Skip to main content

شفاعة المسيح

[1]

قال يوحنا الرسول "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً" (1يوحنا2: 1).

وقال بولس الرسول عن المسيح "وأما هذا، فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله. إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عبرانيين7: 24- 25).

وقال عن المسيح أيضاً "الذي مات بل بالحري قام. الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا" (رومية8: 34).

وإزاء هذه الآيات نقول:

1-الأشخاص الذين يمارس المسيح الشفاعة لأجلهم:

إن المسيح يمارس خدمة الشفاعة ليس لأجل غير المؤمنين أو المؤمنين بالاسم، بل لأجل المؤمنين الحقيقيين وذلك لسببين: (الأول) أن الرسول يطلب من الذين يخاطبهم أن لا يخطئوا. وطلب مثل هذا لا يوجه إلا لهؤلاء المؤمنين. و(الثاني) أن الله لا يذكر هنا كالديان الذي يحكم على الخطاة بالعذاب البدي، بل كالآب، كما يتضح من الآية الأولى. وهو لا يكون في هذا المركز بالنسبة إلى كل الناس، بل بالنسبة إلى المؤمنين الحقيقيين فحسب- نعم إن الآب هو الله بعينه، غير أنه ارتبط بالمؤمنين المذكورين (على أساس إيمانهم القلبي بالمسيح) بنسبة جديدة، هي نسبة الأبوة التي تربطه بالمسيح من ناحية كونه الإنسان الكامل، لأنهم ممثلون في شخصه الكريم المبارك أمامه تعالى، الأمر الذي يدل على أن علاقتهم بالله كبنين لا تتأثر، حتى إذا أخذ واحد منهم في زلة ما. ولا غرابة في ذلك، لأن حصولهم على امتياز البنوة لله، لا يتوقف على أعمالهم الصالحة، بل على نعمة الله التي نالوها بالإيمان الحقيقي دون سواه.

2-السبب في حاجة المؤمنين الحقيقيين إلى شفاعة المسيح:

إن هؤلاء المؤمنين، وإن كانوا أعضاء الجسد الذي يرأسه المسيح. وأن هذا الجسد مع رأسه هو "إنسان واحد جديد كامل من كل الوجوه". فهو محيي مع المسيح ومقام معه وجالس معه في السماويات (1كورنثوس12: 12و 13، أفسس2: 5- 15، 5: 26- 27، كولوسي2: 10- 14). لكن نظراً لأن المؤمنين المذكورين لا يزالون في العالم الحاضر الشرير، وفي جسد الضعف أيضاً، فإنهم يتعرضون للخطأ من وقت لآخر. لذلك فإنهم من هذه الناحية يحتاجون إلى شفاعة المسيح أو تعضيده.

3-الوقت الذي يمارس فيه المسيح خدمة الشفاعة:

إن المسيح لا يمارس هذه الخدمة بعد انتقال المؤمنين الحقيقيين إلى العالم الآخر، حتى كان يجوز الظن أنه يمكن أن يكون الغرض منها نقل أرواح الذين أخطأوا (عندما كانوا على الأرض)، من كل عذاب الآخرة أو بعضه (كما يعتقد نفر من المسيحية)، بل إنه له المجد يمارس شفاعته لأجلهم (كما يتضح من الآيات التي ذكرناها) وهم لا يزالون على الأرض[2].

4-الغرض من شفاعة المسيح:

(أولاً) حفظ هؤلاء المؤمنين إذا وقعوا في زلة ما، في حالة القبول أمام الله على أساس كفاية كفارته عنهم. (ثانياً) إيقاظ ضمائرهم بالروح القدس ليتذكروا مقدار ما احتمله له المجد على الصليب لأجلهم، حتى يشعروا بفداحة خطئهم ويعترفوا به بتذلل أمام الله، تائبين عنه توبة حقيقية[3].(ثالثاً) إعادتهم بعد ذلك بواسطة عمل الروح القدس أيضاً في قلوبهم إلى الشركة الطيبة مع الله، التي كانوا يتمتعون بها من قبل سقوطهم في الزلة المذكورة- والنبي الذي اختبر في نفسه أثر شفاعة الابن حتى قبل تجسده، وذلك على أساس كفارته العتيدة، قال عنه الرب راعيه "يرد نفسي. يهديني إلى سبل البر (ليس من أجل أعمالي الصالحة) بل من أجل اسمه" (مزمور 23: 5).

5-الأسس التي قامت عليها أهلية المسيح للشفاعة:

هذه الأسس هي: "كونه البار"، والذي "كفر عن خطايانا"، والذي "يبقى إلى الأبد"، والذي هو "حي في كل حين"، كما يتضح من الآيات السابق ذكرها. ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأنه فضلاً عن أن الشفيع الذي تخطى شفاعته بالقبول لدى الله هو الذي يستطيع التكفير عن خطايانا تكفيراً تاماً أمامه، يجب أن يكون أيضاً حياً معنا باستمرار، وأن لا تكون للأحداث مهما كان شأنها تأثيراً على وجوده أو خدمته، حتى يستطيع الاتصال بكل المؤمنين في كل أنحاء العالم وتقديم المعونة اللازمة لهم جميعاً في وقت واحد، مهما تباعدت بلادهم واختلفت ظروفهم. كما أن وصف المسيح في هذا المقام بأنه البار أو العادل، يضفي أهمية عظيمة على شفاعته، لأنه لا يبنيها على الاسترحام والاستعطاف، بل على حقوقه الذاتية في بقاء المؤمنين الحقيقيين في مركز القبول أمام الله في كل حين، وذلك على أساس كفارته التي وفت كل مطالب عدالة الله إلى الأبد من جهنم- وإذا كان ذلك كذلك، فهل يستطيع كائن ما غير المسيح أن يأخذ مركز الشفاعة؟!

6-حالة المؤمنين عند ممارسة المسيح شفاعته لأجلهم:

إن الوحي لم يقل إنه تاب واحد منهم يقوم المسيح بالشفاعة لأجله، بل قال "وإن أخطأ أحد، لنا شفيع عند الآب". ويستنتج من ذلك أنه بمجرد أن يؤخذ أحدهم في زلة، لا يتركه المسيح وشأنه حتى يعود من تلقاء ذاته إلى الله (إن كان في وسعه القيام بذلك)، بل إنه له المجد يتولى في الحال الشفاعة لأجله (أي وهذا المؤمن لا يزال في زلته)، حتى يرد نفسه إلى الله كما ذكرنا فيما سلف. وهذا ما يجعلنا نعتز بشفاعة المسيح كل الاعتزاز، ونطمئن لها كل الاطمئنان، ونثق كل الثقة أنه على أساسها يحفظنا الله غير عاثرين ويوقفنا أمام مجده بلا عيب في الابتهاج (يهوذا24و 25).

7-كيفية قيام المسيح بالشفاعة:

إن الوحي لم يقل: إذا أخذ المؤمنون في زلة ما، ينهض المسيح بالشفاعة لأجلهم، بل يقول إن المسيح "حي في كل حين ليشفع فيهم"، الأمر الذي يدل على أن المراد بشفاعة المسيح الآن في السماء، ليس القيام بتقديم توسلات لله من وقت لآخر لأجل هؤلاء المؤمنين كما ذكرنا، بل أن وجوده هناك في كمال كفارته التي قدمها مرة على الصليب، كفيل بحفظهم في كل حين في مركز القبول الأبدي أمام الله، وكفيل أيضاً برد نفوسهم إليه، بواسطة تأثير الروح القدس والكلمة الإلهية فيها، في أي وقت من الأوقات.

8-موقفنا إزاء شفاعة المسيح:

إن الوحي الإلهي بقوله "إن أخطأ أحد، فلنا شفيع..."، لا يفتح المجال أمامنا للتهاون في أمر الخطية أو الاستخفاف بخطورتها- لأن المفروض فينا كمؤمنين أن نتحول عن الخطية بكل قلوبنا بمجرد أن نتعرض لها، وأن نحفظ أنفسنا في كل حين في حالة الشركة الصافية مع الله- بل إنه (أي الوحي) يحول بيننا وبين اليأس إذا سقطنا في الخطية. ويرجع السبب في ذلك إلى أننا كمؤمنين، معرضون أن نحزن كل الحزن إذا أخطأنا (لأن الخطية في نظرنا هي أكبر إساءة إلى الله الذي هو أحب حبيب لنفوسنا، كما أنها أكبر عدو لنا إذ تحرمنا من الشركة مع الله والتمتع به)، ومن الجائز جداً (لولا يقيننا بشفاعة المسيح)، أن يستغل الشيطان هذه الفرصة، فيدخل في روعنا أنه لا يمكن أن نعود للتمتع بالشركة مع الرب كما كنا نتمتع من قبل.

9-موقف المسيح كشفيع لنا عند الآب:

إن قول الوحي "لنا شفيع"، وليس "يرأسنا شفيع"، يدل على أن المسيح في شفاعته لا يأخذ مركز الرياسة أو السيادة علينا (وإن كان له الحق وكل الحق في ذلك)، بل يأخذ تبارك اسمه مركز الخدمة لنا، فقد كرس ذاته لنا لكي نفيد بكل ما له من مقام واستحقاقات لدى الآب. كما أن الوحي بقوله "فلنا شفيع عند الآب" وليس "عند الله"، يوجه نفوسنا إلى الله ليس في عدالته المجردة بل في محبته التي لا حد لها، وذلك بوصفنا أبناء له وبوصفه هو أباً لنا. فعدالة الله قد تم إيفاء مطالبها بالتمام في الصليب، وأصبحنا الآن لا نرى الله إلا في محبته هذه في كل ظرف من الظروف- وإذا كانت كفارة المسيح المقدمة لله في عدالته المطلقة قد فازت بكل رضاه، فبكل تأكيد تكون شفاعته في محبته التي لا حد لها، بناء على كفاية هذه الكفارة، تفوز بكل الرضا أيضاً، الأمر الذي يملأ قلوبنا سلاماً واطمئناناً، وأفواهنا حمداً وشكراً.

فضلاً عن ذلك فإن وجود المسيح شفيعاً لدى الآب، يدل على أن بنوتنا لله لا تتأثر إذا أخذنا في زلة ما- ولا غرابة في ذلك، فإن امتياز حصولنا على البنوة له، ليس متوقفاً على أعمالنا الصالحة، بل على كفارة المسيح التي اعتمدنا عليها بواسطة الإيمان الحقيقي.

10-معنى "الخلاص إلى التمام" الوارد في الآية الثانية:

لا يراد بهذا الخلاص، الخلاص من الدينونة الأبدية، لأن هذه عبرت عن المؤمنين الحقيقيين إلى الأبد، بمجرد أن آمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً كما ذكرنا في الباب الأول، بل يراد به الخلاص من ضعفاتهم وسلطة الخطية على نفوسهم، وذلك بإعطائهم القدرة الكافية للانتصار على هذه وتلك معاً.

11-معنى قول الوحي عن المسيح إنه "كفارة لخطايانا" بالجمع:

إن المسيح كفر ليس عن بعض خطايانا دون البعض الآخر. بل كفر عنها جميعاً (أي من أول وجودنا في العالم إلى وقت خروجنا منه)، وذلك ليس حسب تقديرنا لها (لأن هذا كثيراً ما يخطئ)، بل حسب تقدير الله الذي يرى كل صغيرة وكبيرة منها، لأنه عندما رضي تعالى أن يكون المسيح كفارة عنا، وضع عليه كل خطايانا (إشعياء53: 6)، كما يعرفها[4]هو. وذلك لكي يحتمل المسيح الدينونة التي نستحقها عنها جميعاً، كما ذكرنا في الباب الأول.

12-عدم الحاجة إلى أية ذبيحة بعد كفارة المسيح:

أخيراً نقول إن المؤمنين الحقيقيين، كما يتضح من الآية الأولى، يجب ألا يخطئوا، بل وألا يكون للخطية أي مجال في حياتهم، لأن الله وهبهم كل ما هو للحياة والتقوى (2بطرس1: 3)، لكن إذا حدث وأخذ أحدهم في زلة ما، فإنه لا يحتاج إلى ذبيحة تقدم عنه، أياً كان نوعها، أو إلى أن يرش عليه دم المسيح (معنوياً) من جديد (كما يقال)، إذ أن مقام هذا المؤمن، مع زلته، لا يتغير أمام الله، وذلك بفضل كفارة المسيح الدائمة الأثر كما ذكرنا (عبرانيين10: 14). ومن ثم فليس عليه إلا أن يرفع عينيه بالإيمان إلى المسيح الذي يشفع فينا كل حين بناء على كفاية كفارته إلى الأبد، وأن يعترف بخطيته أمام الله عازماً بنعمته على التحول عنها وعدم العودة إليها، فينال الغفران في الحال. فقد قال الرسول "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا[5]ويطهرنا من كل إثم، (1يوحنا1: 9).


65-الشفاعة المسندة إلى المسيح يراد بها المحاماة والتعضيد والمؤازرة، وليس التضرع أو الصلاة لله كما يظن بعض الناس.

66-مما تقدم يتضح لنا أنه ليس هناك مجال لتغيير مصير الناس، بأية وسيلة من الوسائل، بعد انتقالهم من العالم الحاضر، لأنه ليس هناك مجال للتوبة والشركة مع الله إلا في هذا العالم.

67-أما إذا لم يتوبوا هذه التوبة، فإن الله يوقع عليهم ما يراه مناسباً من التأديب في العالم الحاضر حتى يستجيبوا له. وذلك لأنه تعالى لا يدينهم مع الأشرار في اليوم الأخير (يوحنا 5: 24، 1كورنثوس11: 32) بفضل كفاية كفارة المسيح التي وفت كل مطالب عدالة الله. والتي اعتمدوا عليها بالإيمان الحقيقي- ومن هذا يتضح لنا أن الغرض من تأديب هؤلاء المؤمنين ليس الانتقام بل الإصلاح والتقويم. لأنه لو شاء الله أن ينتقم منهم لأجل خطية ما. لا يرضى بأقل من توقيع العذاب البدي عليهم (رؤيا20: 10). أما إذا لم يجد التأديب مع أحدهم، فإن الله ينتزع حياته من العالم انتزاعاً (1كورنثوس11: 30)، ومن ثم يحرم من الاستمرار في خدمة الله. كما يحرم من المكافأة التي كان من الممكن أن ينالها في الأبدية، لو أنه كان قد عاش حتى تمم هذه الخدمة.

68-وطبعاً لولا ذلك، لما كان لأتقى الناس غفران على الإطلاق، لأنه ليس هناك واحد منهم يستطيع (مثلاً) إحصاء الخطايا التي تصدر منه سهواً، والتي لا يقل جرمها في نظر الله عن أية خطية أخرى، فقد قال الوحي "ولا تقل إنه سهو" (الجامعة5: 6).

69-مما تجدر الإشارة إليه أن الغفران الذي نناله من الله عند الإيمان الحقيقي بالمسيح هو غفران عن كل الخطايا الحاضرة والماضية والمستقبلة على أساس كفارة المسيح الدائمة الأثر كما ذكرنا في الباب الأول والغرض من هذا الغفران هو النجاة من الدينونة الأبدية والتمتع بالحياة الأبدية ولذلك يسمى هذا الغفران "الغفران الأبدي". أما الغفران الوارد أعلاه فهو عن خطية ما. ونناله بالاعتراف بهذه الخطية والندم عليها والعزم على الابتعاد عنها. والغرض من هذا الغفران إزالتها عن ضمائرنا حتى نستطيع أن نعبد الرب ونخدمه بفرح في الزمان الحاضر، كما كنا نفعل من قبل.

  • عدد الزيارات: 15615