الغرض من كهنوت المسيح
ذكرنا فيما سلف شيئاً عن كهنوت المسيح والدائرة التي يمارسه فيها ولذلك نكتفي هنا بالقول: إن المؤمنين الحقيقيين لوجودهم في العالم معرضون ليس فقط للزلل الذي يتطلب وجود شفيع لهم يحفظ مقامهم أمام الله ويرد نفوسهم إليه، بل معرضون كذلك للتجارب التي تمنعهم من التمتع بالشركة مع الله والتعبد له كما ينبغي. ومن ثم فإنهم يحتاجون أيضاً إلى كاهن يرفعهم فوق التجارب ويهيئهم للتمتع بهذين الامتيازين. وطبعاً ليس هناك من يقوم لهم بهذه الخدمة إلا المسيح أيضاً. ولذلك فخدمته الكهنوتية ليس لها شأن بالخطية التي يتعرضون للسقوط فيها (عبرايين4: 14و 15) لأنه كان خالياً منها خلواً تاماً، بل خاصة بالأمور الآتية فحسب.
1-حفظ جو الأقداس السماوية في حالة النقاوة أمام الله من جهة المؤمنين الحقيقيين على الأرض:
إن ما يظهر على الأرض من ضعف هؤلاء المؤمنين أمام التجارب وارتفاع الشكوى من عدو الخير إلى الله ضدهم، كل ذلك لا يمكن أن يؤثر على أقداسه تعالى وذلك بفضل خدمة المسيح الكهنوتية لأجلهم. فقد قال الرسول "وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم... أما السموات عينها فبذبائح أفضل[1]من هذه (أي من الذبائح الحيوانية الخاصة بالعهد القديم)، لأن المسيح لم يدخل كرئيس الكهنة إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة بل إلى السماء عينها، ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا" (عبرانيين9: 22- 24).
2-تمثيل المسيح في كماله للمؤمنين الحقيقيين أمام الله:
إن مرورنا في التجارب وشعورنا بالضعف أحياناً تبعاً لذلك، لا يقلل من مركزنا الروحي أمام الله في السماء. لأن وجود المسيح في كمال كفارته كرئيس الكهنة العظيم أمام الله لأجلنا، يحفظ لنا مركز القبول الأبدي أمامه، الأمر الذي كان يرمز إليه قديماً بحفظ هرون لبني إسرائيل في حالة القبول أمام الله، عندما كان يدخل إلى قدس الأقداس الأرضي حاملاً أسماءهم في الأحجار الكريمة المثبتة في صدريته. ولذلك قيل عن المسيح "ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا" (عبرانيين9: 24) كما ذكرنا.
3-غسل أرجل المؤمنين، أو بالحري تأهيلهم للشركة مع الله:
قبل ممارسة عشاء الفصح وتأسيس العشاء التذكاري (المعروف بالعشاء الرباني)، قام المسيح بغسل أرجل تلاميذه. ولم يكن الغرض من هذه الخدمة مجرد تقديم مثال لهم في التواضع، بل تهيئتهم للشركة الروحية معه. فقد قال لبطرس الرسول: "إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يوحنا 13: 8). وما عمله المسيح قديماً مع تلاميذه قبل عشاء الفصح والعشاء الرباني هو ما يعمله في الوقت الحاضر مع المؤمنين الحقيقيين قبل الشركة معه والتناول من عشائه، لأن بواسطة تأثير كلمته (التي كان يرمز إليها بالماء) على قلوبهم بقوة الروح القدس، وتجاوبهم مع هذا التأثير، يزول عنهم كل اهتمام بالعالم يمكن أن يكون كامناً فيهم (عبرانيين4: 12و 13)، ويتهيئوا للدنو من الله والشركة معه والإفادة منه.
4-الحضور في وسط هؤلاء المؤمنين بلاهوته في أثناء العبادة:
فقد قال لهم "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، هناك أكون في وسطهم" (متى18: 20). وحضوره هذا ليس أمراً وهمياً حقيقياً، إذ يمكنهم التحقق منه بواسطة الحصول على البركة التي يحتاجون إليها من شخصه المبارك. والاجتماع باسم الرب لا يراد به مجرد الاجتماع للصلاة أو الترنيم أو الوعظ، بل يراد قبل كل شيء الارتقاء بالنفس حتى تتقابل مع المسيح وتوجد في حالة الخضوع التام له، لكي يكون هو السيد الوحيد على كل ما فيها من أفكار وعواطف.
5-إعلان اسم الآب لهم، واعتزاز المسيح بهم:
فقد قال المسيح لله "أخبر باسمك إخوتي" (عبرانيين2: 12). فالمؤمنون الحقيقيون بارتباطهم الروحي بالمسيح أصبحوا إخوته (رومية8: 29). ومن ثم فهو يحبهم ويشتاق إلى رؤيتهم (نشيد2: 14) والتحدث معهم (يوحنا16: 12). وأفضل حديث يقدمه لهم، هو الخاص بالآب ومحبته الشديدة لهم (يوحنا16: 14)، فتتعزى قلوبهم وتشبع به. كما أن قوله بعد الآية السابق ذكرها "ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عبرانيين2: 13)، دليل على اعتزاز المسيح بنا بوصفنا عطية الله له، ودليل أيضاً على أننا مع حقارة شأننا، اتخذنا في محبته التي لا حد لها أولاداً له، يجد فينا لذته وسروره، كما يضع فينا ثقته لنكون سفراء عنه في العالم (2كورنثوس5: 20).
6-قيادتهم في التسبيح للآب:
فقد قال له: "في وسط الجماعة أسبحك" (عبرانيين2: 12). فالمسيح بعد ما يحدث المؤمنين عن الآب وتتعزى قلوبهم بمحبته الفائقة المعرفة يضع في أفواههم تسبيحة جديدة في مادتها وفي قوتها (مزمور40: 3)، ومن ثم يكون هو كمن الذي يقوم بالتسبيح فيهم. فضلاً عن ذلك، نظراً لأنه رئيس الكهنة أمام الله لأجلهم، فإنهم يرفعون تسبيحهم بواسطته إليه تعالى (عبرانيين13: 15). فيضفي له المجد عليها استحقاقاته التي لا حد لها، وبذلك يختفي منها كل ضعف، وتبدو أمام الله كبخور عطر أو ذبيحة طيبة (1بطرس2: 4- 5).
7-مواساتهم ومساعدتهم في التجارب:
إن احتمال المسيح للتجارب المتعددة عندما كان على الأرض، أعده كإنسان لكي يقوم بالخدمة الكهنوتية على أكمل وجه، إذ صارت هذه التجارب كرصيد ضخم لحسابهم. ومن ثم يستطيع أن يرثي بحق لكل من يجتاز منهم فيها. فقد قال الرسول عنه "لأنه ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية" (عبرانيين4: 14و 15). كما أنه له المجد، ليس له فقط القلب الذي يرثي، بل له أيضاً الذراع التي تخلص[2]، فقد قال الرسول أيضاً عنه "لأنه في ما هو تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين" (عبرانيين2: 18). لذلك كان المسيح ولا يزال طبيباً لكل سقيم، وموئلاً لكل غريب، ورفيقاً لكل منبوذ، وعضداً لكل مسكين، ورجاء لكل بائس، ومعلماً لكل جاهل، وعوناً لكل محتاج، ومريحاً لكل تعبان، ومعزياً لكل حزين، وناصراً لكل مقهور، ومقوياً لكل ضعيف.
أما من جهة الخطية التي نتعرض لها، فإن مركز المسيح كرئيس الكهنة يضعه بعيداً عنها كل البعد كما ذكرنا. لأن من يتقدم للعبادة منا، يجب أن يكون قد اغتسل أولاً من كل شيء لا يتفق مع قداسة الله. وذلك بوضع نفسه تحت تأثير كلمة الله وروحه.
كما أننا كأولاد لله، يجب ألا نشفق على أنفسنا من جهة الخطية أو ننتظر من أحد أن يرثي لنا بسبب سقوطنا فيها، لأن الله وهبنا كل ما هو للحياة والتقوى (2بطرس1: 3)، بل يجب أن ندين أنفسنا ونوبخها بكل شدة حتى تنسحق تماماً أمام الله، تائبة توبة صادقة عن كل خطية نميل إليها. وليس هذا فقط بل ويجب أيضاً علينا أن نقوى بعمل الروح القدس فينا، الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق (أفسس4: 24)، لينفر من الخطية نفوراً تاماً، حتى إذا ظهرت في أبسط مظهر من مظاهرها، وذلك بحفظ قلوبنا تحت التأثر المستمر بحضرة الله وكلمته المقدسة.
8-بعث الاطمئنان الكامل إلى نفوسهم:
فقد قال الرسول "... حتى تكون لنا تعزية قوية نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا. الذي هو كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب، حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائراً على رتبة ملكي صادق، رئيس كهنة إلى الأبد" (عبرانيين7: 18- 20) فالمسيح بسبب كفاية كفارته، شق الحجاب الذي كان يفصل بين الله وبيننا، ففتح الأقداس السماوية أمامنا ووضع لنا فيها رجاء راسخاً وطيداً، أصبح مرساة مؤتمنة وثابتة لنفوسنا. وكما تكون السفن في ثبات وأمان من العواصف والزوابع عندما تكون مرساتها ثابتة وقوية، هكذا الحال من جهة نفوسنا. فإنها تكون في أمان ليس بعده أمان- مهما كانت التجارب التي تعترضها في العالم الحاضر- وذلك باعتمادها على المسيح الموجود رئيس كهنة لأجلنا في أقداس الله.
70-اقرأ بند (ج) في الملحق.
71-وقد أشار الله منذ القديم إلى هذه الحقيقة الثمينة، فقد أمر بوضع أسماء بني إسرائيل الذين كانوا رمزاً إلى المؤمنين الحقيقيين، ليس على صدر رئيس الكهنة فقط، بل وعلى كتفيه أيضاً. كما أوصى الكهنة لا أن يأكلوا من صدر الذبيحة فقط، بل ومن ذراعها الرفيعة كذلك. وقد عرفت عروس النشيد الحقيقة المذكورة، ولذلك قالت للرب "اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك" (نشيد8: 6).
- عدد الزيارات: 3299