Skip to main content

الأصحاح الثالث

وقالت لها نعمي حماتها ألا ألتمس لك راحة ليكون لك خير. فالآن أليس بوعز ذا قرابة لنا، الذي كنت مع فتياته. ها هو يذري بيدر الشعير الليلة ( ع 1،2)

في الأصحاح السابق رأينا الأحداث التي وقعت أيام الحصاد، والعدد الأخير منه يخبرنا عن انتهاء حصاد الشعير وحصاد الحنطة، ولم يبق سوى جمع الكروم في نهاية السنة. والكروم لا تنتج طعاماً، بل خمراً فقط، فيه صورة للفرح. فماذا كان على نعمي وراعوث أن تفعلا بعد ذلك؟ لم يعد هناك الغلمان الذين ينسلون من الشمائل. لاشك أن راعوث قد جمعت مخزوناً كبيراً من دأبها في الالتقاط، ولكن هل يكفيها هذا حتى يحل العام الجديد؟ ربما اجتاز البعض منا في فترات تعذر عليهم فيها حضور الاجتماعات، قد يكون هذا بسبب المرض، أو ربما لسبب الأسر في الحرب، أو نتيجة الاضطهادات التي قد تمنعنا. حينئذ كان لابد لنا أن نعيش على مخزوننا مما جمعناه قبلاً. ولكن هذا لا يمكن أن يستمر طويلاً، وإلا فسنصاب بالهزال وسوء التغذية، وقد تكون النهاية هي الموت. هذا حق، فالكتاب يعلمنا أننا لانعتمد على "الوسائط" ولكن على الرب نفسه، ولكنه حق أيضاً أن الرب يستخدم عادة تلك الوسائط التي يعطيها لنا في الظروف العادية.

قد نسمع البعض ينوحون ويشكون، لأنهم في مثل هذه الظروف حرموا من ممارسة "الأسرار الكنسية". ولكن من يقبل إلى الرب، ويرتمي على ذاك المملوء نعمة وحقاً، سيجد عنده كل عوزه، وتكون هذه بالنسبة له أزمنة البركة. وسيعرف أن النعمة أسمى من أن تكون أسراراً وطقوساً كنسية، بل إنها توجد عنده، وتوجد عنده بوفرة. فإن سلكنا طريق الطاعة فلن نعاني من فقر أو عوز مهما كانت الظروف التي نجتازها.

ما أعظم التغيير الذي حدث في نعمي! كانت في ص9:1 تلتمس راحة من الرب لعرفة وراعوث بأن ترتبطا برجال موآب، وأن تستقر كل منهما في بيت رجلها. ولو أن الرب سمح بذلك لنالت كل منهما راحة ظاهرية، ولو إلى حين. ولكن ما كانت راعوث لتأتي إلى بيت لحم، ولا كانت تعرفت ببوعز، بل كانت ستتعبد للأوثان بدل يهوه، وما كانت لتجد شبعاً حقيقياً لجوع قلبها. وما الذي كان سينتظرها أخيراً عند وقوفها أمام كرسي المسيح للدينونة؟

ولكن الآن قد رجعت نعمي إلى بيت لحم، وقد أكلت شعيراً من غلة حقول بوعز. ونحن عندما نأكل من غلة هذه الحقول لا نبقى كما نحن، بل لابد تتغير نظرتنا للأمور. فها نعمي الآن تلتمس راحة لراعوث في أن ترتبط ببوعز في أوثق علاقة معه، فتوجه راعوث إلى أن هذا الرجل، جبار البأس، الذي أظهر كل هذا العطف عليها، والذي كانت تلتقط في حقله، إنما هو ذا قرابة لهما.

وما أجمل أن نكتشف ما تعلمنا إياه كلمة الله من جهة هذا الأمر. فنحن قد ولدنا من الله (1يو 1:5) وبذلك صرنا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 4:1). كذلك فإن الرب لا يستحي أن يدعونا إخوة (عب 11:2). إن معرفة هذا لابد وأن تثمر فينا رغبة قلبية في أن نقترب إليه أكثر، وأن نتعمق في معرفته. وكيف لرغبة كهذه أن تشبع؟ إن كلمة الله هي التي تعطينا الإجابة على هذا السؤال. بل إن الآباء من المؤمنين عادة ما يكونوا قادرين على مساعدتنا بأن يوجهوا نظرنا إلى هذا الحق المكتوب، وأن يعطونا خبرتهم في هذا الطريق، التي غالباً ما يكونوا قد حصلوا عليها من خلال تجارب وآلام، بل وربما خسارة كبيرة.

«هاهو يذري بيدر الشعير الليلة». لا نقرأ أن بوعز زرع ولا حصد بنفسه، بل كان غلمانه هم الذين يقومون بهذه الأعمال، ولكن التذرية كانت لها أهميتها الخاصة لديه، لذلك كان يباشرها بنفسه شخصياً.

والزرع هو الكرازة بكلمة الله، سواء كانت بالتبشير للخطاة بالإنجيل، أو بالخدمة للمخلصين. والحصاد هو جمع الثمار، سواء كان بأن ترى إنساناً يتغير عن طريق البشارة بكلمة الله، أو بفهم وتطبيق أفكار الله من خلال تفتيش الكتب والشركة مع الرب، مما يثمر فينا ازدياداً في القامة الروحية ونمواً في النعمة. أما التذرية فهي عملية فصل الحنطة عن التبن، فالله لا يريد التبن، وإنما يحفظه فقط لنار أبدية لا تطفأ (مت 12:3).

والتذرية تختلف عن الدراس، فالدراس هو استخراج الحبة من داخل السنبلة من بين القش، وهو عمل يستلزم قوة، وتستخدم فيه الثيران أو ماكينة الدراس (تث 4:25). وإني أرى أن الدراس يمثل الاختبارات التي تجتازها النفس في رومية 7، أو عندما تقع تحت التأديب والتدريب من الله عندما تخضع النفس للجسد، الأمر الضروري لنا لكي ندرك أننا خليقة جديدة، كما نرى في أفسس، ولكي نطبق على أنفسنا موت وقيامة المسيح. ولا أقصد بذلك أن نطبق موت وقيامة المسيح لأجلنا كما نراه في رومية 25:4 وفي البحر الأحمر، بل تطبيق حقيقة أننا متنا مع المسيح (كو 3:3؛ غل 20:2) وأننا قمنا أيضاً معه (أف 6:2) وهذا ما يمثله لنا نهر الأردن.

فبعد أن يكمل الدراس تبقى الغلة في حاجة لأن تذرى، حتى يزال عنها ما بقى من تبن. وهناك شخصان يريدان لنا التذرية، أولاً: الشيطان (لو 31:22)، ثانياً: الرب يسوع. وغرض الشيطان من ذلك هو أن يتخلص من الحنطة ليبقى التبن، ولكن على العكس من ذلك قصد الرب يسوع، الذي يريد أن يزيل عنا حتى العصافة الدقيقة التي هي بلا قيمة عنده. والتذرية تتم ليلاً عندما تهب الريح وتنشط. هكذا أيضاً في ليل رفض ربنا يسوع، أتى الروح* القدس ليسكن على الأرض في كل مؤمن كفرد، وفي الكنيسة كجماعة. وفي غلاطية 17:5 نقرأ «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون» فإن كنا لا نفعل بعد ما نريده نحن، بل نعطي الروح القدس حريته الكاملة في أن يقودنا حسب إرادته، فإننا حينئذ سنمتلئ من الروح القدس، فتمتص من حياتنا كل الأمور التي لا تتفق مع مشيئة الله.

كان بوعز يذري الشعير، وقد سبق أن رأينا أن الشعير يتكلم عن حياة القيامة. فالرب يسوع كالمقام أعطانا ذات حياة قيامته (يو 22:20، أف 6:2). والآن هو يريد أن يزيل من حياتنا كل ما هو من العالم، كل ما هو أرضي، ولا يتوافق مع حياة القيامة السماوية، ذلك لأنه يريدنا أن نتوافق تماماً مع ما هو في ذاته. وهذا ما نجده موضحاً في أفسس 26:5و27. فهو الإنسان الذي من السماء، وكما هو هكذا نحن أيضاً (1كو 48:15). ولكن للأسف، كثيراً تختلط الحياة السماوية فينا مع الأمور الأرضية، وتلصق بحياة القيامة أمور من الإنسان الطبيعي. ولكن ما هو من الإنسان الطبيعي ليس ذا قيمة إطلاقاً بالنسبة للسماء، لأنه لا ينتمي إلى حياة القيامة. والتبن يختلف عن الزوان، فهو لا يشير إلى عمل الشر، ولكن مع ذلك فإن الرب يحفظه لنار لا تطفأ (مت 12:3).

فهل تعلمنا كيف نميز بين الشعير والتبن؟ وهل نحن مدركين حقاً أن الرب يريد أن يذرينا ليزيل عنا التبن؟ وهل نخضع ونسلم أنفسنا للرب في البيدر حتى يستطيع أن يذرينا؟ كان بطرس لا يرغب في أن يتعرض لعملية التذرية، ولا أن يوضع في الغربال. ولا شك أن دوافعه كانت صادقة. ولكن كان لابد أن يخبره الرب أنه إن لم يقبل الغربلة لنفسه فلن يكون له نصيب مع الرب (يو 8:13) وأنا أعتقد أن هناك تشابه كبير بين الغربلة وغسل الأرجل.

لقد عرف بولس الفرق بين الشعير والتبن، وعرف أيضاً ماذا يعني التبن بالنسبة للرب يسوع، وهذا ما جعله يحزن على أولئك الذين يفتكرون في الأرضيات، الذين يسيرون هكذا كأعداء لصليب المسيح (في 18:3). فإن كانت نهاية التبن هي حريق النار التي لا تطفأ، فما هي نهاية حياة أولئك الذين كان التبن سمة حياتهم؟

لا يمكن أن يكون لنا ملء الشركة مع الرب وفي حياتنا أمور تحزنه، أو إذا لم يكن لنا معه فكر واحد. فالشركة تعني أن يكون الفكر واحداً، والنصيب واحداً، هذا هو السبب في أننا لابد أن نظهر جميعاً يوماً ما أمام كرسي المسيح، وحينئذ فإن حياتنا كلها، قولاً وفكراً وعملاً، لابد أن تستعلن لنا في نور محضر الله، حتى الدوافع الداخلية التي نبعت منها أفكارنا لابد أن تصير ظاهرة (عب 12:4و13). سنرى كل الأشياء في ذات النور الذي يراها فيه الرب دائماً. عندئذ سوف نحكم نحن على كل شيء بذات الحكم الذي حكم هو به عليه تماماً. وهكذا يصبح هناك توافق واتحاد تام في الفكر بين الرب يسوع وبيننا. ومن تلك اللحظة، وإلى الأبد، سيكون لنا ملء الشركة معه.

على أننا لو عرفنا معنى الشركة مع الرب من خلال اختباراتنا، فلابد أنه ستكون لنا الأشواق لأن نتمتع بها إلى أقصى درجة، حتى ونحن هنا على الأرض، فإن كنت حقاً أحب الرب يسوع فمن المؤكد أنني أريد لقلبه أن يسر كلما أطل بنظره علينا، بل عليَّ أنا شخصياً. لأجل ذلك لا أسمح بأي شيء في حياتي من الأمور التي تحزن قلبه، بل أتوق إلى ذلك اليوم الذي فيه سأُظهر أمامه، وأرى كل الأشياء كما يراها هو. إن كنت أحبه فلابد أن يكون شوق قلبي أن أكون مرضياً عنده حتى وأنا هنا على الأرض، سأمد رجليَّ لكي يغسلهما، وسأنزل إلى البيدر حتى يذريني الرب مزيلاً كل تبن فيَّ. وأخيراً فإنني سأحرض المؤمنين جميعاً، صغاراً وكباراً، أن يفعلوا مثلما أفعل محبة في الرب وفي إخوتي أيضاً.


فاغتسلي وتدهني والبسي ثيابك وانزلي إلى البيدر ولكن لا تعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الأكل والشرب ( ع 3)

متى كانت لنا رغبة حقيقية في أن يذرينا الرب فإن هذه الرغبة سيكون لها تأثيرها في تقديس وتطهير حياتنا العملية. هل يمكن لمن يصلي بأقوال المزمور التاسع عشر(ع12-14)، أو المزمور المائة والتاسع والثلاثين (ع23و24) أن لا يكون مدققاً في سلوكه اليومي؟ إن هذا مستحيل، فإن كنا نتوقع مجئ المسيح القريب أفلا ينقي هذا الرجاء حياتنا؟ لذلك فعندما نأتي إلى الرب لينقينا فإن النتيجة الحتمية هي أننا سوف نطهر ذواتنا، فسنغتسل ونطبق كلمة الله على ضمائرنا وقلوبنا (أف26:5 ، 1بط22:1، مز9:119،11،176، مز8:19-12). فهل نضع نحن حياتنا وآراء قلوبنا وأفكارنا تحت مجهر كلمة الله؟ وهل نحن نطبق عملياً على حياتنا اليومية وتصرفاتنا ما نقرأه فيها؟

«وتدهني». والتدهن له علاقة بنوالنا الروح القدس الساكن فينا. كما أن له علاقة بالاستنارة وإدراك أفكار الله من نحونا (1يو 20:2و27، 2كو 21:1و22). وهذا نصيب كل من آمنبإنجيل الخلاص (أف 13:1، 1كو 1:15-4).

وغني عن البيان أننا لا نبحثهنا عن مسحة داخلية في راعوث، ولكن الذي أمامنا الآن هو المسحة الخارجية الظاهرة. وبتعبير آخر فإننا نرى هنا النتائج العملية للمسحة الداخلية، وهذه مسئولية فردية. لقد قيل للأفسسيين «امتلئوا بالروح» (أف 18:5). كما قيل عن إستفانوس إنه كان مملوءاً من الروح القدس (أع 5:6، 55:7). وهذا يعني أن حياته كلها كانت ممتلئة من الروح القدس وكيانه مطبوع ومصطبغ به. فلم يعمل إرادته الذاتية، بل أخضع نفسه بالتمام لقيادة الروح القدس (غل 17:5). إن حياة كهذه تمجد الرب يسوع وتسر قلبه (يو 14:16-16).

«والبسي ثيابك». والثياب في الكتاب المقدس هي رمز لعاداتنا وسلوكنا، أي أنها تتكلم عما يراه الآخرون فينا. فهل لبسنا نحن ثيابنا؟ وهل تنطقنا برداء المسيحي؟ في أفسس 6:1 نقرأ عن الثياب التي نقف فيها أمام الله «التي أنعم بها علينا في المحبوب» تماماً كما كسى آدم وحواء قديماً بجلد الذبيحة (تك 21:3)، وهكذا يكسونا بغلاوة المحبوب، نعم بالمحبوب نفسه.

ثم في أفسس 10:2 نجد الثياب التي أعطانا الله لنكتسي بها ونحن هنا على الأرض «لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها». وواضح أن راعوث لم تكن قد وضعت على نفسها تلك الثياب، لذلك توصيها نعمي أن تفعل ذلك. ولكن ليس الأمر هو أن تضع ثياباً عليها، بل إن نوعية هذه الثياب هو الأمر الذي تبرز أهميته هنا. فكم من المرات التي لبسنا فيها ثياباً مختلطة صوفاً وكتاناً معاً (تث 11:22) التي تمثل المبادئ المختلطة، سماوية مع أرضية. ولكننا لا نستطيع أن نأتي إلى الرب في بيدره ليذرينا ونحن علينا مثل هذه الثياب. وإلا فسيضطر أن يجري علينا عملية الدراس أولاً. ليعطنا الرب نعمة حتى ينطبق علينا ما قيل عن الجمع الكثير في رؤيا 14:7، الذين «غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف». «طوبى للذين يصنعون وصاياهلكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ويدخلون من الأبواب إلى المدينة» (رؤ 14:22). وهكذا عندما نغتسل، ثم نتدهن ونلبس ثيابنا، فحينئذ نصبح مهيئين لأن ننزل إلى البيدر، ولنلاحظ أن هذا نزول حتى نضع أنفسنا بين يديه لكي يغربلنا. إن نزولاً كهذا ليس محبباً لكبرياء الإنسان، ولن نكون على استعداد لأن نفعل ذلك إلا بعد أن نتعلم من ذاك الوديع المتواضع القلب.


ولكن لا تعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الأكل والشرب. ومتى اضطجع فاعلمي المكان الذي يضطجع فيه، وادخلي واكشفي ناحية رجليه. وهو يخبرك بما تعملين ( ع 3و4)

إن المعنى الحقيقي للنزول لا يكون واضحاً أمامنا إلا بعد أن نفهم المقصود هنا بأن يأكل بوعز ويشرب ويضطجع، ولنا في يوحنا 32:4-34، متى 1:28و6، 1بطرس 2:1 ما يوضح لنا ذلك. فقد كان "طعام" ربنا يسوع هو أن يفعل مشيئة أبيه. ولما أكمل هذه المشيئة مات، ثم في القبر بات. (عب 5:10-10). وحسب 1بطرس 2:1 فإن كل مؤمن قد استُحضر إلى «الطاعة ورش دم يسوع المسيح» أي إلى حياة وموت ربنا يسوع المسيح. هذا ما قد أتينا إليه حسب مقاصد الله بواسطة تقديس الروح القدس. قد أتينا إلى حيث نرى طاعة ربنا يسوع المسيح، وهي ذاتها الطاعة التي يجب أن توجد فينا، وحيث ننال «رش الدم» الذي يؤكد لنا أنه لم تعد هناك دينونة. وهنا في راعوث نجد الجانب العملي لهذا الحق بعد أن نقبله في قلوبنا وحياتنا. فقد كان على راعوث أن تعاين - رمزياً - حياة ربنا يسوع هنا على الأرض. كان عليها أن تشاهده عاملاً مشيئة أبيه في طاعة كاملة، إذ كان عليها أن تتعلم كيف تطيع نظيره. إن الإنسان العتيق - الطبيعة الفاسدة - لا يطيع، ولكن الإنسان الجديد فقط هو الذي يريد أن يطيع، ويستطيع ذلك. هذا ما يبرز أهمية أن نتعلم عملياً معنى موتنا مع المسيح، إذ أننا حينئذ فقط تستطيع الحياة الجديدة أن تعمل فينا بحرية. لذلك نقرأ في كولوسي 3:3 «لأنكم قد متم» وفي رومية 2:6-11 نجد تحريضاً على أن نحسب أنفسنا في هذا المركز. كذلك نجد في 2كورنثوس 10:4 تحقيق ذلك «حاملين في الجسد في كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا» فإن تحقق هذا فيَّ فسأفهم أن ذلك إنما هو "نزول إلى البيدر". إنه كسر إرادتي الذاتية، واعتراف عملي بأنني «أعلم أنه لا يسكن فيَّ أي في جسدي شيء صالح» (رو 18:7).

هكذا كان على راعوث أن تكشف ناحية رجليْ بوعز، وتضطجع عند قدميه، وبهذا يكون القلب قد اتحد بالمسيح في موته.

ولكن ما الذي ستجنيه راعوث من وراء ذلك؟ «هو يخبرك بما تعملين» هذه حقاً هي النتيجة المباركة التي يصل إليها من يأتي عملياً وعن إدراك إلى حيث «الطاعة ورش دم يسوع المسيح». هناك نتعلم كيف نطيع، ليس فقط من تأملنا حياته، بل إنه هو شخصياً سيرينا ذلك. ففي الشركة الفردية معه لابد أن يعلمنا ويخبرنا كيف نتصرف في كل موقف. وكم هو ثمين لقلوبنا أن نتعلم، وأن يقودنا الرب بهذا الأسلوب. فهل تعلمنا هذا عملياً؟ إن داود في مزمور 8:32 يتكلم عن إرشاد الرب وتعليمه لنا "بعينه"، ولا يمكن أن نلاحظ ما تقوله عينه إلا عندما نكون في شركة فردية معه كهذه. فهو الذي وضع إلى الموت نفسه لأجلنا، وهو هناك كما لو أنه يريد أن يقودنا بنفسه شخصياً، مبتدئاً من هذا القبر الذي دفعته إليه محبته من نحونا. إنه «ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» حتى يوجدني في شركة معه. وهو يريد أن يقودني في طريق هذه الشركة. إن صوته الذي يتكلم به إليَّ هو نفس الصوت الذي صرخ به مرة من فوق الصليب قائلاً «إلهي إلهي لماذا تركتني» لقد كانت لأجلي تلك الصرخة، أفلا يشتاق قلبي لأن آخذ مكاني معه؟ إن هذا هو واجب الطاعة عليَّ، بل ينبغي أن أقوم به على أفضل وجه. لذلك لم يكن غريباً أن ترد راعوث على حماتها:


فقالت لها كل ما قلت أصنع ( ع 5)

أي شبع وسرور كان لنعمي وهي تسمع كلمات الطاعة هذه. بل ما أعظم الشبع الذي يجده قلب الرب يسوع عندما يرى منا مثل هذه الطاعة. كانت نعمي قد عرفت الكثير عن أفعال بوعز وأحواله، بل كان لها أيضاً تمييز للكيفية الصحيحة التي يجب أن يسلكها من يريد أن يكون قريباً إليه لينال منه ما يريده. هناك فريق من المؤمنين - ليكثر الرب منهم، وليجعلني من عدادهم - يعيشون حياة القرب من الرب، ويتمتعون بشركة معه، حتى أنهم يعرفون أحواله، أين هو، وماذا يفعل، وما هو السلوك اللائق الذي يجب أن يتبعه كل من يريد أن يكون في محضره. وحيث أن رغبتهم الحقيقية هي أن يقودونا إلى الرب لنسمع كلامه فسوف يقولون لنا «هو يخبرك بما تعمل». فإن أطعنا فسنتيقن أن ما علمونا به كان حسب فكر الله. وكم يفرح الرب عندما يرى مؤمنين أحداثاً يصغون إلى مشورة كهذه، ويكون الرد منهم «كل ما قلت أصنع». وكم يكون أيضاً فرح أولئك المرشدين عندما يجدون الاستجابة لنصيحتهم (1يو 28:2، 2يو 4،عب 7:13).


فنزلت إلى البيدر وعملت حسب كل ما أمرتها به حماتها ( ع 6)

فلم تقل فقط إنها ستفعل كل ما أمرتها به حماتها، بل نفذته فعلاً. ولم يكن ذلك من مجرد دافع العواطف، بل عن رغبة قلب حقيقية في الطاعة. كانت آية واحدة من كلمة الله تكفي لتحركها. لقد سجل موسى التوراة ووصايا الله (خر 14:7، 3:24-7، تث 24:31-26) وقد ثبَّتها الرب يسوع بسلطانه الذي لا يزول (اقرأ يو 46:5و47). وها نعمي الآن، وقد زال عنها تأثير موآب الذي يعمي البصيرة، تتذكر بوعز، ثم تتذكر أيضاً وصايا الله، فصار عندها اليقين بأن الله في نعمته وحكمته قد أعد كل ما يلزمها. حتى وإن كانت في مثل هذه الظروف الفريدة التي لا تتكرر. (اقرأ لا 25، عد 35، تث 25). وكانت كلمة الله كافية لامرأة مسكينة كهذه، ومعها لم تكن تحتاج إلى شيء. واستطاعت أن توجه راعوث بحسب طرق وأفكار الله، إذ كانت هي أيضاً كامرأة مسكينة موآبية قد رجعت إلى الرب حديثاً، تكفيها عبارة واحدة من كلمة الله لتسد عوزها، وما كانت تحتاج إلى تأكيد آخر على قوله، بل إن كلمته قد أعطتها قوة إلهية لتصنع ما عزمت أن تصنعه، وتذهب مباشرة بلا تردد، وتضطجع عند قدمي بوعز، وتسأله شخصياً أن يكون ولياً لها، وأن يمنحها كل الخير الذي تهبه محبة وقوة الفداء. وفي لحظة واحدة تحولت راعوث، الملتقطة الخجول، إلى من تطلب بجرأة، وتطلب أموراً عظيمة. ولكنها كانت تطلب تلك الأمور العظيمة بناءً على ما عرفته عن إرادة الله من جهتها. لذلك كانت بارة ومقدسة فيما طلبته، وما أجمل أن نتفكر في أنها لم تحتج إلى وسيط، فقد كانت كلمة الله كافية لها.

ولنلاحظ أن كلمة الله أيضاً كانت كافية لبوعز، لذلك لم يعترض، بل لم يطلب فرصة للتفكير في الأمر، بل فوراً أعطى لراعوث كل ما طلبته، إذ كان مبنياً على كلمة الله. هكذا كانت عبارة واحدة من كلمة الله كافية لبوعزنا عندما كان هنا على الأرض، حتى أن الشيطان عرف عنه اكتفاءه هذا بالمكتوب، إذ كان الرب يرد عليه بعبارة واحدة منه، وكانت هذه كافية لإسكاته (مت 1:4-11).

إن هذا درساً هاماً لنا لنتعلمه، فآية واحدة من المكتوب كافية بالنسبة لله وبالنسبة للرب يسوع «إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السموات» (مز 89:119). فهل هي هكذا بالنسبة لنا؟ وهل يكفينا عدد واحد من كلمة الله لنرد به على الشيطان عندما يجربنا؟ كذلك فإن عبارة واحدة من المكتوب تكفي رداً على غير المؤمنين عندما يسألونا عن أفعالنا وسلوكنا. ربما نقول في أنفسنا إنهم لا يؤمنون بكلمة الله، فكيف نرد عليهم منها؟ ولكن كلمة الله حية وفعالة، وقادرة على تبكيت كل من يسمعها، حتى ولو كان إبليس وأتباعه لا يعترفون بها.

لقد ذهبت راعوث إلى من يستطيع وحده أن يشبع حاجتها. ولكن كان عليها أن تنزل إلى البيدر. وهكذا تعلمنا كلمة الله ما هو السلوك اللائق عندما نكون في محضره. وقد سبق أن رأينا في (ع4) معنى "النزول"، فهو الحكم على الذات - على "الأنا" - والاتحاد بالمسيح في موته. إنه نزول عن العرش الذي وضعني فيه الجسد، وقبول حالة الموت التي حكم الله عليَّ بها. فالله لم يدِن فقط أفعالنا وأعمالنا، بل حكم بالموت علينا بكل ما نحن عليه في ذواتنا - كل ما هو "الإنسان". وراعوث لم تقبل هذا كتعليم فقط، بل طبقت ذلك عملياً في حياتها. لذلك طبقت كل التحريضات العملية في كلمة الله على حياتها، فالله لابد أن يتقدس في كل من يقترب منه.


فأكل بوعز وشرب وطاب قلبه. ودخل ليضطجع في طرف العرمة. فدخلت سراً وكشفت ناحية رجليه واضطجعت ( ع 7)

رأينا في تأملاتنا السابقة معنى أن يأكل بوعز ويشرب كرمز لربنا يسوع المسيح في صنع مشيئة أبيه (يو 32:4-36). وهانحن نرى قلب بوعز وقد طاب. فكم كان ملء الفرح الذي لقلب الرب يسوع عندما أكمل العمل على الصليب «يسوع...من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهيناً بالخزي» (عب 2:12). فقد عولجت مشكلة الخطية إلى الأبد، والله الذي أهين من الإنسان قد استعلن وتمجد بمجد فائق. وقد فدى المسيح الكنيسة التي أحبها هكذا (أف 25:5)، وهاهي قد وجبت له. كما أنه أصبح في الإمكان الآن أن ترجع الخليقة بأسرها إلى الله في توافق تام (1كو 20:1). فأي فرح كان لابد أن يملأ قلبه. لقد عبّر العدد الأول من مزمور 22 عن مشاعر ربنا يسوع وهو يجتاز أعمق الآلام على الصليب، حيث تُرك من الله الذي وضع عليه إثم جميعنا، بل جعله خطية لأجلنا، ولكن في ع22 من ذات المزمور نسمعه يقول «أخبر باسمك اخوتي، في وسط الجماعة أسبحك» ثم في ع25 يقول «من قبلك تسبيحي في الجماعة العظيمة». لذلك إذ نختلي به في الليل في البيدر - كما فعلت راعوث مع بوعز - فلا نرى سواه في عمله، فلابد أيضاً أن نشاهد فرحه. ولكننا لا نستطيع أن نرى هذا الفرح إن كنا ننظر إلى عمله هذا من زاويتنا نحن، ونرى ما نلناه نحن فقط، وهذا ما نفعله كثيراً، فتكون قلوبنا محصورة في ذواتنا.

علاوة على ذلك، فقد انتهى بوعز من تذرية الشعير، وقد تم عزل التبن عن حباته، أفلا يطيب قلب ربنا يسوع عندما يرانا بلا تبن؟ إن قصده هو أن يحضر الكنيسة لنفسه «مجيدة لا دنس فيها ولا غضن ولا شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 27:5). لذلك أسلم نفسه «لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة» (ع26). وكم سيكون فرحه عندما يراها وهي هنا على الأرض وهي في ذات هذه الحالة عملياً؟ قد يكونون قليلين هم الذين يوجدون على مثل هذه الحالة، بل قد لا يكون هناك سوى عضو واحد من أعضاء جسده على هذه الحالة، ولكن هذا يكفي لأن يجد الرب فرحه فيه.

حقاً، لقد طاب قلب بوعز، فهو قد أتم التذرية، فله الآن أن يضطجع في طرف عرمة الشعير النقي. أفلا نرى في هذه العرمة من الغلة الخالصة صورة للكنيسة وهي عجين جديد، وقد تنقت من الخميرة العتيقة؟ (1كو 7:5و8). ألا يمثل هذا أواني الكرامة التي طهرت نفسها من آنية الهوان، وأصبحت تتبع «البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي» (2تي 19-22)، فالرب لا يمكن أن يكون حاضراً حيث يوجد الإثم، وحيث لا يستطيع هو أن يذري التبن عن الشعير.

لقد ذهبت راعوث لتكون مع من مات، مع الذي فضل أن يموت على أن تبقى الخطية دون أن تُبطل (عب 26:9). وهذا هو مركز المسيح الآن على الأرض. لقد رُفض من العالم، فصُلب ودفن، وهكذا انتهى العالم منه، فهو بالنسبة له قد دُفن وانتهى أمره، وها راعوث تتحد به - رمزياً - وهو على هذه الحالة من رفض العالم له. لذلك كشفت ناحية رجليه واضطجعت. وهذه هي نفس الصورة التي نجدها في رومية 4:6 «فدفنا معه بالمعمودية للموت» على أن الأمر هنا لا يقتصر على المعمودية، بل يشمل أيضاً التحقق العملي لها في حياتنا اليومية. قد يكون هذا الحق ينطبق على الكنيسة كجماعة أكثر من انطباقه على الأفراد، إذ في حياة الكنيسة نستطيع أن نجد التحقيق العملي للانتهاء تماماً من الإنسان العتيق، والانفصال الكامل عن العالم.


وكان عند انتصاف الليل أن الرجل اضطرب والتفت وإذا امرأة مضطجعة عند رجليه (ع8)

نأتي الآن إلى لحظة حاسمة في تاريخ الكنيسة كما يسرده الرب في رؤيا 2و3. ففي نهاية الأصحاح الثاني نقرأ عن ثياتيرا، التي فيها نرى كنيسة روما الكاثوليكية وهي في أوج قوتها في العصور الوسطى المظلمة. كانت قد فسدت، ورفضت أن تتوب، لذلك كان لابد للرب أن يدينها. على أنه كانت لا تزال هناك بقية أمينة، لها محبة وإيمان وخدمة وصبر، وكانت أعمالها الأخيرة أكثر من الأولى. لذلك وضع الرب المجموع جانباً، ولم يعد يعترف بثياتيرا، مع أنها ستبقى موجودة حتى مجيئه. وبدلاً منها أعطى الرب بداية جديدة للشهادة، ولكنها كانت شهادة تختلف عما كان في الكنائس الأربعة الأولى، حين كانت الكنيسة تُرى ككل. وكانت هذه الشهادة في حركة الإصلاح. ولكن ما هو حال هذه الشهادة الجديدة؟ وماذا صار لها بعد رحيل المصلحين؟ هذا ما نجده موصوفاً في كنيسة ساردس في القول «لك اسم أنك حي وأنت ميت». حتى البقية التي في ساردس يقال عنها «عندك أسماء قليلة في ساردس لم ينجسوا ثيابهم» ولكن لا نقرأ عن أي شيء إيجابي يقال عنها كما قيل عن البقية التي في ثياتيرا، وإنما يذكر فقط حسنة سلبية، فهم «لم ينجسوا ثيابهم». هذه هي حالة البروتستانتية قبيل وأثناء عصر نابليون.

ثم بعد ذلك نرى عملاً جديداً للروح القدس في كل أعفار المسكونة، ولكن على الأخص في الأقطار البروتستانتية، إذ كانت نفوس تولد وتنفصل عن الأرثوذكسية الميتة، وعن العالم**، وأظهرت حياة الله في سلوكها وطرقها. كانت هناك عملية إحياء، وإنني أعتقد أن هذه هي الحقيقة التي نراها ممثلة في أن بوعز "اضطرب" عندما وجد امرأة عند قدميه. ففي الأيام التي أعقبت الاحتلال الفرنسي لأوروبا تحت قيادة نابليون وجد الرب في كثيرين حالة روحية استطاع معها أن يتحد نفسه بهم، ويقودهم إلى ما نقرأ عنه في الرسالة إلى كنيسة فيلادلفيا.


فقال من أنت. فقالت أنا راعوث أمتك، فابسط ذيل ثوبك على أمتك لأنك وليّ (ع9).

ألم يكن بوعز يعرف راعوث؟ أو لم يكن الرب يعرف مؤمني القرن الماضي؟ بلى، كان بوعز يعرف راعوث، ويقيناً كان الرب يعرف هؤلاء المؤمنين أيضاً. ولكن الواقع أنهم لم يكونوا يعرفون أنفسهم. لذلك فقد كان لزاماً على راعوث أن تعطي تقريراً عن نفسها، ومن هي، وهذا ما كان يريده بوعز فعلاً.

إذا تتبعنا كتابات القرن الماضي التاسع عشر بتسلسل تاريخي، سنجد أن الوعي بالامتيازات التي ترتبط بمركز المسيحي كان يزداد شيئاً فشيئاً. فأولاً، أدركوا أن الله قد اكتفى بعمل المسيح، وأن كل من يؤمن به يستطيع أن يكون له سلام مع الله، إذ يصبح من أولاد الله. ثم أدركوا أن عمل المسيح كاف تماماً بالنسبة لحالة الإنسان، ليس فقط من جهة خطاياه، بل أيضاً من جهة الخطية. ثم بعد ذلك أدركوا حقيقة الموت مع المسيح، وإقامتنا معه، وأن الله أجلسنا فيه في السماويات. ثم أصبحت العلاقة العجيبة بين المسيح وجسده الكنيسة أكثر وضوحاً، وكذلك مجيئه القريب، وبذلك أدركوا صفة ووضع الكنيسة الصحيحين.

حقاً، ما أجمل أن يستوقفنا الرب بسؤال يجعلنا نعكس رداً عن مركزنا الصحيح، فتكون لنا المقدرة على أن نعبِّر عما نحن عليه في نعمته.

كان رد راعوث جميلاً، يُبرز من بين ثناياه صفات أدبية رائعة، من اتضاع وخضوع ووقار. كما يكشف كم كان قلبها يشتاق لأن ينال أقصى ما يمكنه من صلاح الله وغناه. كانت نعمي قد عرَّفتها أن بوعز "ذو قرابة لهما" (ع2)، وهذا ما تمسك به قلب راعوث. لذلك كان ردها يدل على أنها تعلم أن بوعز يعرفها، وأنها تعلم صلة القرابة التي بينهما، وأنها تبني التماسها على هذا الأساس، متمسكة بمواعيد الله التي أعطاها في المكتوب، وما يترتب عليها من التزامات على بوعز. كما أنها تدعو نفسها أمة له، وهي بذلك تعترف أنها لا حيلة لها في الأمر، مقرة بأن ذلك إنما هو من نعمة مطلقة من جانبه إن أجاب لها سؤلها.

ولم تعد راعوث تقول عن نفسها إنها «الموآبية»، فقد أصبحت مدركة لعلاقة القرابة التي تربطها ببوعز. فأول ما يجب أن يتعلمه المؤمن هو أنه لم يعد الخاطئ المسكين، بل إنه الآن قد أصبح ضمن عائلة الله. وليس من علامات الاتضاع أن يقول المؤمن للرب "أنا فقير ومعتاز، فاغفر لي خطاياي". إن قولاً كهذا إنما يعكس جهلاً بالمكتوب، وبالكفاية غير المحدودة لعمل المسيح على الصليب. والرب لا يستطيع أن يكشف لمؤمن كهذا كل كنوز غناه المذخرة له. ولا أن يعرفه معنى اتحاده بالإنسان الممجد في السماء، حتى يجد هذا المؤمن السلام مع الله، ويتحرر ويعتق. فعندما يجد القلب راحته الكاملة من جهة الخطايا والخطية، فحينئذ فقط يستطيع أن يمسك بأفكار الله ويفهمها بصورة أعمق.

كانت راعوث تدرك مقامها جيداً، ومع ذلك فهي تقول لبوعز عن نفسها «أمتك». فلم يكن قلبها يطلب ما هو أكثر، ولا أقل أيضاً، من ذلك. إذ كانت قد أتت إليه لتتعرف عليه في كل صلاحه ونعمته، وهكذا نحن نقول له:

إنك أنت سيدي
لذلك أفتخرُ
فإن أكن عبداً لك
عن أن أكون ملكا
 

 

بالنعمةِ أنا لكَ
مبتهجاً بمجدك
أكرمُ عندي سيدي
على الورى ذا سؤددِ
 

وعلى الرغم من أن راعوث كانت تسأل بوعز على أساس أنه وليٌّ له حق الفكاك، إلا أنها على الجانب الآخر أظهرت عجزها التام. فالدجاجة تبسط جناحيها على فراخها الضعيفة عند الخطر. وعندما هرب داود من قدام شاول دعا الرب قائلاً «ارحمني يا رب ارحمني، لأنه بك احتمت نفسي، وبظل جناحيك أحتمي، إلى أن تعبر المصائب» (مز 1:57). اقرأ أيضاً مزمور 7:36، 4:61، 4:91، متى 37:23...

إن راعوث مثال رائع حقاً للإيمان وكيف يعمل. إنه الإيمان الذي يغلب العالم (1يو 4:5)، ثم يلتفت إلى الله في ثقة كاملة مطلقة، ويأخذ مكانه خارج المحلة، ولكن في ذات الوقت داخل الحجاب (عب 11:13-13).

هذا ما نراه في راعوث في ص1 حين أتحدت نفسها مع نعمي، وكابنة حقيقية لإبراهيم كانت على استعداد لأن تترك شعبها وبيت أبيها، وأرض مولدها، من أجل نعمي. وتذهب إلى أرض لم تعرفها من قبل. فيصير شعب نعمي شعبها، وإله نعمي إلهها. هكذا غلب إيمانها العالم، وأخذت مكانها «خارج المحلة».

ولكننا هنا في ص3 نجد توجهاً آخر للإيمان. فإيمان راعوث هنا يسمو إلى قياس سمو كل ما هو لبوعز. لقد كان مركز بوعز يسمو كثيراً عما هي عليه، والفرق بينهما شاسع. فهي ليست إلا ملتقطة مجتهدة في الحقل، وهو صاحب الحقل. بل إنها لم تحسب نفسها أهلاً لأن تكون كواحدة من جواريه (ص13:2). ومع ذلك فهي لم تطلب أقل من بوعز ذاته. إن تلك الفتاة التي تلتقط في الحقل تطلب أن تكون زوجة لصاحب الحقل، فلا تسترد فقط ميراث أليمالك، بلتشترك أيضاً في غنى «جبار البأس» ذلك الغنى الذي لا يستقصى.

إن الإيمان له جرأة وقدوم، ولكنه ينقاد. فالله قد سبق وأعد كل هذه البركات الثمينة، حتى تمتد يد الإيمان إليها. إن الأسرار العجيبة لنعمة الله المتفاضلة، ومقاصده الأزلية، ووصاياه عن الوليّ الفادي، وأمانة ذلك الوليّ، كلها ضمانات للإيمان أنه يستطيع أن ينال كل ما يطلبه، فمهما بلغت جرأة الإيمان الحقيقي فلن تكون قد تجاوزت حدودها.


فقال إنك مباركة من الرب يا بنتي، لأنك أحسنت معروفك في الأخير أكثر من الأول. إذ لم تسعي وراء الشبان فقراء كانوا أو أغنياء" ( ع 10).

كما رأينا طريق الإيمان في راعوث، نرى طريق النعمة في بوعز. فالنعمة تشجع النفس، وتوحي إليها بالثقة، ثم تتجاوب معها، ثم هي تجازي أيضاً تلك الثقة التي أنبتتها. تلك هي خاصية النعمة التي نراها في كل الكتاب. فالروح القدس يبكت الخاطئ، ويقوده إلى الاعتراف أمام الله العادل القدوس بأنه خاطئ. ثم يسير ذلك الخاطئ على هدى هذه الثقة التي أحياها الروح القدس في قلبه، فيثق في صلاح هذا الإله القدوس البار. فلو أن عينا هذا الخاطئ تثبتتا على خطاياه فقط لفر من أمام الله إلى أبعد ما يستطيع، إذ أنه لن يرى سوى أن الله أقدس من أن ينظر إلى خطاياه، وأنه ليس عنده لهذه الخطايا سوى دينونة أبدية.

ونحن نرى عمل النعمة هذا أيضاً في معاملات الرب مع خاصته. فمثلاً عندما دعى الرب موسى، وجدعون، وإرميا إلى خدمته وجد قلوباً خائفة مرتعدة، مع إيمان قليل (خر 3،4، قض 6، إر 1). ومع ذلك ففي نعمته أعدهم للبركة التي قصد أن يعطيها لهم. والأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا يلمع بخاصية النعمة هذه، إذ يكشف الرب صلاحه وصلاح الله كالمعطي للسامرية، حتى يولِّد في قلبها الثقة، ويجعلها تأتي إليه بخطاياها.

ونرى ذات هذه النعمة في بوعز، فقد كان وقوراً وصالحاً بصورة لها جاذبيتها وهو يشجعها في ص2. وهاهو الآن على أتم استعداد لأن يملأ كل رغبة قد أيقظها في داخلها بالثقة التي زرعها في قلبها من نحوه. فهو لا يأتي بها إلى هذه الدرجة من الثقة، ثم يخذلها في هذا الموقف.

إن راعوث بحسب مولدها كانت من هؤلاء الذين هم بلا مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لهم، وبلا إله في العالم (أف 12:2). ولكنها الآن قد رجعت إلى يهوه، إله شعب الله، وقد علم بوعز أنها الآن قد صارت تنتسب إلى هذا الشعب، فبالتالي قد ارتبطت بيهوه وصارت منتسبة إليه. وهكذا صار لها الحق في كل بركاته، تلك الحقائق التي أعطاها هو لشعبه في نعمته المطلقة. وهذا ما يتضمنه قول بوعز «مباركة أنت من الرب (يهوه)». ولكنه يضم أيضاً راعوث إلى علاقة شخصية مع نفسه إذ يدعوها قائلاً «يا بنتي». فقد تبناها كما لو كانت بالفعل من بنات إسرائيل، مع أنها جنساً لم تكن منهن، ولا كان لها ميراث بينهن. كذلك لم تكن لها صلة القرابة الجسدية الطبيعية مع بوعز، ولا كانت منتسبة إليه، بل كانت هناك خطوات أخر لابد من إتمامها حتى تأتي بعدها إلى هذا المركز. كان لابد من تخطي كافة الموانع، قبل أن تأخذ مكانها علانية كإسرائيلية، وكامرأة له. وكم كان هذا تشجيعاً طيباً لها.

سبق أن مدح بوعز في ص11:2 فضل راعوث الذي ظهر في معروفها الأول. ولكن ماذا كان معروفها في هذا الأمر الأخير؟ كان هذا المعروف في أنها لم تتبع رغبات وشهوات القلب البشري، وإنما أدركت حقوق بوعز عليها حسب كلمة الله، فتصرفت حسبما تعلمته منها. وهذا أمر يقدره الرب فينا كثيراً.

إن قلوبنا ترغب دائماً في السير في طرقها الخاصة، وتتوق دائماً إلى أمور العالم، وإلى ما هو من الطبيعة، ولكن الرب له الحق في حياتنا، حق المحبة التي بها دفع ثمن فدائنا. لقد أحب المسيح الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها، حتى تكون له خالصة كما يريدها هو لنفسه (أف 25:5-27). لقد دفع الثمن عنها كاملاً، بل لقد باع كل ما له ليمتلكها (مت 46:13). لقد «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (في 7:2و8). هذا هو الثمن الذي دفعه لكي يخلصنا من الدينونة الأبدية، وليعطي لنا أسمى البركات السماوية، أفلا يعطيه هذا الثمن الغالي الذي دفعه الحق فينا؟ بلى، إن له الحق في أن يأخذ كل محبتنا، وقدرتنا، وطاعتنا له. بل له الحق في أجسادنا ونفوسنا وأرواحنا. له الحق فينا بكل ما لنا.

وفوق ذلك، فما زال هناك من الأسباب الكثير في كلمة الله، التي تنشئ علينا حقوقاً له. فهو الذي خلقنا، لذا فله الحق في أن نطيعه، لأن كل الأشياء "به وله" قد خلقت (كو 16:1). لقد عمل العالمين، وأيضاً قد خلق الإنسان ليخدمه ويمجده. ومعنى ذلك أن الإنسان قد تكوَّن في الخلق بطاقات وقدرات روحية، وإمكانات طبيعية لتوظَّف جميعها لخدمة الرب. وهذا حق، فإن قدرات الإنسان الطبيعية والعقلية لا تنعم بالاستقرار والراحة التي من الله إلا عندما يخدم خالقه في طاعة كاملة وتامة له. وليس هناك طريق آخر لأن تجد طاقات الإنسان هذه شبعها الحقيقي. قال أغسطينوس: إن الإنسان لن يجد راحته، حتى يجد الراحة في الله. لذلك نقرأ في تثنية 5:6 على سبيل المثال «فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك». وقد أضاف الرب يسوع عندما اقتبس هذا العدد «ومن كل فكرك» (مر 30:12).

ثم سبب ثالث تحدثنا عنه رسالة العبرانيين في مطلعها. فابن الله هو الذي له حق السلطان. ثم أخيراً فإن كل شيء، بحسب مشورات ومقاصد الله لابد وأن يخضع تحت قدميه كابن الإنسان (عب 5:2-8، كو 15:1).

والسؤال الآن هو: هل نحن نعترف بحق الرب الرباعي علينا؟ وهل نأتي إليه بكل رغباتنا وحاجاتنا؟ هل نحن نسأله في كل أمر عما يريدنا أن نفعله؟ هل نسأله عن نوعية العمل الذي يريدني أن ألتحق به؟ أو ماذا أفعل من أجل المستقبل أو أعد له؟ هل نطلبه لكي يكشف لنا عمن يريدنا هو أن نكون في شركة معهم؟ أو نسأله عن المكان الذي يريد لكل منا أن يسكن فيه؟ هل سألته عن الأثاث والأجهزة التي يريدها هو في بيتك؟ هل استشرته في كيفية تربية أولادك؟ أو أي عمل يجب أن أوجههم إليه. هل نسأله عن كل كبيرة وصغيرة في حياتنا، سواء كانت أموراً طبيعية أو فكرية أو روحية؟ هكذا يجب علينا ساعة بعد ساعة، بل ودقيقة بعد دقيقة، أن نسأله دائماً «ماذا تريد يا رب أن نفعل؟».

إن كلمة الله واضحة كل الوضوح من جهة هذا الأمر، فإن «الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً» (أع 36:2). هكذا أيضاً تعلمت راعوث من كلمة الله أن بوعز وليّ له حق الفكاك، لذلك فهي تنتسب إليه وترتبط به. وهكذا ذهبت إليه في خضوع، ووضعت نفسها وكل ما لها، بل ومستقبلها أيضاً بين يديه. ولنلاحظ أن هذا قد سر قلب بوعز، فتكلم إليها مبدياً سروره، وباركها. وبكل تأكيد فإن الرب يسر بنا، ويبتهج قلبه عندما نأتي إليه طوعاً، مقرين بكل حقوقه علينا، خاضعين ومسلمين أنفسنا له بالتمام بين يديه. لا يعني هذا أنه لنا حرية في أن نفعل ذلك أو لا نفعله، فهذا قرار الله الواجب النفاذ أن يخضع كل إنسان ويعترف بسلطان ابنه (في9:2-11، رو9:10،مز2). ولكن هناك فرقاً بين أن نخضع له طوعاً، وأن نخضع له قسراً. فإن كنا نفعل هذا بقلب طائع محبة له - إذ هو قد أحبنا أولاً (1يو 19:4) - فلابد أن يعطينا برهان قبوله. إن هذا فكر عجيب، فهو يمتدحنا على ما فعلته نعمته في حياتنا، على ما صار متوافقاً مع أفكاره، مع أن هذه الأمور واجبة علينا وليست فضلاً منا. إلا أنها عندما توجد فينا فإنه يختم عليها بالمصادقة مؤكداً رضاه. فهل سمعنا منه نغمة الرضا هذه؟

لقد امتدح بوعز راعوث لأنها لم تسع وراء الشبان، فقراء كانوا أم أغنياء. إن فتاة تسمح لمشاعرها أن تنقاد وراء الثروة والغنى لدى الشباب ليست هي جديرة بالمحبة. ولو أن راعوث سعت وراء شاب فقير لحكمنا على مشاعرها أنها تتحرك وفق العواطف الإنسانية الطبيعية. فقد وضع اله المحبة في قلب الإنسان محبة الرجل نحو المرأة، ومحبة المرأة نحو الرجل، وهذه عطية من الله لا غبار عليها. ولكن علاقتنا بالرب يسوع لا تتدخل فيها أسمى وأنبل المشاعر الطبيعية. إن هذه المشاعر الطبيعية، مع قدراتنا الذهنية جنباً إلى جنب يجب أن تُستأسر إلى طاعة المسيح. وعندما تُخضع هذه طائعة له فلابد أن تنمو وتتطور إلى الأفضل، فخالقها سيُعنى بها حتى ما يتمجد هو أكثر، وحتى ما نجد نحن خلائقه الشبع الكامل.


والآن يا بنتي لا تخافي. كل ما تقولين أفعل لك، لأن جميع أبواب شعبي تعلم أنك امرأة فاضلة ( ع 11)

كان من الممكن أن يتحول قلب بوعز عن راعوث بسبب تصرفها، فقد ذهبت في مطلبها إلى ما هو أبعد من المدى الذي رسمته كلمة الله حول الوليّ. فإن باع أحد نفسه لأنه قد افتقر فإن أقرب الرجال إليه هو الذي كان له أن يقوم بدور الوليّ. وإذا بيع ميراث أحد بسبب افتقاره كان على أخيه أن يقوم ويفكه (لا 25:25 و48 و49). وفي تثنية 25 نجد حالة الذي يموت بين إخوته، ولم يترك نسلاً. حينئذ يكون على أخيه الحي أن يأخذ امرأة الميت زوجة له، وهكذا يقيم نسلاً لأخيه. فحسب الناموس حرفياً لم يكن بوعز ملزماً أن يتزوج من راعوث، ولا كان عليه بالضرورة أن يفك ميراث أليمالك.

ولكن نعمة بوعز كانت واسعة، أما نعمة بوعزنا فهي بلا حدود، والإيمان لا يخزي أبداً عندما يأتي إليه منتظراً منه شيئاً. بل إن النعمة تُسر جداً عندما تتلقى من الإيمان طلبات جريئة، بل تقول «افغر فاك». قد يسأل الإيمان أن تنتقل جبال المصاعب وتنطرح في البحر، فهكذا لابد أن يكون. والرب لابد وأن يستجيب طلبة المؤمن الذي يأتي إليه خاضعاً له خضوعاً تاماً، كما نترنم قائلين:

في يدك أيامي
فأنت لي إلهي
 

 

ودربي ومقامي
وسيدي وجاهي
 

ليست المسألة كم يطلب الإيمان، فالنعمة عندها ما يكفي لمجاوبته قائلة «لا تخف، كل ما تطلب أفعل». فقط هو يريدنا أن نثق فيه ثقة مطلقة.

«لأن جميع أبواب شعبي تعلم أنك امرأة فاضلة». «المرأة الفاضلة تاج لبعلها» (أم 4:12)، وقد وصفها لنا الحكيم في أمثال 10:31-31. وخلاصة القول هو أن «المرأة المتقية الرب...تمدح» وذلك لأن «مخافة الرب رأس المعرفة» (أم 7:1).

إن المرأة الفاضلةهي التي تأخذ مكانها بين أهل بيتها، ومع زوجها، بحسب فكر الله. هي المرأة التي بحسب قلب الله. والعلاقة بين الرجل وامرأته كما هي موضحة في الخليقة هي صورة للعلاقة والوحدة بين المسيح والكنيسة (أف 32:5). من هذا نفهم أن المرأة الفاضلة هي صورة للكنيسة كما هي بحسب فكر الله.

ومع أن راعوث لم تكن قد ارتبطت بعد برجل، إلا أن بوعز يقول لها إنها امرأة فاضلة. فقد ميز فيها خصائص المرأة الفاضلة، ولا يكتفي بأن يقول إنه هو يرى فيها ذلك، بل إن جميع أبواب شعبه تعلم أنها امرأة فاضلة. وأبواب المكان هي تعبير عن حكومته، حيث يجتمع الشيوخ ليناقشوا المسائل الخاصة بالمدينة، ويقضوا في كل مسألة. وقول بوعز هذا يفيد بأن شيوخ المدينة والمعتبرين فيها قد تناولوا في حديثهم أمر راعوث، وأن آرائهم أجمعت بلا استثناء على أنها امرأة حسب فكر الله. لذلك قال لها بوعز «كل ما تقولين أفعل لك».

وبهذه المناسبة فإنه حسن أن نتأمل في أمثال 31. من هذا الأصحاح نتعلم ما هي الخصائص العملية لكنيسة الله. في ضوء ذلك يجب علينا أن نسأل أنفسنا: هل يجد الرب فينا هذه الصفات، وهل تعلم "جميع أبواب الشعب" عنا أن تلك هي صفاتنا أفراداً وجماعة؟

في مطلع القرن التاسع عشر وجد الرب هذه الصفات في بعض المؤمنين. رأى فيهم الطاعة له ولكلمته. وكالسيد استطاع قلبه أن يثق فيهم، فقد أدركوا سلطانه (رؤ 8:3)، ووجد فيهم غيرة له، وأن بيته صار موضوع اهتمام قلوبهم. رأى فيهم اهتماماً بأفراد عائلة الله، وكانوا مجتهدين في الكرازة بالإنجيل لكل «فقير ومسكين» (أم 20:31). وكانت «كل أبواب الشعب» ترى ذلك، فقد ذاع خبرهم في كل أرجاء المسيحية. من أجل ذلك استطاع الرب أن يربط نفسه بهؤلاء المؤمنين، وأن يتخذ منهم أمام أعين الجميع شهادة له.


والآن صحيح إني وليٌّ، ولكن يوجد وليٌّ أقرب مني. بيتي الليلة ويكون في الصباح أنه إن قضى لك حق الوليِّ فحسناً، ليقضِ. وإن لم يشأ أن يقضي لكِ حق الوليِّ فأنا أقضي لك. حي هو الرب. اضطجعي إلى الصباح ( ع 12 و13).

واضح أن بوعز لم يفاجأ بطلب راعوث، فقد كان في نعمته يريد أن يجتذبها إليه، إذ أنه الوحيد الذي كان قادراً على أن يعينها. ولكن هذا لم يجعله يتصرف باندفاع أو تسرع دون أن يعمل حساب النتائج التي كان يمكن أن تترتب على تصرفه. فقد كانت هناك موانع لا تزال تحتاج إلى إزالة، وكان هو يعلم تلك الموانع أكثر من راعوث.

إن الرب يسوع يعرف قلوبنا جيداً، ويعلم أيضاً ظروفنا، وطرقنا التي نسلكها. لذلك يقول «أنا الله وليس آخر، الإله وليس مثلي. مخبر منذ البدء بالأخير، ومنذ القديم بما لم يُفعل. قائلاً رأيي يقوم. وأفعل كل مسرتي». (إش 9:46 و10). وفي مزمور 139 يقول المرنم «فهمت فكري من بعيد...لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها». فالرب يعمل بروحه في قلوبنا حتى نخضع ذواتنا له تماماً بثقة كاملة فيه، حتى نتعلم أنه هو الوحيد الذي يفك عنا كل قيد عبودية، وأنه هو الطريق الوحيد لنا لننال ميراثاً مع القديسين. صحيح أنه هناك عوائق في طريقنا لأن نتمتع بهذه الحالة، ولكنه ليس عنده مستحيل، ولا تقف في طريقه الصعوبات. لأجل ذلك فإنه يؤكد لنا أنه يفعل لنا كل ما نطلبه منه بالإيمان. فالصعوبات مصدرها فينا في حقيقة الأمر، وليست هي من جانبه هو. فقلوبنا الخبيثة الخدَّاعة تحاول مرة ومرات أن تجد ولياً آخر. وهذا ما يجعل طريق اختبار رومية 7 عادة ما يكون طويلاً وصعباً، حتى ننتهي من ذواتنا ونصرخ «ويحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت». وإلى أن نصل إلى هذه النقطة لا يستطيع الرب أن يساعدنا. فعجز الناموس يلزم أن يصير واضحاً لنا أولاً، إذ هو لا يستطيع أن يقود إنساناً ذا طبيعة خاطئة إلى خدمة الله، ولا أن يخلص من سلطان الخطية. وسوف نرجع إلى هذه النقطة في الأصحاح الرابع بتفصيل أوفر.

يقول بوعز لراعوث «اضطجعي إلى الصباح». فقد أتت إليه ليلاً، واضطجعت عند قدميه وهو نائم. وقد رأينا في هذا إشارة إلى كوننا اعتمدنا لموته، «فدفنا معه بالمعمودية للموت» (رو 4:6). وهذا هو المكان الذي فيه أعتقنا، حيث نلنا نصيباً في عمل الفداء الكامل، العمل الذي يمتد إلى كل شيء، خطايانا وأيضاً خطيتنا. ومن هنا أيضاً نبدأ امتلاك ميراثنا، إذ نقبل بالإيمان حقيقة كوننا قمنا مع المسيح، وأجلسنا فيه في السماويات (أف 5:2و6). لأجل هذا قال بوعز لراعوث «اضطجعي إلى الصباح» وفي الصباح سيتضح ما إذا كان الولي الآخر سيقضي لها أم لا.


فاضطجعت عند رجليه إلى الصباح. ثم قامت قبل أن يقدر الواحد على معرفة صاحبه ( ع 14)

قرأنا في ص17:2 أن راعوث التقطت إلى المساء. وهنا نقرأ عنها أنها اضطجعت عند رجلي بوعز إلى الصباح. وفي هذا نرى وجها المسيحية. من جهة العمل والاجتهاد فنحن في النهار، وننتظر المساء (يو 4:9، 1تس 4:5-8). وأما من جهة وضعنا في العالم كمن ارتبطوا بمسيح مرفوض فنحن في ليل. وهذان الوجهان لا تناقض بينهما. فالذين يعيشون قريبين من الرب يسوع، مضطجعين عند قدميه الآن في ليل رفض العالم له، هم أنفسهم الذين يعملون في النهار أكثر.

تعلمت راعوث لأول مرة من اضطجاعها عند قدمي بوعز أن تثق فيه ثقة مطلقة من جهة كل بركة مرتبطة بالفداء. فياله من مكان يطيب لنا. فعند قدمي الرب نشعر برضاه عن مسلكنا، وأننا موضوع نعمته ومواعيده. ونحن نقبل هذه النعمة عالمين أنه يسمع لنا، ولابد أن يتمم لنا الأمر كله.

ولكن لماذا لم تبق راعوث هناك حتى طلوع الفجر؟ إنه لم يطلب منها أن تذهب، بل هي التي قامت من نفسها وذهبت. إن الرب لن يبعد أحداً عنه قط، خاطئاً كان أم قديساً ماكثاً عند قدميه. ولكن راعوث قامت من موضع الاتكال التام عليه، من مكان موته، من قبره. ولو أنها بقيت في هذا المكان لأشرق الصباح على نفسها، ولأضاء النور في قلبها، ولكانت قد عرفته في ملء قوته وسلطانه كالمخلص. كانت ستراه يعمل عمله في التقديس والتمجيد. ولكنها «قامت قبل أن يقدر الواحد على معرفة صاحبه»

هذا هو السبب في أن الكثير من المؤمنين يقفون عند المكان الموصوف في رومية 1:5 و2. فهم قد أتوا إلى الرب كالمخلص الذي فداهم من الدينونة الأبدية. ولكنهم يظلون تحت سلطان الخطية، سلطان طبيعتهم القديمة. لماذا؟ ذلك لأنهم لا يمكثون في المركز الذي إليه اعتمدوا. وما الذي اعترفوا به في المعمودية؟ إنهم لم يعترفوا بأن خطاياهم قد غفرت، بل بأنهم يريدون أن يندفنوا مع المسيح. فلو مكثوا فقط هناك معه لفهموا أن الرب لم يسوِ فقط مسألة خطاياهم عندما حملها على الصليب، بل إن الرب قد جعل خطية لأجلهم. ففيه قد دان الله طبيعتهم الشريرة، فنحن لم نخلص فقط من العقاب، وإنما أيضاً تقدسنا وانفصلنا نهائياً عن المركز والحالة التي عشنا فيها قبل رجوعنا إلى الله (1بط 2:1، 1كو 11:6). وعندما نتمسك بهذا فإن الرب سيقودنا خارجاً من القبر على الجانب الآخر منه، حيث النور، حيث هو الآن، أحياء ومقامين معه، وجالسين فيه في السماويات. حينئذ نكون قد أتينا إلى معرفته المعرفة الحقيقية في كل كفاية وقيمة عمله كالفادي والمقدِّس، والممجِّد. وهكذا نصبح في المركز المسيحي الحقيقي. (يو 3:17).

لقد تركت راعوث هذا المكان، فلم تمكث في الموضع الذي فيه كان عليها فقط أن تستريح، لأن بوعز كان هناك، وهو الذي يعمل كل شيء. فإن كنا نترك الموضع الذي أتينا إليه كمن ماتوا مع المسيح، ونعود فنأخذ مكان الإنسان الحي، فإن ذلك يتضمن دعوتنا لولي آخر لأن يأتي إلى المشهد، وهو وليّ أقرب من بوعز. فالناموس لا سلطان له على الموتى، بل على الأحياء الذين يريدون أن يخلِّصوا أنفسهم بأنفسهم من سلطان الخطية (رو 4:7-6). فلهؤلاء يقال «افعل هذا فتحيا»، ومن خالف ناموس موسى يموت بدون رأفة. فلو أن إنساناً - جدلاً - حفظ الناموس، فعندئذ يكون الناموس له ولياً. ولكن كان على راعوث أن تتعلم أن هذا غير ممكن، بل أن تتعلم أن الوصية التي هي للحياة قد وجدت هي نفسها للموت بالنسبة لها.


وقال لا يُعلَم أن المرأة جاءت إلى البيدر. ثم قال هاتِ الرداء الذي عليك وأمسكيه. فأمسكته. فاكتال لها ستة من الشعير ووضعها عليها. ثم دخل المدينة ( ع 14و15)

لماذا هذه السرية؟ لقد كان أمراً غير مشرف لبوعز أن تتركه راعوث. لقد تركت من كان سيساعدها، حتى تعطي الفرصة لولي آخر، أقرب من بوعز، أن يأتي ليقضي لها حق الولي. بتعبير آخر لم يكن بوعز هو الكل بالنسبة لها.

إن الرب عمل كل شيء لنا، وإنها لإهانة له أن نتخذه كمساعد لنا فقط لحفظ الناموس وتهذيب أنفسنا. فهو قد جُعل خطية لأجلنا لأننا كنا في حالة لا يجدي معها إصلاح، وما كان عند الله من علاج لنا سوى القضاء والدينونة، ليس فقط بسبب خطايانا ولكن أيضاً بسبب طبيعتنا الشريرة الخاطئة. والآن، وبعد أن أكمل الرب العمل كاملاً فإن الكثيرين يحقِّرون - ربما عن عدم إدراك، ولكن هذا هو الواقع - الجانب الأهم من عمله. فهو قد احتمل القضاء الذي على طبيعتنا الشريرة الخاطئة، بينما هم يحاولون إصلاح هذه الطبيعة القديمة لكي يبقوا أمام الله كأحياء، متخذين الناموس وسيلة لذلك، وكل ما يطلبونه من الرب هو أن يعطيهم فقط المعونة والقوة لكي يتمموا الناموس.

ولكن الرب لا يستطيع أن يساعدنا في هذا الأمر، فهو يعلم أنه مستحيل، وهذا ما استلزم أنه يُجعل خطية لأجلنا، إذ كنا في حالة لا تقبل إصلاحاً. وهو الآن في السماء ليس لكي يمجد الناموس. لذلك فإن محاولة حفظ الناموس هي إنكار تام لضرورة عمل المسيح في الفداء، بل هي إنكار للعمل ذاته. فالرب قد أكمل كل ما هو لازم لعتقنا من سلطان الخطية والشيطان والعالم والموت. لذلك فهذه إهانة له عندما نظل في الموضع الموصوف في رومية 7 بالقول «ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت». فمن هو في مثل هذه الحالة لا يسمى مسيحياً في الكتاب. وإنما فقط بعد أن أُعتقنا وقبلنا الروح القدس صرنا مسيحيين بالفعل (رو 10:8). عندئذ ختمنا الله بالروح القدس (أف 13:1). لهذا السبب لا يذكر الروح القدس في الأصحاحات السبعة الأولى من الرسالة باستثناء القرينة الواردة في رومية 5:5. نعم لا يشرف الرب أن يعرف أن امرأة كراعوثقد أتت إلى البيدر. فهذا وضع يتناقض تماماً مع كمال عمله.

على أية حال، فإنه على الرغم من أن بوعز لم يستطع أن يعترف علانية براعوث كمن اتحدت به، إلا أن نعمته وإحسانه وصلاحه من جهتها لم تتغير أو تنقص «إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لا يقدر أن ينكر نفسه» (2تي 13:2). حقاً...

هل صديقٌ كيسوعَ قادرٌ بَـرٌّ أمين

فمتى وُجدنا في محضره لا يمكن أن ننصرف منه فارغين، بل يحمِّلنا بغنى خيراته وبركاته.

ولنلاحظ ما أعطاه بوعز لراعوث. ففي نهاية الأصحاح الثاني رأينا راعوث وقد اجتهدت في عملها حتى نهاية حصاد الحنطة وهي تلتقط. ورأينا في ذلك صورة للمؤمن وقد صارت له ذات طبيعة وكيان الرب يسوع (يو 24:12). وهذا ما يقوده إلى الاتحاد بالمسيح، وبالتالي بالكنيسة (أف 23:1، 6:3، 16:4). ولكننا هنا في الأصحاح الثالث نرى أن راعوث لم تكن قد بلغت هذا الحق عملياً. فعادة ما تكون معرفتنا أكبر مما نمتلكه عملياً. ولكن الرب ينظر إلى الواقع الحقيقي ويتعامل معنا بحسبه. لذلك فإن الأصحاح الثالث لا يكلمنا سوى عن الشعير ولا تذكر فيه الحنطة. فقد كان بوعز يذري «بيدر الشعير». ومنه أعطى راعوث. لاشك أنه أعطاها شعيراً خالصاً بلا تبن، لذلك لم يكن عليها أن تخبطه كما فعلت في أصحاح 2. والسبب فى أنه كان خالياً من التبن هو أن بوعز بنفسه قد قام بتذريته، إلا أنه كان شعيراً وليس حنطة. فالشخص الذي في رومية 7 لا يستطيع أن ينشغل بالكنيسة، إذ لابد له أن يعتق من سلطان الخطية والموت، ويجب عليه أن يتناول شعيراً صافياً، الذي سبق أن رأينا أنه يشير إلى حياة القيامة. فهو يمثل حياة قد اجتازت الموت، لذلك فهي لم تعد تحت سلطانه. فالشعير يأتي بنا إلى الضفة الثانية من الموت، حيث لا موت بعد، ولا خطية، ولا ناموس.

اكتال بوعز ستة من الشعير لراعوث، ولا نعلم ما هو المكيال الذي اكتال به. ولكننا نعلم أن بوعزنا لا يعطي بشح. ولا شك أن ما أخذته راعوث كان مؤونة كبيرة، إذ أن بوعز وضعها عليها. فلو كان ما أعطاها قليلاً لرفعته هي بنفسها. ولكن عدم ذكر المكيال يدعونا لأن لا نركز على سعته، وإنما على العدد. فالعدد "ستة" هو عدد أيام عمل الإنسان في أسبوع، فهو يشير إلى العمل المعين للخليقة. إن البركة التي يعطينا الرب إياها عملياً لن تتجاوز إطلاقاً حالتنا الفعلية، فلم يكن ممكناً أن يبارك الرب إسرائيل ببركات المسيحية ولا أن يعطي لمن لم يزل في رومية 7 فرحاً بكل البركات العجيبة التي تتكلم عنها رسالة أفسس، وإنما يعطيه بركات تتفق عملياً مع حالته الفعلية في محاولاته لتتميم الناموس. فمثل هذا لن يأخذ سوى ستة مكاييل وليس سبعة كما حدث مع راعوث. ولكنها ستأخذ المكيال السابع المخفي فيما بعد في الأصحاح الرابع، وما ذلك المكيال سوى بوعز نفسه. فمتى صرنا واحداً مع المسيح فإننا سنمتلك كل شيء، كل غناه، بل نمتلكه هو ذاته، كما يكتب الرسول يوحنا إلى الآباء «كتبت إليكم أيها الآباء لأنكم عرفتم الذي من البدء» (1يو 13:2و14) وهذا يشتمل على كل شيء.

فإن كنا نريد أن نمتلكه فعلينا أن نعمل الشيء الواحد الذي الحاجة إليه فقط، وهو أن نبقى عند قدميه (لو 38:10-42)، عندئذ سنأخذ سبعة مكاييل من الحنطة، وياله من نصيب عجيب أن نكون في حالة التمتع العملي بكوننا واحداً معه. ما ألذ أن تكون لنا الشركة مع الآب ومع ابنه، فهذا ما يمنحنا الفرح الكامل (1يو 3:1و4). ولكن إن كنا نريد التمتع بهذا النصيب فعلينا أن نضع في الاعتبار احتمالات أن يساء فهمنا من الجميع ماعدا الرب. سيساء فهمنا من مرثا أختنا، وربما من لعاذر أخينا، أو من يهوذا الرسول (يو 12)، بل أيضاً من جميع التلاميذ (مت 8:26). نعم، حتى زوجتي وأقاربي ربما يتحولون إلى أعداء لي (مت 36:10، لو 26:14،27).

فماذا تختار إذاً؟ أفليس هو بمستحق أن أتحمل من أجله كل هذه الأحزان والتجارب؟ أوليست الشركة معه أفضل من كل شيء؟ إن هذا فكر ثمين، فقد كانت تعزية الرب في كل أحزانه في أن يجد واحداً فقط قد طرح وراء ظهره كل شيء ليكون خالصاً له وحده (تك 67:24). لقد تحولت راعوث عن بوعز ودخلت المدينةكانت هذه مدينة شعب الله ولم تكن مكاناً مذموماً، ولكنها لم تكن ذاهبة إلى بوعز نفسه. فحتى الكنيسة قد تأخذنا منه. ومتى كانت هذه هي الحالة فإن بوعز لا يستطيع أن يعطي راعوث أكثر من ستة من الشعير.


فجاءت إلى حماتها. فقالت من أنتِ يا بنتي؟ فأخبرتها بكل ما فعل لها الرجل. وقالت هذه الستة من الشعير أعطاني لأنه قال لا تجيئي فارغة إلى حماتك (ع16،17)

لقد رجعت راعوث بأخبار سارة إلى حماتها، محملة بخير وفير برهاناً على إحسان ولطف بوعز ولكنها لم تحصل على الراحة التي لأجلها ذهبت إلى بوعز، بل إنها لم تكن تعلم متى، وبواسطة من ستحصل على هذه الراحة، مع أن بوعز أبدى سروره التام في أن يعطيها هو هذه الراحة.

وما أجمل كلمات نعمي وهي تسألها «من أنتِ يا بنتي؟» فقد تغيرت راعوث. إن راعوث التي تقف أمامها الآن ليست هي راعوث التي تركتها الليلة الماضية ونزلت إلى البيدر. فنحن لا يمكن أن نكون مع الرب ونبقى على ما نحن عليه، بل متى نكون في محضره فلابد أن نتغير إلى صورته. لكنني لا أظن أن هذا ما كانت تقصده نعمي. فهي تعلم أن بوعز وليّ، وهي قد أرسلت إليه راعوث حتى تجد راحة، وهي تعلم ماذا يفعل الوليّ الأمين، فرأت في راعوث العروس المختارة لبوعز. لذلك فسؤالها يعني "هل أصبحتِ يا بنتي واحداً مع بوعز؟ وهل وجدتِ راحة بجواره؟".

إنه سؤال فاحص للضمير والقلب في راعوث، فمن كانت، وبماذا تجيب على سؤال حماتها؟ عند نفسها كانت لا تزال الأرملة المسكينة الفقيرة، وإن كان لديها شيئاً حسناً للتكلم به فهو كله من عند بوعز. وهكذا تتحول أفكارها مرة أخرى عن ذاتها وتتجه نحو بوعز، فتذكرت صلاحه وقوته، كلماته ووعوده. واستطاعت أن تُري حماتها هذه الستة من الشعير، فقد كان هذا بعضاً من غناه، وكان لنعمي أن تشارك راعوث فيما حصلته منه.

فهمت نعمي الموقف، فقد أصغت إلى كنتها وما قالت، وفهمت أيضاً ما لم تقله راعوث. لقد رأت أن ما أتت به كان ستة من الشعير وليس سبعة. إذاً لم تنل راعوث بعد الراحة المنشودة. وقد فهمت حماتها بحنكتها لماذا. فكل مسيحي لابد وأن يكون قد فهم اختبارياً صراع رومية 7. ومع ذلك، فمهما كانت خيبة الأمل عند نعمي فقد وجدت عزائها في أنها رأت تقدير بوعز لثقة راعوث التي وضعتها فيه. حتى ولو كانت ضعيفة وغير صائبة الاتجاه نحوه.

من المؤكد أن الرب يلاحظ كل التطلعات الروحية، حتى ولو كانت من أضعف مؤمن، وهو يقدرها كثيراً عندما يكون لسان حال صاحبها «فإني أسر بناموس الله في الإنسان الباطن» (رو 22:7). ويزداد تقديره لها عندما تتجه تطلعاتها إلى شخصه بإخلاص. فمتى أظهرنا مثل هذه الرغبة فإنه لابد أن يعطينا البرهان المؤكد على اهتمامه بنا، وأنه لابد أن يتداخل بنفسه في هذه المشكلة. علمت نعمي لماذا فشلت راعوث. كما أن راعوث نفسها فهمت بصورة أفضل وعرفت أكثر عن بوعز، حتى أنها الآن تذكرت ما صنعه معها. لذلك فإن نعمي الآن تستطيع بلا خوف أن تقول كيف أنه ما زال في الإمكان أن يتحول كل ما حدث للخير لها...


فقالت اجلسي يا بنتي حتى تعلمي كيف يقع الأمر. لأن الرجل لا يهدأ حتى يتمم الأمر اليوم ( ع 18).

نعم اجلسي واهدئي. يا لها من نصيحة طيبة لهؤلاء الذين لهم حياة من الله، ولكن لم يجدوا الراحة بعد لنفوسهم. الذين ما زالوا يجتهدون وقد تزعزع الأمل عندهم في أن يجدوا هذه الراحة بجهودهم الذاتية. ونحن نعرف من التجربة كيف أننا كثيراً ما نتفكر في عدم طهارتنا، وفي عجزنا تجاه حالتنا، وما نشعر به من عار. وكم مرة حاولنا أن نقوِّم طرقنا وحياتنا. ولكن سر النعمة العظيم هو في أن ولينا وفادينا قد جعل من قضيتنا هذه قضيته هو، ونحن متى اكتشفنا هذا فلابد أن نصمت ونهدأ، ثم نتحول عن أنفسنا وننشغل به وحده. هذا ما يجب علينا أن نفعله، أن نقف صامتين لننظر خلاص الرب (خر 13:14) تماماً كما فعل يهوشع في زكريا 3. يجب علينا أن ندع الرب هو الذي يرد على المشتكين علينا، كما فعلت المرأة في يوحنا 8. إن الابن الضال ظل يتفكر في نفسه بينما كان راجعاً إلى بيت أبيه. وقد نتفكر نحن في أنفسنا وحالتنا بينما نحن راجعين إلى الآب. ولكن ما أن ندخل بيته، ونرى مدى اهتمامه بأن يباركنا فلابد أن نتوقف عن ذلك. بل نهدأ ونقف لننظر ما أعده هو لنا(لو 22:15-24).

وهناك وجه آخر لهذه الحقيقة على جانب كبير من الأهمية. فما أن أخذ بوعز على عاتقه شخصياً مشكلة راعوث حتى أصبح الأمر لا يحتمل أن يهدأ هو حتى يتمم الأمر كله. وفي النهاية ماذا كانت تستطيع راعوث أن تفعل؟ لم يكن في إمكانها أن تعمل شيئاً سوى أن تزيد المشكلة تعقيداً، وهكذا معنا أيضاً. فالرب لن يهدأ حتى ننال نحن الراحة فيه في محضر الله. ولكن يجب أن يتمم كل شيء بالطريقة التي تجعل الفضل يعود إليه وحده.

فإن كنا نحبه فإنه على استعداد لأن يفعل لنا كل ما تشتهيه قلوبنا. لماذا؟ لذات السبب الذي لأجله كان بوعز مستعداً لأن يفعل كل ما تطلبه راعوث. فهو قد أحب راعوث، وكان هذا هو الدافع وراء كل ما فعله لأجلها. والآن، لقد «أحب المسيح الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة. لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن ولا شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 25:5-27).

  • عدد الزيارات: 27161