثالوث قد عمله. ولا شك أن المسيح بقوله هذا يتطلّب من المؤمنين أن يتكّلوا عليه ويعتمدوا على معونته لهم ويضعوا رجاءهم فيه ويطلبوا معونته في كل حين– أموراً لا يليق بالمؤمن أن يوجهها إلا لله جلّ جلاله.
والآن قد انتهينا من شهادة كتب البشيرين عن لاهوت ربنا يسوع المسيح. ويجب أن نفهم أنه وأن نسبت إلى المسيح أمور يشعر منها أنه إنسان– مثل كونه مطيعاً للآب ومعطى منه كل ما عنده وما شاكل ذلك– فما هي إلا في حال كونه خادم عهد الفداء. أما في طبيعته الذاتية فهو أزلي في الثالوث الأقدس، واحد فيه، لا تخليط في الأقانيم ولا تفصيل في جوهر الوحدة.
والمسألة المهمة ليست هي إن لم يكن المسيح هو الله فيكون إنساناً قديساً أو مخلوقاً سامياً بل هي أنه لو لم يكن المسيح هو الله لكان أشرّ إنسان وجد على الأرض وأشنع مجدّف ظهر للبشر، إذ أن القديس لا ينسب لنفسه الصفات الإلهية والأعمال الإلهية، بل علامة قداسته هي أن ينسب كل شيء لله. فلا يقدر المخلوق الطاهر أن ينسب لنفسه مغفرة الخطايا مثلاً أو أن يقول " أنا أريد " بل بالحري يقول "الإرادة لله". ولا يقبل المخلوق الطاهر أن يقول له آخر: “ربي وإلهي " ويصادق على هذا القول. ولا يقول شيئاً يشتم منه نسبة الأمور الخاصة بالله لذاته بل بالعكس إن المخلوق الطاهر ينسب كل شيء لله ويتواضع أمامه تواضعاً كليّاً وينفي عنه كل ما هو خاص بالله.
هذا وعدا عن الأسماء والصفات والأعمال الإلهية المنسوبة للمسيح في كتب البشيرين فلنا أخبار كثيرة عن المعجزات الباهرة التي عملها بقوته الشخصية إذ كانت جميع الأمراض تزول بأمره مهما كانت صعبة، والشياطين تطيع أمره، وقوات الطبيعة تحت أمره، والحياة والموت تحت أمره– وهذه أمور لا يقدر عليها إلا الله ذو العظمة والسلطان والجبروت.
وقد شاء الله أن يوجد أربع بشائر 1- ليكون لنا أربع شهادات عن الحق مستقلة الواحدة عن الأخرى 2- ليقدّم لنا تاريخ المسيح ربنا من كل وجهة، ليكون لنا أربع صور حية لشخص واحد 3- لأن المسيح مقدّم لأربعة أصناف من البشر في ذلك الوقت ولمظاهر أفكار البشر الأربعة– اليهودي والروماني واليوناني والمؤمن، بحيث لو لم يكن هذا الإنجيل نافعاً لكل الأصناف والطبقات لكان بلا شك يوجد بشائر أكثر مما وجد لأن غاية الله هي أن يكون الإنجيل لكل أمة تحت السماء في جميع الأزمان إذ قال بفمه الطاهر " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" وطبيعة اليهود والرومان واليونان تظهر بين كل قبائل الأرض في كل الأجيال، وكذلك طبيعة الدين المسيحي هي هي في جوهرها في كل زمان ومكان.
فالبشارة الأولى كتبها متى لأجل اليهود وتتضمن إنجيل يسوع الذي أتى مسيحاً لليهود وتحتوي على ملكيته وتبيّن عيشته في هذه الأرض وسجاياه السامية بصفة كونه المسيح المنتظر المتنبأ عنه في كتب الأنبياء لكي يبرهن أن المسيحية هي إتمام للشريعة اليهودية.
والبشارة الثانية كتبها مرقس وهي تتضمن كرازة مرقس للمصريين وكرازة بطرس للرومانيين وتوضح عيشة يسوع وسجاياه من الوجهة التي يتطلبها الرومان إذ تظهر قوته الإلهية وعمله الإلهي وشريعته الإلهية وغلبته ونفوذه الإلهيين ونصرته النهائية.
والبشارة الثالثة كتبها لوقا في بلاد اليونان لليونانيين وهي مؤسسة على كرازة بولس ولوقا بالإنجيل في اليونان ومصوغة بكيفية تظهر أن يسوع هو الناسوت الإلهي الكامل. وهي بشارة مستقبل المسيحية الناجحة والعقل النامي والمتقدم والذي يطلب كمال الإنسانية.
والبشارة الرابعة كتبها يوحنا الحبيب لأجل المسيحيين ليهذّب وينمي أولئك الذين دخلوا تحت رئاسة المسيح الجديدة في الحياة الروحية السامية.
فلكون هذه البشائر الأربع توافق روح كل صنف من أصناف البشر في كل عصر وفي كل مكان كان ذلك من أعظم الأدلة على كونها من الله. فالحمد لله لأن غاية الإنجيل تتضمّن حاجة جميع البشر من آدم إلى اليوم الأخير وتعاليمه توافق كل العصور وكل الأقوام مهما اختلفوا في العادات وفي درجة الرقي والعرفان ومهما وصلوا إلى درجات التمدن المتنوعة.
ويليق بنا بعد أن وصلنا إلى آخر كتابات البشيرين الأربعة أن نزيّن الخاتمة بذكر مطالب المسيح لنفسه لأن ذلك يعتبر زبدة أقوال البشيرين.
[1] - انظر الباب الثاني في الظهورات قبل التجسّد
- عدد الزيارات: 3576