الإصحاح الرابع والعشرون: تابع جواب أيوب لأليفاز - هروبهم إلى الهاوية
(ع18-21) هروبهم إلى الهاوية.
وكيف ينتهي مسلك الأشرار هذا؟ هل يتدخل الله ويجعل منهم مثلاً؟ ليس دائماً. فإنهم على العكس يجتازون خفافاً كغدير هادئ، يتركون ميراثهم هدفاً للعنات الناس بدلاً من أن ينالوا هم النقمة الخليقة بهم كما يقول المثل "خدعوا المقصلة"، وفاعلوا الإثم انصرفوا عن كروبهم حيث كان يمكن أن ينالوا استحقاقهم. وكما أن القحط والقيظ يجففان مياه الثلج. كذا الهاوية تجعل الأشرار يختفون فجأة عن الأنظار يعبرون، منسيين من الأمهات، ليكونوا مأكلاً للدود، تلك هي عقبى الظالم الشرير. والإطار العام لفكرة أيوب في هذا الجزء من رده أنه في هذه الحياة، وحتى إلى النهاية، يفلت الناس من العقوبات التي يستحقونها. وهو لا يرفع الستار الذي يخفي المستقبل الرهيب. لأن الهدف الذي يرمي إليه هو الرد على خصومات أصحابه، وأنه ليرد عليهم بإقناع.
ويستمر أيوب واصفاً هذه الصورة المريعة حتى آخر الإصحاح، مبيناً فيها ما يشعر به الأشرار من تعاسة داخلية وشعور بالإثم والذنب لأن هذا هو فعل الله العجيب في أعماق الإنسان. لما خلق الإنسان أولاً لم يكن يعرف شيئاً عن الخير والشر. ولم يعرف الفرق بينهما، لأنه لم يوجد بعد أثر للشر. وقد خلق آدم خالياً من الشر خلواً تاماً. نعم، لك يكن في الإنسان أي شر عندما خرج من بين يدي الله الخالق، ولكن بمجرد أن سقط في الخطية حصل على قوة للتمييز بين الخير والشر. ذلك هو الضمير فلم تكن هناك حاجة للضمير للتمييز بين الخير والشر عندما لم يكن هناك شيء سوى الخير ولكن إذ سقط الإنسان بدأ يميز بين ما هو خير وما هو شر.
ذلك ما يفعله الله بصورة كاملة. أما الإنسان بصورة تعسة شقية ذلك لسبب علمه بالشر في داخله أصبحت له القدرة والاستطاعة على تمييز نفس هذا الشر خارجاً عنه والحكم عليه، ولكن ذلك لا يقدم الإنسان أو يفيده شيئاً، فعندما يكون الإنسان غير متجدد يستمر عائشاً في هذا النوع من التعاسة وكل ما يفيده من خاصية التمييز بين الخير والشر هو أنه يعتبر بعض الناس أشراراً مثله أو أردأ منه ويلتمس لنفسه الأعذار على هذا الأساس، وهكذا يستمر عائشاً في الخطية. ولكن عندما يتجدد الإنسان يتحول الضمير إلى نفسه، وهذا هو السبب في أن التوبة مقترنة اقتراناً كاملاً ومنذ البداءة بحياة المؤمن المسيحي. فالإيمان المسيحي والتوبة صنوان متلازمان، وقبولنا المسيح يجعلنا نحكم على ذواتنا بدلاً من الحكم على الآخرين والتماس المعاذير لأنفسنا.
نرى هذا في العشّار المسكين. فعندما كان الفرّيسي يقول "اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس. أنا رجل أفضل من غيري لا اسكر ولا احلف ولا اذهب إلى أماكن القمار أو إلى أي مكان آخر من هذا النوع. كلا، أنا رجل طيب. وأحسن كثيراً من الناس الآخرين". بينما الفرّيسي كان يقول ما معناه ذلك كان العشّار المسكين الذي كان الله قد تكلم إلى نفسه يقول من أعماق قلبه التائب "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" ونلاحظ أنه لا يقول اللهم ارحمني أنا خاطئ بل أنا الخاطئ، وكأنه لا يوجد في العالم خاطئ سواه. إن الإنسان لا يمكنه إلا أن يتأثر بما في هذا التعبير من جمال رائع "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" وكأنه يقول: إن كان في العالم خاطئ واحد فأنا هو هذا الخاطئ أنا اعرف خطاياي وهي من الفظاعة والكثرة بحيث لا تترك لي مجالاً للتفكير في الآخرين - اللهم ارحمني أنا الخاطئ – أنا وليس غيري. هذا الإنسان نراه مبرراً دون ذاك. ذلك ليس ما يسمى "التبرير بالإيمان" ولكنه كان الشيء الصحيح الذي يتم دائماً في النفس المتجددة، وهو الحكم على الذات وإدانتها أمام الله. والذي ينتج ذلك هو نور المسيح الذي يشرق في القلب بطريقة إلهية عجيبة ولذلك فإنه له المجد وقد أكمل العمل الكفاري على الصليب قد ارتفع ليعطي التوبة ومغفرة الخطايا لكل من يؤمن به ويتطلع إليه.
فالتوبة عمل الهي في القلب وهي بعكس الضمير الشرير، وقد لازمت الإيمان في كل دور من أدواره. ومعناها تصحيح الضمير لدى الإنسان بحيث يصبح الأداة للحكم على الذات وهذا كان شأن الضمير مع جميع رجال الإيمان حتى قبل مجيء المسيح. صحيح أنهم لم يعرفوا ذلك تماماً قبل عمل المسيح على الصليب، ولكنهم كانوا يتطلعون إلى المسيح وعمله الموعود، وكان لدى البعض منهم الرجاء اليقيني بأن الرب يسوع سيرفع خطاياهم وإن كانوا لا يعرفون كيف سيرفعها.
أما الآن فإن الإنجيل هو إعلان الله الكامل عن كيفية رفع الخطايا وغفرانها وتفسير ذلك إلهياً واضحاً.. "دم المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" ونحن يسعدنا أن نعرف أن دم ابنه يطهرنا من كل خطية "كل خطية" فإذا لم تكن خطايانا كلها قد محيت، فجميع الخطايا قد محيت. فالعمل كله عمل المسيح، والمسيح لا يعمل شيئاً ناقصاً كما يعمل الإنسان. كلا، إنه عمل كامل. فهنا إذاً أيوب يتطلع إلى مجرد حالة الأشرار المريعة، ذوي الضمائر الرديئة، وكيف أنهم يذهبون إلى الموت حيث يجد الدود وليمته الكبرى. هذا هو كل ما يقوله. وإذا كان الأشرار يرتفعون في الحياة الدنيا فذلك لكي ينخفضوا أكثر من الحياة الأخرى.
- عدد الزيارات: 13615