Skip to main content

الأصحاح الثالث - عدد 9

الصفحة 8 من 15: عدد 9

فقال من أنت. فقالت أنا راعوث أمتك، فابسط ذيل ثوبك على أمتك لأنك وليّ (ع9).

ألم يكن بوعز يعرف راعوث؟ أو لم يكن الرب يعرف مؤمني القرن الماضي؟ بلى، كان بوعز يعرف راعوث، ويقيناً كان الرب يعرف هؤلاء المؤمنين أيضاً. ولكن الواقع أنهم لم يكونوا يعرفون أنفسهم. لذلك فقد كان لزاماً على راعوث أن تعطي تقريراً عن نفسها، ومن هي، وهذا ما كان يريده بوعز فعلاً.

إذا تتبعنا كتابات القرن الماضي التاسع عشر بتسلسل تاريخي، سنجد أن الوعي بالامتيازات التي ترتبط بمركز المسيحي كان يزداد شيئاً فشيئاً. فأولاً، أدركوا أن الله قد اكتفى بعمل المسيح، وأن كل من يؤمن به يستطيع أن يكون له سلام مع الله، إذ يصبح من أولاد الله. ثم أدركوا أن عمل المسيح كاف تماماً بالنسبة لحالة الإنسان، ليس فقط من جهة خطاياه، بل أيضاً من جهة الخطية. ثم بعد ذلك أدركوا حقيقة الموت مع المسيح، وإقامتنا معه، وأن الله أجلسنا فيه في السماويات. ثم أصبحت العلاقة العجيبة بين المسيح وجسده الكنيسة أكثر وضوحاً، وكذلك مجيئه القريب، وبذلك أدركوا صفة ووضع الكنيسة الصحيحين.

حقاً، ما أجمل أن يستوقفنا الرب بسؤال يجعلنا نعكس رداً عن مركزنا الصحيح، فتكون لنا المقدرة على أن نعبِّر عما نحن عليه في نعمته.

كان رد راعوث جميلاً، يُبرز من بين ثناياه صفات أدبية رائعة، من اتضاع وخضوع ووقار. كما يكشف كم كان قلبها يشتاق لأن ينال أقصى ما يمكنه من صلاح الله وغناه. كانت نعمي قد عرَّفتها أن بوعز "ذو قرابة لهما" (ع2)، وهذا ما تمسك به قلب راعوث. لذلك كان ردها يدل على أنها تعلم أن بوعز يعرفها، وأنها تعلم صلة القرابة التي بينهما، وأنها تبني التماسها على هذا الأساس، متمسكة بمواعيد الله التي أعطاها في المكتوب، وما يترتب عليها من التزامات على بوعز. كما أنها تدعو نفسها أمة له، وهي بذلك تعترف أنها لا حيلة لها في الأمر، مقرة بأن ذلك إنما هو من نعمة مطلقة من جانبه إن أجاب لها سؤلها.

ولم تعد راعوث تقول عن نفسها إنها «الموآبية»، فقد أصبحت مدركة لعلاقة القرابة التي تربطها ببوعز. فأول ما يجب أن يتعلمه المؤمن هو أنه لم يعد الخاطئ المسكين، بل إنه الآن قد أصبح ضمن عائلة الله. وليس من علامات الاتضاع أن يقول المؤمن للرب "أنا فقير ومعتاز، فاغفر لي خطاياي". إن قولاً كهذا إنما يعكس جهلاً بالمكتوب، وبالكفاية غير المحدودة لعمل المسيح على الصليب. والرب لا يستطيع أن يكشف لمؤمن كهذا كل كنوز غناه المذخرة له. ولا أن يعرفه معنى اتحاده بالإنسان الممجد في السماء، حتى يجد هذا المؤمن السلام مع الله، ويتحرر ويعتق. فعندما يجد القلب راحته الكاملة من جهة الخطايا والخطية، فحينئذ فقط يستطيع أن يمسك بأفكار الله ويفهمها بصورة أعمق.

كانت راعوث تدرك مقامها جيداً، ومع ذلك فهي تقول لبوعز عن نفسها «أمتك». فلم يكن قلبها يطلب ما هو أكثر، ولا أقل أيضاً، من ذلك. إذ كانت قد أتت إليه لتتعرف عليه في كل صلاحه ونعمته، وهكذا نحن نقول له:

إنك أنت سيدي
لذلك أفتخرُ
فإن أكن عبداً لك
عن أن أكون ملكا
 

 

بالنعمةِ أنا لكَ
مبتهجاً بمجدك
أكرمُ عندي سيدي
على الورى ذا سؤددِ
 

وعلى الرغم من أن راعوث كانت تسأل بوعز على أساس أنه وليٌّ له حق الفكاك، إلا أنها على الجانب الآخر أظهرت عجزها التام. فالدجاجة تبسط جناحيها على فراخها الضعيفة عند الخطر. وعندما هرب داود من قدام شاول دعا الرب قائلاً «ارحمني يا رب ارحمني، لأنه بك احتمت نفسي، وبظل جناحيك أحتمي، إلى أن تعبر المصائب» (مز 1:57). اقرأ أيضاً مزمور 7:36، 4:61، 4:91، متى 37:23...

إن راعوث مثال رائع حقاً للإيمان وكيف يعمل. إنه الإيمان الذي يغلب العالم (1يو 4:5)، ثم يلتفت إلى الله في ثقة كاملة مطلقة، ويأخذ مكانه خارج المحلة، ولكن في ذات الوقت داخل الحجاب (عب 11:13-13).

هذا ما نراه في راعوث في ص1 حين أتحدت نفسها مع نعمي، وكابنة حقيقية لإبراهيم كانت على استعداد لأن تترك شعبها وبيت أبيها، وأرض مولدها، من أجل نعمي. وتذهب إلى أرض لم تعرفها من قبل. فيصير شعب نعمي شعبها، وإله نعمي إلهها. هكذا غلب إيمانها العالم، وأخذت مكانها «خارج المحلة».

ولكننا هنا في ص3 نجد توجهاً آخر للإيمان. فإيمان راعوث هنا يسمو إلى قياس سمو كل ما هو لبوعز. لقد كان مركز بوعز يسمو كثيراً عما هي عليه، والفرق بينهما شاسع. فهي ليست إلا ملتقطة مجتهدة في الحقل، وهو صاحب الحقل. بل إنها لم تحسب نفسها أهلاً لأن تكون كواحدة من جواريه (ص13:2). ومع ذلك فهي لم تطلب أقل من بوعز ذاته. إن تلك الفتاة التي تلتقط في الحقل تطلب أن تكون زوجة لصاحب الحقل، فلا تسترد فقط ميراث أليمالك، بلتشترك أيضاً في غنى «جبار البأس» ذلك الغنى الذي لا يستقصى.

إن الإيمان له جرأة وقدوم، ولكنه ينقاد. فالله قد سبق وأعد كل هذه البركات الثمينة، حتى تمتد يد الإيمان إليها. إن الأسرار العجيبة لنعمة الله المتفاضلة، ومقاصده الأزلية، ووصاياه عن الوليّ الفادي، وأمانة ذلك الوليّ، كلها ضمانات للإيمان أنه يستطيع أن ينال كل ما يطلبه، فمهما بلغت جرأة الإيمان الحقيقي فلن تكون قد تجاوزت حدودها.

عدد 10
الصفحة
  • عدد الزيارات: 27153