من جهة الكهنوت والملك
الباب الرابع: مقارنة بين كهنوت ملكي صادق وكهنوت المسيح
لم يكن من السهل على اليهود الذين اعتنقوا المسيحية في أول الأمر، أن يفرطوا في شيء من نظم كهنوتهم الهاروني القديم، لتعلق نفوسهم به منذ نعومة أظافرهم. ومن ثم قام بولس الرسول، الذي كان قبل إيمانه بالمسيح من أكبر المتعصبين لهذا الكهنوت، بتحويل أنظارهم عنه، مستعيناً في ذلك بما نصت عليه التوراة نفسها عن وجود كهنوت أفضل من كهنوتهم كثيراً- وهذا الكهنوت كما ذكرنا، كان لشخص يدعى ملكي صادق، كان الله قد جعل كهنوته، قبل ظهور الكهنوت الهاروني على الأرض بمئات السنين، رمزاً إلى بعض مميزات كهنوت المسيح البارزة، كما يتضح مما يلي.
إذا رجعنا إلى التوراة، نرى أنها تهتم اهتماماً كبيراً بتسجيل أنساب الناس لاسيما المشهورين منهم، فلا تسجل آبائهم وأمهاتهم، بل وأيضاً أسماء أجدادهم (1أخبار1- 9). وكانت للأنساب أهمية عظيمة في ممارسة الكهنوت، حتى أن الكهنة الذين كانوا يعجزون عن إثبات توالدهم من هرون، كانوا يحرمون من مزاولة الخدمة الكهنوتية (نحميا7: 63- 66) ولكن التوراة تقدم لنا ملكي صادق كشخص فريد بين البشر- فقد قال الرسول عنه إنه بلا أب، بلا أم، بلا نسب. لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة، بل هو مشيئة بابن الله- هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين7: 3). وإزاء هذه العبارة نقول:
1-إن ملكي صادق كان إنساناً مثلنا، ومن ثم لا بد أنه كان له أب وأم ونسب، كما كانت له بداءة ونهاية أيضاً. وإذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الوصف المذكور، لم يكن خاصاً بملكي صادق من جهة ذاته، بل من جهة كونه مشبهاً بالمسيح. ومما يثبت هذه الحقيقة أننا إذا رجعنا إلى تاريخ ملكي صادق، نرى أنه لم يتقلد كهنوته من أب أو أم أو قريب له، كما أنه لم يتقلده في سن معينة كان من الواجب ألا يتقلده قبلها، أو تخلى عنه في سن معينة كان من الواجب ألا يمارسه بعدها. فضلاً عن ذلك لم يستمده من كاهن قبله، ولا ورثّه لأحد من بعده (كما كانت الحال مع كهنة اليهود)، بل تلقاه من الله مباشرة بصفة خاصة، لا يستطيع البشر أن يضعوا لها حدوداً، كما أنه كان خاصاً به دون سواه. وإذا تطلعنا إلى كهنوت المسيح، نرى أن هذه المميزات قد تحققت فيه بدرجة مطلقة، كما يتضح مما يلي:
(أ)-إن المسيح ولد حسب الجسد من سبط يهوذا، وهذا السبط هو سبط الملك وليس سبط الكهنوت. فقد قال الرسول: "لأنه (أي المسيح) الذي يقال عنه هذا، كان شريكاً في سبط آخر لم يلازم أحد منه المذبح. فإنه واضح أن ربنا طلع[1]من سبط يهوذا الذي لم يتكلم عنه موسى شيئاً من جهة الكهنوت. وذلك أكثر وضوحاً إن كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر. قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية، بل بحسب قوة حياة لا تزول. لأنه يشهد أنك كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (عبرانيين7: 13- 17).
(ب)-إن المسيح لم يكن مجرد إنسان، بل كان هو الله متأنساً. ومن ثم لم يكن من الجائز أن ينتظر حتى بلوغ سن معينة لكي يبدأ عندها خدمته الكهنوتية. كما أنه لم يكن يتعرض للمرض أو العجر أو الموت[2]، حتى يكف عن ممارستها في وقت ما. ومن ثم فهو وحده الجدير بالوصف "لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة"، وبالوصف "بلا أب. بلا أم. بلا نسب" أيضاً.
2-وملكي صادق، بالإضافة إلى أنه كان كاهناً، كان ملكاً[3]أيضاً وذلك على بلدة ساليم (أو أورشليم)- وكلمة "صادق" معناها "البر"، وكلمة "ساليم" معناها "السلام". ولما كانت للأسماء الكتابية دلالتها المعنوية، فإن ملكي صادق كان ملك البر والسلام (عبرانيين7: 2)- والشخص الجدير فعلاً بهذا اللقب هو المسيح دون سواه، كما يتضح مما يلي:
(أ)-فمن جهة البر، قال الوحي عن المسيح إنه "البر الأبدي" (دانيال9: 24). و"البار" (1يوحنا2: 1). والذي صار لنا من الله حكمة وبراً وقداسة وفداء" (1كورنثوس1: 20- 24). ومن ثم فإنه يبرر كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً (رومية3: 26)، حتى إذا كان هذا فيما سلف من أشر الفجار والعصاة (رومية4: 5). ولذلك قال الرسول للمؤمنين "تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كورنثوس6: 11). وأخيراً قال الوحي عنه إنه غصن البر الذي يملك وينجح ويجري حقاً وعدلاً في الأرض... وهذا هو اسمه الذي يدعونه به "الرب برنا" (إرميا23: 5- 6).
(ب)-ومن جهة السلام، قال الرسول "إن الله صالحنا لنفسه بيسوع المسيح. أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم" (2كورنثوس5: 19). وإن الله سرّ أن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته (كولوسي1: 20). وقال للمؤمنين "فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" (رومية5: 1). وأخيراً قال الوحي عنه إنه رئيس السلام (إشعياء9: 6). وإنه يتكلم بالسلام لجميع الأمم (زكريا9: 10)، إذ سيسود السلام الكامل في أثناء سيادته المباشرة عليهم (إشعياء2: 2- 4).
"والبر" ينم عن إيفاء مطالب العدالة الإلهية الذي تم بتقديم المسيح نفسه كفارة على الصليب. و"السلام" ينم عن العلاقة الكريمة الثابتة التي صارت للمؤمنين الحقيقيين مع الله على أساس هذه الكفارة. ونظراً لأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام إلا على أساس البر (أو العدل)، لذلك لا يوجد سلام مع الله بعيداً عن المسيح، بل توجد الدينونة الرهيبة إلى الأبد.
(ج)-أخيراً نقول إن المسيح بصفته الناسوتية هو الذي- نظراً لكماله المطلق- يليق به لا لأن يكون فقط الكاهن الوحيد أمام الله، بل وأيضاً الملك الوحيد على العالم. وقد أشار الوحي إلى هذه الحقيقة، فقال عنه إنه ملك الملوك ورب الأرباب (1تيموثاوس6: 15)، وإنه يملك إلى الأبد (لوقا1: 33)، ولا يكون لملكه نهاية (رؤيا11: 15). فخدمتا الكهنوت والملك لا يمكن أن يجتمعا معاً بصفة مطلقة إلا في شخصه المبارك. لأنه هو وحده الذي تتوافر فيه المحبة والشفقة والقداسة اللازمة للكهنوت، وهو وحده الذي تتوافر فيه العزة والسيادة والقدرة اللازمة للملك- ومن ثم فهو الذي يستطيع أن يكهن في ملكه، وأن يملك في كهنوته.
55-الترجمة الحرفية لهذه الكلمة هي "أشرق"، لأنها هي المستعملة عن شروق الشمس.
56-أما الموت الذي اجتازه بالناسوت، فكان موتاً اختيارياً لإتمام مقاصد الله السامية الخاصة بالفداء الكريم، ومن ثم قام بعد أدائه بقوته الذاتية من بين الأموات (يوحنا2: 19)، ولا يمكن أن يسود عليه الموت فيما بعد (رومية6: 9).
57-لا شك أنه كان ملكاً لأنه كان كاهناً، إذ أن هذا هو الوضع الحقيقي للوظائف، لأن من يخدم الله بإخلاص، هو الذي يستطيع أن يتولى أمور الناس بجدارة واستحقاق.
- عدد الزيارات: 3159