الأصحاح الأول
حدث في أيام حكم القضاة أنه صار جوع في الأرض ( ع 1)
من العبارة الأولى من هذا السفر «حدث في أيام حكم القضاة» نتعرف على طبيعة الفترة التي وقعت فيها أحداثه. كانت فترة حكم القضاة طويلة، بدأت عقب موت يشوع (قض 6:2-23) واستمرت حتى أواخر أيام صموئيل، عندما طلبت الأمة لنفسها ملكاً (1صم 8). وبالرغم من أن العبارة الأولى من السفر لا تعطي تحديداً واضحاً لزمن وقوع أحداثه، ولكنها تكشف بوضوح الحالة التي كانت فيها الأمة حينئذ.
من دراستنا لسفر القضاة نلاحظ أنه من الناحية التاريخية ينتهي عند الأصحاح السادس عشر، أما الأصحاحات من السابع عشر حتى الحادي والعشرين فهي تسجل وقائع حادثتين تظهران كيف أن الوثنية والزنا كانا طابع تلك الأيام.
لقد قصد الله أن يكشف لنا بوضوح أن هذه الحالة لم تسُدْ فقط في نهاية حكم القضاة بسبب التشويش ولسيطرة شعوب أخرى عليهم، وما مارسته تلك الشعوب عليهم من ضغوط، بل إن هذه الحالة سادت عقب موت يشوع والشيوخ الذين طالت أيامهم بعده. كما كان الخراب هو الحالة العامة بين الشعب، ولم يكن قاصراً على فئة منهم. إن الغلام اللاوي في قضاة 17و18 كان حفيداً لموسى، وهو الذي أدخل العبادة الوثنية إلى سبط دان، تلك العبادة التي ظلت قائمة هناك حتى سبي الأسباط العشرة بعد تلك الأحداث بستة قرون. كما أن الأحداث التي ترد تفصيلاتها في قضاة 19-21 وقعت في وقت كان فيه فينحاس حفيد هرون رئيساً للكهنة، فأين غيرته لمجد الله التي أظهرها في البرية (عد 1:25-13)؟ من هذا نفهم أن تلك الحادثتين في نهاية سفر القضاة وقعتا في بداية أيام حكم القضاة. وفي هذه الأصحاحات الخمسة الأخيرة من سفر القضاة تتكرر أربع مرات عبارة «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل» (ص 6:17، 1:18، 1:19، 25:21) وفي مرتين منها يعلَّق عليها بالقول «كان كل واحد يفعل ما يحسن في عينيه».
وهل نتعجب بعد هذا إن حدث جوع في الأرض في تلك الأيام؟ صحيح أن حدوث هذه المجاعة لم يكن الأمر الطبيعي، فقد سبق أن قال الله للشعب عن هذه الأرض إنها «تفيض لبنا وعسلاً»، «أرض ليس بالمسكنة تأكل فيها خبزاً»، أرض «من مطر السماء تشرب ماءً، أرض يعتني بها الرب إلهك، عينا الرب إلهك عليها دائماً من أول السنة إلى آخرها» (تث 3:6،9:8، 11:11 و12) ولكن الله قال أيضاً في نفس الأصحاح الحادي عشر وفي مواضع أخرى من سفر التثنية إنهم إذا زاغوا عنه فإنه «يغلق السماء فلا يكون مطر، ولا تعطي الأرض غلتها، فتبيدون سريعاً عن الأرض الجيدة التي يعطيكم الرب» (تث 17:11). لذلك كان لابد للرب في أحكام بره أن يرسل عليهم الجوع عندما تحولت الأمة عنه، وعبدت آلهة أخرى وسجدت لها. إنه يفعل ذلك ليوقظ ضمائرهم ليرجعوا إليه.
فذهب رجل من بيت لحم يهوذا ليتغرب في بلاد موآب هو وامرأته وابناه، واسم الرجل أليمالك، واسم امرأته نعمي، واسما ابنيه محلون وكليون أفراتيون من بيت لحم يهوذا، فأتوا إلى بلاد موآب وكانوا هناك ( ع 1،2)
في تلك الأيام كانت هناك عائلة معينة في بيت لحم يهوذا، هي عائلة أليمالك وامرأته نعمي وابنيهما محلون وكليون. كانوا أفراتيين. ولا نقرأ أسماء هؤلاء الأربعة في أي موضع آخر من كلمة الله.
من الأعداد الأولى من الأصحاح السابع من الرسالة إلى العبرانيين نفهم أن الأسماء التي وردت في كلمة الله لها هدفها ومغزاها الروحي، حتى ولو لم تبدُ لنا كذلك. فبيت لحم تعني "بيت الخبز"، ويهوذا معناها "حمد" أو "يُحمد"، وأفراته تعني "خصباً" وأليمالك تترجم "إلهي ملك"، أما نعمي فتترجم "محبوبتي" أو "مسرتي".
ألا تعطينا هذه الأسماء صورة جميلة لعطايا الله لشعبه؛ لإسرائيل كما للكنيسة أيضاً؟ فهناك مكان - إن جاز لي التعبير هكذا - حيث خزائن الرب، حيث وفرة الخبز (مي 2:5، يو 32:6-58). ذلك المكان ذاته هو مكان السجود، حيث يرفع الحمد والتسبيح والشكر للرب. حقاً ياله من مكان خصيب وفير الثمر. في هذا المكان يسكن إنسان يحمل اسمه اعترافاً بأن إلهه ملك، حتى وإن لم يكن هناك ملك منظور في إسرائيل، بل حتى لو رفض إسرائيل ملكه. وهناك أيضاً تعيش امرأة محبوبة من الله، بل هي موضوع مسرته.
هل عرفت أيها القارئ العزيز ما هو هذا المكان الجميل؟ حيث يجمع الرب خاصته حوله (مت 20:18)؟ هنا "بيت الخبز" الذي له، حيث تُطعم نفوسنا دائماً بشخصه، هو هناك في وسط الذين يعترفون به رباً (رو 9:10) هل تدرك يا أخي ماذا يعني بالنسبة له أن يجد في هذا المكان الذين قد صارت قلوبهم له خالصة؟ إنه في ذلك يجد "مسرته"، وهنا يجد "محبوبته".
ولكن الله يريد الحق في الإنسان الباطن، فعندما نوجد معاً في مكان البركة هذا، ونفرح بما يقدمه لنا الرب، ومن ثم نقدم له حقه من الشكر ونترنم بتسبيحه، حينئذ يفحص هو قلوبنا ليرى هل هي حقاً مستقيمة معه، أم أن كلماتنا أسمى كثيراً من حالة قلوبنا الفعلية. وأحياناً في معاملاته معنا يضطر لأن يرسل علينا جوعاً، حتى نشعر بحاجتنا ونحكم على أنفسنا في نور محضره الفاحص.
ألم يحدث معنا مثل هذا الاختبار؟ فمع وجودنا في «بيت لحم»، بيت الخبز، فإننا قد نظل جوعى دون شبع. فكيف تصرفنا في هذه الحالة؟
من المؤكد أن هذه ليست هي الحالة الطبيعية أن نوجد في حالة الجوع في الوقت الذي نجتمع فيه من حول شخص الرب. ولكن هل رجعنا إلى الرب لنسأله عن السبب في ذلك؟ لو فعلنا ذلك لأجابنا حتماً. قد يكون السبب أن قلبي قد تحول عنه، فلم تعد له شهية نحو الخبز السماوي الذي يعطيه هو. وقد نكون قد عمتنا معاً حالة الابتعاد عن الله، لذلك فهو في أحكامه القضائية «يكسر لنا قوام الخبز»، وقد نكون قد تصرفنا كأليمالك، الذي بالرغم من اسمه الحلو «إلهي ملك» اختار طريقه وهرب من بيت الخبز حيث عمت المجاعة، ولم يسأل عن السبب وراء هذه المجاعة. والآن وقد أرسل الرب تجربة، فقد انكشفت الأعماق التي استقرت خلف اعترافه، فبحث عن موضع آخر لنفسه لعله يجد فيه خبزاً، ولم يسأل ما هي إرادة الله.
قد يكون لنا اعتراف حسن أن يسوع هو سيدنا، وقد نعترف باجتماعنا إلى اسم ربنا يسوع، وذلك بأن نأخذ مكاننا هناك، أو قد نفتخر ونجاهر بهذا الحق، وبذلك نكون قد اعترفنا بأننا نجتمع إلى اسمه، وأنه هو مضيفنا، وأنه لا سلطان علينا سوى إرادته هو، وأنه لا رأي ولا إرادة شخصية لنا. ولكن، هل هذه هي الحقيقة؟ وهل نحن نحترمه كرب حين نجتمع معاً لممارسة حياتنا الكنسية، بل حتى في حياتنا اليومية أيضاً هل نسأله «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟». ثم هل نحن ننفذ فقط ما يأمرنا به؟ إن الله ينظر إلى الحق والإخلاص في القلب.
لا شك أن الله - وكذلك أيضاً الإسرائيلي الروحي - قد لمس قصوراً في حياة أليمالك، حتى أنه سمى ابنيه «محلون» أي مريض، و«كليون» أي ضياع فلم يكن اسماهما تعبيراً عن إيمان حي، ولا كان شهادة عن حالة صحيحة.
كثيراً ما يحدث هذا في حياتنا العائلية، فيوجد فيها خلل خطير، يبدأ عادةً بما نسمح به لأولادنا، فتبدأ حياتنا في الانحدار، ولكن السبب الأساسي في هذا هو حالة الآباء، لذلك نقرأ في سفر العدد «سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم، كل واحد في باب خيمته» (عد 10:11).
لما أرسل الله تجربة فكانت مجاعة في الأرض، ماذا فعل أليمالك؟ هل تصرف بما يتفق مع الشهادة التي حملها طول حياته، أن «إلهي ملك»؟ كلا، بل أظهر أن اسمه هو مجرد كلام الشفتين ليس إلا، وأما القلب فلم يكن له هذا الاعتراف. لذلك لم يسأل عن مشيئة الله، بل ترك بيت الخبز حيث العبادة الحقيقية والبركة.
كان لدى أليمالك الكثير من المبررات التي يستطيع أن يقيمها ليبرر فعلته هذه، ألم يترك ذلك اللاوي، حفيد موسى، منذ عهد قريب بيت لحم يهوذا؟ (قض 8:17). وهل يمكن أن مثله يكون مخطئاً وهو اللاوي؟ ثم ألم يترك إبراهيم نفسه، وهو أبو المؤمنين أرضه ونزل إلى مصر لما كان الجوع في الأرض؟ (تك 10:12). ولكن أليمالك تناسى النتائج المفجعة التي نتجت عما فعله كليهما. لربما يقول أنه أفضل حالاً، فهو لم ينزل إلى مصر، بل ذهب إلى بلاد موآب التي لا تبعد كثيراً عن بيت لحم، ثم إن موآب - على نحو ما - قريبة لإسرائيل. هذا علاوة على أن حقول موآب سبق أن بوركت، ألم ينطق بلعام بوحي من الله لما رأى الشعب حالاً في عربات موآب - أي سهول موآب - فقال «ما أحلى خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل، كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود غرسها الرب، كأرزات على مياه» .. . «الرب إلهه معه وهتاف ملك فيه» (عد 24 :5، 6، 23 : 21). علاوة على ذلك، ألم يعطِ موسى التحريضات الأخيرة للشعب في الجزء الأخير من سفر العدد، وكل سفر التثنية في عربات موآب. وعلى الجانب الآخر، فلم يبقَ شيء حسناً في بيت لحم ولا في الأرض وهو يتركها، ثم إنه ليس ذاهباً إلى بلاد موآب ليندمج معهم، بل ليتغرب فقط هناك إلى حين ينتهي الجوع الذي في الأرض، ثم هو عائد لا محالة بعد ذلك.
كل ما ساقه أليمالك من أعذار كان صحيحاً، ولكنها كلها أيضاً كانت في عدم طاعة لله، ولو أنه طلب مشيئة الله لما ترك إطلاقاً الأرض التي أعطاها الله لشعبه ليسكن فيها إلى الأبد.
فمع أن سهول موآب كانت على مقربة من بيت لحم، إلا أن نهر الأردن كان يفصل بينهما، حتى أن من يريد أن يأتي منها إلى أرض كنعان أو بيت لحم كان عليه أن يعبر الأردن الذي هو رمز لكوننا دُفنا مع المسيح وأُقمنا معه، الأمر الذي لم يكن يحتاج إليه من هو في موآب، حيث الإنسان الطبيعي يستطيع أن يدخل كما هو.
صحيح أن موآب كان ذا قرابة لإسرائيل من أبيه ومن أمه ولكنها قرابة ناتجة عن علاقة غير شرعية، وقعت تحت تأثير الإفراط في السكر (تك 30:19-38). كما أن كموش، إله موآب، لم يكن هو «يهوه». وإن كان موآب يعني "الذي من الأب" ولكن أي أب هذا الذي كان موآب ينتمي إليه؟ بالطبع لم يكن "يهوه"، الذي كان موآب عدواً له.
من أجل ذلك منع الله إسرائيل من أن يسمحوا لأي موآبي بالدخول في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. في حين أن المصري الذي لم يكن ذا قرابة لإسرائيل لم يكن مسموحاً لإسرائيل أن يعتبره رجساً، بل يقبل الجيل الثالث منه في جماعة الرب (تث 3:23-8). وحتى ولو أحسن الموآبيون استقبال إسرائيل وهو عابر أرضهم، فما كان هذا ليغير من حقيقة كونهم أعتى أعداء شعب الله. ألم يفعلوا كل ما في وسعهم ليفنوا شعب الله، مرة بالسحر ومرة بالزنى وعبادة الأوثان، بل وحتى بالحرب أيضاً (عد 22-25، قض 12:3-14).
وفي المستقبل لن يكونوا غير ما كانوا قبلاً، ففي مزمور 83 يرد ذكر موآب بين الأمم التي ستقول «هلم نبدهم من بين الشعوب ولا يذكر اسم إسرائيل بعد». بل الآن أيضاً، ألا تسمع تلك النغمة عينها من ذات الأمم التي ستكوِّن هذا التحالف الرهيب؟ لذلك كان أمر الرب «لا تلتمس سلامهم ولا خيرهم كل أيامك إلى الأبد» (تث6:23).
صحيح أن حقول موآب كانت مواضع مباركة في الأيام الأخيرة لرحلة الشعب، وقبيل دخوله إلى الأرض، ولكنها الآن لم تعد كذلك بعد أن قاد الله شعبه إلى ملء الميراث في الأرض. لذلك فالرجوع إلى الوراء بعد ما سار بهم الرب للأمام هو احتقار وإهانة لمحبة الله ونعمته. «لذلك ونحن تاركون كلام بداءة المسيح لنتقدم إلى الكمال» (عب 1:6).
وهل نحن أفضل من أليمالك؟ ألسنا نجد لأنفسنا مرات الأعذار التي تبرر تركنا "المكان" و "الموضع"، لكن ولا عذر واحد منها يقوم أمام الله. فأماكن أخرى قد تبدو ظاهرياً وكأن لها ارتباطاً بشعب الله، وأن فيها صورة شهادة لله، ولكنها ليست كذلك، بل هي من عمل الإنسان الطبيعي، إذ أن سلطان المسيح ليس هو القاعدة الوحيدة فيها، ولو بدت ظاهرياً أنها شهادة لله، الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال اجتماع شعب الله إلى اسم الرب يسوع، وما عدا ذلك فهو مكرهة عند الله، الذي لا يتهاون من جهة هذا الحق مع شعبه.
ليست هناك حجة تقوم أمام الله سوى وصاياه وأحكامه فقط، وما علينا نحن سوى الطاعة. فأليمالك لم يذهب إلى موآب لرغبة في أن تنمو عائلته في النعمة ومعرفة الله، ولا لكي يمجد الله في وسط عادات وتقاليد ما يُسمى اليوم بالعالم المسيحي، بل أنه ببساطة أراد أن يشبع رغباته الطبيعية.
لو أننا فحصنا دوافعنا في نور محضر الله الكاشف، لظهر على الفور الباعث الحقيقي لها، سينكشف على الفور ما إذا كنا نريد طاعة الله أم لا، فإن كان الله قد منع المطر عن بيت لحم لكونه لم يعد مكرماً هناك، أفهل كانت له كرامة أكثر في موآب؟ في الواقع إن المجاعة لم تكن سوى المحك الذي كشف حقيقة إيمان أليمالك بأعماله (يع 18:2)
علاوة على ذلك فقد تضمنت وصايا الله وأحكام كلمته ضمانات للفقير، على سبيل المثال اقرأ تثنية 7:15-11، 12:24...الخ. أفلم يكن هناك رجل غني، جبار بأس قريب لأليمالك في بيت لحم، وعنده الاستعداد لأن يعينه في التجربة؟ بلى، وكانوا يعرفونه جيداً ويعلمون استعداده لذلك، فعندما رجعت نعمي أخيراً تحت تأديب الله إلى الأرض كان لسماعها اسم بوعز تأثيره عليها. ولكنهم لم يفكروا آنذاك فيه، ولا وضعوا ثقتهم فيه. أليس هذا ما يحدث منا؟ هل كنا نذهب في طرقنا الخاصة، مجتهدين أن نوجد لأنفسنا مخرجاً من صعوباتنا لو أننا افتكرنا في بوعزنا الحقيقي، ووضعنا ثقة أكبر فيه؟
ولكن ما الذي دفع أليمالك ونعمي للذهاب إلى بلاد موآب؟ لقد وقعت قرعتهم في أيام ازدادت فيها الصعوبات وكثرت المشاكل، ولم يعد الأقربون قادرين على مد يد المعونة، فعجز إيمانهم عن أن يسمو فوق الظروف، ليسوا هم وحدهم الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، فكم من الذين خلصوا بالإيمان غير قادرين على أن يسلكوا بالإيمان في أوقات الامتحان والتجربة، كم من مؤمنين وضعوا ثقتهم في الله من جهة خلاصهم، إلا أنهم ما زالوا قلقين من جهة احتياجات عائلاتهم، وكأنه لم يعد موجوداً ذاك الذي قال «لا أهملك ولا أتركك».
ما أعظم الخسارة التي نخسرها من جهة الإدراك والمعرفة - حتى بالنسبة للأمور التي سبق وأدركناها مرة - عندما تتحول أنظارنا عن الولي الحقيقي، وتعود قلوبنا فتشتاق إلى أمور العالم. كان أليمالك - نظيرنا - في حاجة إلى معونة من الله. ربما كان هناك طعام في موآب، ولكن الحياة والنسمة في يد الله، بل وكل شيء أيضاً في يده.
إنه لأغبى من الغباء أن يفقد إنسان نفسه وحياته لأجل الخبز، ولكن كان هذا هو طريق أليمالك الذي اختاره، والذي ما زال الكثيرون يختارونه. لقد أراد أن «يتغرب» في أرض موآب، ولكنه مات هناك، ثم استقر ابناه هناك، واتخذا لهما امرأتين من بنات موآب. فالأب طلب «الأشياء التي في العالم» فطلب أبناؤه العالم نفسه، ثم جاء الموت فقلب خططهم رأساً على عقب. أليس هذا عينه هو اختيار الكثيرين؟ «توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت» (أم 12:14،25:16). ولكننا لو تصرفنا كما فعل الشعب في لاويين 15:9-23 لتبدلت الحال تماماً.
لقد حاول أليمالك أن يهرب من تحت تأديب الله، فوقع في فخ إبليس، وهكذا الحال دائماً. لقد قال الله لإسرائيل مرة «كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد، فصادفه الدب، أو دخل البيت ووضع يده على الحائط فلدغته الحية» (عا 19:5). فإن كنا نتصرف حسب إرادتنا الذاتية فلابد أن نختبر المكتوب «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 7:6،8).
لقد تحول أليمالك عن ينبوع الحياة، فوجد الكأس التي أعدَّها لنفسه وقد امتلأت موتاً مريعاً، كالذي كان على يونان أن يختبره. إنها قمة الحماقة أن نظن أننا يمكننا أن نسلك في شركة مع الله في الوقت الذي نذهب فيه وراء طرقنا الخاصة دون أن نسأله. «لا تضلوا، الله لا يُشمخ عليه».
ما أبعد هذا عما نراه في ربنا يسوع، الذي لما جاع، وأراد الشيطان أن يجعله يتصرف بالاستقلال عن الله كما فعل أليمالك، بأن يحوِّل الحجارة خبزاً، فرد قائلاً «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله» (مت 4:4، تث 3:8). فهل نسي أليمالك تلك الكلمات التي تكلم بها موسى منذ عهد قريب؟ إن كلمة الله تحرضنا أن نتبع خطوات ربنا يسوع المسيح.
كان هناك خبز في موآب، وكذلك الخمر التي تفرح (إش 16، إر 48)، كما كانت أرض رعي ومواشٍ كثيرة القطعان (2مل 4:3). كما كان فيها حقول وكروم. وهي بذلك قريبة الشبه في ملامحها من أرض كنعان التي «تفيض لبناً وعسلاً»، وفيها كروم ذات عناقيد كبيرة (تث 10:11-15، عد 23:13)، ولكن لنمعن النظر لنرى كيف كان الموآبيون متكبرين متعجرفين. ويبدو أنه كان لديهم ما يدعو إلى ذلك. فهم لم يذهبوا إلى السبي، ولا دخلوا في ضيق كما حدث لإسرائيل، «مستريح موآب منذ صباه، وهو مستقر على دُرديه، ولم يفرغ من إناء إلى إناء، ولم يذهب إلي السبي، لذلك بقى طعمه فيه ورائحته لم تتغير» (إر11:48-13)
إن قلباً لا يلتصق بالرب يسوع لا يستطيع أن يتقبل الصعوبات ولا تدريبات الإيمان، بل يريد فقط الراحة والاستقرار. لكن خطة الله ليست هكذا، «يا ابني لا تحتقر تأديب الرب...لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله...ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون...» (عب 5:12-11). وأين نجد امتحان وتدريبات الإيمان أكثر مما نجدها في ذلك المكان الذي فيه يجتمع أولاد الله إلى اسم ربنا يسوع؟
إن من يتبع نظاماً كنسياً من ترتيب البشر، له اعتراف من صياغة البشر - حتى ولو كان اعترافاً يمكن تأييده من الكتاب المقدس - فإنه حينئذ يكون محكوماً بقوانين وقواعد يجب أن يتصرف بموجبها، أياً كانت تلك القوانين والقواعد، ولكن عندما نُجمع «إلى اسمه»، ونفهم معنى أن يكون السلطان له وحده، فيطبق كل منا على نفسه ما يأمره به الرب في كل شيء، فعندئذ يأذن الرب لنا أن نوجد على مائدته. ولابد لنا حينئذ أن نسأل الرب «ماذا تريد يارب أن أفعل؟» وفي كل صغيرة أو كبيرة لابد أن نلتمس منه الإجابة بما يريده منا. وهكذا يكون كل قرار تتخذه الكنيسة في أمر ما، وكل رأي تتفق عليه تعبيراً عن فكر الرب. ولا يكون الهدف من مناقشة أي موضوع هو تأييد رأي شخصي، بل بحثاً مشتركاً عن ما هي إرادة الرب. تلك هي تدريبات القلب، أن لا نسمح لأفكارنا الخاصة أن تجرنا، فلا نتكلم من نبع أفكارنا الخاصة، بل أن نجتمع معاً بقصد معرفة فكر الرب.
أما إذا كان "مجلس الكنيسة" هو الذي يقرر خط سير الاجتماعات، ومن هو الذي يكون مسموحاً له أن يشترك في الخدمة، فإن فرصة حدوث صعوبات تكون محدودة، وبالتالي لا تكون هناك تدريبات قلبية. أما عندما يكون للروح القدس الاختيار، ماذا يفعل، وبمن يفعل، فحينئذ فقط تكون هناك فرصة لتدريب القلب.
كيف تستطيع الكنيسة أن تعرف ما إذا كان هذا الأخ يتحرك وفق نبضات الروح القدس؟ إن معرفة ذلك تستلزم أن نحيا قريبين جداً من الرب. نحتاج أن نكون روحيين حتى نستطيع أن نميز قيادة الروح القدس، وكيف يجب أن تتصرف الكنيسة إذا تحرك الجسد مظهراً ذاته. فإن الجسد يجد أكبر فرصة له للظهور في المكان الذي تُعطى فيه الحرية الكاملة للروح القدس. فحيث يكون كل شيء روحياً وبعمل الروح القدس تكون فرصة الجسد لإظهار ذاته أكبر منها في أي مكان آخر. وحيث يعترف المؤمنون بسلطان الرب يسوع وحده، وأنه لا رأي لهم، فهنا يكثف الشيطان نشاطه ليفسد أكثر من أي مكان آخر. إن هؤلاء الذين يجتمعون على هذا المنوال مازالوا بشراً على الأرض، وما زال الجسد يسكن فيهم، بل بكل أسف يكونون أحياناً جسديين، وأيضاً لابد أن يندس بينهم رسل للشيطان متنكرين في شبه ملائكة نور، وقد دخلوا خلسة في غفلة من المؤمنين لعدم استنادهم على الرب.
فكيف يجب أن تتصرف الكنيسة إذا أطل الجسد برأسه؟ وكيف تستطيع الكنيسة أن تميز ما إذا كان الأخ يتصرف عن جهل وضعف، أم أن إرادته الذاتية هي التي تعمل؟ فتجاه الجهل والضعف يجب أن نتحلى بالصبر ونقدم النصح بالمحبة، أما من جهة الإرادة الذاتية فلا يجوز التساهل معها، بل يلزم تصحيح الأمور بطريقة روحية. فكيف علينا كمسئولين أمام الرب أن نتصرف إزاء الجهل أو الضعف، وإزاء الإرادة الذاتية، إذا ظهرت أية حالة منها بين المؤمنين؟ وإلى أي مدى ينبغي أن نمارس الصبر؟ ومتى ينبغي علينا في خضوع لمشيئته أن ننفصل عن أواني الهوان؟
تلك هي تدريبات الإيمان، تدريبات الحياة الروحية التي نجدها في بيت لحم يهوذا. هكذا قصد الله، إذ هو يعلم غباء قلوبنا، وميلها السريع إلى الاستقلالية، لأجل ذلك لم يعطِ الكنيسة قوانين تحدد كيفية التصرف في كل حالة. فالعهد الجديد لا يعطينا سوى المبادئ الأساسية فقط، حتى في كل حالة نعود إلى الرب بالسؤال عن أي المبادئ تنطبق على هذا الأمر أو ذاك. والروح القدس الذي يسكن في كل مؤمن، كما يسكن أيضاً في الكنيسة، يعطي الإجابة الإلهية المحددة الواضحة. لذلك ينبغي أن نصغي إلى صوت الروح القدس المنخفض الخفيف.
إننا لا نستطيع أن نكون في هذه الحالة ما لم تخل قلوبنا وحياتنا من أي أمر غير محكوم عليه، فنحيا في شركة عملية معه. إن تدريبات كهذه لا توجد في موآب المستريح منذ صباه، المستقر على درديه كما قرأنا عنه. ألا يميل القلب البشري إلى تلك الراحة؟، لا سيما إذا اشتعلت الحرب الروحية وحمي وطيسها فأنهكت قواه وأتعبته.
لقد فر أليمالك من الصعوبات إلى الراحة في موآب، ظاناً أنه سيجد هناك الخبز والخمر - أي الفرح. حسناً، فقد كانت هناك كروم في موآب، ولكن ليست هناك الخمر الجديدة. ولا كان هناك الزيت الذي يعطيه الرب في أرضه لشعبه (تث 14:11). إن اليقطين البري يمكن أن يقدَّم طعاماً، ولكنه لن ينتج إلا الموت (2مل 38:4-40). كان هناك خبز في موآب، ولكن هل كان هو غذاء «الإنسان الجديد»؟ كلا، بل طعام الإنسان الطبيعي، طعام من لم يعبر الأردن - من لم يمت مع المسيح، ولا قام أيضاً معه. أما الإنسان الجديد - إنسان حياة القيامة - فله طعامه الذي يختلف في نوعيته. فحاجته هي إلى الخبز الذي يعطيه الله، حنطة قد نبتت في الأرض، ورويت بمطر السماء - الذي هو الروح القدس (تث 11:11-14، يش 2:5-12، 2مل 41:14). ولكن أليمالك لم يستطع أن يميز بين خبز موآب وخبز بيت لحم، وأنَّى لمن لم يعد نظره مثبتاً على الرب أن يحسن الرؤية؟ أما متى كانت العين بسيطة «فالجسد كله يكون نيراً». ألم تكتب هذه الأمور لتعليمنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور؟ (1كو 11:10).
ومات أليمالك رجل نعمي وبقيت هي وابناها ( ع 3)
في لغة الرموز في الكتاب المقدس نجد عادة أن المرأة تذكر بالارتباط مع الوضع والمركز، في حين أن الرجل عادة يذكر بالارتباط مع قوة الإيمان أو فشله. بمعنى آخر فإننا نجد في الرجل تعبيراً عن الحالة العملية، أما المرأة فهي تمثل المقام أو المركز. وهذا ما نراه واضحاً في حالة أليمالك ونعمي، فأليمالك الذي يمثل الاعتراف "إلهي ملك" مات سريعاً. فعندما نترك في عصياننا، وبإرادتنا الذاتية، المكان الذي اختاره الرب، فقد نظل محتفظين بالمظهر الخارجي، ولكن إلى أين يمكن أن يأخذنا طريق البعد عن الله الذي اخترناه ما لم تعترضنا نعمة الله وتدعونا للعودة إليه؟ قد تكون الخطوة الأولى مجرد انحراف بسيط جداً، حتى أن قلوبنا المتقسية لا تلحظه، ولكنها تُحدث بالفعل شرخاً في العلاقة بيننا وبين الرب. والنهاية لابد وأن تكون هلاكاً أبدياً، انفصالاً نهائياً عن الله. تلك كانت هي النتيجة الحتمية لو لم تعترضنا نعمة الله.
إذا ذهبنا إلى موآب بحثاً عن القوت فإن شهادتنا ستضعف، ويبدأ تأثيرها في الانخفاض تدريجياً حتى تموت. ولكن يبقى ما تعبر عنه المرأة - أي مركزنا المعلن - امرأة بلا رجاء أو أمل. لا مظهر للحياة عندها، ولا إمكانية للإثمار لديها. وليس من المتوقع أن يطرأ أي تغيير على حالتها هذه. ما أبعد الفرق بين هذا وبين ما نراه في «بيت لحم يهوذا»، بيت الخبز، موضع السجود، حيث الشهادة الحية لسلطان الله وللرب، حيث «لم يكن ملك في إسرائيل».
إن نعمي ترمز إلى الوضع العلني، فقد كانت قبلاً «نعمي» أي "مسرتي"، ولكنها الآن صارت «مرة».
كل مؤمن في داخله تلك الجاذبية نحو موآب. قرأت مرة عن خروف كان دائماً يجري بعيداً عن القطيع كلما سمع مأمأة جدي. ففهم الراعي أن هذا الخروف رضع وهو حمل صغير من عنزة حتى صار قادراً على أكل العشب. لذلك، فمع أنه وُضع بعد ذلك مع قطيع الخراف لكنه كان بمجرد سماع صوت الجداء ينجذب تلقائياً نحوها بعيداً عن قطيع الخراف، أوليس هذا ما يحدث معنا؟
فأخذا لهما امرأتين موآبيتين اسم إحداهما عرفة، واسم الأخرى راعوث ( ع4)
إنه فضل من الرب أن لا يدعنا نبتعد كثيراً عن الراعي، أما المؤمن الذي يذهب جائلاً بعيداً عن الرب فلابد أن الرب يعيده، إلا أن ذلك لن يخلو من خسارة جسيمة له ولمن يحبهم، كما أنها خسارة للشهادة أيضاً. تأمل إبراهيم في تكوين 12، لم يستطع فرعون أن ينظر إليه سوى ككذَّاب لا يمكن الوثوق به. فكم كان الدمار الذي أصاب الشهادة لإله إبراهيم بذلك؟ ألم يكن ارتحال لوط نحو سدوم وعمورة نتيجة مباشرة لنزول إبراهيم إلى مصر. فرأى لوط وادي الأردن «كجنة الرب كأرض مصر». وهكذا لم يعد يستطيع أن يميز بين جنة الرب وبين أرض مصر.
كذلك قصة هاجر وإسماعيل، تلك القصة المحزنة، ألم تكن نتيجة نزول إبراهيم إلى مصر وكذبه على فرعون، وحتى يومنا هذا يقاسي الشعب من النتائج المرة لفعلة إبراهيم هذه. فإننا حينما نبدأ خطوة الانحراف الأولى فقلما نفكر فيما يمكن أن تنتهي إليه من أخطار ونتائج مريرة، قد يرجع الأبوان المؤمنان عن خطأ ما إلى صواب السبيل، ولكن قلما يرجع أبناؤهما معهما. لقد ظن أليمالك أنه سيتغرب قليلاً كسائح في أرض موآب، ولكن ابنيه استقرا هناك، واتخذا لهما زوجتين من بنات موآب، فصارا في عداد المفقودين بالنسبة لشعب الله، ولو أنهما ولدا بنين - وقد منع الله ذلك - لانتسبوا لأعداء شعب الله، إذ لا يدخل موآبي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، هذا بالإضافة إلى كونهما بسكناهما في موآب قد نجسا ميراثهما (اقرأ نحميا 13).
أحياناً نقابل أناساً لهم شهادة تبدو رائعة، وكأنهم ملائكة قد نزلت رأساً من السماء، ثم نراهم وإذا بهم قد سقطوا، ولا تبدو لهم بادرة للقيام مرة أخرى. أما المؤمن الحقيقي فإن سقط يقوم، كما سنرى بعد بالنسبة لنعمي.
في تكوين 6:8-9 نرى الغراب والحمامة، وقد خرجا كلاهما من الفلك، أما الحمامة فقد رجعت إليه، وأما الغراب فلم يرجع، إذ له طبيعة مغايرة للحمامة. لذلك أمكنه أن يجد راحة وطعاماً في الرمم الطافية. فلا ننس أبداً أن هناك خطراً كامناً في دخول الغراب خلسة بين من يُدعَوْن «الإخوة». إن أشهر ملحد عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يوماً ما في الشركة على مائدة الرب وكانت خدمته مقبولة جداً، وكان تلميذاً ليوحنا داربي. ثم ذهب مع بعض الإخوة إلى بلاد فارس كمرسلين. ولكن لما رجع كانت تحوم حوله بعض الشبهات، دعت إلى استقباله بتحفظ، ولما سئل عما أشيع عنه رد كاشفاً عدم إيمانه. وكنتيجة طبيعية عُزل من الشركة على مائدة الرب، مما أثار زوبعة من الاحتجاجات من البعض، إذ كانوا يعتبرونه مؤمناً مثالياً وواعظاً بليغاً. عندئذ اتجه إلى بعض الطوائف حيث استُقبل بالترحاب، على الأقل لأنه كان يفرط نقداً ضد الإخوة، واستمر بين هذه الطوائف لعدة أعوام كمعلم، حتى سقط عنه القناع عندما أصدر كتاباً بعنوان "أطوار الإيمان" ينتهي فيه إلى الإلحاد التام. وأخيراً اعتنق مذهب "العقلانيين"، وحسب ما نعلم عنه فقد مات عليه. كان هذا الشخص شقيق الكاردينال "نيومان" الشهير.
ثم ماتا كلاهما محلون وكليون، فتُركت المرأة من ابنيها ومن رجلها ( ع 5)
نعود إلى نعمي، لقد انطفأت جمرتها (2صم7:14)، فلم يبقَ لها اسم ولا وريث في الأرض، تماماً كما حدث مع الخليقة كلها التي فقدت بركتها، فهل كان يحدث ذلك لولا السقوط؟ لقد عم الخليقة ما يؤكد ضياع البركة، فأُخربت ولم يعد لها رجاء في بركة إلا على أساس الفداء. ولابد أن نعمي فهمت هذا من سفر الخروج، ولكن الله في نعمته يستخدم فشلها في أن يقودها إلى حقائق أعمق. فهي تأتي أخيراً، لا إلى الفداء، بل إلى الفادي نفسه.
عندما نتأمل نعمي في فقرها هذا، لا يسعنا إلا أن نتذكر كلمات الرب إلى ملاك كنيسة ساردس في رؤيا 3 «لك اسم أنك حي وأنت ميت، كن ساهراً وشدد ما بقي، الذي هو عتيد أن يموت». ألا ينطبق هذا الوصف تمام الانطباق على هذه الأسرة؟ فما زالت تحمل اسم أسرة «أليمالك» "إلهي ملك"، ولكن كل الرجال فيها ماتوا، بدءاً من أليمالك نفسه إلى ابنيه، ولم يبقَ من هذه الأسرة سوى أرملة بلا رجاء، لا انتظار لها سوى أن تموت وحيدة. هذا هو ما بقى - حطام أسرة - بعد عشر سنوات من الإقامة في موآب.
والرقم (10) يتكلم عن المسئولية. فالرقم (5) هو رقم الإنسان (4)، واقفاً أمام الله (1) ومسئولاً أمامه. وبذلك فالرقم (5) هو رقم المخلوق باعتباره مسئولاً أمام الخالق، الذي يريد من جانبه أن يعِين المخلوق ليتمم مسئولياته، وإن كان في ذات الوقت يطالبه بها. والرقم (10) هو الرقم (5) مضاعفاً، فهو يتكلم عن استعلان المسئولية الكاملة.
إننا دائماً نفشل عندما يضع الله علينا مسئولية، ما لم ترفعنا نعمة الله. أي شكر يجب أن يكون عندنا لأجل النعمة التي تسود عندما نكون قد أفسدنا كل شيء، فهي تجعل لنا باباً مفتوحاً، ليس لكي نعود إلى ما أفسدناه، بل لتعطينا أموراً جديدة تماماً، أفضل مما كان لنا قبلاً.
فقامت هي وكنتاها ورجعت من بلاد موآب لأنها سمعت في بلاد موآب أن الرب قد افتقد شعبه ليعطيهم خبزاً. وخرجت من المكان الذي كانت فيه وكنتاها معها وسرن في الطريق للرجوع إلى أرض يهوذا ( ع 6،7)
لم تتب ساردس، ولكن الرب أعطى باباً مفتوحاً، لا للعودة إلى ما كانت عليه ساردس في البداية، وإنما إلى فيلادلفيا.
وليس المقصود بالباب مجالاً للتبشير بالإنجيل بحرية، وحتى عندما يذكر تعبير «الباب المفتوح» بالارتباط بالتبشير فهو لا يعني أنه لن توجد مقاومات، بل على العكس يكتب الرسول بولس قائلاً «لأنه قد انفتح لي باب عظيم فعال ويوجد معاندون كثيرون» (1كو 9:16).
ولكن الباب المفتوح هنا يعني أن الرب يكشف لنا بوضوح عن الطريق الذي يريدنا أن نسلك فيه. ففي عالم يجد الشيطان طريقه فيه لابد وأن تكون هناك مقاومات وعقبات يلزم أن نتغلب عليها.
يتكلم الأصحاحان الثاني والثالث من سفر الرؤيا عن الكنيسة في موضع المسئولية تجاه الشهادة للرب يسوع ولله، والكنائس الثلاث الأخيرة - ساردس وفيلادلفيا ولاودكية - تظهر فيها هذه الصفة أكثر وضوحاً. بالارتباط بهذا لنا «الباب المفتوح»، الذي هو النور الذي وهبه الله لكنيسة فيلادلفيا، لتستطيع أن تكون شهادة حقيقية على الأرض في زمان نُحِّيت فيه جانباً من كانتا تدعيان بفخر - كل منهما - أنها هي الكنيسة (أي ثياتيرا وساردس).
ذات هذا الحق نجده في سفر راعوث، ففي الأعداد الأولى منه نرى المكان الذي كان يجب على الكنيسة أن تشغله، ولكنها تركته. والآن، وقد اختبرت نعمي في بلاد موآب مرارة نتائج الطريق الذي سلكته، فإن الرب يفتح لها باباً للرجوع، فتصلها أخبار أن الله افتقد شعبه وأعطاهم خبزاً.
نعم، هناك فرصة للرجوع بعد الابتعاد، ولكنها لا تأتي إلا بعد أن نعرف ابتعادنا ونتائجه، بعد أن نعرف أن طرقنا الخاصة لا تفضي إلا إلى الموت. عندئذ فقط ننحني باتضاع أمام وجه الله، وتعرف قلوبنا المسكينة أنها لن تجد الخبز إلا عنده.
ما أجمل التدريبات التي كانت لقلب تعمي المسكينة، لقد تركت بيت لحم لاعتقادها أنها هناك فقيرة، وأن مستقبلاً رائعاً ينتظرها في موآب، ولكنها سرعان ما اكتشفت أن العالم والشيطان يطلبان ثمناً غالياً نظير ما يقدمانه. «إني ذهبت ممتلئة، وأرجعني الرب فارغة» (ع21). كانت قبلاً في بيت لحم يهوذا، لها زوجها وابناها، ولها ميراث وسط شعبها، كان اسمها «نعمي» - "مسرتي"، وكانت تلمس رحمة الله، ولكنها الآن قد صارت «مرة». لقد نضبت كل ينابيعها الطبيعية، وأظلم وجهها من تجربتها المحزنة، ولم تعد تستطيع أن تتكلم إلا عن أحزانها، عن تقدمها في الأيام وقد باتت لا معين لها. حتى كلمة طيبة لم تجد على لسانها تشجع بها كنتيها المحبوبتين وقد صارتا أرملتين أيضاً.
إننا عادة ندرك قيمة ما كنا نمتلكه بعد أن نخسره بسبب أخطائنا «لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً، وحنكها أنعم من الزيت، لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين، حادة كسيف ذي حدين. قدماها تنحدران إلى الموت، خطواتها تتمسك بالهاوية، لئلا تتأمل طريق الحياة، تمايلت خطواتها ولا تشعر...أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها، لئلا تعطي زهرك لآخرين، وسنينك للقاسي» (أم 3:5-13).
أليس هذا وصفاً دقيقاً لما يحدث عندما نبتعد عن الرب، ونترك المكان الذي اختاره؟ إن كثيرين لم يستطيعوا أن يعبروا عن حالتهم إلا بمثل هذه الكلمات، فهل نشعر نحن بالامتيازات الثمينة التي وهبت لنا؟ فنحن بالنعمة لنا مكان حيث نستطيع أن نجتمع حول ربنا يسوع، حيث نستطيع، ونحن ما زلنا على الأرض، أن نكون معه، لأنه هو شخصياً هناك. مكان نأتي إليه فيه بحمد قلوبنا لأجل كل ما صنعه بنا، ونكرمه هناك لأجل ما هو في ذاته وما يبديه لنا في هذا المكان. هناك يفتح خزائنه لنا مرة تلو الأخرى، ويوزع علينا من غناه فيشبعنا؛ حقاً إننا نحيا في «بيت لحم يهوذا»، "بيت الخبز"، حيث يكرم هو.
نعم، هناك عودة، عندما نتعلم تحت تأديب الله أننا خسرنا كل شيء، فتستعيد قلوبنا الحزينة ذكرى تلك الأيام التي كنا فيها أغنياء. حينئذ يفتح لنا الله باباً للرجوع. فهو لا يعطي خبزاً في موآب، بل في بيت لحم فقط، ولكنه يسمح أن تصل لنعمي أخبار وهي في بلاد موآب عن افتقاد الرب لشعبه، وأنه أعطاهم خبزاً. فحضوره الشخصي هو في بيت لحم ليس إلا، ولكنه في عنايته يسخِّر كل الأشياء من حولنا ليشجع قلوبنا للرجوع إليه.
ولنتحول إلى ما هو أجمل، فكنتاها التصقتا بها في عودتها. وهنا نتساءل؛ أي شهادة يمكن أن تصدر عن امرأة في هذه الحالة؟ إن الشهادة الحقيقية «أليمالك - إلهي ملك» قد ماتت، ولم تعد شهادة معلنة سوى عن الفقر والموت. ولكن هنا تظهر قوة الشهادة الشخصية الفردية، فنعمي مازالت صورة للمؤمن، حتى ولو كانت تشير إلى «ما بقي، الذي هو عتيدأن يموت».
كانت نعمة الله تعمل في قلب نعمي، فتذكرت أيام البركة، حين كانت هي موضوع المسرة، محاطة بإحسان الله، واسترجعت ذاكرتها ما وهبته - واستمرت تهبه - نعمة الله لشعبه. لقد حكت عن هذه البركات لكنتيها وقد ملأها الأسى، لأنها لم تعد قادرة على أن تشترك فيها. بكل تأكيد روت لكنتيها ذكرياتها في بيت لحم يهوذا، وعن شعب الله الساكن هناك، بل وعن الله إله إسرائيل، وإن كان ليس كل ما قالته عن الله صحيحاً. فنحن نجد في الأعداد التالية كيف كان حكمها عن الله خاطئاً، فقد نسبت إليه أنه هو الذي تسبب فيما آلت إليه ظروفها من أحزان، ولكن كلامها ورغبتها في الرجوع كان لهما تأثيرهما العميق على كنتيها، إذ وجدتا فيها الإيمان بما تتكلم به.
هذه هي قوة الشهادة الفردية، لا شك أن لكلمة الله لها قوتها الحية، إذ أنها تفعل كل مسرته. ولكن شهادتنا تكون حية قوية متى لمس الآخرون أنها تحيا في قلوبنا. هل تظن أن أولادك سيصدقونك عندما تقول لهم أنه ليس غير الرب يسوع مَن يستطيع أن يسعد الحياة، بينما لا يجدون منك ما يتفق عملياً وذلك؟ هل تعتقد أن كلماتك لشركائك في الإيمان عن قيمة مركزنا ومقامنا الذي صرنا فيه بنعمة الله، وضرورة الطاعة لكلمته، تكون لها قيمتها عند السامعين ما لم يروا تأثير ذلك على حياتك العملية؟
هذا ما نجده واضحاً في يوحنا 29:1-37. في عدد 29 يقول المعمدان «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وهذا حق عظيم، أبعد في مداه مما يظن كثير من المؤمنين. فهو يأخذنا إلى الأمام حتى الأبدية، حيث السماء الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر، حين يكون الكل، السماء الجديدة والأرض الجديدة وكل ما فيهما، قد صولح لله، فتُظهر جميعها توافقاً ومجداً إلهياً. ويوحنا الرسول لم ينس أبداً هذا الحق، وبعد عشرات السنين يسجل تلك الكلمات في إنجيله، كما يتكلم مراراً في سفر الرؤيا عن الحمل القائم وكأنه مذبوح.
عندما نطق المعمدان بهذه الكلمات لم يتجاوب معه سامعوه، ولكنه في اليوم التالي قال «هوذا حمل الله» وسكت دون أن يستطرد إلى حقائق أخرى، عندئذ تركه سامعوه وذهبوا ليتبعوا «الحمل». فما رأوه من تأثير لهذا الشخص على قلب النبي العظيم أقنعهم أنه لا بد وأن يكون شخصاً مجيداً.
هكذا أيضاً مع نعمي، فما أن بدأت طريق عودتها إلى بيت لحم حتى لصقت كنتاها، عرفة وراعوث، بها. كم أنعش هذا قلبها، لقد التصقت بها امرأتان موآبيتان، وهما على استعداد لأن تتخليا عن كل شيء حتى تربطا نفسيهما بشعب الله، هما على استعداد لأن ترجعا من الأوثان إلى الله الحي الحقيقي.
فقالت نعمي لكنتيها اذهبا ارجعا كل واحدة إلى بيت أمها. وليصنع الرب معكما إحساناً كما صنعتما بالموتى وبي. وليعطكما الرب أن تجدا راحة كل واحدة في بيت رجلها. فقبلتهما ورفعن أصواتهن وبكين فقالتا لها إننا نرجع معك إلى شعبك (ع 8-10)
هكذا سريعاً تظهر لنا الآثار المدمرة للبعد عن الله، فقد بدأت خطوات نعمي تتثاقل كلما كانت تقترب أكثر إلى بيت لحم. فنحن لن نكون إلا بركة أو لعنة، ولكن أن نكون شيئاً بين بين فهذا مستحيل. فإما أن نجذب الآخرين إلى الرب يسوع، وإما نبعدهم عنه.
فقالت نعمي ارجعا يا بنتي لماذا تذهبان معي. هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونوا لكما رجالاً. ارجعا يا بنتي لأني شخت عن أن أكون لرجل. وإن قلت لي رجاء أيضاً بأني أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضاً هل تصبران لهم حتى يكبروا. هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل. لا يا بنتي فإني مغمومة من أجلكما، لأن يد الرب خرجت عليَّ . ثم رفعن أصواتهن وبكين أيضاً. فقبلت عرفة حماتها. وأما راعوث فلصقت بها ( ع 11-14)
كانت عرفة ترغب في الذهاب إلى بيت لحم، ولكن نعمي التي سكنت في موآب زماناً هي التي أرجعتها!! مع أنها كانت تعلم إلى أي شيء ترجعها. ففي ع15 نقرأ أنها قالت لراعوث «هوذا قد رجعت سلفتك إلى شعبها وآلهتها» هل كان أحد في بيت لحم يتصور أن يصدر مثل هذا القول من نعمي قبل أن تذهب إلى موآب؟ حقاً، إن الخطوة الأولى في الانحراف تكون صغيرة، ولكن أي ابتعاد تنتهي بنا إليه! فإن نعمي لم تكن ترغب في أن تعود بعرفة وراعوث إلى بيت لحم. لماذا؟ أكان ذلك خجلاً لكونها سمحت لابنيها أن يتزوجا من بنات موآب؟ ربما كانت تريد أن تخفي ذلك عن معارفها القدامى في بيت لحم. هذه هي الكبرياء المدمرة التي فينا، قد نفضل أن نرى البعض يهلكون عن أن نعترف بما يخجلنا. هذا ما حدث مع داود في 2صموئيل 11 فقد فضَّل أن يقتل جندياً أميناً باراً عن أن تنكشف خطيته أمام الشعب.
كم من أناس وضعت بينهم وبين الله العوائق بسبب أصدقاء أو آباء لهم، حرصوا على أن يحققوا لأنفسهم نجاحاً زمنياً، أو مسرات جسدية، مستخدمين اسم الرب في ذلك تحت دعوى "الحق" وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء (رو 18:16). كثيرون يضعون أولادهم في فم الأسد لرغبتهم في أن يصلوا بهم إلى مركز عالمي أفضل، ثم بعد ذلك يطلبون من الرب حتى لا يضرهم الأسد!!
إنه لمن الضروري لنا نحن الذين نعيش في وسط مسيحية ضلت عن الحق أن نلاحظ كلماتنا وأفعالنا حتى نكون معونة لمن هم حولنا بدلاً من أن نكون عائقاً لهم. لنحرص ألا نسمح للجسد أن يتحرك فينا، بل لنحرص ألا نشجع الجسد في أولادنا وفي من هم حولنا. فإن كنا نخدم المسيح في هذا نكون «مرضيين عند الله ومزكين عند الناس» (رو 8:14) «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو 17:14).
لقد شعرت نعمي أن وضع كنتيها مختلف عن وضعها تماماً، فهي امرأة إسرائيلية راجعة إلى شعبها وإلى مسقط رأسها، راجعة إلى إلهها. ولكن من هو الذي كان مستعداً أن يتحمل - سواء الآن أم مستقبلاً - نتائج عدم أمانتها؟ أما راعوث وعرفة فقد كان عليهما أن تتركا شعبهما وآلهتهما، كلتاهما كان عليها أن تترك بيت أبيها، وأن تذهب إلى أرض غريبة، وشعب لم تسمع عنه سوى القليل الذي سمعته من نعمي. ولم تكن مشاعر نعمي، ولا إمكانياتها تستطيع أن تعوض أي منهما عن الأمور التي نشأت فيها، ولا عن تضحيتها بترك مسقط رأسها.
إلى هذا الحد يمكن أن ينحدر المؤمن عن مبادئ الله السامية، فقد كانت نعمي تنعي كثيراً قسمتها، وكانت تنأى بكنتيها عن أن تشتركا معها فيها. فرأت أن مستقبلهما سيكون أفضل في موآب، ففي كنعان في وسط شعب الله لن تكونا سوى غريبتين، هذا إلى جانب كونها بلا بنين حتى يستعيدوا لهما علاقتهما السابقة معها التي فصلها الموت. فما الذي يدعو إذاً لالتصاقهما بها؟ ألا يستطيع الرب أن يباركهما وإن بقيتا في موآب؟ هذه هي النظرية الخطيرة، بل والخدمةالمسمومة. فنفس الإنسان لم تعد في الاعتبار، والأبدية ما عادت تذكر، أما الله وجوده ورحمته فلا يدخل في الحسبان إطلاقاً. وبكل أسف، لاقت هذه النظرية استحسان عرفة، ولكنها كانت لهلاكها. فهي نظرية تخمد التبكيت على الخطية، وتوسم الضمير الحي. هكذا انخدعت قلوب كثيرين من الصغار، وطوِّح بها بعيداً عن الطريق القويم، لأن آبائهم المسيحيين أرادوا لهم مكاسب عالمية.
كما رأينا قبلاً، فإن المرأة في كلمة الله تذكر بالارتباط بالمركز أو المقام، أما الرجل فيذكر بالارتباط بالحالة العملية. وهنا تتكلم نعمي عن «بيت الأم» مع أنه حسب الترتيب الإلهي بالنسبة للعلاقات العائلية يذكر عادة البيت كبيت الأب، وهذا يوجه الفكر إلى الحالة العملية. لذلك يتكلم بوعز إلى راعوث في ص 11:2 عن تركها «بيت أبيها». ولكن ذكر «بيت الأم» هنا يوجه الفكر إلى مركز كل منهما في بيت أمها وما تلاقيانه فيه من الأمور الجذابة، مثل المحبة الطبيعية، والروابط الأسرية.
ولكن نعمي لم تلفت نظرهما إلى الدافع الفعلي، فلم تذكِّرهما بأنها هي شخصياً لم تجد في موآب سوى الموت والظلام، ولا بان الله قد أعلن أن هذا المكان سيصير خراباً أبدياً (اقرأ صفنيا 9:2). فلو فعلت ذلك لكان هذا كفيلاً بأن يخيفهما ويجعلهما ترجعان معها إلى بيت لحم يهوذا، بيت الخبز، حيث يُكرَم الله. فلو عُقدت المقارنة بين إنسان مستعبد للشيطان وواقع تحت دينونة الإله العادل القدوس، وبين إنسان هو ابن لله قد صار مقبولاً في المحبوب فهل يمكن أن يقف أي مانع في طريق الخاطئ لأن يرتمي في أحضان الرب يسوع؟ وهل يمكن أن يجد مؤمن ما يدعوه لأن يفضل ثياتيرا أو ساردس على فيلادلفيا إذا ما قارن بينهما، وهو يرى قضاء الله على ثياتيرا وساردس، مهما كان في فيلادلفيا من ضعف؟
كانت نعمي تريد أن تقنع كنتيها أن تبقيا في موآب، لذلك لم تذكر مساوئ موآب، بل ذكرت أموراً لها جاذبيتها. وهي وإن كانت أموراً قد ترتبت من الله، ولكنها الآن تستخدمها لإغرائهما للبقاء في موآب. إن الخمر في حد ذاتها ليست شراً، بل هي «تفرح الله والناس» (قض 13:9) ولكن من يريد أن يكون نذيراً، فيصبح بذلك مفرزاً بالكلية للرب «فعن الخمر والمسكر ينتذر (أي يمتنع)» (عد6، لو18:22). فكل من يريد أن يكون قريباً من الرب في عالم قد رفضه فعليه أن يدوس أشياء ربما لا تكون في حد ذاتها شراً، بل ربما تكون أموراً حسنة، ولكنها تعطل تكريسه الكامل للرب.
ذكَّرت نعمي الفتاتين، كل منهما، ببيت أمها، بل وأيضاً وضعت أمامهما الزواج، ولما لم تجد منهما استجابة، بل تمسكاً بالذهاب معها، استطردت في محاولة إقناعهما. كانت تعلم نقطة الضعف التي في بنات موآب، فأصل موآب كان هو مشيئة امرأة، هي الأم الأولى لموآب، التي كانت على استعداد لأن تضحي بكل شيء في سبيل أن تكون لرجل، وليكون لها منه بنين (تك 30:19-38). ونفس هذه الرغبة أظهرتها بنات موآب أيضاً (عد 1:25). ولا شك أن كلمات نعمي في (ع11-13) كان لها أثرها العميق على عرفة وراعوث. وكم من أولاد الله من الشباب الذين لم يأخذوا مركز الانفصال بسبب الزواج. بل ربما تركوه بعد أن كانوا فيه. وكم من الآباء والأقارب الذين لأجل ذات السبب أعثروا شباباً مؤمنين وثبطوا عزيمتهم عن الانفصال. «من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني» (مت 37:10).
كذلك أشارت نعمي إلى وصفها كثكلى، فلا زوج لها ولا أولاد، لذلك فلا رجاء لها، وكأن الذنب عند الله! أما عرفت نعمي بما هو «مكتوب» عن عناية الله بالغريب والأرملة؟ وهل نسيت بوعز «جبار البأس»، حتى أنها لم تكتف بأن تحاول منع كنتيها من الالتصاق بها، فأخذت تقودهما إلى القنوط من أن تجدا أية معونة. بل زادت بأن رسمت لهما صورة عن الله أبعد ما تكون عن طبيعته. «لأن يد الرب خرجت عليَّ» وكأنها تحمِّل الله مسئولية ما لقيته من صعاب، وما انتهت إليه من بؤس ويأس، بدلاً من أن تعترف بأنها هي التي جلبت على نفسها كل هذا بتركها الله وهجرها للمكان الذي اختاره، وإعطائها القفا لبركاته. إن الله لم يذهب بهم عنوة إلى موآب، بل هم الذين اختاروا أن يتركوا المكان الذي كانوا يستطيعون فيه أن يختبروا قول المرنم «هوذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته، لينجي من الموت أنفسهم ويشبعهم في الجوع» (مز 18:33،19).
إذا رغب من هم حولنا بمحض اختيارهم أن يكونوا للرب، فلنحذر من أن نكون عثرة لهم. لنحترص أن لا نشجعهم على التراجع، أو أن نرد خطاهم بزعم أنهم سيجدون راحة فيما نحن نعلم أن لا راحة فيه. صحيح أننا يجب أن نهتم بهم، وأن نعينهم على النجاح، وعلى أن يحسبوا كلفة قرارهم، بل يجب أن نبصرهم حتى يميزوا ما إذا كانت ضمائرهم قد تطهرت من الأعمال الميتة ليخدموا الله الحي (عب 14:9)، ولكن لا يجب أن نثبط عزيمتهم بأن نضع أمامهم توقعات محبطة. فإن تكلمنا عن مساء فيه يبيت البكاء، فيجب أن نذكِّرهم أيضاً أنه في «الصباح ترنم»، وإن تكلمنا عن العار خارج المحلة فلا ننس أن نتكلم عن المجد داخل الحجاب. وإذا تحدثنا عن النفر القليل الذي يجتمع حول الرب الآن، وعن ضعفاتهم وأخطائهم، فلا نغفل عن أن نذكر مجد ذلك الشخص الذي في وسطهم، والبركة العظيمة التي نجتنيها من الوجود تحت قيادة وإرشاد الروح القدس ليشغِّلنا حسب قصده ومشيئته. وإن كنا نتكلم عن الانفصال عن الأمور الدنيوية، كما عن العالم المتدين، وعن التخلي عن أمور كثيرة حتى ولو كانت في حد ذاتها ليست شراً، بل ربما تكون قد أعطيت من الله في خليقته، فلا ننس أن نتكلم أيضاً عن فضل إدراكنا لكوننا مقبولين عند الرب يسوع، وأن تكون لنا شركة مع الآب ومع ابنه، تلك الأمور التي لا يمكن التمتع بها إلا ونحن في حالة الانفصال «لأنه قد ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس، معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر. منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة» (تي 11:2-14). فإن علَّمنا من هم قريبين منا هكذا، فإنهم سيصبحون قادرين على أن يتحملوا التجربة. فإذا تزكوا فسينالون «إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه» (يع 12:1).
«فقبَّلت عرفة حماتها. وأما راعوث فلصقت بها»
لقد كان لكلمات نعمي أثرها العميق على عرفة وراعوث، حتى أن الفتاتين بكتا، أما عرفة فقد انحنت تحت التجربة، كانت قد بدأت حسناً كما بدأت راعوث، فمن الواضح أنها أحبت حماتها وشعب حماتها، فقالت مع راعوث «إننا نرجع معك إلى شعبك»، ولكن إذا اتضحت أمامها كلفة ذلك - وكم كانت كبيرة - فلم يكن لديها الإيمان الذي يستطيع أن يرى ما لا يُرى (عب 27:11) «فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الإيمان» (عب 19:3). كان هذا أكبر امتحان في حياة عرفة، ولكنها فشلت فيه. كانت هذه هي لحظة اتخاذ القرار، وقد اتخذت قرارها فعلاً، ومع ما أبدته من عواطف طيبة، قطعت كل علاقة تربطها بمن كانت تحبها، ورجعت بلا عودة.
إن كلمة الله لا تخبرنا عن عرفة بعد ذلك، ولكن خصصت هذا السفر بأكمله لتقص علينا تاريخ سلفتها راعوث. ولكن الله لا يبخسها حقها إطلاقاً، فيسجل الوحي شهادة نعمي عنها، لقد ذكرت بامتنان معدنها وكل ما فعلته كزوجة وككنة، سواء في زواجها أو بعد ترملها. إنه صالح في عيني الله أن نعرف ونقدِّر الخير في أي شخص، ويعطينا سيدنا ومخلصنا مثالاً، فالمرة الوحيدة التي يقول الكتاب فيها عن المسيح أنه أحب شخصاً غير مؤمن كانت عندما نظر إلى الشاب الغني، ذي الأعمال الصالحة (مر 17:10-23). إلا أن الصلاح الطبيعي مهما بلغ من استقامة وتوفيق لا يجعل الإرادة الذاتية تخضع لله، فالجسد دائماً يشتهي ضد الروح (غل 17:5).
لقد كانت المعاناة التي اجتازت فيها نعمي هي التي شوقتها لأن تبحث عما هو أفضل من موآب، فبدأت تراجع طرقها، وتأخذ خطواتها رجوعاً إلى الله، الذي في نعمته غير المتغيرة عاد وافتقد شعبه وأعطاهم خبزاً، وكان رجوع نعمي امتحاناً لعرفة، التي كان قلبها في موآب. هناك في موآب كانت تستطيع عرفة أن تكون "رفيق السفر" لنعمي، ولكن لما تحولت عواطف قلب نعمي إلى الله وإلى شعبه وإلى أرضه ظهر الوضع الحقيقي لعرفة. فبكلمات تبدو وكأنها من ورائها مشاعر حسنة، وبأسلوبها الرقيق المجامل، انسلخت ممن أبدت لهم أنها تحبهم، وعادت أدراجها إلى شعبها وآلهتها، وهكذا انتصرت "أنا" بكل المقاييس، وعلى العكس مما كنا نتوقعه حسب الظاهر.
هذا عين ما حدث مع الشاب الغني، لقد «مضى حزيناً». إن عدم الإيمان قد يبدو مهذباً رقيقاً، ولكنه لا يستطيع أن يسمو فوق مبادئ هذا العالم. وهذا ما يتكرر كثيراً اليوم. فكم من المؤمنين الذين يسمعون عن الحق الإلهي الخاص باجتماع المؤمنين يظهرون رغبة في طاعته، ولكنهم يتراجعون بسبب الكلفة الغالية، وغالباً ما لا يعودون إلى الحق إطلاقاً. فعندما يرفض واحد أن يدخل من «الباب المفتوح» في رؤيا 8:3 بسبب عدم الإيمان، فعادة لا يعود إليه. لذلك فإنه من المهم جداً في يوم اتخاذ قرارنا تجاه ذلك الحق أن نقول «ماذا تريد يا رب أن أفعل؟» ثم نسير في الطريق التي يشير إليها متشددين، وكأننا نرى من لا يُرى.
قد يعني اسم عرفة "عنقها" فهي لم تكن لها الإرادة المكسورة، وهذا ما عاد بها إلى بلاد موآب، حيث لا يضع أحد الله في اعتباره، وحيث تجد إشباعاً لرغباتها الطبيعية. ولكن العاقبة هي أن تشترك في دينونة موآب.
إن ساردس تثق في العالم وتركن إليه، بل لقد صارت واحداً معه. لهذا السبب سيعاملها الله كما سيعامل العالم، وسيأتي لها الرب كلص في الليل، تماماً كما سيصنع مع العالم. (رؤ 3:3، 1تس 4:5).
وهكذا كان أن عرفة قررت أن تعود إلى موآب، أما راعوث فلصقت بحماتها.
فقالت هوذا قد رجعت سلفتك إلى شعبها وآلهتها. ارجعي أنت وراء سلفتك (ع15).
وعادت نعمي تعمل محاولتها الأخيرة مع راعوث. فذكَّرتها بالوحدة التي ستعيش فيها. ولم تكن كلمات نعمي هذه مجرد عبارات جوفاء، فهل هناك ما هو أسوأ لامرأة كراعوث من أن تحيا مستوحشة؟
كان الرب على هذهالأرض يتألم لكونه «كعصفور منفرد على السطح» لقد انتظر رقة فلم يجد. «صرت أجنبياً عند اخوتي، وغريباً عند بني أمي» (مز 8:69). فإن كان له المجد شعر بقسوة الوحدة، وهو الذي كان دائماً في شركة مع الآب، فكم يكون بالنسبة لنا؟ إن هذه الوحدة نختبرها في طريق الطاعة. وعلى قياس تقدمنا في هذا الطريق هكذا يزيد شعورنا بالوحدة. «أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض. كلا أقول لكم، بل انقساماً. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين، ثلاثة على اثنين، واثنين على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب. والأم على البنت، والبنت على الأم» (لو 51:12-53).
فقالت راعوث لا تلحي عليَّ أن أتركك وأرجع عنك. لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِّ أبيت. شعبك شعبي، وإلهك إلهي. حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد. إنما الموت يفصل بيني وبينك. فلما رأت أنها مشددة على الذهاب معها كفت عن الكلام إليها ( ع 6-18).
ما كان لكلمات نعمي أن تثني راعوث عن قرارها. لقد رفضت الأوثان، وشعرت بحاجتها إلى ما يشبع قلبها. إن اسم راعوث معناه "شبع"، وكانت رغبتها أن تُشبع، لا حاجات الجسد والطبيعة، بل بالحري الحياة الجديدة التي صارت فيها. فهل كانت الأوثان تحقق لها هذا الشبع؟ أم كان الزواج وتكوين أسرة هو الذي يشبعها؟ كثيرون من الشباب يظنون أن أموراً كهذه يمكن أن تشبعهم، ثم يستفيقون ويتوبون، ولكن بعد فوات الأوان، ولكن راعوث لم تسقط في فخ إبليس هذا، فلم يوقفها شيء بالرغم من أنها كانت تعلم جيداً أن حماتها لم تكن سوى أرملة فقيرة.
رأينا أن نعمي كانت صورة لشهادة الله على الأرض. لقد فقدت كل شيء وهي في موآب، ذلك المكان الغريب عن الله، وهاهي كبقية صغيرة (إش 9:1) راجعة إلى المكان الذي ينبغي أن تقام فيه الشهادة. كانت تحت تأديب الله، وراعوث أدركت ذلك تماماً، وكان ذلك محزناً لقلبها، حتى أنها بكت. ولكنها كانت تنظر إلى الباب المفتوح الذي جعله الرب أمامها (رؤ 8:3). ومن يرَ ذلك الباب لا يستطيع أن يوليه ظهره.
كانت فيلادلفيا صغيرة، ولم يكن لها سوى «قوة يسيرة» ولم يعترف بها مجمع الشيطان. ولم يكن لها أعمال عظيمة، وأولئك الذين فيها ليسو أفضل من غيرهم إطلاقاً، بل على العكس، هم يعرفون ضعفهم، ويعلمون أنهم لا شيء. لقد انحنوا تحت تأديب الله للكنيسة، لذلك ليس فيها شيء يروق للجسد أو الإنسان الطبيعي. ولكن من يريه الرب «الباب المفتوح» فلا شيء يستطيع أن يقف عائقاً في طريقه. فمن يشعر برغبة قلبية في السير مع الرب والوجود إلى جواره لن تمنعه موانع.
إن راعوث تحمل شهادة رائعة. فكلماتها لم تكن كلام الشفتين كما هو واضح، بل لغة نفس قد اتخذت قرارها بعزم القلب بعد أن حسبت التكلفة. ربما لم تكن تستطيع أن توضح للآخرين معنى وأبعاد كلماتها كاملة. فهي لم تكن قد تعرفت ببوعز شخصياً، ذلك الرجل «جبار البأس» الذي يسكن في بيت لحم، بل لم تكن تعرف بيت لحم ولا كل ما فيها، ولكنها فقط انجذبت بما رأته في نعمي. لقد تحققت أن نعمي لابد وأنها تمتلك شيئاً لا تمتلكه هي. لذلك لم تكن كلماتها مبنية على دراسة متأملة في أفكار الله، ولا عن اختبارات عميقة لكل ما يوجد في فيلادلفيا، وإنما كانت كلمات نابعة من إيمان بسيط يميز أعمق الحقائق وإن كان لا يستطيع أن يستخرجها من كلمة الله، ولا تعلمها اختبارياً. تلك هي المسحة التي من القدوس، التي بها يستطيع الطفل في المسيح أن يدرك كل شيء ولا يحتاج أن يعلمه أحد (1يو 20:2و27).
كانت كلمات راعوث لنعمي تكشف عن أنها تريد أن تكون واحداً معها، ولكنها فيما بعد اختبرت ماذا يعني أن تتحد ببوعز، وأن تكون واحداً معه. عندئذ فقط كان في إمكانها أن تدرك إدراكاً كاملاً قيمة كلماتها إلى نعمي أولاً.
إن المؤمن الذي أتى لتوِّه من العالم لا يكون له وضوح الرؤية لأفكار الله، بل حتى المؤمن الذي في «ساردس» إذا ما رأى «الباب المفتوح» لا يكون له الفهم الواضح لأفكار الله، وأنَّي يكون له ذلك؟ إن الترتيب الإلهي هو أن نتعلم أن نفهم أفكاره على الوجه الصحيح عندما ندركها في طريق الطاعة له فقط. مثل هذا الإنسان عادة ما يأتي بين المؤمنين لمجرد أنه أبصر نوراً بسيطاً من الحق. ثم بعدئذ يجد هناك الإنجيل الكامل ومعرفة الخلاص. قد يجذبه أنه يجد هناك طعاماً أوفر لنفسه، أو ربما لأنه يجد هناك الرابطة الجماعية والمحبة القلبية بين القديسين. فإن كان ذا قلب خاضع للرب فسيدرك ما هو أبعد، وبساطة الإيمان ستعطيه تمييزاً في كل أمر، حتى ولو لم يكن قد تعلمه بوضوح من المكتوب.
وعندما نتكلم عن «بساطة الإيمان» لا نقصد بالطبع "الإحساس". فالأول روحي، أما الثاني فهو من الإنسان الطبيعي. فإن لم يتبع الرؤية البسيطة لأفكار الله ما يؤكدها ويثبتها من كلمة الله فإنه من المؤكد أن الشيطان سيستخدم بساطة الإيمان هذه ليدخلنا إلى طرقنا الخاصة التي يقودنا إليها إحساسنا.
إن قوة اعتراف الإيمان في راعوث تجعلنا نضعها في قائمة أبطال الإيمان، بالرغم من أنها لم تكن من جنس إسرائيل. كذلك في 2صموئيل 15 نقرأ عن شخص آخر، هو إتاي الجتي، الذي في مقابل ما بدا من معظم إسرائيل من رفض لداود واتباع لأبشالوم ابنه الذي قام عليه يقول «حي هو الرب وحي سيدي الملك، إنه حيثما كان سيدي الملك، إن كان للموت أو الحياة فهناك يكون عبدك أيضاً» (2صم 21:15). ونرى نفس هذا التكريس في أليشع (2مل 2:2 و6). هذا أيضاً ما جعل بطرس يجيب في يوحنا 68:6 «يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك».
إن في قلب كل مؤمن رغبة لأن يتبع الرب يسوع. فإن غابت هذه الرغبة كلية كان ذلك دليلاً على أن هذا الشخص غير مؤمن، غير مولود ولادة جديدة. ولكن السؤال الهام هو: هل يمكن أن يقال عنا ما قيل عن المائة والأربعة والأربعين ألفاً في رؤيا 14 «هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب».
في إنجيل متى 29:14 نقرأ عن التلاميذ الإثني عشر وهم جميعاً في السفينة، ولكن بطرس وحده يترك السفينة ليكون قريباً من الرب. هل كان باقي التلاميذ لا يحبون الرب؟ كلا، فنحن نعلم جيداً أنهم أحبوه، ولكن كان ثمن الوجود بقربه غالياً، فقد كان الثمن أن يتركوا السفينة، التي هي الوسيلة الوحيدة لأي إنسان ليبقى فوق الماء ولا يغرق. كان معنى ترك السفينة بالنسبة لهم هو أن يتخلوا عن كل شيء كانوا يتكلون عليه، وأن يضعوا ثقتهم فيه هو وحده، وكان هذا كثيراً عن أن تتحمله قلوبهم الضعيفة، ولكنه لم يكن كثيراً على قلب راعوث. «حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت» ما أجملها كلمات. إن راعوث لا تقول «حيثما سكنت أسكن». هكذا الكنيسة، ليس لها مدينة باقية، ولا موضع لها في الأرض، تماماً كما هو الحال بالنسبة لرأسها الرب المرفوض، إنها غريبة في الأرض، وسيرتها - أي موطنها - هو في السماء. وزمانها الذي تقضيه على الأرض ليس سوى «الليل» كما يسمى في كلمة الله، ليل فيه ابن الله مرفوض (رو 11:13، 1تس 4:5-7، يو 30:13، 2بط 19:1)، ليل سينتهي إذ يجئ الرب «كوكب الصبح» ليأخذها من هذا الموضع الذي يسود فيه "الليل". أما بالنسبة للأرض، فالليل سينهيه شروق «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (ملا 2:4). أما الآن فإن الكنيسة موجودة في عالم قد رفض الرب، وهي تشارك الآن الرب آلامه ورفضه من العالم. ذلك هو الليل بعينه، الذي اشتد ظلامه منذ الوقت الذي لم تعد فيه المسيحية ككل تعترف بسلطان الرب، وارتبطت بالعالم عملياً.
أما راعوث فهي تربط نفسها بالشهادة في وقت تشبه فيه هذه الشهادة بأرملة كنعمي وقد أتى عليها الليل، فأصبحت لا تنتظر من العالم سوى الآلام، كما تعلم أن الإخوة والأخوات ليسوا بالضرورة محبين، بل إن الجسد كثيراً ما يظهر بينهم، بل تعلم أيضاً أن الشيطان يعمل في وسطهم، مقيماً صعوبات ولكن هذه هي شهادة الله، ولذلك فهي تريد أن تتحد بها بالرغم من كل هذه الضعفات، لذلك تقول «شعبك شعبي وإلهك إلهي». فهي لم تختر الأشخاص الذين سترتبط بهم، بل اختارت أن ترتبط بمن يرتبط بالشهادة، أولئك الذين هم عائلة الله، وينتسبون إلى الرب يسوع المسيح. هؤلاء هم شعبها الذي اختارت أن ترتبط به، بغض النظر عن شخصياتهم أو صفاتهم أو وضعهم الاجتماعي، أو البلد التي يعيشون فيها. وقد صار إله هذه البقية الأمينة - بل نقول إله ربنا يسوع المسيح - إلهاً لها. فالله في العهد الجديد يدعى «إله وأبو ربنا يسوع المسيح»، وقد قال الرب يسوع المسيح نفسه عن الله بعد قيامته «أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم».
«حيثما مت أموت...» وأين يموت المؤمن؟ ليست المسألة هنا مقامنا المؤسس على عمل الرب يسوع، إذ أنه من جهة هذا الأمر فكل مؤمن يقال عنه أنه «مات مع المسيح» (رو 8:6، كو 3:3). ولكن المسألة هنا هي الإدراك العملي لهذه الحقيقة في قلوبنا أولاً ثم حياتنا، لذلك يقول الرسول بولس في غلاطية 20:2 «مع المسيح صلبت. فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي». لاحظ أنه لا يقول «نحن» بل «أنا». هذا هو الإدراك الشخصي للمبدأ الذي هو صحيح لكل مؤمن. ثم يستطرد الرسول في غلاطية 14:6 «. ..ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم».
لقد حُسمت علاقة المسيح مع العالم في الصليب. فهو قد جاء إلى الأرض برسالة نعمة الله لأجل العالم. «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 19:2) ولكن العالم لم يقبله، لا هو ولا نعمة الله، وكان رد العالم على رسالته هو الصليب «خذه، خذه اصلبه» وأعقبه بالقبر، لأن هذا ما يفعله العالم مع كل من ينتهي منه، إنه يدفنه، فلا يعود يعترف به ولا يفتكر فيه.
كان يكفي راعوث أن تموت وأن تدفن مع نعمي، كانت مستعدة لأن تأخذ مكانها مع نعمي إلى النهاية، حتى ولو كان ذلك يعني أنها ستنفصل نهائياً عن الحياة التي كانت تحياها قبلاً. كان ذلك يعني أنها سوف تكون نسياً منسياً بالنسبة لأولئك الذين ارتبطت بهم من قبل.
هل نحن لدينا الاستعداد أن نأخذ مكاننا هكذا مع ربنا يسوع؟ هل نحن مستعدون أن نكون مرفوضين كما هو مرفوض؟ لقد قطع العالم عنه ربطه التي كانت له بالمسيح. لذلك فإنه في الزمان الحاضر ليس له شيء يعمله لأجل العالم، فهو الآن لا يطلب لأجل العالم (يو 9:17). صحيح أنه في يوم قادم سيسأل ليأخذ العالم ملكاً له (مز 8:2)، وعندئذ سيدينه. وفي ذلك اليوم المرتقب سوف نشاركه نحن ملكه (اقرأ 1كو 2:6).
لقد اعترفنا بهذا الحق في المعمودية، فنحن اعتمدنا لموت ربنا يسوع المسيح، وهكذا دفنا معه بالمعمودية (رو 3:6 و4). صحيح أننا جميعاً لم ندرك في تلك اللحظة كل ما تعنيه المعمودية، ولا راعوث أيضاً في تلك الساعة كانت تدري كل المعاني التي وراء كلماتها، ولكن نفس بساطة الإيمان التي دفعت راعوث لأن تقول تلك الكلمات التي عبرت بها عن رغبتها في أن ترتبط بنعمي فقط، هي ذات نفس بساطة الإيمان التي جعلتنا نعترف في المعمودية بالحق المكتوب.
ولكن، هل أدركنا الآن معاني هذا الاعتراف؟ وهل ما زالت لغة قلوبنا إلى الرب يسوع «حيثما متَ أموت، وحيثما دفنتَ فسروري أني هناك أندفن. أتبعك أينما تمضي، حتى ولو كان الطريق يؤدي إلى الرفض التام من جهة العالم، والانفصال عنه انفصالاً نهائياً». هل لا زالت لغة القلب إلى الآن هي قول المرنم
فامكث معي يا سيدي واجعلني دوماً سائراً إثـر خطاك قائدي
فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم. وكان عند دخولهما بيت لحم أن المدينة كلها تحركت بسببهما وقالوا أهذه نعمي؟" ( ع 19)
والآن، ماذا بعد؟ لقد كفَّت نعمي عن محاولاتها لتفشيل راعوث، فلم يكن ممكناً أن عزيمة كهذه تقاوم. وهكذا ذهبتا معاً إلى بيت لحم. كانتا كلتاهما مشتاقتين إلى ذلك المكان، فنعمي كانت تشتاق إلى بيت لحم لأنها تذكرت ما كان لها فيها قبلاً، وبركات الأيام القديمة. أما راعوث فكان مبعث شوقها إلى بيت لحم ما سمعته من حماتها عن حلاوة الحياة التي لشعب الله في بيت لحم يهوذا، والتمتع بصلاح الله من نحو شعبه هناك. ليس عسيراً أن نستنتج ماذا كان يدور بينهما وهما في طريقهما إلى بيت لحم. فلا شك أن راعوث كانت تريد أن تسمع المزيد والمزيد، ولا شك أيضاً في أن نعمي كانت تجد لذتها في أن تجيب على أسئلة راعوث.
وها هما قد دخلتا بيت لحم، فوجدتا من سكانها تعاطفاً حقيقياً معهما. لقد كانوا جميعهم نظير بوعز. فعندما نكون في شركة مع بوعز الحقيقي، ونحيا حياتنا اليومية معه، فلابد أن نشترك معه في أحشائه. فمن يعيش مع الرب في شركة معه لابد وأن يتغير إلى صورته، وإن حصرتنا محبته فلابد وأن نفرح بعودة الضال، وسنناديه «نعمي» "المحبوبة" "مسرتي".
"فقالت نعمي لهم لا تدعوني نعمي، بل ادعوني مرة، لأن القدير قد أمرني جداً. إني قد ذهبت ممتلئة وقد أرجعني الرب فارغة. لماذا تدعونني نعمي والرب قد أذلني، والقدير قد كسرني" ( ع20 و21)
هنا فقط، في بيت لحم، أدركت نعمي ما آلت إليه حالتها بالحقيقة، عندما قارنت واقعها الحاضر بماضيها، ولما رأت ما لأقربائها في بيت لحم. فدلت كلماتها على أن قلبها لا يزال في أسف. كانت قد تعلمت شيئاً، وهو أنها هي التي تركت بنفسها بيت لحم، ولكن الرب هو الذي أرجعها، ولم تكن هي التي بادرت بالرجوع. لقد أرسل الله إليها خبراً أنه افتقد شعبه وأعطاهم خبزاً، وكان رجوعها هو نتيجة للخبر الذي سمعته، (ع6).
ما الذي يرد نفوسنا؟ إنها شفاعة الرب يسوع ونعمته «يرد نفسي يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز 3:23). فلا يمكن أن نرجع من ذواتنا، فلا هذه رغبتنا، ولا في قدرتنا أن نُرجع أنفسنا. فإرادة الذات هي التي طوحت بنا بعيداً، وهي أيضاً تبقينا هناك، لأنها في عداوة مع الله، ولكن «من إحسانات الرب أننا لم نفن، لأن مراحمه لا تزول» (مرا 22:3).
عندما ننزل إلى موآب فإننا نفقد الاسم «نعمي» ونصبح «مرة» وهكذا نفقد فرحنا، وشكراً لله على ذلك، فلو لم يحدث هذا لبقينا في موآب مدى الحياة، ولدفنا في موآب. فموآب هي أرض المرارة للمؤمن، وهذا ما أدركته نعمي أخيراً عندما رجعت إلى بيت لحم. لقد تركت بيت لحم وهي ممتلئة، ولكن ما أقسى الفراغ الذي صارت فيه الآن. لقد فقدت زوجها وابنيها، وتقدمت بها الأيام، ولم يعد لها رجاء في أن يكون لها بنون أيضاً. ثم أنها فقدت ميراثها. والواقع أنها فقدت كل شيء عدا شيئاً واحداً، ألا وهو حياتها. ولكنها الآن أيضاً مثقلة بأرملة أخرى، وما يزيد الحمل ثقلاً أنها أرملة موآبية.
إن نعمة الله هي بلا حدود، ولكننا لابد أن نتحمل نتائج وتبعات ابتعادنا. إنه الإله الحق، الذي قال «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً. لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية» (غل 7:6و8). كذلك فإننا لا بد أن نتعلم من التجارب المحزنة ما يريد الله لنا أن نتعلمه من نور الكلمة، كأن نتعلم مثلاً «أنه لا يسكن فيَّ أي في جسدي شيء صالح» (رو 18:7). إن الطريق الوحيد للسلام والنجاح هو طريق الطاعة. أما نعمي فتقول «الرب قد أذلني» أي شهد عليَّ. وقد استخدمت في ذلك نفس الكلمة المستخدمة في خروج 16:20 «لا تشهد على قريبك شهادة زور». لقد شهد الله فعلاً عليها بمعاملاته القضائية ولكن شهادته حق، بل إن معاملاته هذه هي التي جعلتها تحن إلى بركات بيت الله، «بيت لحم»، "بيت الخبز".
لقد أعلن الله ذاته لإبراهيم باعتباره «القدير» لما أراد أن يشدد إبراهيم ويقوي إيمانه، ذلك بأن وعد إبراهيم بأمور كانت حسب الإنسان مستحيلة. أما نعمي فقد استخدمت نفس هذا الاسم، ولكن بطريقة خاطئة، فنقول «القدير قد أمرني جداً» ثم تردف قائلة «والقدير قد كسرني». لقد اتهمت الله بأنه هو الذي سبب لها مرارتها وخسارتها التي لحقت بها. فلم تكن قدرة الله المطلقة مصدر تعزية وتشجيع لها، ولا كانت سبباً لتشديد إيمانها، بل رأت - بحسب نظرتها القاصرة - أن الله هو السبب في كل ما آلت إليه أحوالها.
ما أجهل القلب البشري حين لا يكون مستنيراً بحضور الرب. فالابتعاد عن الرب لابد وأن يصحبه انحسار النور وضياع الحكمة. وما نضيعه بإرادتنا لا يمكن أن نستعيده كما كان قبلاً. هذا واضح في حياة داود، كما هو واضح في حياة نعمي أيضاً.
فرجعت نعمي وراعوث الموآبية كنتها معها التي رجعت من بلاد موآب، ودخلتا بيت لحم في ابتداء حصاد الشعير. ( ع 22)
ألم يكن هذا ليكفي نعمي لتقتنع بنعمة الله من نحوها أنها دخلت بيت لحم في ابتداء حصاد الشعير؟ إن الشعير هو أول محاصيل السنة (خر 31:9 و32، را 32:2). ثم ينضج بعده القمح. ثم أخيراً الكروم. وكانت الأخبار قد وصلت إليها وهي في بلاد موآب أن الله قد افتقد شعبه ليعطيهم خبزاً، فكان من المنطقي أن تتوقع أن تصل إلى بيت لحم في وقت تجد فيه أن الحصاد قد انتهى، أو على أحسن تقدير قد قارب على الانتهاء. ولكنهما وجدتا أن الحصاد بأكمله مازال أمامهما، كما لو أن الله كان منتظراً رجوعهما ليذبح العجل المسمن. حقاً، ما أطيب إلهنا الذي نعبده.
وبمناسبة ذكر الحصاد أود أن أشير إلى أنه باستثناء عدد 4 فإن كل ذِكر لزمان أي حدث في هذا السفر ارتبط بالحصاد. ونلاحظ أن عدد 4 يتكلم عن التغرب في بلاد موآب، لذلك فالمواقيت هناك عالمية. ولكن حالما نقرأ عن الحياة في بيت لحم نجد أن المواقيت ترتبط بالحصاد. وهذا يذكرنا بما جاء في تثنية 16، إذ قسَّم الله السنة بمواسم الحصاد. ولكن أساس التقسيم هو ذبيحة الفصح. ثم في النهاية، بعد أن يكمل الحصاد ويجمع ويصير معداً للاستخدام تنتهي السنة بعيد المظال. هكذا أيضاً ينتهي سفر راعوث بزواج يتم بعد أن تمت تذرية الحصاد.
وهناك ملاحظة أخرى. في ع22 يقول أن راعوث «رجعت» ويركز الروح القدس على أنها «رجعت» من بلاد موآب. وقد وجد الذين ينكرون الوحي اللفظي لكلمة الله في ذلك فرصة لنقدها. بل وكثيراً ما ركزوا على هذه الكلمة. وبعض الترجمات بالفعل أوردتها «أتت» بدلاً من «رجعت». ولكن اللفظ العبري لا يحتمل سوى هذه الترجمة «رجعت». وهذا في الحقيقة دليل على القيمة النبوية والروحية لأسفار العهد القديم، كما نتعلم من 1كورنثوس 9:9و10. ومن له أبسط دراية بالنبوات الخاصة برجوع إسرائيل يستطيع أن يرى في راعوث صورة للبقية الأمينة من إسرائيل في الأيام الأخيرة، وهي هنا يُرمز إليها بفتاة موآبية ليظهر إلى أي مدى كان ابتعاد إسرائيل. ولكنني أعود فأكرر أن غرضي من هذه التأملات ليس هو المعاني النبوية لهذا السفر.
ما أبعد الفرق بين نعمي وراعوث. ففي نعمي نرى صورة لمؤمن تراجع عن طريق التمسك بالحق. أما راعوث فنرى فيها اختبار «المحبة الأولى». فهي لم تكن لها معرفة كثيرة كنعمي، بل إن ما تعلمته تعلمته من نعمي نفسها. ولكن بساطة الإيمان فيها جعلتها تميز الأمور كما هي بالحقيقة. كان على نعمي أن تتعلم من تيهانها أن «الجسد لا يفيد شيئاً». أما راعوث فقد تعلمت ذلك من خلال معاملات الرب والشركة معه. وسلكت حسب ما أدركته عن هذا الحق، فلم تكن هناك ضرورة لها أن تجتاز تلك التدريبات المريرة التي اجتازت فيها نعمي. كذلك لم تتكلم راعوث كلمة تذمر واحدة، بالرغم من أن وضعها كان أكثر صعوبة من وضع نعمي، ولكن المحبة والإيمان كانا قد ملكا قلبها. ومتى ملكتنا المحبة والإيمان فإنهما يرفعانا فوق الظروف.
سبق أن رأينا من خروج 31:9-33 ، راعوث 23:2 أن الشعير كان هو أول محصول يتم حصاده. وبالارتباط بهذا نستطيع أن نتعلم من لاويين 23 وتثنية 16 دروساً أعمق. فالشعير يحصد في شهر أبيب، الذي معناه "السنابل الخضراء" وهذا هو موعد ذبح الفصح. ذلك لأنه على أساس الحمل المذبوح فقط يكون هناك ثمر للأرض من الله. وبدونه لا تكون هناك بركة من أي نوع للإنسان. وذلك ما نتعلمه مرة أخرى من 2صموئيل 3:21و9. فلابد أن يحدث موت ككفارة للخطية عند بدء حصاد الشعير. وبعد أن يذبح خروف الفصح يأخذون أول حزمة الحصيد إلى الكاهن، الذي «يردد الحزمة أمام الرب للرضا عنكم» (لا 11:23). وفيها نرى صورة للرب يسوع المقام من الأموات. (قارن 2مل 40:4-43)
فلما وصلت نعمي وراعوث إلى بيت لحم كان خروف الفصح قد ذبح لتوِّه، وقد أحضر رجال بيت لحم الأتقياء حزم باكوراتهم إلى الكاهن. وهذا فيه مرة أخرى درس نستخلصه من كونهما دخلتا بيت لحم في ابتداء حصاد الشعير، فنرى أن طابع الحياة في بيت لحم كان هو حياة القيامة المؤسسة على عمل الصليب الكامل.
والآن لنستعرض سريعاً مرة أخرى ما تعلمناه من الأصحاح الأول من هذا السفر. ففي البداية رأينا حالة الكنيسة كما تُرى في كنيسة أفسس، حيث كان كل شيء مرتباً حسناً (رؤ 1:2-7). فرأينا أليمالك "إلهي ملك"، ونعمي "المحبوبة المسِّرة". إلا أن الرب كان له على كنيسة أفسس أنها تركت محبتها الأولى، كما دلت على ذلك الأسماء التي أطلقها أليمالك على ابنيه. ثم في ع3 نجد برغامس التي فيها نرى سكنى الكنيسة حيث كرسي الشيطان. وهكذا مات أليمالك، وانطفأت الشهادة الحقيقية لحقوق الرب المرفوض. وقد نرى في ع4 ثياتيرا، حيث اتحدت الكنيسة بموآب الوثنية اتحاداً كاملاً. ثم في ع5 نجد ساردس التي يقول عنها الرب «لك اسم أنك حي وأنت ميت». ثم من ع6 فما بعده نرى فيلادلفيا، حين رجعت الكنيسة إلى ما كان في البدء. ليس ما كان لها في البدء من مجد، بل في ضعف شديد، شاعرة بأنها أخطأت في انحرافها وراء الذات، هذا ما نراه في نعمي. كما نرى في راعوث المحبة الأولى، والتمييز الفطري لما هو حسب فكر الرب. وقد رجعتا إلى بيت لحم، بيت الخبز، وكان الوقت وقت ابتداء حصاد الشعير، وقت إدراك كمال عمل الصليب، وكذلك القيامة، بل وطابع القيامة الذي للكنيسة كما رأينا في سياق تأملاتنا.
وفي الأصحاحات التالية سوف نرى الطابع الفيلادلفي في الطريقة التي بها أصبحت راعوث في كمال الاتحاد ببوعز.
- عدد الزيارات: 26753