الأصحاح الأول - عدد 16-18
فقالت راعوث لا تلحي عليَّ أن أتركك وأرجع عنك. لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِّ أبيت. شعبك شعبي، وإلهك إلهي. حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد. إنما الموت يفصل بيني وبينك. فلما رأت أنها مشددة على الذهاب معها كفت عن الكلام إليها ( ع 6-18).
ما كان لكلمات نعمي أن تثني راعوث عن قرارها. لقد رفضت الأوثان، وشعرت بحاجتها إلى ما يشبع قلبها. إن اسم راعوث معناه "شبع"، وكانت رغبتها أن تُشبع، لا حاجات الجسد والطبيعة، بل بالحري الحياة الجديدة التي صارت فيها. فهل كانت الأوثان تحقق لها هذا الشبع؟ أم كان الزواج وتكوين أسرة هو الذي يشبعها؟ كثيرون من الشباب يظنون أن أموراً كهذه يمكن أن تشبعهم، ثم يستفيقون ويتوبون، ولكن بعد فوات الأوان، ولكن راعوث لم تسقط في فخ إبليس هذا، فلم يوقفها شيء بالرغم من أنها كانت تعلم جيداً أن حماتها لم تكن سوى أرملة فقيرة.
رأينا أن نعمي كانت صورة لشهادة الله على الأرض. لقد فقدت كل شيء وهي في موآب، ذلك المكان الغريب عن الله، وهاهي كبقية صغيرة (إش 9:1) راجعة إلى المكان الذي ينبغي أن تقام فيه الشهادة. كانت تحت تأديب الله، وراعوث أدركت ذلك تماماً، وكان ذلك محزناً لقلبها، حتى أنها بكت. ولكنها كانت تنظر إلى الباب المفتوح الذي جعله الرب أمامها (رؤ 8:3). ومن يرَ ذلك الباب لا يستطيع أن يوليه ظهره.
كانت فيلادلفيا صغيرة، ولم يكن لها سوى «قوة يسيرة» ولم يعترف بها مجمع الشيطان. ولم يكن لها أعمال عظيمة، وأولئك الذين فيها ليسو أفضل من غيرهم إطلاقاً، بل على العكس، هم يعرفون ضعفهم، ويعلمون أنهم لا شيء. لقد انحنوا تحت تأديب الله للكنيسة، لذلك ليس فيها شيء يروق للجسد أو الإنسان الطبيعي. ولكن من يريه الرب «الباب المفتوح» فلا شيء يستطيع أن يقف عائقاً في طريقه. فمن يشعر برغبة قلبية في السير مع الرب والوجود إلى جواره لن تمنعه موانع.
إن راعوث تحمل شهادة رائعة. فكلماتها لم تكن كلام الشفتين كما هو واضح، بل لغة نفس قد اتخذت قرارها بعزم القلب بعد أن حسبت التكلفة. ربما لم تكن تستطيع أن توضح للآخرين معنى وأبعاد كلماتها كاملة. فهي لم تكن قد تعرفت ببوعز شخصياً، ذلك الرجل «جبار البأس» الذي يسكن في بيت لحم، بل لم تكن تعرف بيت لحم ولا كل ما فيها، ولكنها فقط انجذبت بما رأته في نعمي. لقد تحققت أن نعمي لابد وأنها تمتلك شيئاً لا تمتلكه هي. لذلك لم تكن كلماتها مبنية على دراسة متأملة في أفكار الله، ولا عن اختبارات عميقة لكل ما يوجد في فيلادلفيا، وإنما كانت كلمات نابعة من إيمان بسيط يميز أعمق الحقائق وإن كان لا يستطيع أن يستخرجها من كلمة الله، ولا تعلمها اختبارياً. تلك هي المسحة التي من القدوس، التي بها يستطيع الطفل في المسيح أن يدرك كل شيء ولا يحتاج أن يعلمه أحد (1يو 20:2و27).
كانت كلمات راعوث لنعمي تكشف عن أنها تريد أن تكون واحداً معها، ولكنها فيما بعد اختبرت ماذا يعني أن تتحد ببوعز، وأن تكون واحداً معه. عندئذ فقط كان في إمكانها أن تدرك إدراكاً كاملاً قيمة كلماتها إلى نعمي أولاً.
إن المؤمن الذي أتى لتوِّه من العالم لا يكون له وضوح الرؤية لأفكار الله، بل حتى المؤمن الذي في «ساردس» إذا ما رأى «الباب المفتوح» لا يكون له الفهم الواضح لأفكار الله، وأنَّي يكون له ذلك؟ إن الترتيب الإلهي هو أن نتعلم أن نفهم أفكاره على الوجه الصحيح عندما ندركها في طريق الطاعة له فقط. مثل هذا الإنسان عادة ما يأتي بين المؤمنين لمجرد أنه أبصر نوراً بسيطاً من الحق. ثم بعدئذ يجد هناك الإنجيل الكامل ومعرفة الخلاص. قد يجذبه أنه يجد هناك طعاماً أوفر لنفسه، أو ربما لأنه يجد هناك الرابطة الجماعية والمحبة القلبية بين القديسين. فإن كان ذا قلب خاضع للرب فسيدرك ما هو أبعد، وبساطة الإيمان ستعطيه تمييزاً في كل أمر، حتى ولو لم يكن قد تعلمه بوضوح من المكتوب.
وعندما نتكلم عن «بساطة الإيمان» لا نقصد بالطبع "الإحساس". فالأول روحي، أما الثاني فهو من الإنسان الطبيعي. فإن لم يتبع الرؤية البسيطة لأفكار الله ما يؤكدها ويثبتها من كلمة الله فإنه من المؤكد أن الشيطان سيستخدم بساطة الإيمان هذه ليدخلنا إلى طرقنا الخاصة التي يقودنا إليها إحساسنا.
إن قوة اعتراف الإيمان في راعوث تجعلنا نضعها في قائمة أبطال الإيمان، بالرغم من أنها لم تكن من جنس إسرائيل. كذلك في 2صموئيل 15 نقرأ عن شخص آخر، هو إتاي الجتي، الذي في مقابل ما بدا من معظم إسرائيل من رفض لداود واتباع لأبشالوم ابنه الذي قام عليه يقول «حي هو الرب وحي سيدي الملك، إنه حيثما كان سيدي الملك، إن كان للموت أو الحياة فهناك يكون عبدك أيضاً» (2صم 21:15). ونرى نفس هذا التكريس في أليشع (2مل 2:2 و6). هذا أيضاً ما جعل بطرس يجيب في يوحنا 68:6 «يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك».
إن في قلب كل مؤمن رغبة لأن يتبع الرب يسوع. فإن غابت هذه الرغبة كلية كان ذلك دليلاً على أن هذا الشخص غير مؤمن، غير مولود ولادة جديدة. ولكن السؤال الهام هو: هل يمكن أن يقال عنا ما قيل عن المائة والأربعة والأربعين ألفاً في رؤيا 14 «هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب».
في إنجيل متى 29:14 نقرأ عن التلاميذ الإثني عشر وهم جميعاً في السفينة، ولكن بطرس وحده يترك السفينة ليكون قريباً من الرب. هل كان باقي التلاميذ لا يحبون الرب؟ كلا، فنحن نعلم جيداً أنهم أحبوه، ولكن كان ثمن الوجود بقربه غالياً، فقد كان الثمن أن يتركوا السفينة، التي هي الوسيلة الوحيدة لأي إنسان ليبقى فوق الماء ولا يغرق. كان معنى ترك السفينة بالنسبة لهم هو أن يتخلوا عن كل شيء كانوا يتكلون عليه، وأن يضعوا ثقتهم فيه هو وحده، وكان هذا كثيراً عن أن تتحمله قلوبهم الضعيفة، ولكنه لم يكن كثيراً على قلب راعوث. «حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت» ما أجملها كلمات. إن راعوث لا تقول «حيثما سكنت أسكن». هكذا الكنيسة، ليس لها مدينة باقية، ولا موضع لها في الأرض، تماماً كما هو الحال بالنسبة لرأسها الرب المرفوض، إنها غريبة في الأرض، وسيرتها - أي موطنها - هو في السماء. وزمانها الذي تقضيه على الأرض ليس سوى «الليل» كما يسمى في كلمة الله، ليل فيه ابن الله مرفوض (رو 11:13، 1تس 4:5-7، يو 30:13، 2بط 19:1)، ليل سينتهي إذ يجئ الرب «كوكب الصبح» ليأخذها من هذا الموضع الذي يسود فيه "الليل". أما بالنسبة للأرض، فالليل سينهيه شروق «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ملا 2:4). أما الآن فإن الكنيسة موجودة في عالم قد رفض الرب، وهي تشارك الآن الرب آلامه ورفضه من العالم. ذلك هو الليل بعينه، الذي اشتد ظلامه منذ الوقت الذي لم تعد فيه المسيحية ككل تعترف بسلطان الرب، وارتبطت بالعالم عملياً.
أما راعوث فهي تربط نفسها بالشهادة في وقت تشبه فيه هذه الشهادة بأرملة كنعمي وقد أتى عليها الليل، فأصبحت لا تنتظر من العالم سوى الآلام، كما تعلم أن الإخوة والأخوات ليسوا بالضرورة محبين، بل إن الجسد كثيراً ما يظهر بينهم، بل تعلم أيضاً أن الشيطان يعمل في وسطهم، مقيماً صعوبات ولكن هذه هي شهادة الله، ولذلك فهي تريد أن تتحد بها بالرغم من كل هذه الضعفات، لذلك تقول «شعبك شعبي وإلهك إلهي». فهي لم تختر الأشخاص الذين سترتبط بهم، بل اختارت أن ترتبط بمن يرتبط بالشهادة، أولئك الذين هم عائلة الله، وينتسبون إلى الرب يسوع المسيح. هؤلاء هم شعبها الذي اختارت أن ترتبط به، بغض النظر عن شخصياتهم أو صفاتهم أو وضعهم الاجتماعي، أو البلد التي يعيشون فيها. وقد صار إله هذه البقية الأمينة - بل نقول إله ربنا يسوع المسيح - إلهاً لها. فالله في العهد الجديد يدعى «إله وأبو ربنا يسوع المسيح»، وقد قال الرب يسوع المسيح نفسه عن الله بعد قيامته «أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم».
«حيثما مت أموت...» وأين يموت المؤمن؟ ليست المسألة هنا مقامنا المؤسس على عمل الرب يسوع، إذ أنه من جهة هذا الأمر فكل مؤمن يقال عنه أنه «مات مع المسيح» (رو 8:6، كو 3:3). ولكن المسألة هنا هي الإدراك العملي لهذه الحقيقة في قلوبنا أولاً ثم حياتنا، لذلك يقول الرسول بولس في غلاطية 20:2 «مع المسيح صلبت. فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي». لاحظ أنه لا يقول «نحن» بل «أنا». هذا هو الإدراك الشخصي للمبدأ الذي هو صحيح لكل مؤمن. ثم يستطرد الرسول في غلاطية 14:6 «. ..ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم».
لقد حُسمت علاقة المسيح مع العالم في الصليب. فهو قد جاء إلى الأرض برسالة نعمة الله لأجل العالم. «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 19:2) ولكن العالم لم يقبله، لا هو ولا نعمة الله، وكان رد العالم على رسالته هو الصليب «خذه، خذه اصلبه» وأعقبه بالقبر، لأن هذا ما يفعله العالم مع كل من ينتهي منه، إنه يدفنه، فلا يعود يعترف به ولا يفتكر فيه.
كان يكفي راعوث أن تموت وأن تدفن مع نعمي، كانت مستعدة لأن تأخذ مكانها مع نعمي إلى النهاية، حتى ولو كان ذلك يعني أنها ستنفصل نهائياً عن الحياة التي كانت تحياها قبلاً. كان ذلك يعني أنها سوف تكون نسياً منسياً بالنسبة لأولئك الذين ارتبطت بهم من قبل.
هل نحن لدينا الاستعداد أن نأخذ مكاننا هكذا مع ربنا يسوع؟ هل نحن مستعدون أن نكون مرفوضين كما هو مرفوض؟ لقد قطع العالم عنه ربطه التي كانت له بالمسيح. لذلك فإنه في الزمان الحاضر ليس له شيء يعمله لأجل العالم، فهو الآن لا يطلب لأجل العالم (يو 9:17). صحيح أنه في يوم قادم سيسأل ليأخذ العالم ملكاً له (مز 8:2)، وعندئذ سيدينه. وفي ذلك اليوم المرتقب سوف نشاركه نحن ملكه (اقرأ 1كو 2:6).
لقد اعترفنا بهذا الحق في المعمودية، فنحن اعتمدنا لموت ربنا يسوع المسيح، وهكذا دفنا معه بالمعمودية (رو 3:6 و4). صحيح أننا جميعاً لم ندرك في تلك اللحظة كل ما تعنيه المعمودية، ولا راعوث أيضاً في تلك الساعة كانت تدري كل المعاني التي وراء كلماتها، ولكن نفس بساطة الإيمان التي دفعت راعوث لأن تقول تلك الكلمات التي عبرت بها عن رغبتها في أن ترتبط بنعمي فقط، هي ذات نفس بساطة الإيمان التي جعلتنا نعترف في المعمودية بالحق المكتوب.
ولكن، هل أدركنا الآن معاني هذا الاعتراف؟ وهل ما زالت لغة قلوبنا إلى الرب يسوع «حيثما متَ أموت، وحيثما دفنتَ فسروري أني هناك أندفن. أتبعك أينما تمضي، حتى ولو كان الطريق يؤدي إلى الرفض التام من جهة العالم، والانفصال عنه انفصالاً نهائياً». هل لا زالت لغة القلب إلى الآن هي قول المرنم
فامكث معي يا سيدي واجعلني دوماً سائراً إثـر خطاك قائدي
- عدد الزيارات: 26661