خاتمة
في خاتمة هذا التفسير لسفر أيوب نعود إلى كلمة نطق بها أيوب في جولته الثانية مع أصدقائه. "لأنه يعرف طريقي. إذا جربني أخرج كالذهب" (أيوب 23: 10).
وصرخة أيوب هذه تدور حول مركزين : الله وأيوب وسفر أيوب كما نعلم يضم شخصيات أخرى. فهناك الشيطان وهناك أصدقاء أيوب الثلاثة. وهناك الشاب المدعو أليهو الذي يظهر في النهاية. ولكن هذه الصرخة تدور حول الله وأيوب فقط.
إنها صرخة تنبع من أعماق مشاعره، وتعلن عن أحاسيسه في صلته بالله، في تأمل سابق نستمع إلى أيوب في جوابه على أليفاز يفقد إحساسه بكيانه. بذاتيته، ويقول "هوذا أنا حقير" وهنا تصدر عنه هذه الصرخة التي تدل على الثقة بالله، والإيمان بقيمة النفس.
وهنا يلتقي نوران. نور يسطع فيظهر حقيقة الله، ونور يضيء حقيقة النفس. والنوران متآزران كل يؤيد الآخر. وياله من إعلان عظيم لإنسان مجرد من كل شيء يجلس وسط حطام حياته وممتلكاته وكيانه وتقدير الآخرين له. إنه يحس في نفسه أنه أبعد ما يكون عن الاتصال بخالق الأرض والسماء. نعم إنه يطلب أن يصل إلى محكمة الله، وأن يستمع القدير إلى شكواه وأن يعلن براءته أمام متهميه، وأن يُخرس ألسنة مقاوميه الهازئين به، ولكن هيهات.
وفي الكلمات "لأنه يعرف طريقي" نلمس اقتناع أيوب بالطريق الذي يسلكه. أو بمعنى آخر أن أيوب يقصد هنا ليس طريقاً يعبره، بل قوة وطاقة كامنة في أعماقه. فالمقصود إذاً أن الله يعرف أعماق الإنسان ويدرك خفايا نفسه.
وهذا ما قصده أيوب في قوله "إنه يعرف طريقي" أي أنه يعرف معنى وجودي، وهدفي، ومقدرتي. ثم يضيف القول "إذا جربني أخرج كالذهب".
وأعجب ما في هذا الإقرار، ذلك الإعلان الذي يكشف عن عمل الله فيه. أو عن الدور الذي يقوم به القدير معه. وكأنه يقول: أنا لا أعرف شيئاً. أقر بجهلي أمامه، فلا معرفة لي بكياني ولا إدراك لي بالطاقة الكامنة التي توصلني لهدفي ولكن ما لا أدركه أنا، الله يعرفه ويدركه تماماً.
ونحن نرى سيدنا يقول إمام بيلاطس:
"لهذا قد ولدت أنا، ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق".
وكأن بالسيد يستعرض في هذه الساعة، اللحظة التي ولد فيها ويربط بينها وبين هدف ومبدأ سيتم فيما بعد. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا على الدوام هو: "هل حياتنا تطابق الغاية التي من أجلها وجدنا؟" والجواب "من ذواتنا لا نستطيع لأننا لا نعرف شيئاً". ينبغي إذاً أن نسلم للرب طريقنا، فهو وحده الذي يعرف، ونترك له المجال في قيادتنا، والعمل فينا، فهو القادر أن يتمم قصده الأول، لأنه هو يعرف ذلك.
وإذا رجعنا إلى العهد الجديد نجد كل تعاليم الرب يسوع المسيح والرسل، تؤكد الاختبارات التي وصل أيوب إلى تحقيقها. وها نحن نقتبس آية من رسالة يعقوب وهذه الرسالة كتبت خصيصاً لجماعة كانت لها تجاربها المتنوعة وفي هذه الآية نجد رد الرب يسوع المسيح على أيوب "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة. لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة". هذه الآية تفسرها بنود الرسالة بأكملها حيث أن الكاتب يصور الله مشرفاً على عملية التنقية لقصد ثابت مجيد هو التزكية، حتى ينال من تزكى أي تنقّى، إكليل الحياة.
علينا ألا نخشى عملية التزكية، لن الرسول بولس يقول: "لم تصبكم تجربة إلا بشرية. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل أيضاً مع التجربة المنفذ" (1 كور 10: 13).
يقول الرسول يعقوب "قد سمعتم بصبر أيوب" (يعقوب 5: 11) هذه الإشارة إلى أيوب تستحق التأمل. وكلمة صبر هنا لا تعطي المعنى الكامل. فهي في الأصل "ثبات". إن أيوب لم يكن صابراً بمفهوم كلمة الصبر. فأحاديثه كلها تفيض بالشكوى والأنين لكنه ثبت في التجربة. ينبغي أن يكون للإنسان الصبر، مع الثبات. الصبر أو طول الأناة في احتمال المشقات، وعدم التزعزع.
ونستمع إلى صرخة أيوب، ولعله انكفأ على وجهه أمام القدير، هاتفاً:
"بسمع الإذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني" "لأجل ذلك ارفض واندم في التراب والرماد" لقد أشرقت على أيوب رؤيا جديدة أظهرت له مدى عجزه.
أن كل ما وصل إليه فكره عن معرفته بالله، وما نلمسه في حواره مع أصحابه، لم يصل بعد إلى كمال الفهم. ولكن ها هو الآن قد رأى الله. ورؤيا القدير قد وصلت به إلى نتيجتين قاطعتين:
(1) "قد علمت أنك تستطيع كل شيء".
(2) "ولا يعسر عليك أمر".
نعم وما دام الله يستطيع كل شيء، ولا قوة في الوجود تقف في وجهه، فمخطط الشيطان من نحو أيوب، لا بد وان مصيره الفشل. وقصد الله هو للخير لابد وأن ينتصر في النهاية.
هذه الرؤيا الجديدة للقدير قد كشفت له عن رؤيا جديدة لنفسه. يقول أيوب "لذلك ارفض...." ماذا تعني هذه الكلمة؟ في الترجمة الإنكليزية وردت بمعنى "احتقر نفسي" بينما في الهامش "احتقر كلماتي" ولكننا نقول أن ترجمتنا العربية التي نتداولها حتى الآن أكثر دقة فلا توجد كلمة "نفسي" في الأصل العبري، ولا توجد "كلمتي" كما لا توجد كلمة "احتقر". إن الكلمة في الأصل العبري تعني حرفياً "اختفي". اسحب نفسي واختفي. هنا نرى أيوب ينكمش إلى حد ابعد مما قاله عن نفسه سابقاً "هوذا أنا حقير" إنه يقول هنا: إنني أتلاشى نهائياً. امسح نفسي من الوجود. اخلي نفسي من المركز الذي اتخذته سابقاً، ومن المكانة التي ظننت نفسي فيها. ثم يقول "واندم في التراب والرماد" وكلمة "اندم" تعني الحزن العميق والانكسار.
وهكذا نستمع هنا إلى لغة الخضوع، بعد لغة الاعتراض الأولي والشعور بالذات. هنا نرى خضوعاً كاملاً لإرادة الله، ومخططه في حياته. ونرى أيضاً عظمة نفس أيوب.
هنا يصل الإنسان إلى أسمى حالته الروحية، حينما يرى نفسه صفراً في الوجود، ويسلم ذاته بين يدي الرب يسوع فيصبح الله هو الكل في الكل بالنسبة له.
وهكذا نرى أن جوهر رسالة الرب يسوع هو الإقرار بسلطان الله في الحياة، وما ينجم عن هذا القرار من خضوع وتسليم. إن طريق الدخول إلى ذلك الاختبار الفريد هو التوبة، والتوبة بهذا المعنى تتضمن كل ما قاله أيوب أي تلاشي النفس في محضر الشعور بسلطان الله ووجود الله. هذا هو نفس المعنى الذي ردده الرسول بولس في قوله "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني واسلم نفسه لأجلي" (غلا2: 20).
إنه يعلن لنا بأن المسيح قد اشتراه للوضع الذي وصل إليه أيوب لا "أنا" أي تذوب "أنا" وتتلاشى ويحيا هو فيّ، المسيح ولا سواه وهكذا نرى الفارق الواحد بين بولس وأيوب. إن بولس وصل إلى المستوى الايجابي بينما أيوب توقف عند الجانب السلبي منتظراً مزيداً من النور. أن لله طرقه العديدة التي يدخل بها إلى أعماق مشاعر النفس. ولقد رأينا ما عمله مع أيوب. وربما استخدم طرقاً أخرى مع أناس آخرين لكن الحصيلة واحدة.
فحينما تشرق رؤيا الله على الإنسان ويأتي وجهاً لوجه أمامه فإنه يقول: ارفض، أتلاشى، لا أوجد، لا "أنا" وعندما يصل إلى هذا الحد يأتي الله ليرفعه إلى ملئ الحياة والبركة واختبارات النعمة.
وللرب كل المجد. آمين.
- عدد الزيارات: 4737