الفصل الرابع - إذلال الجبار - قضاء الساهرين القدوسين
قضاء الساهرين القدوسين
تابع الملك نبوخذ نصر حديثه فقال لدانيال "يا بلطشاصر كبير المجوس من حيث إني أعلم أن فيك روح الآلهة القدوسين ولا يعسر عليك سر فأخبرني برؤى حمي الذي رأيته وبتعبيره. فرؤى رأسي على فراشي هي أني كنت أرى فإذا بشجرة في وسط الأرض وطولها عظيم. فكبرت الشجرة وقويت فبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى أقصى الأرض. أوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها استظل حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء وطعم منها كل البشر. كنت أرى في رؤى رأسي على فراشي وإذا بساهر وقدوس نزل من السماء. فصرخ بشدة وقال هكذا. اقطعوا الشجرة واقبضوا أغصانها وانثروا أوراقها وابذروا ثمرها ليهرب الحيوان من تحتها والطيور من أغصانها. ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل وليبتل بندى السماء وليكن نصيبه مع الحيوان في عشب الحقل. ليتغير قلبه عن الإنسانية وليعط قلب حيوان ولتمض عليه سبعة أزمنة. هذا الأمر بقضاء الساهرين والحكم بكلمة القدوسين لكي تعلم الأحياء أن العلي متسلط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس. هذا الحلم رأيته أنا نبوخذ نصر الملك. أما أنت يا بلطشاصر فبين تعبيره لأن كل حكماء مملكتي لا يستطيعون أن يعرفوني بالتعبير. أما أنت فتستطيع لأن فيك روح الآلهة القدوسين" (دانيال 4: 9 _ 18).
تعبير الحلم سيأتي فيما يلي من حديث، ولكن الذي يهمنا أن تحدث عنه هنا هو "الساهر القدوس" (دانيال 4: 13) و "قضاء الساهرين... وكلمة القدوسين" (دانيال 4: 17).
لقد أثارت هذه النصوص الكثير من الجدل بين المفسرين. فقال بعضهم أن الساهر القدوس الذي نزل من لسماء هو ملاك وبالتالي فإن الساهرين في عدد 17 هم أيضاً ملائكة واعتمدوا في تفسيرهم على كلمات سفر زكريا "فتفرح أولئك السبع.. إنما هي أعين الرب الجائلة في كل الأرض" (زكريا 4: 10) وعلى ما جاء في سفر أشعياء 62: 6 "على أسوارك يا أورشليم أقمت حراساً لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام"
ولكننا نخالف هؤلاء المفسرين ونقول أن الساهر القدوس هو الرب الذي نقرأ عنه "في كل مكان عينا الرب مراقبتين الطالحين والصالحين" (أمثال 15: 3) ونقرأ عنه أيضاً "عيناه تراقبان الأمم" (مزمور 66: 7). وهو بذاته الذي قضى وحكم على نبوخذ نصر بأن يتغير قلبه عن الإنسانية ويعطى قلب حيوان. ولا يعقل أن يصدر هذا القضاء وهذا الحكم من الملائكة إذ ليس في قدرة الملائكة أن يقضوا قضاء أو يصدروا حكماً.
ويتفق هذا التفسير مع كلمات دانيال للملك "وحيث رأى الملك ساهراً وقدوساً نزل من السماء وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوها ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض... فهذا هو التعبير أيها الملك وهذا هو قضاء العلي الذي يأتي على سيدي الملك" (دانيال 4: 23 و 24).
فالقضاء هو قضاء العلي "قضاء الساهرين" والحكم هو حكم العلي "كلمة القدوسين" (دانيال4: 17).
أما كيف يتحدث الكتاب عن الله بلغة الجمع لا بلغة المفرد فأننا نرى هذا في اسم الجلالة "الوهيم" وهو اسم جمع لله. ونجد هذا الاسم "الوهيم" في تكوين 1: 1، فالذي قضى وحكم على الملك نبوخذ نصر هو الثالوث العظيم، وفي سفر دانيال يظهر الثالوث بصورة واضحة. فنحن نرى الله الآب "القديم الأيام" (دانيال 7: 9) والله الابن "مثل ابن الإنسان" (دانيال 7: 13) والله الروح القدس ساكناً في دانيال ومعطياً إياه الحكمة والمعرفة ومرشداً له في تعبير أحلام الملك. (دانيال 4: 8 و 9 و 18).
ويعترف الملك في حديثه لدانيال بأن قدرته على تعبير الحلم مصدرها الروح القدس الذي فيه فيقول له "أما أنت فتستطيع لأنك فيك روح الآلهة القدوسين" (دانيال 4: 18).
"حينئذ تحير دانيال الذي اسمه بلطشاصر ساعة واحدة وأفزعته أفكاره. أجاب الملك وقال بلطشاصر لا يفزعك الحلم ولا تعبيره. فأجاب بلطشاصر وقال يا سيدي الحلم لمبغضيك وتعبيره لأعاديك. الشجرة التي رأيتها التي كبرت وقويت وبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى كل الأرض. وأوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها سكن حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء. إنما هي أنت يا أيها الملك الذي كبرت وتقويت وعظمتك قد زادت وبلغت علوها إلى السماء وسلطانك إلى أقصى الأرض. وحيث رأى الملك ساهراً وقدوساً نزل من السماء وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوها ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل وليبتل بندى السماء وليكن نصيبه مع حيوان البر حتى تمضي عليه سبعة أزمنة. فهذا هو التعبير أيها الملك وهذا هو قضاء العلي الذي سيأتي على سيدي الملك. يطردونك من بين الناس وتكون سكناك مع حيوان البر ويطعمونك العشب كالثيران ويبلونك بندى السماء فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء. وحيث أمروا بترك ساق أصول الشجرة فإن مملكتك تثبت لك عندما تعلم أن السماء سلطن. لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعله يطال اطمئنانك" (دانيال 4: 19 _ 27).
يلخص المفسر المعروف "كيل Keil" الموقف الذي مر به دانيال فيقول "لقد عرف دانيال تعبير الحلم في الحال، ولكنه تحير وأفزعته أفكاره بسبب معرفته بما قضى به الله على الملك. ولقد أفزعته أفكاره أيضاً لأنه كان يتمنى للملك نبوخذ نصر كل خير، ولأنه كان عليه أن يخبر الملك بقضاء الله المخيف عليه"
ويقيناً أن دانيال لم يبق صامتاً ساعة واحدة بسبب معرفته لتعبير الحلم وما يعنيه للملك، بل بالأكثر لأنه أراد أن يتلقى إرشاداً سماوياً عن كيف ينقل تعبير الحلم بكلمات مناسبة يخبر بها الملك عن المصير المحزن الذي قضى به الله العلي عليه.
أحس الملك بفزع دانيال، ولعله قرأ هذا الفزع على قسمات وجهه فقال ل "لا يفزعك الحلم ولا تعبيره" (دانيال 4: 19( واستخدم دانيال كلمات حكيمة تليق بملك سيمر بمحنة رهيبة، ولم تكن الكلمات تملقاً فدانيال لم يعرف التملق بل كانت إعداداً للملك ليستمع إلى التعبير.
قال دانيال للملك "يا سيدي الحلم لمبغضيك وتعبيره لأعاديك" واستطرد يقول "الشجرة التي رأيتها التي كبرت وقويت وبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى كل الأرض وأوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها سكن حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء. إنما هي أنت يا أيها الملك الذي كبرت وتقويت وعظمتك قد زادت وبلغت إلى السماء وسلطانك إلى أقصى الأرض" (دانيال 4: 19 _ 22).
استخدم الكتاب المقدس في أكثر من موضع الشجر كرمز للإنسان سواء كان باراً أم شريراً.
يقول داود عن الإنسان البار الذي يلهج في ناموس الرب نهاراً وليلاً "فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه. التي تعطي ثمرها في أوانه. وورقها لا يذبل. وكل ما يصنعه ينجح" (مزمور 1: 3) ويقول عن الإنسان الشرير "قد رأيت الشرير عاتياً وارفاً مثل شجرة ناضرة. عبر فإذا هو ليس بموجود والتمسته فلم يوجد" (مزمور 27: 35 و 36).
ونبوخذ نصر الملك كان مثل شجرة شارقة ناضرة أكل الجميع من ثمرها وتحتها استظل حيوان البر، وبلغ سلطانه إلى أقصى الأرض.
ويتابع دانيال تعبيره فيقول "وحيث رأى الملك ساهراً وقدوساً نزل من السماء وقال اقطعوا الشجرة وأهلكوها ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل وليبتل بندى السماء وليكن نصيبه مع حيوان البر حتى تمضي سبعة أزمنة. فهذا هو التعبير أيها الملك وهذا هو قضاء العلي الذي يأتي على سيدي الملك. يطردونك من بين الناس وتكون سكناك مع حيوان البر ويطعمونك كالثيران ويبلونك بندى السماء فتمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء. وحيث أمروا بترك ساق أصول لشجرة فإن مملكتك تثبت لك عندما تعلم أن السماء سلطان. لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك للمساكين لعله يطال اطمئنانك" (دانيال 4: 23 _ 27).
لقد أعلن دانيال للملك نبوخذ نصر إن الغرض الإلهي من المحنة التي سيمر بها أن يعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس ويعطيها من يشاء. وهذا ذات ما سمعه نبوخذ نصر في حلمه "هذا الأمر بقضاء الساهرين والحكم بكلمة القدوسين لكي تعلم الأحياء أن العلي متسلط في مملكة الناس فيعطيها من يشاء وينصب عليها أدنى الناس" (دانيال 4: 17).
فغرض الله من محنة نبوخذ نصر هو أن يعلن له سيادته التامة وسلطانه المطلق على خليقته. وأن يريه أن الله يأتي بأدنى الناس ويجعله سيداً لشعبه فهو وحده صاحب السلطان المطلق. وهذا ما سجله حزقيال بكلماته "هكذا قال السيد الرب.. فتعلم جميع أشجار الحقل إني أنا الرب وضعت الشجرة الرفيعة ورفعت الشجرة الوضيعة ويبست الشجرة الخضراء وأفرخت الشجرة اليابسة. أنا الرب تكلمت وفعلت" (حزقيال 17: 22 و 24).
وعرّف دانيال الملك أن محنته ستدوم "سبعة أزمنة" (دانيال 4: 23) والزمان الكتابي هو سنة، والسبعة الأزمنة سبع سنين ويتضح هذا المفهوم مما جاء في سفر رؤيا يوحنا حيث نقرأ "والمرأة هربت إلى البرية حيث لها موضع معد من الله لكي يعولوها هناك ألفاً ومئتين وستين يوماً" (رؤيا 12: 6) أي ثلاث سنين ونصف ويعود كاتب الرؤيا فيقول "فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية إلى موضعها حيث تعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحية" (رؤيا 12: 14). فالثلاث سنين ونصف عبر عنها الوحي بأنها زمان وزمانين ونصف زمان. وعلى هذا يكون الزمان سنة كاملة وتكون مدة جنون الملك نبوخذ نصر سبع سنوات.
بعد أن أنهى دانيال حديثه عن تعبير الحلم قدم للملك مشورة صالحة فقال له "فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمساكين لعله يطال اطمئنانك" (دانيال 4: 27) هنا يقف دانيال من الملك موقف المبشر لا موقف المعبر، ويقدم له مشورة هي في مضمونها رسالة الانجيل. فهو أولاً يتعامل مع خطايا الملك بغير خوف أو تملق ويطالبه بالتوبة الحقيقية.
"فارق خطاياك" (دانيال 4: 27)
والتوبة الحقيقية هي ترك الخطية.. مفارقة الخطية "ليترك الشرير طريقه ورجل الاثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" (أشعياء 55: 6).
لقد ارتكب نبوخذ نصر الكثير من الخطايا والآثام في ملكه، وكان عليه أن يتوب ليهبه الله بره الصحيح.
وفي مشورة دانيال للملك نرى كيف أنه يتوسل إليه لكي يسلم حياته لله، وهو أمر يعلن عن مدى شجاعة دانيال كخادم للرب، ويدفعنا إلى تقدير خادم الرب الأمين كل التقدير.
لقد طبق دانيال كلمات بولس التي قالها تيموثاوس "اكرز بالكلمة اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ انتهر عظ بكل أناة وتعليم" (2 تيموثاوس 4: 2).
وأشار أن الملك استمع إلى مشورة دانيال بغير اكتراث، وأنه لم يتب، لكن دانيال نجى نفسه من دم الملك الذي أصر على طريقه الأثيم. (اقرأ حزقيال 33: 7 _ 10)
- عدد الزيارات: 20766