Skip to main content

وساطة المسيح

الباب الخامس: الفرق بين وساطة المسيح وشفاعته وكهنوته

إن المسيح لا يقوم الآن بالكهنوت فحسب، بل وأيضاً بالوساطة والشفاعة، ونظراً لأن البعض يخلطون بين بعض هذه الخدمات والبعض الآخر رأينا من الواجب أن نتحدث فيما يلي عن كل خدمة منها على حدة.

قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس. الإنسان يسوع المسيح. الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (2: 5- 6).

وقال للعبرانيين: "فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب. يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي. ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكي يكون المدعوون، إذ صار موت لفداء التعديات التي في العهد الأول، ينالون وعد الميراث الأبدي" (9: 14، 15).

وقال لهم أيضاً: "لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار، وإلى ضباب وظلام وزوبعة[1]... بل قد أتيتم إلى جبل صهيون. وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية... وإلى وسيط العهد الجديد يسوع. وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل[2]" (12: 18- 24).

وإزاء هذه الآيات نقول:

1-أحقية الله وحده في تعيين الوسيط:

يتخذ كثير من الناس وسطاء لهم لكي يقوموا بينهم وبين الله، غير عالمين إنه إذا لم يكن هؤلاء الوسطاء حسب مشيئته تعالى، لا يمكن أن تحظى وساطتهم (إن كانت لهم وساطة) بالقبول لديه. فتعيين الوسيط إذاً هو من عمل الله، وليس من عملنا نحن، لأنه يعرف المؤهلات التي يجب توافرها في الوسيط. ومن ثم إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الله قد عين منذ الأزل هذا الوسيط. وقد عينه لا لكي يكون وسيطاً بيننا وبينه، بل ليكون وسيطاً بينه وبيننا، ذلك لأنه في نعمته الغنية يحبنا أكثر مما نحبه، ويريد أن يقربنا إليه أكثر مما نريد نحن، والوسيط الذي عينه الله هو المسيح، ومن ثم فهو الطريق الوحيد أمام الذين يريدون الاقتراب من الله.

2-المؤهلات التي توافرت في المسيح للقيام بالوساطة:

(أ)-إنه، حتى بوصفه ابن "الإنسان" لم يخطئ على الإطلاق، وفي الوقت نفسه عمل كل البر الذي يريده الله.

(ب)-إنه لكونه ابن الله أيضاً هو من جوهر الله، ومن ثم يعرف كل مطالب عدالته وقداسته. وقد استطاع له المجد أن يوفي حقوقها جميعاً بالفداء الذي قام به مرة على الصليب.

(ج)-إنه يعرف كل الناس في كل البلاد، ومن ثم يستطيع، إذا التجأوا إليه جميعاً بقلوبهم، أن يأتي بهم إلى الله في حالة القبول الكامل لديه.

3-الأشخاص الذين يقوم المسيح بالوساطة لأجلهم:

إن المسيح لا يقوم بالوساطة لأجل المؤمنين الحقيقيين الذين تمتعوا بغفران خطاياهم (لأن هؤلاء أصبحوا أولاد الله) بل لأجل "الناس" (كما يتضح من أولى الآيات التي ذكرناها)، أو بالحري لأجل غير المؤمنين والمؤمنين بالاسم، الذين يشعرون بشناعة خطاياهم وعجر "الأعمال الميتة (ن)" (كما يتضح من الآية الثانية) التي يقومون بها، عن جلب الغفران إليهم. ومن ثم أدركوا أن السبيل الوحيد إلى القبول أمام الله، هو الفداء الذي قام به المسيح على الصليب. فقد قال الوحي عن الله، إنه "كان في المسيح مصالحاً العالم (كله) لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم، لأنه جعل (المسيح) الذي لم يعرف خطية (ذبيحة) خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2كورنثوس5: 21).

ومما يدل على أن وساطة المسيح هي لغير المؤمنين والمؤمنين بالاسم، إن الغرض منها (كما يتضح من الآية الثانية الواردة في فاتحة الفصل)، هو تطهير الضمائر من الأعمال الميتة وإعطاء الميراث الأبدي- وهاتان الخدمتان لا تقدمان إلى الذين آمنوا من قبل بالمسيح إيماناً حقيقياً، لأن هؤلاء لم يعد لهم ضمير خطايا، ولأنهم أيضاً نالوا الحياة الأبدية والميراث الأبدي منذ إيمانهم، كما ذكرنا في الباب الأول.

4-السبب في إطلاق لقب "الإنسان" على المسيح من جهة كونه الوسيط:

إن الوحي أطلق على المسيح لقب "الإنسان" من هذه الجهة (مع أنه لم يكن في ذاته إنساناً عادياً، بل كان هو الله متأنساً)، لكي لا يدع أمام البشر عذراً لاتخاذ إنسان ما لكي يكون وسيطاً بينهم وبينه، وكأن الوحي يقول لهم: إذا أردتم إنساناً يعرف ضعفكم ويعطف عليكم لكونه واحداً من جنسكم، وفي الوقت نفسه له القدرة على تقريبكم إلى الله لاتحاده به كل الاتحاد، فهو يسوع المسيح لأنه وإن كان من الناحية الظاهرية إنساناً، إلا أنه من الناحية الجوهرية هو الله، ومن ثم فإنكم باقترابكم منه تقتربون من الله، لأنه هو الطريق والحق والحياة (يوحنا14: 6)، وكل من رآه، فقد رأى الآب (يوحنا14: 9).

وهذا الوسيط هو الذي كان يبحث عنه الأنبياء والأتقياء منذ القديم، ولكنهم لم يهتدوا إليه. فقال أحدهم عن الله: "ليس هو إنساناً مثلي فأجاوبه. فنأتي جميعاً إلى المحاكمة (أو بالحري المباحثة). ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا ليرفع (الله) عني عصاه ولا يبغتني رعبه" (أيوب9: 32- 33) وعجزهم عن الاهتداء إلى الوسيط المذكور يرجع طبعاً إلى أنه يجب أن يكون إنساناً وفي الوقت نفسه يجب أن يكون هو الله بعينه- وهذه الحقيقة كان يتعذر عليهم إدراك إمكانية تحقيقها، كما يتعذر الآن ذلك لدى الكثيرين.

5-أسباب عجز أتقى الناس وأفضل الملائكة عن القيام بدور الوساطة:

(أ)-إن أتقى البشر كما ذكرنا، ليسوا كاملين أو معصومين من الخطأ، ومن ثم لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم أن يقتربوا إلى الله. وأشخاص لا يستطيعون أن يقتربوا من تلقاء أنفسهم إلى الله، لا يستطيعون أن يقربوا أحداً إليه.

(ب)-إن الملائكة مع طهرهم وسموهم لا يستطيعون بسبب قصورهم الذاتي التطلع إلى الله، ولذلك يغطون وجوههم ويسترون أرجلهم أمام مجده وبهائه (إشعياء6: 3)، ومن ثم لا يستطيعون أيضاً أن يقربوا أحداً من البشر إليه.

(ج)-إن الوسيط بين الله وبين الناس بالإضافة إلى وجوب قدرته على إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته كما ذكرنا فيما سلف، يجب أن يكون عارفاً بكل الناس في كل البلاد، وقادراً أيضاً على الاستماع لصلواتهم والأخذ بناصرهم جميعاً في وقت واحد- وأعظم الملائكة لا يمكنهم القيام بهذه الأعمال لأنهم خلائق محدودة. وهكذا بالنسبة إلى أتقى الناس سواء أكانوا أحياء أو أمواتاً، لأن أرواحهم سواء أكانت داخل أجسادهم أو خارجها، هي على أي حال، محدودة في معرفتها وإدراكها. وإذا كان الأمر كذلك، فلا ندحة من التسليم بأن الوسيط الوحيد بين الله وبيننا هو المسيح، للأسباب التي ذكرناها.

6-فائدة وساطة المسيح للعالم:

والحق لولا وساطة المسيح، لأهلك تعالى الأشرار هلاكاً تاماً. ولكن المسيح في كفاية كفارته التي وفت كل مطالب عدالة الله التي لا حد لها إلى الأبد، هي التي تحجز الغضب الإلهي من النزول الآن على هؤلاء الناس. ولذلك قال الرسول عن الله "... لكنه يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2بطرس3: 9)، كما قال للبشر عامة "احسبوا أناة ربنا خلاصاً" (2بطرس3: 15)، أو بالحري فرصة للحصول على الخلاص.

7-اتحاد رحمة الله وعدالته في المسيح:

أخيراً نقول: إن السبب في ضرورة الوساطة بين الله وبيننا لا ترجع (كما يعتقد بعض الناس) إلى أن الله عادل، وأن المسيح رحيم، ومن ثم يجب أن نعتمد على المسيح لنتجنب عدالة الله، كلا. لأن الوحي يعلن لنا أن الله عادل وأنه أيضاً رحيم، كما يعلن لنا أن المسيح هو الله الظاهر في الجسد. ومن ثم فإن ظهور المسيح في الجسد حاملاً في نفسه قصاص خطايانا هو استعلان لعدالة الله ورحمته معاً، وذلك لكي يصالح العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم. فوساطة المسيح إذاً هي استعلان الله نفسه قريباً منا، وعاملاً لأجلنا ومتعاملاً مع قلوبنا، حتى يستطيع كل خاطئ أن يقترب من الله ويتمتع بالشركة السامية معه إلى أبد الآباد.


63-إشارة إلى ما كان يحدث في جبل سيناء عندما أعطى الله الوصايا العشر لموسى النبي هناك (خروج19: 20).

64-دم هابيل هو دم الاستشهاد الذي يطلب النقمة (رؤيا6: 10). أما دم المسيح فهو دم الكفارة الذي يطلب المغفرة (لوقا23: 34)، ومن ثم فهو أفضل من دم هابيل.

  • عدد الزيارات: 5218