الإصحاح الرابع والعشرون: تابع جواب أيوب لأليفاز - عدم نجاح سياسة الله الواضح
(ع1-12) عدم نجاح سياسة الله الواضح.
هذا الإصحاح هو ختام جواب أيوب على أليفاز. وهو يؤكد جلياً أن الأمور في الوقت الحاضر تسير سيراً شاذاً، وأن ظروف الإنسان التي يجتاز فيها من خير أو شر، سعة أو ضيق، لا تدل على فكر الله وشعوره نحو ذلك الإنسان، فالأبرار هم الذين يصابون بالتجارب أكثر جداً من الأشرار ولا يرجع ذلك إلى خطأ فيهم، بل على العكس، فإن الله يضعهم في الامتحان لكي يظهر أنهم خاصته، وعلى ذلك فإن خضوع القلب هو المطلوب منا تحت التجربة مع الثقة الكاملة في الله. زد على ذلك أن لنا نحن قديسي العهد الجديد امتيازاً لم يكن لقديسي العهد القديم وما كان ممكناً أن يكون لهم قبل مجيء المسيح، وذلك الامتياز ليس فقط إتمام عمل المسيح بل إشراق نور المسيح كاملاً. ذلك النور الكامل لم يكن قد ظهر بعد، ومع أن ذلك كان قبل الناموس فإننا نرى بوضوح أنه كان هناك نور كافٍ لإرشاد الذين كانوا يتطلعون إلى الله، وأنه كان هناك ظلام. ولا شك، كما في الوقت الحاضر للذين لم يكن لهم إيمان بالله. وعلى ذلك فالدرس العظيم الذي ينطوي عليه سفر أيوب هو وجود فارق بين المؤمنين أنفسهم، وبسبب هذا الفارق. فكان هناك فارق عظيم بين أيوب وأصحابه الثلاثة. فمهما كانت أخطاء أيوب، ومهما كان هياجه لاتهام أصحابه إياه بأنه مرائي (ونحن إذا كنا قد اختبرنا شيئاً من هذا القبيل في حياتنا لاستطعنا تقدير ما يحدثه من مرارة). فإنه لا يوجد أصعب ولا أمرّ على النفس من الضربة التي تأتي من أولئك الذين يزعمون بأنهم يحبوننا.
إن الشيطان لا يعمل شيئاً قط للخير، بل دائماً للشر، ولكن الشيطان فشل فشلاً ذريعاً في هذه الحالة، والله هو الذي عمل، وقد عمل بصفة خاصة بواسطة عدم أمانة أصحاب أيوب الثلاثة وعدم روحانيتهم. هذا هو المغزى العظيم من السفر. فعندئذ، بدأ أيوب يلعن يومه. وليس قبل ذلك قط. فكل شيء جاء من الشيطان، مهما كان، احتمله أيوب بصبر وشجاعة وكل ثقة في الله. ولكن عندما بدأ الأصحاب الثلاثة يومئون إلى شر دفين والى خبث مستور، والى رياء ومكر، كان ذلك أكثر مما يستطيع أيوب احتماله. فانفجر متفوهاً بأقوال كثيرة غير لائقة. ولكن الله تسامح في هذا كله لأن أيوب في قرارة نفسه، وكان متمسكاً بالله، ومهما كانت الكوارث التي حلّت أو تحل به فقد تقبّل كل شيء من يد الله. صحيح أنه لم يستطع أن يفهم السبب ولكنه رغم كل ذلك ظل متمسكاً بالله. والآن يستعرض القضية هو بنفسه "لماذا إذاً لم تختبئ الأزمنة من القدير لا يرى عارفوه يومه؟" أي أن هناك أزمنة شر فكيف يحدث أن الله وهو حاكم أدبي ويلاحظ كل الشرور حتى أقوال الناس (لأن الأقوال تعبّر عن أسرار القلوب). كيف يحدث أنه يسمح بالشر ولا يكون هناك يوم للمجازاة في الوقت الحاضر؟ ونحن نستطيع أن نجيب على ذلك أن الأمر كله محفوظ للمسيح "فالآب لا يدين أحداً" ذلك ما لا يفعله الآب. إنه يبيّن المحبة لأنه آب. وهو يبين المحبة لأن الله محبة كما هو نور أيضاً. ولذلك فإن أمر الدينونة محفوظ للمسيح والسبب واضح أن المسيح هو الذي بدون أدنى سبب أبغضوه هو والآب ولذلك فقد أصبح محفوظ للرب يسوع المسيح أن يجري الدينونة فكل الدينونة قد سلمت للابن، لأنه ابن الإنسان، وكابن الإنسان ابغضه الناس، أنكروا لاهوته واعتبروه رفيقاً للأشرار. اعتبروه سامرياً وليس سامرياً فقط بل وبه شيطان. فلم يكن هناك ما هو أردأ من ذلك ليقوله الناس عن الرب يسوع ويشعروا به إزاءه.
هناك نواحي أخرى يتجلى فيها اختلاف الناس عن ربنا يسوع المسيح، وأنه لا علم لهم بالله أطلاقاً. ولكن الرب هو الديان المعصوم وهو الذي سيدين الناس بالعدل. وكل ما يخالف أفكار الله وطبيعته سيلقى جزاءه العادل الخطير من ذلك الديّان البار يوماً من الأيام. ولأن الناس لم يروا الله فيه، بل مجرد إنسان فهو لذلك كانسان سيكون الناس أجمعين، كما هو مكتوب إن كل الدينونة قد أعطيت للابن لأنه ابن الإنسان (يوحنا 5: 27). أما الآن فإن أيوب يصف الأمور الشاذة السائرة في الوقت الحاضر فيقول "ينقلون التخوم" وهذا أمر شائع ملموس في كل مكان وزمان. يستولي الناس خلسة على ما ليس لهم في ميدان من ميادين الحياة. وكم من مظالم في العالم، وكم من أملاك اغتصبها الأقوياء ووضعوا عليها أيديهم رغم أنف الضعفاء بل رغم أنف القانون نفسه.
وليس الأمر قاصراً على اغتصاب الأراضي والممتلكات بل الخبث والاختلاس والشر الذي نراه سائداً في كل ناحية من نواحي الحياة. غير أن أيوب يشير بصفة خاصة إلى الأمر الأول وهو اختلاس الأراضي عن طريق نقل التخوم وهي حيلة قديمة يلجأ إليها الناس الأشرار، لاسيما الملاك، وخاصة الأقوياء وأصحاب الجاه والنفوذ منهم، فهم يملكون أرضاً تكون لهم الفرصة أن يزحزحوا التخوم قليلاً قليلاً وبذلك يسرقون أرض الآخرين شيئاً فشيئاً. وهذا ما يفعله ليس الناس العاديين فقط بل ما يفعله الملوك أيضاً وسائر الحكام الاستعماريون فهم يرون أرضاً جميلة خارج حدود بلادهم تصلح لأن تزيد من روعة إمبراطوريتهم فرويداً رويداً يسرقونها أو يثيرون حرباً ويغتصبونها بقوة السلاح. هذا ما يحدث في أيامنا وهو عين ما كان يحدث في أيام أيوب، وفي كل عصر وجيل. وأيوب يصور الأمور كما هي حادثة حوله "يغتصبون قطيعاً ويرعونه، يستاقون حمار اليتامى ويرتهنون ثور الأرملة. يصدون الفقراء عن الطريق" أولئك هم الذين ندعوهم "الوجهاء" في المجتمع الذين يمتلكون القطعان والمواشي ولكنهم يطلبون المزيد "مساكين الأرض يختبئون جميعاً". هنا نرى طبقة أخرى هم طبقة الفقراء والمعوزين "هاهم كالفراء في القفر يخرجون إلى عملهم". هم أفراد الشعب الذين لا يملكون شيئاً. أو "العامة" الذين لا حرفة معينة لهم بل يتصيدون الأشغال هنا وهناك ويعانون كل ما يترتب على هذه الحالة الغير مستقرة من مخاطر وألم..."كالغرباء في القفر يخرجون إلى عملهم يبكرون للطعام". يبكرون قبل النور ويتصيدون العمل كما يتصيد الفراء فريسته غير المستقرة "البادية لهم خبز لأولادهم" نتأمل في هذا: رمال البرية القاحلة الجرداء. هذا هو كل شيء – ولماذا؟ لأنهم لا يملكون أرضاً خاصة بهم. "في الحقل يحصدون علفهم" علف الأغنياء. "ويعللون (أي يجنون) كرم الشرير" هنا لا يدعون أغنياء بل أشراراً. "يبيتون عراة بلا لبس، وليس لهم كسوة في البرد. يبتلون من مطر الجبال ولعدم الملجأ يعانقون الصخر" أي يحتضنون الصخور.
ثم يتحدث عن هؤلاء الأغنياء الأشرار فيقول "يخطفون اليتيم من الثرى ومن المساكين يرتهنون (أي يأخذون الرهن). عراة يذهبون بلا لبس (أي المساكين) وجائعين يحملون حزماً".
وقد جاءت هذه العبارة الأخيرة بمعنى أن الأغنياء ينتزعون الحزم من المساكين الجائعين فقد تكون هناك حزمة أو اثنتان سقطتا عفواً من الحصادين أو نسيتا في الحقل فحملهما الجائع ولكن الرجل الغني ينتزعها منه انتزاعاً. "يعصرون الزيت داخل أسوارهم". فهم يستخدمونهم بوفرة عددهم يعصرون الزيت ولكنهم لا يحصلون على نقطة منه لأنفسهم "يدوسون المعاصر ويعطشون. من الوجع أناس يئنون ونفس الجرحى تستغيث. والله لا ينتبه إلى الظلم". يتركه يسير في مجراه وكأنه لا يبالي، والسبب لأنه منتظر لذلك اليوم.
والآن ما أعجب المحبة التي تتجه في الإنجيل إلى نفس هؤلاء الأشخاص الفقراء المساكين إنه "للمساكين" نودي بالإنجيل مجدداً لله. لقد كان المساكين موضوع مشغولية الرب بصفة خاصة إنه لم يحصل شيء مثل ذلك منذ ابتداء العالم، فلم يوجد أحد قط جعل الفقراء والمساكين موضوع مشغوليته الكبرى. وذلك إلى الأبد ولكن أيوب لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك وما كان في استطاعته أن يعلم.
إن أحد أعلام الكتاب يضع ترجمة جميلة للعدد الأول هكذا "لماذا لم تُحفظ الحدود عند القدير، ولماذا لا يرى ممجدوه أيامه؟" وعندي أن هذه الترجمة تعطينا معنى أوضح مما تعطيه التراجم الأخرى، ولو أن المعنى عند كل التراجم هو هو. أن أيوب عتيد أن يتناول مسالة عدم نجاح سياسة الله في إدانة الأشرار، ويستهل كلامه متسائلاً: لماذا لا يسمح الله لقديسيه أن يروا دينونة عادلة تصيب أولئك الأشرار ولماذا لا يضع حداً لعدم تقواهم وظلمهم الشرير؟ وهاهو يحصي قدراً من تفصيلات مسلكهم الشرير الذي ينقص كل مبدأ من مبادئ الحق والصواب، فالتخوم تنقل وقطعان الجيران يسرقونها ويرعونها كما لو كانت خاصتهم، كما أن اليتامى والأرامل ضحايا طردتهم، يصدون الفقير والمعوز.
وبعد ذلك يتابع أيوب، بالفكر، هؤلاء المساكين مطرودين من بيوتهم بفعل الأشرار مطارديهم، ثم يصف صراعهم البائس للوجود في الحالة البدوية التي أُلقوا فيها(ع5-8). وفي بضع لمسات جريئة بريشة فنان يألف هذا المشهد، فنرى أيوب يصوّر هؤلاء المتألمين الذين يهلكون جوعاً، مطاردين كالبهم ليجمعوا أقصى ما في متناولهم ما يحفظون به أود أطفالهم. إنهم يطلبون عملاً حتى من مقاوميهم، ويحصدون لهم حقولهم ويعللون كرومهم. تكاد الأسمال تغطي أجسامهم، قشعريرة البرد القارس تصيبهم ولذعات سواقط المطر، وهم في سعيهم وراء مخبأ في الصخور. "مراجم الأشرار قاسية": وفي تاريخ الإنسان على مداه كم ذا تصاعد إلى الله ظلم الفقير والمعوز. بيد أن الله لا يسمع!!
ثم يتناول أيوب حالات أخرى كأمثلة على هذه القسوة فالأشرار ينتزعون اليتيم من صدر أمه، ويستغلون المساكين. فلماذا يغمرونه أصحابه بأنه على مثل هذه الخلق، بينما هم يرون بأعينهم حالات واضحة؟. فالمساكين تغتصب ملابسهم، يعملون بين الحزم والجوع يهدهم، في معاصر الزيت والكروم يحرمون المشاركة في نتاجها، هناك يتصاعد الأنين من أفواه المظلومين في المدينة، والله لا يلتفت! هي صورة واقعية أليمة، هم يألفونها، ونحن. فكيف يستطيع أليفاز أن يوفّق هذه الوقائع والحقائق مع نظريته من حيث معاقبة الشر في هذا العالم؟ ولكن كيف يستطيع الله أن يغلق عينيه دون هذه الأمور ويذل رجلاً أميناً بدلاً من فاعلي الشر أولئك؟ هذه هي مشقة أيوب الكبيرة، وليس لها حل عنده.
- عدد الزيارات: 13616