نموذج من خدمة المسيح الكهنوتية
بالرجوع إلى الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، نرى المسيح واضعاً الصليب أمامه كأنه تم أو في حكم الإتمام، ومتجهاً إلى ما بعد القيامة من الأموات والصعود إلى السموات، حيث يأخذ مكانه هناك في الأقداس السماوية كرئيس الكهنة العظيم، ويتحدث مع الآب بشأننا. وإنه في الواقع لامتياز عظيم لنا أن نصغي إلى حديثه، لنعرف ما قاله للآب عنا من جهة الأمور الآتية:
أولاً-عطاياه وخدماته لنا
1-منح الحياة الأبدية لنا:
فقد قال للآب عن نفسه "... إذ أعطيته سلطاناً على كل ذي جسد ليعطي حياة أبدية لكل[1]من أعطيته" (ع2)- وهنا نرى الابن يشترك مع الآب في امتيازه الفريد، وهو إعطاء حياة أبدية لمن كانوا أمواتاً بالخطية. فقد أعطى هذه الحياة لمن آمنوا به إيماناً حقيقياً عندما كان على الأرض، ولا يزال يعطيها، وهو في مجده الآن لكل الذين يؤمنون به أيضاً إيماناً حقيقياً، في كل العصور والبلاد. والرسول الذي رأى هذه الحياة متجسمة في أكمل معانيها في المسيح قال "فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا" (1يوحنا1: 2)، ومن ثم تكون لها أثمار المسيح الذي يحصلون عليها.
2-إعلان كلام الله لنا:
فقد قال للآب "الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتم" (ع8)- وكلام الآب هو كلام المحبة التي لا حد لها. فكل ما سمعه المسيح من الآب عنها، أودعه إيانا دون أن يحجز منه شيئاً، وذلك لكي نعرف أفكار الآب الصالحة من جهتنا، كما يعرفها هو، وتكون لنا شركة مع الآب مثل الشركة التي للمسيح معه، الأمر الذي يدعونا للتجاوب مع الآب بكل قلوبنا ومبادلته حباً بحب.
3-إعطاؤنا مجده المكتسب:
فقد قال للآب "المجد الذي أعطيتني، قد أعطيتهم" (ع22)- في هذه العطية نرى السخاء الذي ليس بعده سخاء. فالمسيح في محبته التي لا حد لها يأبى أن نكون في مجد اقل من المجد الذي اكتسبه على أساس كماله الذاتي[2]، كالإنسان الذي أطاع الله وأرضاه في كل صغيرة وكبيرة. فلأنه ابن الله من هذه الناحية (رومية1: 4) جعلنا نحن أيضاً أبناء الله[3]. ولأنه ملك، جعلنا نحن أيضاً ملوكاً رؤيا1: 6). ولأنه يجلس الآن في السموات، أعطانا أن نجلس أيضاً فيها بأرواحنا الآن (أفسس2: 6)، كما سنجلس فعلاً حوله ومعه على عروش المجد هناك (رؤيا4: 4)، وعلى عروش الملك بعد ذلك على الأرض (رؤيا20: 4) وذلك في المستقبل القريب إن شاء الله. ولأنه سيدين العالم، أعطانا أيضاً أن نشترك معه في ذلك (1كورنثوس6: 2) حقاً إننا الآن محاطون بالتجارب والآلام، والعالم لا يعرف أننا أولاد الله (1يوحنا3: 2)، ومن ثم يكيل لنا الاضطهاد في كثير من الأحيان، ولكن لا ننسى أن داود مع أنه كان معيناً للملك منذ صبوته (1صموئيل16: 13)، غير أنه لم يشغله فعلاً إلا بعد فترة طويلة من الضيقات والآلام (2صموئيل2: 4).
4-إظهار اسم الآب لنا:
فقد قال للآب "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم (ع6)- إن معرفة الله الآب، بما في هذه الكلمة من معاني الحب والعطف والحنان، لم يكن معروفة قبل مجيء المسيح إلى العالم، لأنه هو وحده الذي أعطانا، على أساس الفداء الكريم الذي قام به لأجلنا، أن نكون أبناء حقيقيين لله، وأن يكون الله أباً حقيقياً لنا. وهذا الامتياز الثمين ليرفع من نفسياتنا ويمنحنا من الغبطة ما يفوق العقل والإدراك.
5-المحافظة علينا:
فقد قال للآب "الذين أعطيتني، حفظتهم. ولم يهلك أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب" (ع12)- إن ابن الهلاك هذا هو يهوذا الأسخريوطي، ولم يكن طبعاً واحداً من التلاميذ الذين أعطاهم الله للمسيح[4]، بل كان دخيلاً عليهم لغرض مادي، ومن ثم أبعد نفسه عن دائرة رعايته له المجد. أما بطرس الذي أنكر المسيح، فنظراً لأنه كان من المؤمنين الحقيقيين الذين أعطاهم الله للمسيح فقد رد المسيح بنفسه وأعاده إلى المقام الذي كان يشغله مع التلاميذ من قبل (يوحنا21: 15- 17)- والعبارة "لكي يتم الكتاب" لا يراد بها طبعاً أن يهوذا هلك لكي يتم الكتاب، بل أن هلاكه جاء متفقاً مع ما سبق فأنبأ عنه الكتاب (مزمور109: 8و 9).
6-تقديس المسيح نفسه لأجلنا:
فقد قال للآب "ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق" (ع19)- إن التقديس هنا هو التخصيص. وما أسمى أن نرى المسيح يخصص ذاته لأجلنا. فإذا رجعنا إلى تاريخ حياته، نرى أنه لم يعش لنفسه على الإطلاق، بل كان يبذل كل دقيقة لخدمتنا. ولما كان خلاصنا متوقفاً على موته كفارة عنا، لم يتردد لحظة في احتمال كل قصاص خطايانا في نفسه. كما كان له المجد أن يصعد إلى السماء بعد قيامته من الأموات مباشرة، لكن لتشتت تلاميذه وتسرب اليأس إليهم، انتظر على الأرض المدة الكافية لجمع شملهم وتثبيت إيمانهم. فضلاً عن ذلك فإنه، وهو الآن في السماء، لا يمكن أن يشغله مجده الأرضي الأسنى عن خدمتنا، لأنه كما ذكرنا يعضدنا من هناك في كل حين.
ثانياً-علاقتنا بالآب والابن
1-إننا عطية الآب للابن:
فقد قال المسيح للآب "كانوا لك وأعطيتهم لي" (ع6)- إن المؤمنين كانوا للآب. فمكتوب عنه "الذي منه جميع الأشياء ونحن له" فقد اختارنا الآب قبل إنشاء العالم (أفسس1: 3، 1بطرس1: 2)، ثم أعطانا للابن لكي يهبنا حياة أبدية ويرعانا كل الطريق. وبوصفنا عطية الآب للابن، فنحن ليس موضع اعتزازه فقط، بل واهتمامه أيضاً. لأنه تبارك اسمه أصبح إذا جاز هذا التعبير مسئولاً عن المحافظة علينا أمام الآب.
2-إننا لسنا من العالم، كما أن المسيح ليس من العالم:
فقد قال للآب "لأنهم ليسوا من العالم، كما أني أنا لست من العالم" (ع14)- العالم هو النظام الذي ابتدعه الإنسان بمعزل عن الله، سواء أكان من جهة الشؤون المالية والاجتماعية، أم من جهة الشؤون الدينية[5] والمؤمنون الحقيقيون بوصفهم مولودين من الله، هم شعب سماوي لا أرضي. ولذلك فالمفروض فيهم أن يعيشوا كغرباء في العالم (1بطرس2: 11)، كما عاش المسيح نفسه. وإن ساروا في العالم بأقدامهم، يجب أن يكونوا بقلوبهم في السماء. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال "فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع" (فيليبي3: 20).
3-إرسالية المسيح لنا إلى العالم:
فقد قال للآب "كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم أنا إلى العالم" (ع18) ما أعظم رسالة المسيح، سواء من جهة مصدرها أو موضوعها. وهذه الرسالة بعينها هي التي أعطانا المسيح أن نحملها من بعده في العالم. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال للمؤمنين إننا رسالة المسيح، وإننا رائحته الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون (2كورنثوس2: 15). وإذا كان الأمر كذلك، يجب أن نكون أطهاراً كما هو طاهر (1يوحنا3: 3)، إذ بدون هذا المستوى من الطهارة، لا نستطيع القيام بالرسالة المذكورة بالحالة التي ترضي الله.
4-وجود المسيح فينا:
فقد قال للآب "أنا فيهم، وأنت فيَّ" (ع23)- ويا لها من علاقة سامية كل السمو، إذ أنها تدل على اتحادنا بالابن، والآب أيضاً!! فالآب في الابن، والابن فينا. ولذلك كما أن الآب بحلوله في الابن كان هو القائم بكل ما يقوم به الابن من أعمال، يجب أن يكون هذا هو الحال معنا بالنسبة إلى شخصه الكريم المبارك. ومن ثم يجب أن نحيا حياة التكريس الكلي له، لكي يكون هو المحرك الوحيد لنا في كل أعمالنا. وبولس الرسول الذي اختبر هذه العلاقة العجيبة قال "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية2: 20). كما قال" ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة... بل تعبت أكثر منهم جميعهم ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1كورنثوس15: 10- 11). وإذا استثمرنا بركة وجود المسيح فينا كل الاستثمار، انتهى بنا الأمر إلى الارتقاء روحياً إلى قامته (أفسس4: 13)، وإلى الامتلاء إلى كل ملء الله أيضاً (أفسس3: 19)- وإذا كان الأمر كذلك، يجب أن نسلم حياتنا للمسيح تسليماً كلياً، حتى يكون هو الكل في الكل فينا.
5-مساواة محبة الآب لنا، لمحبته للمسيح:
فقد قال للآب "وأحببتهم كما أحببتني" (ع23)- وإن نفوسنا لتنحني سجوداً وتعبداً لله لأجل هذا الإحسان الذي يفوق العقل سمواً لا حد له. لأن الله الذي ينسب إلى الملائكة حماقة، والذي السماء ليست بطاهرة قدامه (أيوب15: 13)، يحب جماعة نظيرنا ويحبهم بذات المحبة التي أحب المسيح بها. حقاً إن عقولنا لتأخذها الحيرة عندما تتأمل في إحسان مثل هذا!! ألا يرى الله عيوبنا وخطايانا المتعددة؟ نعم إنه يراها جميعاً، غير أنه في نعمته الغنية إذ سيحضرنا قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه (كولوسي1: 22).
ثالثاً-طلبات المسيح لأجلنا
1-حفظنا في اسم الآب:
فقد قال المسيح للآب "أيها الآب القدوس: احفظهم في اسمك" (ع11)- إن القداسة الموصوف بها الآب هي التنزه عن كل نقص. وهذه القداسة بعينها موصوف بها الابن (لوقا1: 35) وموصوف بها الروح القدس أيضاً (1تسالونيكي4: 8)، وذلك لوحدة جوهرهم، وهو اللاهوت. وحفظ الآب لنا في اسمه، يراد به حفظه إيانا في حالة الإدراك القلبي الكامل (أو بالحري في حالة الإيمان الحقيقي الكامل) بأنه أبونا، بنفس المعنى الذي هو به بالنسبة إلى يسوع المسيح بوصفه رأسنا والبكر بيننا ولذلك فإنه يحفظنا (يوحنا10، 29، 1بطرس1: 5) كما يفعل الابن تماماً معنا (يوحنا10: 28) وذلك بقوة الروح القدس (أفسس1: 13و 14، 4: 30)- وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة فقال عنا كخرافه الخاصة "وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي أنا والآب واحد" (يوحنا10: 28و 30).
2-السماح ببقائنا في العالم مع حفظنا من الشرير:
فقد قال المسيح للآب "لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير" (ع15)- كان من الجائز أن ينقلنا المسيح إلى المجد بعد أن آمنا به إيماناً حقيقياً. ولكنه أراد أن يبقينا في العالم بعد الإيمان لكي نكون شهوداً له، ولذلك فعوضاً عن أن يتضجر واحد منا بسبب ما يلاقيه من شر في العالم، يجب أن يعرف المهمة التي يريد المسيح منه أن يقوم بها، وأن يطلب منه المعونة على أدائها، فيزول عنه الضجر ويحل محله السرور.
وحفظ الله إيانا من الشرير، أو بالحري من الشيطان، يراد به حفظه إيانا من إغرائه ومن بطشه معاً. وقد اختبر المسيح من قبل هذين السلاحين، ولذلك فإنه يشفق علينا، ويطلب من الآب صيانتنا منهما- وتصرف مثل هذا الواقع تصرف الكاهن الحقيقي الذي يهتم كل الاهتمام بخير الذين يكهن لأجلهم، الأمر الذي يسند قلوبنا ويشددنا ويعطينا اليقين بالغلبة والنصرة في كل حين، لأن طلبة المسيح هذه لا يمكن أن تكون صرخة في واد، بل لا بد أن تتحرك السماء بأسرها لاستجابتها على أكمل وجه.
3-تقديسنا في الحق:
فقد قال للآب "قدسهم في حقك. كلامك هو حق" (ع17)- التقديس يراد به لفظياً التكريس لله، ويراد به معنوياً التطهير الكامل. والحق هنا، هو حق الآب نفسه، أو بالحري معلناته الصادرة منه شخصياً. وتقديس الآب لنا في هذا الحق يراد به حفظنا في دائرته، كما يراد به غرسه في أعماق نفوسنا حتى تتشبع به وتتكيف بالتمام بسلطانه الإلهي. ولكي نفيد من تقديس الآب لنا، علينا أن نواظب على الشركة معه وحفظ القلب تحت تأثير كلمته كل حين.
4-وحدتنا معاً كمؤمنين:
فقد قال للآب "ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (ع21)- إن وحدانية الآب والابن هي الوحدانية في الذات بكل خواصها، ووحدانية مثل هذه لا تتوافر إلا بين أقانيم اللاهوت. أما الوحدانية التي يتطلبها الله منا. فهي فقط الوحدانية في الشعور والفكر والعمل. وأساس هذه الوحدانية هو اتحادنا بالآب والابن، بواسطة الإيمان الحقيقي. ومن ثم فإنها ليست اتحاداً صورياً مثل اتحاد الكنائس العالمي الذي يسعى إليه بعض أشخاص في الوقت الحاضر، جلهم لا يعترفون بلاهوت المسيح، أو بولادته العذراوية، أو بكفاية كفارته، وغير ذلك من الحقائق الجوهرية في كلمة الله، بل هو اتحاد روحي مقترن بالله كل الاقتران. وقد ظهرت بوادر هذا الاتحاد في العصر الرسولي، فقد سجل الوحي عن المؤمنين الحقيقيين أنه كان لهم قلب واحد ونفس واحدة (أعمال4: 32)، وما حدث في هذا العصر يمكن أن يحدث في كل العصور.
5-حصولنا على فرح المسيح نفسه:
فقد قال للآب "ليكن لهم فرحي كاملاً فيهم" (ع13)- إن المسيح لا يطلب أن يكون لتلاميذه فرح عادي، بل فرحه الذاتي الذي يتمتع به هو شخصياً، وأن يكون أيضاً هذا الفرح ليس لهم بل فيهم، أي يكون مالئاً لكيانهم الداخلي. وأساس فرح المسيح هو علاقته الوطيدة مع الآب، وهذه العلاقة نفسها هي التي أصبح من امتيازنا التمتع بها على أساس اتحادنا الروحي بالمسيح كرأسنا في المجد. ومن شأن هذا الفرح أن يحيطنا بسلام الله الذي يفوق كل عقل (فيلبي4: 7)، مهما كانت التجارب التي تحيط بنا. ولذلك يوصينا الرسول بالقول "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا" (فيلبي4: 4)، لأن فرح الرب هو قوتنا (نحميا8: 10).
6-تمتعنا بذات الحب الذي أحب الآب به الابن:
فقد قال للآب "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (ع26)- إن "محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رومية5: 5)، ولولا ذلك لما عرفنا شيئاً عن محبته. ولكن المسيح يطلب هنا، أن تتسع قلوبنا لكي يكون فيها ذات المحبة التي للآب من نحو شخصه المبارك. والوحي يريد أن نتمتع بهذه المحبة حتى يمكن أن نحب الآب كما أحبه المسيح، ويمكن أيضاً أن تسمو حياتنا سمواً يقودنا إلى التفاني في خدمة الله وإكرامه، كما فعل المسيح من قبل (أفسس5: 2، 1بطرس2: 22، 1يوحنا3: 16).
7-وجودنا مع المسيح في الأبدية لمعاينة مجده:
فقد قال للآب "أيها الآب! أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون، لينظروا مجدي" (ع24)- إن المسيح علمنا أن نخاطب الآب بالقول "أبانا"، أما هو فعندما كان يخاطبه، كان يناديه فقط: "أيها الآب"، لأنه ابن محبة الآب (كولوسي1: 13). أو "يا أبتاه" (لوقا23: 34و 46)، لأنه "الابن الوحيد" (يوحنا1: 14و 18، 3: 16) وقوله "أريد"، يدل على أن له رغبة صادقة عقد العزم على تحقيقها. وهذه الرغبة هي أن يكون تلاميذه معه حيث هو. وفي هذا تظهر لهم بكل كمالها. فهو لا يريد أن يكونوا في السماء فقط، بل أن يكونوا أيضاً في نفس المكان الذي يوجد فيه (على الرغم من التفاوت الذي لا حد له بينه وبينهم)، وذلك لكي يشاهدوه في مجده كما شاهدوه مرة في آلامه (1بطرس5: 1).
رأينا فيما سلف أن المسيح أعطى تلاميذه من الآن مجده المكتسب، ولذلك سوف يتمتعون بكل يقين بهذا المجد عملياً في السماء. ولكن أشهى ما لديهم أن يغضوا الطرف عما سيكونون فيه من مجد. وأن يتفرسوا في مجد سيدهم الذي هو أحب حبيب لديهم. لأنه هو الذي بذل نفسه كفارة عنهم. ومن ثم فإن لسان حالهم هناك، كما في كل مكان وزمان: يجب أن هذا يزيد ونحن ننقص (يوحنا3: 30). كما أنهم سوف يطرحون بكل سرور أكاليلهم عند قدميه، قائلين له: "مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة" (رؤيا5: 12)- فغرض المسيح من رؤية تلاميذه لمجده إذاً ليس لكي يختال أمامهم فيه، كما يقول بعض النقاد، بل لكي يحقق لهم أعظم أمنية تختلخ في نفوسهم.
مما تقدم يتضح لنا أن المسيح، في نعمته التي لا حد لها، قدس نفسه أو بالحري خصصها لخدمتنا. فلم يكتف تبارك اسمه بتقديم نفسه كفارة لأجلنا حاملاً عنا قصاص خطايانا وعارها إلى الأبد، وجالباً إلينا كل رضا الله في شخصه الكريم إلى الأبد أيضاً، بل إنه يحيا الآن كذلك لأجلنا. فيخدمنا بشفاعته وكهنوته بكل محبة وصبر وطول أناة، جاعلاً عرش الله ملاذاً لنا في كل وقت من الأوقات، إذ يرسل لنا من هناك العون إذا عجزنا عن القيام بواجب، أو ضعفنا أمام التجارب، حتى تكون لنا شركة روحية مستمرة مع الله، كلها قداسة وعبادة وابتهاج. ولذلك لا يسعنا إلا أن نقول مع الرسول "لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات" (عبرانيين7: 26) له المجد والإكرام إلى أبد الآباد.
72-كلمة "كل" الأولى، يراد بها في الأصل "البشر ككل". أما كلمة "كل" الثانية، فيراد بها كل فرد على حدة.
73-بالإضافة إلى هذا المجد، فللمسيح مجد ذاتي خاص به بوصفه الابن الأزلي (يوحنا17: 5). وطبعاً ليس لنا أن نشترك معه في مجده هذا بحال.
74-أما من جهة كونه "ابن الله الأزلي" الواحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت، فهذا مركز خاص به دون سواه.
75-أما اختيار المسيح له، فكان لمجرد جعله أميناً للصندوق، وذلك لكي يحد من مطامعه المادية، ومع ذلك لم يتأثر مطلقاً بمعاملة المسيح الكريمة له.
76-وتشمل الشؤون الدينية العبادة الشكلية ذات المظاهر الجذابة للعين البشرية، والحال أن العبادة التي يطلبها الله هي العبادة بالروح والحق.
- عدد الزيارات: 3280