الأصحاح الأول - عدد 6-7
فقامت هي وكنتاها ورجعت من بلاد موآب لأنها سمعت في بلاد موآب أن الرب قد افتقد شعبه ليعطيهم خبزاً. وخرجت من المكان الذي كانت فيه وكنتاها معها وسرن في الطريق للرجوع إلى أرض يهوذا ( ع 6،7)
لم تتب ساردس، ولكن الرب أعطى باباً مفتوحاً، لا للعودة إلى ما كانت عليه ساردس في البداية، وإنما إلى فيلادلفيا.
وليس المقصود بالباب مجالاً للتبشير بالإنجيل بحرية، وحتى عندما يذكر تعبير «الباب المفتوح» بالارتباط بالتبشير فهو لا يعني أنه لن توجد مقاومات، بل على العكس يكتب الرسول بولس قائلاً «لأنه قد انفتح لي باب عظيم فعال ويوجد معاندون كثيرون» (1كو 9:16).
ولكن الباب المفتوح هنا يعني أن الرب يكشف لنا بوضوح عن الطريق الذي يريدنا أن نسلك فيه. ففي عالم يجد الشيطان طريقه فيه لابد وأن تكون هناك مقاومات وعقبات يلزم أن نتغلب عليها.
يتكلم الأصحاحان الثاني والثالث من سفر الرؤيا عن الكنيسة في موضع المسئولية تجاه الشهادة للرب يسوع ولله، والكنائس الثلاث الأخيرة - ساردس وفيلادلفيا ولاودكية - تظهر فيها هذه الصفة أكثر وضوحاً. بالارتباط بهذا لنا «الباب المفتوح»، الذي هو النور الذي وهبه الله لكنيسة فيلادلفيا، لتستطيع أن تكون شهادة حقيقية على الأرض في زمان نُحِّيت فيه جانباً من كانتا تدعيان بفخر - كل منهما - أنها هي الكنيسة (أي ثياتيرا وساردس).
ذات هذا الحق نجده في سفر راعوث، ففي الأعداد الأولى منه نرى المكان الذي كان يجب على الكنيسة أن تشغله، ولكنها تركته. والآن، وقد اختبرت نعمي في بلاد موآب مرارة نتائج الطريق الذي سلكته، فإن الرب يفتح لها باباً للرجوع، فتصلها أخبار أن الله افتقد شعبه وأعطاهم خبزاً.
نعم، هناك فرصة للرجوع بعد الابتعاد، ولكنها لا تأتي إلا بعد أن نعرف ابتعادنا ونتائجه، بعد أن نعرف أن طرقنا الخاصة لا تفضي إلا إلى الموت. عندئذ فقط ننحني باتضاع أمام وجه الله، وتعرف قلوبنا المسكينة أنها لن تجد الخبز إلا عنده.
ما أجمل التدريبات التي كانت لقلب تعمي المسكينة، لقد تركت بيت لحم لاعتقادها أنها هناك فقيرة، وأن مستقبلاً رائعاً ينتظرها في موآب، ولكنها سرعان ما اكتشفت أن العالم والشيطان يطلبان ثمناً غالياً نظير ما يقدمانه. «إني ذهبت ممتلئة، وأرجعني الرب فارغة» (ع21). كانت قبلاً في بيت لحم يهوذا، لها زوجها وابناها، ولها ميراث وسط شعبها، كان اسمها «نعمي» - "مسرتي"، وكانت تلمس رحمة الله، ولكنها الآن قد صارت «مرة». لقد نضبت كل ينابيعها الطبيعية، وأظلم وجهها من تجربتها المحزنة، ولم تعد تستطيع أن تتكلم إلا عن أحزانها، عن تقدمها في الأيام وقد باتت لا معين لها. حتى كلمة طيبة لم تجد على لسانها تشجع بها كنتيها المحبوبتين وقد صارتا أرملتين أيضاً.
إننا عادة ندرك قيمة ما كنا نمتلكه بعد أن نخسره بسبب أخطائنا «لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلاً، وحنكها أنعم من الزيت، لكن عاقبتها مرة كالأفسنتين، حادة كسيف ذي حدين. قدماها تنحدران إلى الموت، خطواتها تتمسك بالهاوية، لئلا تتأمل طريق الحياة، تمايلت خطواتها ولا تشعر...أبعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها، لئلا تعطي زهرك لآخرين، وسنينك للقاسي» (أم 3:5-13).
أليس هذا وصفاً دقيقاً لما يحدث عندما نبتعد عن الرب، ونترك المكان الذي اختاره؟ إن كثيرين لم يستطيعوا أن يعبروا عن حالتهم إلا بمثل هذه الكلمات، فهل نشعر نحن بالامتيازات الثمينة التي وهبت لنا؟ فنحن بالنعمة لنا مكان حيث نستطيع أن نجتمع حول ربنا يسوع، حيث نستطيع، ونحن ما زلنا على الأرض، أن نكون معه، لأنه هو شخصياً هناك. مكان نأتي إليه فيه بحمد قلوبنا لأجل كل ما صنعه بنا، ونكرمه هناك لأجل ما هو في ذاته وما يبديه لنا في هذا المكان. هناك يفتح خزائنه لنا مرة تلو الأخرى، ويوزع علينا من غناه فيشبعنا؛ حقاً إننا نحيا في «بيت لحم يهوذا»، "بيت الخبز"، حيث يكرم هو.
نعم، هناك عودة، عندما نتعلم تحت تأديب الله أننا خسرنا كل شيء، فتستعيد قلوبنا الحزينة ذكرى تلك الأيام التي كنا فيها أغنياء. حينئذ يفتح لنا الله باباً للرجوع. فهو لا يعطي خبزاً في موآب، بل في بيت لحم فقط، ولكنه يسمح أن تصل لنعمي أخبار وهي في بلاد موآب عن افتقاد الرب لشعبه، وأنه أعطاهم خبزاً. فحضوره الشخصي هو في بيت لحم ليس إلا، ولكنه في عنايته يسخِّر كل الأشياء من حولنا ليشجع قلوبنا للرجوع إليه.
ولنتحول إلى ما هو أجمل، فكنتاها التصقتا بها في عودتها. وهنا نتساءل؛ أي شهادة يمكن أن تصدر عن امرأة في هذه الحالة؟ إن الشهادة الحقيقية «أليمالك - إلهي ملك» قد ماتت، ولم تعد شهادة معلنة سوى عن الفقر والموت. ولكن هنا تظهر قوة الشهادة الشخصية الفردية، فنعمي مازالت صورة للمؤمن، حتى ولو كانت تشير إلى «ما بقي، الذي هو عتيدأن يموت».
كانت نعمة الله تعمل في قلب نعمي، فتذكرت أيام البركة، حين كانت هي موضوع المسرة، محاطة بإحسان الله، واسترجعت ذاكرتها ما وهبته - واستمرت تهبه - نعمة الله لشعبه. لقد حكت عن هذه البركات لكنتيها وقد ملأها الأسى، لأنها لم تعد قادرة على أن تشترك فيها. بكل تأكيد روت لكنتيها ذكرياتها في بيت لحم يهوذا، وعن شعب الله الساكن هناك، بل وعن الله إله إسرائيل، وإن كان ليس كل ما قالته عن الله صحيحاً. فنحن نجد في الأعداد التالية كيف كان حكمها عن الله خاطئاً، فقد نسبت إليه أنه هو الذي تسبب فيما آلت إليه ظروفها من أحزان، ولكن كلامها ورغبتها في الرجوع كان لهما تأثيرهما العميق على كنتيها، إذ وجدتا فيها الإيمان بما تتكلم به.
هذه هي قوة الشهادة الفردية، لا شك أن لكلمة الله لها قوتها الحية، إذ أنها تفعل كل مسرته. ولكن شهادتنا تكون حية قوية متى لمس الآخرون أنها تحيا في قلوبنا. هل تظن أن أولادك سيصدقونك عندما تقول لهم أنه ليس غير الرب يسوع مَن يستطيع أن يسعد الحياة، بينما لا يجدون منك ما يتفق عملياً وذلك؟ هل تعتقد أن كلماتك لشركائك في الإيمان عن قيمة مركزنا ومقامنا الذي صرنا فيه بنعمة الله، وضرورة الطاعة لكلمته، تكون لها قيمتها عند السامعين ما لم يروا تأثير ذلك على حياتك العملية؟
هذا ما نجده واضحاً في يوحنا 29:1-37. في عدد 29 يقول المعمدان «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» وهذا حق عظيم، أبعد في مداه مما يظن كثير من المؤمنين. فهو يأخذنا إلى الأمام حتى الأبدية، حيث السماء الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر، حين يكون الكل، السماء الجديدة والأرض الجديدة وكل ما فيهما، قد صولح لله، فتُظهر جميعها توافقاً ومجداً إلهياً. ويوحنا الرسول لم ينس أبداً هذا الحق، وبعد عشرات السنين يسجل تلك الكلمات في إنجيله، كما يتكلم مراراً في سفر الرؤيا عن الحمل القائم وكأنه مذبوح.
عندما نطق المعمدان بهذه الكلمات لم يتجاوب معه سامعوه، ولكنه في اليوم التالي قال «هوذا حمل الله» وسكت دون أن يستطرد إلى حقائق أخرى، عندئذ تركه سامعوه وذهبوا ليتبعوا «الحمل». فما رأوه من تأثير لهذا الشخص على قلب النبي العظيم أقنعهم أنه لا بد وأن يكون شخصاً مجيداً.
هكذا أيضاً مع نعمي، فما أن بدأت طريق عودتها إلى بيت لحم حتى لصقت كنتاها، عرفة وراعوث، بها. كم أنعش هذا قلبها، لقد التصقت بها امرأتان موآبيتان، وهما على استعداد لأن تتخليا عن كل شيء حتى تربطا نفسيهما بشعب الله، هما على استعداد لأن ترجعا من الأوثان إلى الله الحي الحقيقي.
- عدد الزيارات: 26651