مقدمة
إذا أخذنا سفر أيوب بصورة عامة فإننا نستطيع أن نقول بأن محاورات أصدقاء أيوب له، تظهر لنا قصور الفكر عن إدراك حكمة الله في معاملاته في هذا الوجود. ويكفي أن نستمع إلى صوت الله لهم "من ذا يعوَّج القضاء بلا فهم؟" وإني اعتقد أن هذا ما يقوله الله لفلاسفة اليوم. من ذا يزيد القضاء الإلهي غموضاً بكلمات كثيرة لا طائل تحتها؟.
وقد يكون أولئك مخلصين، ولكن دائرة الاختبار البشري أوسع من أن تخضع لجولات أولئك الفلاسفة أو أن تحدها تعريفاتهم وأقوالهم وتكهناتهم.
وهذا لا يصدق على أيوب أيضاً. فهو لا يستطيع بنفسه أن يدرك معنى اختباره. وتكشف أحاديثه عن جهله بما اجتاز فيه، وعن قصوره عن إدراك معنى كل التجارب التي أحاطت به. وكما يقول الرب يسوع لبطرس "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد". أمر نراه في سفر أيوب بصورة عامة: إنه يصور الله جالساً على عرش الوجود متسلطاً عليه رغم ما نراه فيه من متاعب وتجارب وضيقات. وقد لا ندرك أساليب الله في معاملاته في هذا الوجود. ولكن لنثق بأنه هناك وراء كل شيء. إن الله قد لا يعلن لنا عن خططه. ولكن لنثق أن الألم والتجربة مكانهما في مخططه. لا يوجد سفر ضمن أسفار الكتاب المقدس يصور لنا سلطان الله المطلق مثل سفر أيوب.
أنه قد لا يعطينا تفسيراً شاملاً لعمل الله أو فكره، ولكنه يرينا شخصه حاضراً وعاملاً، بقوة خفية. أما الشيطان عدو الله فإنه يحاول أن يظهر لله أن خلق الإنسان لم يكن عملاً صائباً وأن الإنسان يتقي الله،_ ويعبده للمنفعة، إما طمعاً في خير أو دفعاً لضرر. إن الشيطان يكذب ويحاول أن يؤكد كذبته بكذبة أخرى.
والخلاصة نجد في سفر أيوب إنساناً يجرد إلى العرى من ذاتيته، ومن مقومات وجوده المادي، أي من كل الثياب التي تكسو نفسيته ومن كل ما يعتمد عليه الإنسان في رحلة الحياة، من الملكية، والأبناء، والصحة، وعطف الأصدقاء، ومن شعوره بكرامته، ويقينه بعدالة الله. نرى إنساناً في أقصى درجات الوحشة يتصاعد الأنين من قلبه، وتفيض منه كلمات الحكمة الحزينة.
وإذ نصغي إلى أحاديث أيوب، يأخذنا منطقه بالروعة والجلال، بالقياس إلى فلسفة أصدقائه. ولكننا نكتشف أكثر من هذا. فبين الحين والحين تتصاعد صرخة من أعماقه – صرخة احتياج وتساؤل. أو تحدي. وحين نحصر أنفسنا في دائرته لا نجد جواباً واحداً منها. جميل ورائع أن نصغي إلى صرخاته ونحلل من خلالها نفسيته. جميلٌ أن نرى حاجة البشرية في حاجته. وأنين البشرية في أنينه.
سوف نرى في هذا الجزء الثاني فشل أصحاب أيوب الثلاثة تمام الفشل في معالجته لان خدمتهم كانت ذات وجه واحد، فقد سلّطوا عليه كمية كبيرة من الحق ولكن بدون نعمة. يكفي أن نورد مثالاً واحداً لتوضيح اتجاه أقوالهم جميعاً. "كيف يبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة؟ هو ذا نفس القمر لا يضيء والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمّة وابن آدم الدود" (ص25: 4-6). هذه الأسئلة سألها بلدد ومثلها أصحابه ولكنهم لم يستطيعوا أن يجيبوا عليها. فقد استطاعوا أن يجرحوا، ولكن لم يمكنهم أن يضمدوا، لذلك نرى أيوب من حين إلى آخر ينطق من مرارة نفسه قائلاً: "صحيح إنكم شهب ومعكم تموت الحكمة" "أطباء بطّالون كلكم" " معزون متعبون كلكم" "حتى متى تعذّبون نفسي" "تراءفوا تراءفوا أنتم عليّ يا أصحابي" "كيف اعنت من لا قوة له. وخلّصت ذراعاً لا عزّ لها. كيف أشرت على من لا حكمة له".
هذه هي الكلمات التي فاضت بها نفس أيوب تحت تأثير خدمة أصحابه ذات الوجه الواحد. ومع أنهم كانوا بلا شك مخلصين النية، إلا أنه فاتهم أمر مهم هو وحده الذي كان يؤهلهم لمعالجة حالته، فكانت تعوزهم النعمة. ولذلك لم يستطيعوا أن يخبروا أيوب أين يجد من يبحث عنه، لم يستطيعوا أن يعينوا من لا قوة له، ولا أن يشيروا على من لا حكمة لديه، ولا أن يعصّبوا الجريح، ولا أن يعالجوا المريض. فلهجتهم كانت ناموسية قاسية. وأمثال هؤلاء لا يصلحون لمعالجة الخاطئ الأثيم المسكين، لأنهم يطلبون أن يقف الإنسان أمامهم كاملاً بلا عيب ولا جرح ولا وجع.
فإن وجدوا هناك جرحاً فحينئذ ينظرون إليه بكل حدّة، سائلين عن سبب ذلك الجرح. حقاً إنهم أطباء بطّالون. وإن وجدوا مصاباً فحينئذ يسالون بكل قساوة عن سبب ذلك المصاب. حقاً إنهم معزّون متعبون.
لذلك من الطبيعي أن هؤلاء الأصحاب لا يصلون إلى التفاهم مع أيوب، فكانوا يتكلمون معه على أساس غير صحيح، وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا أن يوصلوه إلى الأساس الصحيح لمجاوبتهم، فهو كان يبرر نفسه، وهذه غلطته، وهم كانوا يدينونه، وذلك نقصهم.
وهنا برز أليهو، لأنه الرجل الكفء لهذا الموقف. برز ومعه العلاج الذي يحتاجه أيوب ولم يستطع أصحابه أن يقدموه له. فقد كان الرجل الذي يتطلبه أيوب ويتمنى أن يقف أمامه. وها قد وقف أمامه شخص مثل آليهو الذي يرمز لربنا المبارك، "لأن الناموس بموسى أعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يوحنا 1: 17). وفي هذه الكلمات يظهر بهاء مجد الرب يسوع المسيح الأدبي ومجد خدمته. فقد أتى بالحق لإظهار حقيقة حال الإنسان، وبالنعمة لمعالجة تلك الحالة التي أظهرها الحق.
لمّا أتم أيوب أقواله، وكفّ أصحابه الثلاثة عن مجاوبته، أو بعبارة أخرى لمّا عاد كلا الفريقين إلى حيث ابتدأا، حمّى غضب آليهو بن برخئيل البوزى من عشيرة رام. على أيوب حمّى غضبه لأنهم لم يجدوا جواباً واستذنبوا أيوب".
أيها القارئ العزيز إني أرجوك أن تلاحظ هذا الأمر، إن استقامة الإنسان هي في أن يعترف بأنه قد اخطأ، فهذا المبدأ بسيط، ولكن مع بساطته ما أصعب وصول النفس إليه. فأيوب لم يصل إليه إلا بعد المشقة، فكم أدلى من الحجج، وكم جادل في الأقوال، وكم عدد في صلاحه ومناقبه، وكم أشار إلى شرفه ومركزه، وهكذا بعد صعوبة كبرى وصل إلى نهاية نفسه، ونطق بكلمات الاستقامة الصحيحة قائلاً: أنا مذنب وعلى ذلك فإن الأساس المستقيم الوحيد الذي يجب أن يقف عليه الخاطئ هو أساس الاعتراف بخرابه التام. وتتلخص حالة الإنسان وأخلاقه في قوله "أنا مذنب" و "أخطأت" فالقول الأول يبين شخصيته، والثاني يبين أعماله، وهذان القولان هما عنوان النفس المستقيمة "هوذا منتفخة غير مستقيمة نفسه فيه.والبار بإيمانه يحيا"(حبقوق 2: 4).
وإذ نقّلب صفحات الأسفار المقدسة لنصل إلى كتابات العهد الجديد، نرى عظيماً بين البشر مع أنه لا يملك مالاً. هو الرب يسوع، قطع رحلة الحياة مجرّداً من كل شيء يعتمد عليه البشر. ولكننا ما أن نسير برفقته قليلاً، حتى نكتشف فيه جواباً لكل سؤال تقدم به أيوب، وسداً لكل حاجة لم يقدمها له إنسان.
حول صرخات أيوب. حول أسئلة أيوب. حول الأنّات المتصاعدة من قلب أيوب، ثم الإجابات التي يتقدم بها الرب يسوع إليه، نستكمل دراستنا في الجزء الثاني من سفر أيوب.
القاهرة في يناير 1999
لويس صليب
- عدد الزيارات: 4039