الإصحاح الرابع والعشرون: تابع جواب أيوب لأليفاز
يمكن تقسيم هذا الإصحاح إلى أربعة أجزاء:
(ع1-12) عدم نجاح سياسة الله الواضح.
(ع13-17) وصف الأشرار.
(ع18-21) هروبهم إلى الهاوية.
(ع22-25) الله حاميهم بحسب الظاهر.
(ع1-12) عدم نجاح سياسة الله الواضح.
هذا الإصحاح هو ختام جواب أيوب على أليفاز. وهو يؤكد جلياً أن الأمور في الوقت الحاضر تسير سيراً شاذاً، وأن ظروف الإنسان التي يجتاز فيها من خير أو شر، سعة أو ضيق، لا تدل على فكر الله وشعوره نحو ذلك الإنسان، فالأبرار هم الذين يصابون بالتجارب أكثر جداً من الأشرار ولا يرجع ذلك إلى خطأ فيهم، بل على العكس، فإن الله يضعهم في الامتحان لكي يظهر أنهم خاصته، وعلى ذلك فإن خضوع القلب هو المطلوب منا تحت التجربة مع الثقة الكاملة في الله. زد على ذلك أن لنا نحن قديسي العهد الجديد امتيازاً لم يكن لقديسي العهد القديم وما كان ممكناً أن يكون لهم قبل مجيء المسيح، وذلك الامتياز ليس فقط إتمام عمل المسيح بل إشراق نور المسيح كاملاً. ذلك النور الكامل لم يكن قد ظهر بعد، ومع أن ذلك كان قبل الناموس فإننا نرى بوضوح أنه كان هناك نور كافٍ لإرشاد الذين كانوا يتطلعون إلى الله، وأنه كان هناك ظلام. ولا شك، كما في الوقت الحاضر للذين لم يكن لهم إيمان بالله. وعلى ذلك فالدرس العظيم الذي ينطوي عليه سفر أيوب هو وجود فارق بين المؤمنين أنفسهم، وبسبب هذا الفارق. فكان هناك فارق عظيم بين أيوب وأصحابه الثلاثة. فمهما كانت أخطاء أيوب، ومهما كان هياجه لاتهام أصحابه إياه بأنه مرائي (ونحن إذا كنا قد اختبرنا شيئاً من هذا القبيل في حياتنا لاستطعنا تقدير ما يحدثه من مرارة). فإنه لا يوجد أصعب ولا أمرّ على النفس من الضربة التي تأتي من أولئك الذين يزعمون بأنهم يحبوننا.
إن الشيطان لا يعمل شيئاً قط للخير، بل دائماً للشر، ولكن الشيطان فشل فشلاً ذريعاً في هذه الحالة، والله هو الذي عمل، وقد عمل بصفة خاصة بواسطة عدم أمانة أصحاب أيوب الثلاثة وعدم روحانيتهم. هذا هو المغزى العظيم من السفر. فعندئذ، بدأ أيوب يلعن يومه. وليس قبل ذلك قط. فكل شيء جاء من الشيطان، مهما كان، احتمله أيوب بصبر وشجاعة وكل ثقة في الله. ولكن عندما بدأ الأصحاب الثلاثة يومئون إلى شر دفين والى خبث مستور، والى رياء ومكر، كان ذلك أكثر مما يستطيع أيوب احتماله. فانفجر متفوهاً بأقوال كثيرة غير لائقة. ولكن الله تسامح في هذا كله لأن أيوب في قرارة نفسه، وكان متمسكاً بالله، ومهما كانت الكوارث التي حلّت أو تحل به فقد تقبّل كل شيء من يد الله. صحيح أنه لم يستطع أن يفهم السبب ولكنه رغم كل ذلك ظل متمسكاً بالله. والآن يستعرض القضية هو بنفسه "لماذا إذاً لم تختبئ الأزمنة من القدير لا يرى عارفوه يومه؟" أي أن هناك أزمنة شر فكيف يحدث أن الله وهو حاكم أدبي ويلاحظ كل الشرور حتى أقوال الناس (لأن الأقوال تعبّر عن أسرار القلوب). كيف يحدث أنه يسمح بالشر ولا يكون هناك يوم للمجازاة في الوقت الحاضر؟ ونحن نستطيع أن نجيب على ذلك أن الأمر كله محفوظ للمسيح "فالآب لا يدين أحداً" ذلك ما لا يفعله الآب. إنه يبيّن المحبة لأنه آب. وهو يبين المحبة لأن الله محبة كما هو نور أيضاً. ولذلك فإن أمر الدينونة محفوظ للمسيح والسبب واضح أن المسيح هو الذي بدون أدنى سبب أبغضوه هو والآب ولذلك فقد أصبح محفوظ للرب يسوع المسيح أن يجري الدينونة فكل الدينونة قد سلمت للابن، لأنه ابن الإنسان، وكابن الإنسان ابغضه الناس، أنكروا لاهوته واعتبروه رفيقاً للأشرار. اعتبروه سامرياً وليس سامرياً فقط بل وبه شيطان. فلم يكن هناك ما هو أردأ من ذلك ليقوله الناس عن الرب يسوع ويشعروا به إزاءه.
هناك نواحي أخرى يتجلى فيها اختلاف الناس عن ربنا يسوع المسيح، وأنه لا علم لهم بالله أطلاقاً. ولكن الرب هو الديان المعصوم وهو الذي سيدين الناس بالعدل. وكل ما يخالف أفكار الله وطبيعته سيلقى جزاءه العادل الخطير من ذلك الديّان البار يوماً من الأيام. ولأن الناس لم يروا الله فيه، بل مجرد إنسان فهو لذلك كانسان سيكون الناس أجمعين، كما هو مكتوب إن كل الدينونة قد أعطيت للابن لأنه ابن الإنسان (يوحنا 5: 27). أما الآن فإن أيوب يصف الأمور الشاذة السائرة في الوقت الحاضر فيقول "ينقلون التخوم" وهذا أمر شائع ملموس في كل مكان وزمان. يستولي الناس خلسة على ما ليس لهم في ميدان من ميادين الحياة. وكم من مظالم في العالم، وكم من أملاك اغتصبها الأقوياء ووضعوا عليها أيديهم رغم أنف الضعفاء بل رغم أنف القانون نفسه.
وليس الأمر قاصراً على اغتصاب الأراضي والممتلكات بل الخبث والاختلاس والشر الذي نراه سائداً في كل ناحية من نواحي الحياة. غير أن أيوب يشير بصفة خاصة إلى الأمر الأول وهو اختلاس الأراضي عن طريق نقل التخوم وهي حيلة قديمة يلجأ إليها الناس الأشرار، لاسيما الملاك، وخاصة الأقوياء وأصحاب الجاه والنفوذ منهم، فهم يملكون أرضاً تكون لهم الفرصة أن يزحزحوا التخوم قليلاً قليلاً وبذلك يسرقون أرض الآخرين شيئاً فشيئاً. وهذا ما يفعله ليس الناس العاديين فقط بل ما يفعله الملوك أيضاً وسائر الحكام الاستعماريون فهم يرون أرضاً جميلة خارج حدود بلادهم تصلح لأن تزيد من روعة إمبراطوريتهم فرويداً رويداً يسرقونها أو يثيرون حرباً ويغتصبونها بقوة السلاح. هذا ما يحدث في أيامنا وهو عين ما كان يحدث في أيام أيوب، وفي كل عصر وجيل. وأيوب يصور الأمور كما هي حادثة حوله "يغتصبون قطيعاً ويرعونه، يستاقون حمار اليتامى ويرتهنون ثور الأرملة. يصدون الفقراء عن الطريق" أولئك هم الذين ندعوهم "الوجهاء" في المجتمع الذين يمتلكون القطعان والمواشي ولكنهم يطلبون المزيد "مساكين الأرض يختبئون جميعاً". هنا نرى طبقة أخرى هم طبقة الفقراء والمعوزين "هاهم كالفراء في القفر يخرجون إلى عملهم". هم أفراد الشعب الذين لا يملكون شيئاً. أو "العامة" الذين لا حرفة معينة لهم بل يتصيدون الأشغال هنا وهناك ويعانون كل ما يترتب على هذه الحالة الغير مستقرة من مخاطر وألم..."كالغرباء في القفر يخرجون إلى عملهم يبكرون للطعام". يبكرون قبل النور ويتصيدون العمل كما يتصيد الفراء فريسته غير المستقرة "البادية لهم خبز لأولادهم" نتأمل في هذا: رمال البرية القاحلة الجرداء. هذا هو كل شيء – ولماذا؟ لأنهم لا يملكون أرضاً خاصة بهم. "في الحقل يحصدون علفهم" علف الأغنياء. "ويعللون (أي يجنون) كرم الشرير" هنا لا يدعون أغنياء بل أشراراً. "يبيتون عراة بلا لبس، وليس لهم كسوة في البرد. يبتلون من مطر الجبال ولعدم الملجأ يعانقون الصخر" أي يحتضنون الصخور.
ثم يتحدث عن هؤلاء الأغنياء الأشرار فيقول "يخطفون اليتيم من الثرى ومن المساكين يرتهنون (أي يأخذون الرهن). عراة يذهبون بلا لبس (أي المساكين) وجائعين يحملون حزماً".
وقد جاءت هذه العبارة الأخيرة بمعنى أن الأغنياء ينتزعون الحزم من المساكين الجائعين فقد تكون هناك حزمة أو اثنتان سقطتا عفواً من الحصادين أو نسيتا في الحقل فحملهما الجائع ولكن الرجل الغني ينتزعها منه انتزاعاً. "يعصرون الزيت داخل أسوارهم". فهم يستخدمونهم بوفرة عددهم يعصرون الزيت ولكنهم لا يحصلون على نقطة منه لأنفسهم "يدوسون المعاصر ويعطشون. من الوجع أناس يئنون ونفس الجرحى تستغيث. والله لا ينتبه إلى الظلم". يتركه يسير في مجراه وكأنه لا يبالي، والسبب لأنه منتظر لذلك اليوم.
والآن ما أعجب المحبة التي تتجه في الإنجيل إلى نفس هؤلاء الأشخاص الفقراء المساكين إنه "للمساكين" نودي بالإنجيل مجدداً لله. لقد كان المساكين موضوع مشغولية الرب بصفة خاصة إنه لم يحصل شيء مثل ذلك منذ ابتداء العالم، فلم يوجد أحد قط جعل الفقراء والمساكين موضوع مشغوليته الكبرى. وذلك إلى الأبد ولكن أيوب لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك وما كان في استطاعته أن يعلم.
إن أحد أعلام الكتاب يضع ترجمة جميلة للعدد الأول هكذا "لماذا لم تُحفظ الحدود عند القدير، ولماذا لا يرى ممجدوه أيامه؟" وعندي أن هذه الترجمة تعطينا معنى أوضح مما تعطيه التراجم الأخرى، ولو أن المعنى عند كل التراجم هو هو. أن أيوب عتيد أن يتناول مسالة عدم نجاح سياسة الله في إدانة الأشرار، ويستهل كلامه متسائلاً: لماذا لا يسمح الله لقديسيه أن يروا دينونة عادلة تصيب أولئك الأشرار ولماذا لا يضع حداً لعدم تقواهم وظلمهم الشرير؟ وهاهو يحصي قدراً من تفصيلات مسلكهم الشرير الذي ينقص كل مبدأ من مبادئ الحق والصواب، فالتخوم تنقل وقطعان الجيران يسرقونها ويرعونها كما لو كانت خاصتهم، كما أن اليتامى والأرامل ضحايا طردتهم، يصدون الفقير والمعوز.
وبعد ذلك يتابع أيوب، بالفكر، هؤلاء المساكين مطرودين من بيوتهم بفعل الأشرار مطارديهم، ثم يصف صراعهم البائس للوجود في الحالة البدوية التي أُلقوا فيها(ع5-8). وفي بضع لمسات جريئة بريشة فنان يألف هذا المشهد، فنرى أيوب يصوّر هؤلاء المتألمين الذين يهلكون جوعاً، مطاردين كالبهم ليجمعوا أقصى ما في متناولهم ما يحفظون به أود أطفالهم. إنهم يطلبون عملاً حتى من مقاوميهم، ويحصدون لهم حقولهم ويعللون كرومهم. تكاد الأسمال تغطي أجسامهم، قشعريرة البرد القارس تصيبهم ولذعات سواقط المطر، وهم في سعيهم وراء مخبأ في الصخور. "مراجم الأشرار قاسية": وفي تاريخ الإنسان على مداه كم ذا تصاعد إلى الله ظلم الفقير والمعوز. بيد أن الله لا يسمع!!
ثم يتناول أيوب حالات أخرى كأمثلة على هذه القسوة فالأشرار ينتزعون اليتيم من صدر أمه، ويستغلون المساكين. فلماذا يغمرونه أصحابه بأنه على مثل هذه الخلق، بينما هم يرون بأعينهم حالات واضحة؟. فالمساكين تغتصب ملابسهم، يعملون بين الحزم والجوع يهدهم، في معاصر الزيت والكروم يحرمون المشاركة في نتاجها، هناك يتصاعد الأنين من أفواه المظلومين في المدينة، والله لا يلتفت! هي صورة واقعية أليمة، هم يألفونها، ونحن. فكيف يستطيع أليفاز أن يوفّق هذه الوقائع والحقائق مع نظريته من حيث معاقبة الشر في هذا العالم؟ ولكن كيف يستطيع الله أن يغلق عينيه دون هذه الأمور ويذل رجلاً أميناً بدلاً من فاعلي الشر أولئك؟ هذه هي مشقة أيوب الكبيرة، وليس لها حل عنده.
(ع13-17) وصف الأشرار.
"أولئك يكونون بين المتمردين على النور لا يعرفون طرقه ولا يلبثون في سبيله". وهنا يصف أيوب صنفاً من الناس أردأ مما سبق، ذلك هو الإنسان. لا فرق إن كان من طبقة عليا أو طبقة دنيا. إنسان الظلم، القاتل، الإنسان الذي خاصم السلام والذي لن يشبعه شيء سوى دم فريسته..."مع النور يقوم القاتل بقتل المسكين والفقير وفي الليل يكون كاللص" وكأنه يتخذ من ظلمة الليل ستاراً يغطي به عار فعلته إذ سرق المسكين.."وعين الزاني تلاحظ العشاء. يقول لا تراقبني عين". هذا هو الرجل الفاسد وقد رأينا قبله الرجل الظالم. فالظلم والفساد هما طابعا الشر البشري للكثيرين.
"يقول لا تراقبني عين فيجعل ستراً على وجهه. ينقبون البيوت في الظلام. في النهار يغلقون على أنفسهم (أو البيوت التي علّموها لأنفسهم في النهار، أي التي ضعوا عليها علامة في النهار لكي يسطو عليها في الليل).
إن هذه الموضوعات التي تشغل ذهن أيوب طالما كانت محل افتتان الكثيرين وها هو يواصل وصف مسلك الأشرار الذي لا تقيده قيود. هوذا أناس. يبغضون النور "لأن أعمالهم شريرة" يختارون الليل "لأعمال الظلمة غير المثمرة" أعمالهم. فالقاتل يكمن في انتظار العامل الذاهب إلى عمله مع الفجر، وفي الليل ينقلب لصاً والزاني يتربص ليفعل رجاساته "في العشاء، في مساء اليوم، في حدقة الليل والظلام" (أمثال7: 9) مثل الجوارح "في النهار يغلقون على أنفسهم" والشيء الخطير أنهم "لا يعرفون النور لأنه يكشف خزيهم وخطيئتهم "لأنه سواء عليهم الصباح وظل الموت، وإن كان أحد يعرفهم فإنهم في أهوال ظل الموت"(ع17). وهناك ترجمة أخرى لهذا العدد "أغوار الليل هي عندهم كفجر الصباح" – وهم يألفون الليل – هو نهارهم.
(ع18-21) هروبهم إلى الهاوية.
وكيف ينتهي مسلك الأشرار هذا؟ هل يتدخل الله ويجعل منهم مثلاً؟ ليس دائماً. فإنهم على العكس يجتازون خفافاً كغدير هادئ، يتركون ميراثهم هدفاً للعنات الناس بدلاً من أن ينالوا هم النقمة الخليقة بهم كما يقول المثل "خدعوا المقصلة"، وفاعلوا الإثم انصرفوا عن كروبهم حيث كان يمكن أن ينالوا استحقاقهم. وكما أن القحط والقيظ يجففان مياه الثلج. كذا الهاوية تجعل الأشرار يختفون فجأة عن الأنظار يعبرون، منسيين من الأمهات، ليكونوا مأكلاً للدود، تلك هي عقبى الظالم الشرير. والإطار العام لفكرة أيوب في هذا الجزء من رده أنه في هذه الحياة، وحتى إلى النهاية، يفلت الناس من العقوبات التي يستحقونها. وهو لا يرفع الستار الذي يخفي المستقبل الرهيب. لأن الهدف الذي يرمي إليه هو الرد على خصومات أصحابه، وأنه ليرد عليهم بإقناع.
ويستمر أيوب واصفاً هذه الصورة المريعة حتى آخر الإصحاح، مبيناً فيها ما يشعر به الأشرار من تعاسة داخلية وشعور بالإثم والذنب لأن هذا هو فعل الله العجيب في أعماق الإنسان. لما خلق الإنسان أولاً لم يكن يعرف شيئاً عن الخير والشر. ولم يعرف الفرق بينهما، لأنه لم يوجد بعد أثر للشر. وقد خلق آدم خالياً من الشر خلواً تاماً. نعم، لك يكن في الإنسان أي شر عندما خرج من بين يدي الله الخالق، ولكن بمجرد أن سقط في الخطية حصل على قوة للتمييز بين الخير والشر. ذلك هو الضمير فلم تكن هناك حاجة للضمير للتمييز بين الخير والشر عندما لم يكن هناك شيء سوى الخير ولكن إذ سقط الإنسان بدأ يميز بين ما هو خير وما هو شر.
ذلك ما يفعله الله بصورة كاملة. أما الإنسان بصورة تعسة شقية ذلك لسبب علمه بالشر في داخله أصبحت له القدرة والاستطاعة على تمييز نفس هذا الشر خارجاً عنه والحكم عليه، ولكن ذلك لا يقدم الإنسان أو يفيده شيئاً، فعندما يكون الإنسان غير متجدد يستمر عائشاً في هذا النوع من التعاسة وكل ما يفيده من خاصية التمييز بين الخير والشر هو أنه يعتبر بعض الناس أشراراً مثله أو أردأ منه ويلتمس لنفسه الأعذار على هذا الأساس، وهكذا يستمر عائشاً في الخطية. ولكن عندما يتجدد الإنسان يتحول الضمير إلى نفسه، وهذا هو السبب في أن التوبة مقترنة اقتراناً كاملاً ومنذ البداءة بحياة المؤمن المسيحي. فالإيمان المسيحي والتوبة صنوان متلازمان، وقبولنا المسيح يجعلنا نحكم على ذواتنا بدلاً من الحكم على الآخرين والتماس المعاذير لأنفسنا.
نرى هذا في العشّار المسكين. فعندما كان الفرّيسي يقول "اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس. أنا رجل أفضل من غيري لا اسكر ولا احلف ولا اذهب إلى أماكن القمار أو إلى أي مكان آخر من هذا النوع. كلا، أنا رجل طيب. وأحسن كثيراً من الناس الآخرين". بينما الفرّيسي كان يقول ما معناه ذلك كان العشّار المسكين الذي كان الله قد تكلم إلى نفسه يقول من أعماق قلبه التائب "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" ونلاحظ أنه لا يقول اللهم ارحمني أنا خاطئ بل أنا الخاطئ، وكأنه لا يوجد في العالم خاطئ سواه. إن الإنسان لا يمكنه إلا أن يتأثر بما في هذا التعبير من جمال رائع "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" وكأنه يقول: إن كان في العالم خاطئ واحد فأنا هو هذا الخاطئ أنا اعرف خطاياي وهي من الفظاعة والكثرة بحيث لا تترك لي مجالاً للتفكير في الآخرين - اللهم ارحمني أنا الخاطئ – أنا وليس غيري. هذا الإنسان نراه مبرراً دون ذاك. ذلك ليس ما يسمى "التبرير بالإيمان" ولكنه كان الشيء الصحيح الذي يتم دائماً في النفس المتجددة، وهو الحكم على الذات وإدانتها أمام الله. والذي ينتج ذلك هو نور المسيح الذي يشرق في القلب بطريقة إلهية عجيبة ولذلك فإنه له المجد وقد أكمل العمل الكفاري على الصليب قد ارتفع ليعطي التوبة ومغفرة الخطايا لكل من يؤمن به ويتطلع إليه.
فالتوبة عمل الهي في القلب وهي بعكس الضمير الشرير، وقد لازمت الإيمان في كل دور من أدواره. ومعناها تصحيح الضمير لدى الإنسان بحيث يصبح الأداة للحكم على الذات وهذا كان شأن الضمير مع جميع رجال الإيمان حتى قبل مجيء المسيح. صحيح أنهم لم يعرفوا ذلك تماماً قبل عمل المسيح على الصليب، ولكنهم كانوا يتطلعون إلى المسيح وعمله الموعود، وكان لدى البعض منهم الرجاء اليقيني بأن الرب يسوع سيرفع خطاياهم وإن كانوا لا يعرفون كيف سيرفعها.
أما الآن فإن الإنجيل هو إعلان الله الكامل عن كيفية رفع الخطايا وغفرانها وتفسير ذلك إلهياً واضحاً.. "دم المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" ونحن يسعدنا أن نعرف أن دم ابنه يطهرنا من كل خطية "كل خطية" فإذا لم تكن خطايانا كلها قد محيت، فجميع الخطايا قد محيت. فالعمل كله عمل المسيح، والمسيح لا يعمل شيئاً ناقصاً كما يعمل الإنسان. كلا، إنه عمل كامل. فهنا إذاً أيوب يتطلع إلى مجرد حالة الأشرار المريعة، ذوي الضمائر الرديئة، وكيف أنهم يذهبون إلى الموت حيث يجد الدود وليمته الكبرى. هذا هو كل ما يقوله. وإذا كان الأشرار يرتفعون في الحياة الدنيا فذلك لكي ينخفضوا أكثر من الحياة الأخرى.
(ع22-25) الله حاميهم حسب الظاهر.
يختتم أيوب بخاصية أخرى من خصائص هذا التناقض المريع. فالله يبدو كمن هو إلى جانب الأشرار، يحفظهم بقوته بينما كان يجب أن يُحطوا إلى الأرض "يمسك الأعزاء (أي يحفظهم) بقوته، مثل هؤلاء يقوم ولو أنه يائس من حياته"(ع22).
وكم ذا وجدنا الأشرار ينحطون بالمرض، ثم يقومون من القبر تقريباً. نحن نعلم أن ذلك من لطف الله لكي يقودهم إلى التوبة، لكن أيوب في أفكاره المشوهة يرى في ذلك علاقة أو دليلاً على رضا الله فإنهم يعيشون آمنين، ويبدو أن عين الله تستقر عليهم بالرضا هذا يتمشى مع مناقشة أيوب أكثر من الحقيقة الضمنية وهي أنه لو ظهر الله كمن يعولهم ويسندهم بحسب الظاهر فإن عينه على طرقهم ولا بد أن يدينهم. ذلك أن أيوب إنما يضع عينه على انعدام أي مظهر من مظاهر الدينونة والقضاء عليهم. إنهم يترفعون في حياتهم وعندما تحين ساعة الموت التي لا مفر منها. الساعة المعينة أو المفروضة على الجميع – فإنهم لا يكونون، يغرقون في القبر، يختطفون مثل غيرهم، كالكل، يقطعون مثل سنابل الحنطة الناضجة (ع24).
ينهي أيوب رده طالباً جواباً فمن ذا الذي يتهمه بأنه عرض الحقيقة عرضاً خاطئاً أو جرد كلامه من قوته كرد على نقاش أصحابه؟.
وإنها لنهاية خطيرة. ليس أن أيوب قرر الحقائق تقريراً خاطئاً، لكن استنتاجاته كانت رهيبة. فهو يتابع منطقه إلى الحافة- إن الله لا يعامل بالعدل. وإذا كان الأمر هكذا، فهو ليس الله. وأية نصرة كانت تنطوي تحت مثل هذا الاستنتاج، نصرة للعدو الخبيث المحرك لهذا جميعه، والذي أعلن مرة أنه إذا أخذ منه نجاحه، فإن أيوب في وجهك "يجدف عليك" لكن أيوب لم يفعل ما تكهن به الشيطان. على أن أيوب، قياساً إلى مناقشاته، كان يمكن أن يفعل ما تكهن به الشيطان وما نصحته به زوجته. وإذ كان يجهل كل شيء، فقد تولت النعمة العمل لأنه كان ابنا لله، فلم تسمح له النعمة أن يمضي إلى حيث يمكن أن تنتهي به أفكاره ونتيجة كهذه، ما أكثر ما كانت تنطوي عليه من نصرة لأصحابه!
إذاً فكان لهم أن يقولوا "لقد وقفنا إلى جانب الله، أما أيوب فقد هاجم صفاته تعالى" لكنّ واحداً من الطرفين لم يستطيع أن يقنع الآخر ومع أن المذمة كانت إلى جانب أيوب، غير أن الطابع المؤسف الذي انطبعت به أقواله الختامية، هو الذي حتم بما نجده في الجزء الأخير من السفر. لكن بقي أن نستمع إليه مرة أخرى يسكب كل قلبه، قبل أن نصغي إلى الله متكلماً.
معاني الكلمات الصعبة
للإصحاح الرابع والعشرون
ص : ع الكلمة معناها
24 : 5 الفرا ص6: 5
24 : 5 البادية الصحراء بخلاف الحضر.
24 : 6 علف ما تأكله الدابة.
24 : 6 يعللّون يجنون ثمر الشجر.
24 : 8 يعتنقون ما انعطف من قطع الصخور.
24 : 18 خفيف السرعة في الشر.
24 : 19 القحط الجدب. احتباس المطر.
24 : 19 القيظ شدة الحر وصميم الصيف.
- عدد الزيارات: 13621