Skip to main content

الأصحاح الأول - عدد 2

الصفحة 2 من 13: عدد 2

فذهب رجل من بيت لحم يهوذا ليتغرب في بلاد موآب هو وامرأته وابناه، واسم الرجل أليمالك، واسم امرأته نعمي، واسما ابنيه محلون وكليون أفراتيون من بيت لحم يهوذا، فأتوا إلى بلاد موآب وكانوا هناك ( ع 1،2)

في تلك الأيام كانت هناك عائلة معينة في بيت لحم يهوذا، هي عائلة أليمالك وامرأته نعمي وابنيهما محلون وكليون. كانوا أفراتيين. ولا نقرأ أسماء هؤلاء الأربعة في أي موضع آخر من كلمة الله.

من الأعداد الأولى من الأصحاح السابع من الرسالة إلى العبرانيين نفهم أن الأسماء التي وردت في كلمة الله لها هدفها ومغزاها الروحي، حتى ولو لم تبدُ لنا كذلك. فبيت لحم تعني "بيت الخبز"، ويهوذا معناها "حمد" أو "يُحمد"، وأفراته تعني "خصباً" وأليمالك تترجم "إلهي ملك"، أما نعمي فتترجم "محبوبتي" أو "مسرتي".

ألا تعطينا هذه الأسماء صورة جميلة لعطايا الله لشعبه؛ لإسرائيل كما للكنيسة أيضاً؟ فهناك مكان - إن جاز لي التعبير هكذا - حيث خزائن الرب، حيث وفرة الخبز (مي 2:5، يو 32:6-58). ذلك المكان ذاته هو مكان السجود، حيث يرفع الحمد والتسبيح والشكر للرب. حقاً ياله من مكان خصيب وفير الثمر. في هذا المكان يسكن إنسان يحمل اسمه اعترافاً بأن إلهه ملك، حتى وإن لم يكن هناك ملك منظور في إسرائيل، بل حتى لو رفض إسرائيل ملكه. وهناك أيضاً تعيش امرأة محبوبة من الله، بل هي موضوع مسرته.

هل عرفت أيها القارئ العزيز ما هو هذا المكان الجميل؟ حيث يجمع الرب خاصته حوله (مت 20:18)؟ هنا "بيت الخبز" الذي له، حيث تُطعم نفوسنا دائماً بشخصه، هو هناك في وسط الذين يعترفون به رباً (رو 9:10) هل تدرك يا أخي ماذا يعني بالنسبة له أن يجد في هذا المكان الذين قد صارت قلوبهم له خالصة؟ إنه في ذلك يجد "مسرته"، وهنا يجد "محبوبته".

ولكن الله يريد الحق في الإنسان الباطن، فعندما نوجد معاً في مكان البركة هذا، ونفرح بما يقدمه لنا الرب، ومن ثم نقدم له حقه من الشكر ونترنم بتسبيحه، حينئذ يفحص هو قلوبنا ليرى هل هي حقاً مستقيمة معه، أم أن كلماتنا أسمى كثيراً من حالة قلوبنا الفعلية. وأحياناً في معاملاته معنا يضطر لأن يرسل علينا جوعاً، حتى نشعر بحاجتنا ونحكم على أنفسنا في نور محضره الفاحص.

ألم يحدث معنا مثل هذا الاختبار؟ فمع وجودنا في «بيت لحم»، بيت الخبز، فإننا قد نظل جوعى دون شبع. فكيف تصرفنا في هذه الحالة؟

من المؤكد أن هذه ليست هي الحالة الطبيعية أن نوجد في حالة الجوع في الوقت الذي نجتمع فيه من حول شخص الرب. ولكن هل رجعنا إلى الرب لنسأله عن السبب في ذلك؟ لو فعلنا ذلك لأجابنا حتماً. قد يكون السبب أن قلبي قد تحول عنه، فلم تعد له شهية نحو الخبز السماوي الذي يعطيه هو. وقد نكون قد عمتنا معاً حالة الابتعاد عن الله، لذلك فهو في أحكامه القضائية «يكسر لنا قوام الخبز»، وقد نكون قد تصرفنا كأليمالك، الذي بالرغم من اسمه الحلو «إلهي ملك» اختار طريقه وهرب من بيت الخبز حيث عمت المجاعة، ولم يسأل عن السبب وراء هذه المجاعة. والآن وقد أرسل الرب تجربة، فقد انكشفت الأعماق التي استقرت خلف اعترافه، فبحث عن موضع آخر لنفسه لعله يجد فيه خبزاً، ولم يسأل ما هي إرادة الله.

قد يكون لنا اعتراف حسن أن يسوع هو سيدنا، وقد نعترف باجتماعنا إلى اسم ربنا يسوع، وذلك بأن نأخذ مكاننا هناك، أو قد نفتخر ونجاهر بهذا الحق، وبذلك نكون قد اعترفنا بأننا نجتمع إلى اسمه، وأنه هو مضيفنا، وأنه لا سلطان علينا سوى إرادته هو، وأنه لا رأي ولا إرادة شخصية لنا. ولكن، هل هذه هي الحقيقة؟ وهل نحن نحترمه كرب حين نجتمع معاً لممارسة حياتنا الكنسية، بل حتى في حياتنا اليومية أيضاً هل نسأله «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟». ثم هل نحن ننفذ فقط ما يأمرنا به؟ إن الله ينظر إلى الحق والإخلاص في القلب.

لا شك أن الله - وكذلك أيضاً الإسرائيلي الروحي - قد لمس قصوراً في حياة أليمالك، حتى أنه سمى ابنيه «محلون» أي مريض، و«كليون» أي ضياع فلم يكن اسماهما تعبيراً عن إيمان حي، ولا كان شهادة عن حالة صحيحة.

كثيراً ما يحدث هذا في حياتنا العائلية، فيوجد فيها خلل خطير، يبدأ عادةً بما نسمح به لأولادنا، فتبدأ حياتنا في الانحدار، ولكن السبب الأساسي في هذا هو حالة الآباء، لذلك نقرأ في سفر العدد «سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم، كل واحد في باب خيمته» (عد 10:11).

لما أرسل الله تجربة فكانت مجاعة في الأرض، ماذا فعل أليمالك؟ هل تصرف بما يتفق مع الشهادة التي حملها طول حياته، أن «إلهي ملك»؟ كلا، بل أظهر أن اسمه هو مجرد كلام الشفتين ليس إلا، وأما القلب فلم يكن له هذا الاعتراف. لذلك لم يسأل عن مشيئة الله، بل ترك بيت الخبز حيث العبادة الحقيقية والبركة.

كان لدى أليمالك الكثير من المبررات التي يستطيع أن يقيمها ليبرر فعلته هذه، ألم يترك ذلك اللاوي، حفيد موسى، منذ عهد قريب بيت لحم يهوذا؟ (قض 8:17). وهل يمكن أن مثله يكون مخطئاً وهو اللاوي؟ ثم ألم يترك إبراهيم نفسه، وهو أبو المؤمنين أرضه ونزل إلى مصر لما كان الجوع في الأرض؟ (تك 10:12). ولكن أليمالك تناسى النتائج المفجعة التي نتجت عما فعله كليهما. لربما يقول أنه أفضل حالاً، فهو لم ينزل إلى مصر، بل ذهب إلى بلاد موآب التي لا تبعد كثيراً عن بيت لحم، ثم إن موآب - على نحو ما - قريبة لإسرائيل. هذا علاوة على أن حقول موآب سبق أن بوركت، ألم ينطق بلعام بوحي من الله لما رأى الشعب حالاً في عربات موآب - أي سهول موآب - فقال «ما أحلى خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل، كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود غرسها الرب، كأرزات على مياه» .. . «الرب إلهه معه وهتاف ملك فيه» (عد 24 :5، 6، 23 : 21). علاوة على ذلك، ألم يعطِ موسى التحريضات الأخيرة للشعب في الجزء الأخير من سفر العدد، وكل سفر التثنية في عربات موآب. وعلى الجانب الآخر، فلم يبقَ شيء حسناً في بيت لحم ولا في الأرض وهو يتركها، ثم إنه ليس ذاهباً إلى بلاد موآب ليندمج معهم، بل ليتغرب فقط هناك إلى حين ينتهي الجوع الذي في الأرض، ثم هو عائد لا محالة بعد ذلك.

كل ما ساقه أليمالك من أعذار كان صحيحاً، ولكنها كلها أيضاً كانت في عدم طاعة لله، ولو أنه طلب مشيئة الله لما ترك إطلاقاً الأرض التي أعطاها الله لشعبه ليسكن فيها إلى الأبد.

فمع أن سهول موآب كانت على مقربة من بيت لحم، إلا أن نهر الأردن كان يفصل بينهما، حتى أن من يريد أن يأتي منها إلى أرض كنعان أو بيت لحم كان عليه أن يعبر الأردن الذي هو رمز لكوننا دُفنا مع المسيح وأُقمنا معه، الأمر الذي لم يكن يحتاج إليه من هو في موآب، حيث الإنسان الطبيعي يستطيع أن يدخل كما هو.

صحيح أن موآب كان ذا قرابة لإسرائيل من أبيه ومن أمه ولكنها قرابة ناتجة عن علاقة غير شرعية، وقعت تحت تأثير الإفراط في السكر (تك 30:19-38). كما أن كموش، إله موآب، لم يكن هو «يهوه». وإن كان موآب يعني "الذي من الأب" ولكن أي أب هذا الذي كان موآب ينتمي إليه؟ بالطبع لم يكن "يهوه"، الذي كان موآب عدواً له.

من أجل ذلك منع الله إسرائيل من أن يسمحوا لأي موآبي بالدخول في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. في حين أن المصري الذي لم يكن ذا قرابة لإسرائيل لم يكن مسموحاً لإسرائيل أن يعتبره رجساً، بل يقبل الجيل الثالث منه في جماعة الرب (تث 3:23-8). وحتى ولو أحسن الموآبيون استقبال إسرائيل وهو عابر أرضهم، فما كان هذا ليغير من حقيقة كونهم أعتى أعداء شعب الله. ألم يفعلوا كل ما في وسعهم ليفنوا شعب الله، مرة بالسحر ومرة بالزنى وعبادة الأوثان، بل وحتى بالحرب أيضاً (عد 22-25، قض 12:3-14).

وفي المستقبل لن يكونوا غير ما كانوا قبلاً، ففي مزمور 83 يرد ذكر موآب بين الأمم التي ستقول «هلم نبدهم من بين الشعوب ولا يذكر اسم إسرائيل بعد». بل الآن أيضاً، ألا تسمع تلك النغمة عينها من ذات الأمم التي ستكوِّن هذا التحالف الرهيب؟ لذلك كان أمر الرب «لا تلتمس سلامهم ولا خيرهم كل أيامك إلى الأبد» (تث6:23).

صحيح أن حقول موآب كانت مواضع مباركة في الأيام الأخيرة لرحلة الشعب، وقبيل دخوله إلى الأرض، ولكنها الآن لم تعد كذلك بعد أن قاد الله شعبه إلى ملء الميراث في الأرض. لذلك فالرجوع إلى الوراء بعد ما سار بهم الرب للأمام هو احتقار وإهانة لمحبة الله ونعمته. «لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح لنتقدم إلى الكمال» (عب 1:6).

وهل نحن أفضل من أليمالك؟ ألسنا نجد لأنفسنا مرات الأعذار التي تبرر تركنا "المكان" و "الموضع"، لكن ولا عذر واحد منها يقوم أمام الله. فأماكن أخرى قد تبدو ظاهرياً وكأن لها ارتباطاً بشعب الله، وأن فيها صورة شهادة لله، ولكنها ليست كذلك، بل هي من عمل الإنسان الطبيعي، إذ أن سلطان المسيح ليس هو القاعدة الوحيدة فيها، ولو بدت ظاهرياً أنها شهادة لله، الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال اجتماع شعب الله إلى اسم الرب يسوع، وما عدا ذلك فهو مكرهة عند الله، الذي لا يتهاون من جهة هذا الحق مع شعبه.

ليست هناك حجة تقوم أمام الله سوى وصاياه وأحكامه فقط، وما علينا نحن سوى الطاعة. فأليمالك لم يذهب إلى موآب لرغبة في أن تنمو عائلته في النعمة ومعرفة الله، ولا لكي يمجد الله في وسط عادات وتقاليد ما يُسمى اليوم بالعالم المسيحي، بل أنه ببساطة أراد أن يشبع رغباته الطبيعية.

لو أننا فحصنا دوافعنا في نور محضر الله الكاشف، لظهر على الفور الباعث الحقيقي لها، سينكشف على الفور ما إذا كنا نريد طاعة الله أم لا، فإن كان الله قد منع المطر عن بيت لحم لكونه لم يعد مكرماً هناك، أفهل كانت له كرامة أكثر في موآب؟ في الواقع إن المجاعة لم تكن سوى المحك الذي كشف حقيقة إيمان أليمالك بأعماله (يع 18:2)

علاوة على ذلك فقد تضمنت وصايا الله وأحكام كلمته ضمانات للفقير، على سبيل المثال اقرأ تثنية 7:15-11، 12:24...الخ. أفلم يكن هناك رجل غني، جبار بأس قريب لأليمالك في بيت لحم، وعنده الاستعداد لأن يعينه في التجربة؟ بلى، وكانوا يعرفونه جيداً ويعلمون استعداده لذلك، فعندما رجعت نعمي أخيراً تحت تأديب الله إلى الأرض كان لسماعها اسم بوعز تأثيره عليها. ولكنهم لم يفكروا آنذاك فيه، ولا وضعوا ثقتهم فيه. أليس هذا ما يحدث منا؟ هل كنا نذهب في طرقنا الخاصة، مجتهدين أن نوجد لأنفسنا مخرجاً من صعوباتنا لو أننا افتكرنا في بوعزنا الحقيقي، ووضعنا ثقة أكبر فيه؟

ولكن ما الذي دفع أليمالك ونعمي للذهاب إلى بلاد موآب؟ لقد وقعت قرعتهم في أيام ازدادت فيها الصعوبات وكثرت المشاكل، ولم يعد الأقربون قادرين على مد يد المعونة، فعجز إيمانهم عن أن يسمو فوق الظروف، ليسوا هم وحدهم الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، فكم من الذين خلصوا بالإيمان غير قادرين على أن يسلكوا بالإيمان في أوقات الامتحان والتجربة، كم من مؤمنين وضعوا ثقتهم في الله من جهة خلاصهم، إلا أنهم ما زالوا قلقين من جهة احتياجات عائلاتهم، وكأنه لم يعد موجوداً ذاك الذي قال «لا أهملك ولا أتركك».

ما أعظم الخسارة التي نخسرها من جهة الإدراك والمعرفة - حتى بالنسبة للأمور التي سبق وأدركناها مرة - عندما تتحول أنظارنا عن الولي الحقيقي، وتعود قلوبنا فتشتاق إلى أمور العالم. كان أليمالك - نظيرنا - في حاجة إلى معونة من الله. ربما كان هناك طعام في موآب، ولكن الحياة والنسمة في يد الله، بل وكل شيء أيضاً في يده.

إنه لأغبى من الغباء أن يفقد إنسان نفسه وحياته لأجل الخبز، ولكن كان هذا هو طريق أليمالك الذي اختاره، والذي ما زال الكثيرون يختارونه. لقد أراد أن «يتغرب» في أرض موآب، ولكنه مات هناك، ثم استقر ابناه هناك، واتخذا لهما امرأتين من بنات موآب. فالأب طلب «الأشياء التي في العالم» فطلب أبناؤه العالم نفسه، ثم جاء الموت فقلب خططهم رأساً على عقب. أليس هذا عينه هو اختيار الكثيرين؟ «توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت» (أم 12:14،25:16). ولكننا لو تصرفنا كما فعل الشعب في لاويين 15:9-23 لتبدلت الحال تماماً.

لقد حاول أليمالك أن يهرب من تحت تأديب الله، فوقع في فخ إبليس، وهكذا الحال دائماً. لقد قال الله لإسرائيل مرة «كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد، فصادفه الدب، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته الحية» (عا 19:5). فإن كنا نتصرف حسب إرادتنا الذاتية فلابد أن نختبر المكتوب «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 7:6،8).

لقد تحول أليمالك عن ينبوع الحياة، فوجد الكأس التي أعدَّها لنفسه وقد امتلأت موتاً مريعاً، كالذي كان على يونان أن يختبره. إنها قمة الحماقة أن نظن أننا يمكننا أن نسلك في شركة مع الله في الوقت الذي نذهب فيه وراء طرقنا الخاصة دون أن نسأله. «لا تضلوا، الله لا يُشمخ عليه».

ما أبعد هذا عما نراه في ربنا يسوع، الذي لما جاع، وأراد الشيطان أن يجعله يتصرف بالاستقلال عن الله كما فعل أليمالك، بأن يحوِّل الحجارة خبزاً، فرد قائلاً «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت 4:4، تث 3:8). فهل نسي أليمالك تلك الكلمات التي تكلم بها موسى منذ عهد قريب؟ إن كلمة الله تحرضنا أن نتبع خطوات ربنا يسوع المسيح.

كان هناك خبز في موآب، وكذلك الخمر التي تفرح (إش 16، إر 48)، كما كانت أرض رعي ومواشٍ كثيرة القطعان (2مل 4:3). كما كان فيها حقول وكروم. وهي بذلك قريبة الشبه في ملامحها من أرض كنعان التي «تفيض لبناً وعسلاً»، وفيها كروم ذات عناقيد كبيرة (تث 10:11-15، عد 23:13)، ولكن لنمعن النظر لنرى كيف كان الموآبيون متكبرين متعجرفين. ويبدو أنه كان لديهم ما يدعو إلى ذلك. فهم لم يذهبوا إلى السبي، ولا دخلوا في ضيق كما حدث لإسرائيل، «مستريح موآب منذ صباه، وهو مستقر على دُرديه، ولم يفرغ من إناء إلى إناء، ولم يذهب إلي السبي، لذلك بقى طعمه فيه ورائحته لم تتغير» (إر11:48-13)

إن قلباً لا يلتصق بالرب يسوع لا يستطيع أن يتقبل الصعوبات ولا تدريبات الإيمان، بل يريد فقط الراحة والاستقرار. لكن خطة الله ليست هكذا، «يا ابني لا تحتقر تأديب الرب...لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله...ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون...» (عب 5:12-11). وأين نجد امتحان وتدريبات الإيمان أكثر مما نجدها في ذلك المكان الذي فيه يجتمع أولاد الله إلى اسم ربنا يسوع؟

إن من يتبع نظاماً كنسياً من ترتيب البشر، له اعتراف من صياغة البشر - حتى ولو كان اعترافاً يمكن تأييده من الكتاب المقدس - فإنه حينئذ يكون محكوماً بقوانين وقواعد يجب أن يتصرف بموجبها، أياً كانت تلك القوانين والقواعد، ولكن عندما نُجمع «إلى اسمه»، ونفهم معنى أن يكون السلطان له وحده، فيطبق كل منا على نفسه ما يأمره به الرب في كل شيء، فعندئذ يأذن الرب لنا أن نوجد على مائدته. ولابد لنا حينئذ أن نسأل الرب «ماذا تريد يارب أن أفعل؟» وفي كل صغيرة أو كبيرة لابد أن نلتمس منه الإجابة بما يريده منا. وهكذا يكون كل قرار تتخذه الكنيسة في أمر ما، وكل رأي تتفق عليه تعبيراً عن فكر الرب. ولا يكون الهدف من مناقشة أي موضوع هو تأييد رأي شخصي، بل بحثاً مشتركاً عن ما هي إرادة الرب. تلك هي تدريبات القلب، أن لا نسمح لأفكارنا الخاصة أن تجرنا، فلا نتكلم من نبع أفكارنا الخاصة، بل أن نجتمع معاً بقصد معرفة فكر الرب.

أما إذا كان "مجلس الكنيسة" هو الذي يقرر خط سير الاجتماعات، ومن هو الذي يكون مسموحاً له أن يشترك في الخدمة، فإن فرصة حدوث صعوبات تكون محدودة، وبالتالي لا تكون هناك تدريبات قلبية. أما عندما يكون للروح القدس الاختيار، ماذا يفعل، وبمن يفعل، فحينئذ فقط تكون هناك فرصة لتدريب القلب.

كيف تستطيع الكنيسة أن تعرف ما إذا كان هذا الأخ يتحرك وفق نبضات الروح القدس؟ إن معرفة ذلك تستلزم أن نحيا قريبين جداً من الرب. نحتاج أن نكون روحيين حتى نستطيع أن نميز قيادة الروح القدس، وكيف يجب أن تتصرف الكنيسة إذا تحرك الجسد مظهراً ذاته. فإن الجسد يجد أكبر فرصة له للظهور في المكان الذي تُعطى فيه الحرية الكاملة للروح القدس. فحيث يكون كل شيء روحياً وبعمل الروح القدس تكون فرصة الجسد لإظهار ذاته أكبر منها في أي مكان آخر. وحيث يعترف المؤمنون بسلطان الرب يسوع وحده، وأنه لا رأي لهم، فهنا يكثف الشيطان نشاطه ليفسد أكثر من أي مكان آخر. إن هؤلاء الذين يجتمعون على هذا المنوال مازالوا بشراً على الأرض، وما زال الجسد يسكن فيهم، بل بكل أسف يكونون أحياناً جسديين، وأيضاً لابد أن يندس بينهم رسل للشيطان متنكرين في شبه ملائكة نور، وقد دخلوا خلسة في غفلة من المؤمنين لعدم استنادهم على الرب.

فكيف يجب أن تتصرف الكنيسة إذا أطل الجسد برأسه؟ وكيف تستطيع الكنيسة أن تميز ما إذا كان الأخ يتصرف عن جهل وضعف، أم أن إرادته الذاتية هي التي تعمل؟ فتجاه الجهل والضعف يجب أن نتحلى بالصبر ونقدم النصح بالمحبة، أما من جهة الإرادة الذاتية فلا يجوز التساهل معها، بل يلزم تصحيح الأمور بطريقة روحية. فكيف علينا كمسئولين أمام الرب أن نتصرف إزاء الجهل أو الضعف، وإزاء الإرادة الذاتية، إذا ظهرت أية حالة منها بين المؤمنين؟ وإلى أي مدى ينبغي أن نمارس الصبر؟ ومتى ينبغي علينا في خضوع لمشيئته أن ننفصل عن أواني الهوان؟

تلك هي تدريبات الإيمان، تدريبات الحياة الروحية التي نجدها في بيت لحم يهوذا. هكذا قصد الله، إذ هو يعلم غباء قلوبنا، وميلها السريع إلى الاستقلالية، لأجل ذلك لم يعطِ الكنيسة قوانين تحدد كيفية التصرف في كل حالة. فالعهد الجديد لا يعطينا سوى المبادئ الأساسية فقط، حتى في كل حالة نعود إلى الرب بالسؤال عن أي المبادئ تنطبق على هذا الأمر أو ذاك. والروح القدس الذي يسكن في كل مؤمن، كما يسكن أيضاً في الكنيسة، يعطي الإجابة الإلهية المحددة الواضحة. لذلك ينبغي أن نصغي إلى صوت الروح القدس المنخفض الخفيف.

إننا لا نستطيع أن نكون في هذه الحالة ما لم تخل قلوبنا وحياتنا من أي أمر غير محكوم عليه، فنحيا في شركة عملية معه. إن تدريبات كهذه لا توجد في موآب المستريح منذ صباه، المستقر على درديه كما قرأنا عنه. ألا يميل القلب البشري إلى تلك الراحة؟، لا سيما إذا اشتعلت الحرب الروحية وحمي وطيسها فأنهكت قواه وأتعبته.

لقد فر أليمالك من الصعوبات إلى الراحة في موآب، ظاناً أنه سيجد هناك الخبز والخمر - أي الفرح. حسناً، فقد كانت هناك كروم في موآب، ولكن ليست هناك الخمر الجديدة. ولا كان هناك الزيت الذي يعطيه الرب في أرضه لشعبه (تث 14:11). إن اليقطين البري يمكن أن يقدَّم طعاماً، ولكنه لن ينتج إلا الموت (2مل 38:4-40). كان هناك خبز في موآب، ولكن هل كان هو غذاء «الإنسان الجديد»؟ كلا، بل طعام الإنسان الطبيعي، طعام من لم يعبر الأردن - من لم يمت مع المسيح، ولا قام أيضاً معه. أما الإنسان الجديد - إنسان حياة القيامة - فله طعامه الذي يختلف في نوعيته. فحاجته هي إلى الخبز الذي يعطيه الله، حنطة قد نبتت في الأرض، ورويت بمطر السماء - الذي هو الروح القدس (تث 11:11-14، يش 2:5-12، 2مل 41:14). ولكن أليمالك لم يستطع أن يميز بين خبز موآب وخبز بيت لحم، وأنَّى لمن لم يعد نظره مثبتاً على الرب أن يحسن الرؤية؟ أما متى كانت العين بسيطة «فالجسد كله يكون نيراً». ألم تكتب هذه الأمور لتعليمنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور؟ (1كو 11:10).

عدد 3
الصفحة
  • عدد الزيارات: 26658