الفصل الرابع: قيامة المسيح - ثالثاً: رؤية الرب
ثالثاً: رؤية الرب
يعرف كل قارئ للأناجيل، بأنها تتضمن قصصاً غريبة وعجيبة، عن كيفية ظهور يسوع لتلاميذه بعد قيامته، فقد ظهر الرب عشرة مرات، لمن دعاهم بطرس "شهوداً سبق الله فانتخبهم" (أعمال 10: 41) فقد ظهر لمريم المجدلية (يوحنا 20: 11- 18، مرقس16: 9) وللنسوة الراجعات من القبر (متى 28: 9) ولبطرس (لوقا 24: 34، 1كورنثوس 15: 5) ولتلميذي عمواس (لوقا 24: 13- 35، مرقس 16: 12، 13) وللعشرة التلاميذ المجتمعين في العلية (لوقا 24: 36- 42، يوحنا 20: 19- 23) ثم للأحد عشر تلميذاً وتوما معهم (يوحنا 20: 24- 29، مرقس 16: 14) ولأكثر من خمسمائة أخ معاً، ربما عند سفح الجبل في الجليل (1كورنثوس 15: 6، متى 18: 16- 20) ثم ليعقوب (1كورنثوس 15: 7) ثم لبعض التلاميذ، بينهم بطرس وتوما ونثنائيل ويعقوب ويوحنا عند بحيرة الجليل (يوحنا 21: 1-23) ولكثيرين عند جبل الزيتون بالقرب من بيت عنيا وقت الصعود، (لوقا 24: 50-53، أعمال 1: 6- 12) كما أن الرسول بولس يضع نفسه في نهاية قائمة الذين رأوا الرب المقام (1كورنثوس 15: 8) مشيراً إلى اختباره الذي جاز فيه وهو في الطريق إلى دمشق، كما أن لوقا يذكر في بدء سفر الأعمال، أن يسوع أراهم أيضاً نفسه حيّاً ببراهين كثيرة.. بعدما تألم وهو يظهر لهم (أي للتلاميذ) أربعين يوماً (أعمال 1: 3) وربما كانت هناك بعض المرات التي ظهر فيها ولم تسجّل..
وليس في مقدورنا، أن نغضّ الطرف، عن هذه المجموعة الحيّة القوية الشاهدة للقيامة، ولا بدّ من إيضاح هذه النصوص، ونكتفي بتوضيح ثلاثة أمور: (1) هل هي اختلاق وابتداع؟ (2) أم أنها هذيان؟ (3) أم أنها حقيقة واقعية؟
لا حاجة أن نضيع وقتاً أو جهداً في تفنيد الزعم الأول، لأنه يجب أن نستبعد كون قصة القيامة وظهور الرب المقام، أمراً مبتدعاً ومختلقاً، لأن اختلاقه أمر مستحيل، ومن بين الأسباب لذلك إن الأناجيل جديّة، ورزينة رصينة، لا تزويق فيها ولا تنميق، كما أنها رواية شهود عيان، كتبت بطريقة مؤثرة تصويرية، فإن رواية حادث السباق والركض إلى القبر، أو السير إلى قرية عمواس، أبعد من أن تكونا خيالاً أو اختلاقاً، ولو قدّر لنا أن نختلق قصصاً عن القيامة، ربما فعلنا أكثر مما جاءنا، لأنّ اختلاقنا يدفعنا إلى تجنب العقد المحيرة، والنقاط المربكة المزعجة، التي تدعو إلى التساؤل، لكننا قد أسقطنا– أو على الأقل خففنا- من سلوك التلاميذ وخوفهم، وكان من الجائز أن نكتب أناجيل تصويرية (مثل الأبوكريفا) نصف فيها سلطان ابن الله ومجده، الذي حطّم قيود الموت، وقام من القبر ظافراً منتصراً... لكنّ أحداً منا لم يرَ الحادث بعينه، كما لا يوجد لدينا وصف له، ولو استطعنا، لما رضينا أن تكون مريم المجدلية أول شاهد للقيامة، تفادياً للتهكم والسخرية من أمثال رينان على الأقل.
ولعل هناك اعتراضاً ضد زعم الاختراق، أعظم وأقوى مما حوته براءة الأناجيل، مما أشرنا إليه سابقاً، إلاّ وهو أن الرسل والمبشرين والكنيسة الأولى، اقتنعوا اقتناعاً كلياً بأن يسوع قد قام، وأن كل ما في العهد الجديد، ينّم عن جوٍ ملؤه التأكيد والنصرة.
وما دامت هذه الكتابات المدونة في الإنجيل ليست اختلاقاً، فهل يمكن أن يكون ظهوره هذياناً وسخرية؟ ذهب كثيرون بهذا المذهب، وجاهروا به بشدة، ولكن مثل هذا الهذيان أمر لا يكتم ولا يخفى ويعرّفه قاموس اللغة هكذا: "الهذيان هو الشعور الظاهري بشيء خارجي حينما لا يكون لهذا الشيء وجود حقيقي" وهو ظاهرة تبدو في المصابين بأمراض عصبية على الأقل، أو ممن أصيبوا فعلاً بخلل في العقل.. وكثيرون منّا عرفوا أناساً ممن رأوا أشياءً وسمعوا أصواتاً، وعاشوا عيشة- بعض الوقت أو كل الوقت- في عالم خيالي، خلقوه لأنفسهم، ولا يجوز أن يقال بأن التلاميذ كانوا من هذا النوع غير المتزن، وإن صدُق القول على مريم المجدلية، فلن يتطرق إلى بطرس المندفع أو توما الشكوك.
وأصبح من المعلوم أن الهذيان قد شقَّ طريقه، إلى عدد كبير من الناس العاديين الطبيعيين، وفي مثل هذه الحالات تظهر خاصيتان بارزتان: الأولى أنه يبلغ ذروته، نتيجة فترة من التفكير الإرادي الجامح. والثانية ملائمة ظروف الوقت والمكان والمزاج، وينبغي أن تكون هناك رغبة داخلية قوية تتمشى تماماً مع الوضع الخارجي.. وبالرجوع إلى ما كتبه الإنجيل بشأن القيامة، نلاحظ على كل حال أنّ كلا العاملين مفقود، وبدلاً من أن يكون هناك أي دليل للتفكير الإرادي، نرى العكس، فقد أنزل جسد المسيح من فوق الصليب، ولفّ في أكفان من الكتان، ووضع في قبر منحوت في الصخر وما بدأه يوسف الرامي ونيقوديموس من فرائض للدفن يوم الجمعة قبل حلول السبت، جاءت النساء لإكماله وإتمامه في صباح الأحد فقد مات يسوع ودفن، ولم يخطر على بالهن أن أي شيء غير ذلك سيحدث.. فسرعان ما رأين القبر فارغاً، حتى خرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنّ خائفات" (مرقس 16: 8) ولمّا أخبرت مريم المجدلية ومن معها من النساء، الرسل بأن يسوع حي "لم يصدقوا" (مرقس 16: 11) بل أكثر من ذلك "تراءى كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقونهن" (لوقا 24: 11) وعندما جاء يسوع ووقف في وسطهم "جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً" (لوقا 24: 37) وأن يسوع وبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم (مرقس 16: 14) أمّا توما فقد تردد في إيمانه وقال لهم: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أومن" (يوحنا 20: 24، 25) وعندما التقى المسيح بالأحد عشر تلميذاً والآخرين فوق جبل في الجليل، يقول متى: "ولما رأوا سجدوا له ولكن بعضهم شكوا" (متى 28: 17) وفي هذه جميعها لا نرى تفكيراً إرادياً جامحاً، ولا تصديقاً بسيطاً ساذجاً، ولا ثقة عمياء، فما كان التلاميذ أغراراً أغبياء، بل بالأحرى كانوا حذرين يقظين متسائلين. قال المسيح لاثنين منهم في لوقا 24: 25: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان" لأنهما كانا كذلك، وقد انبلج فجر إيمانهم أخيراً، عن طريق عدم إيمانهم وارتيابهم فلن يمكن أن يرضيهم هذيان أو خبل، لأنهم بنوا إيمانهم الأقدس على حقائق ثابتة أكيدة، هي خلاصة اختباراتهم الشخصية.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن عرفوا أيضاً الظروف الخارجية المواتية، فلو أن المسيح في ظهوره، قد اقتصر على مكان واحد أو مكانين، من الأماكن المقدسة، التي اختصت بذكريات عن يسوع، ولو أن مزاجهم وحالتهم النفسية كانت تتوقع ظهوره، لأفسح لنا المجال للارتياب والظن.. ولو أن لدينا قصة ظهوره في العلية فقط، لفُتِحَ أمامنا باب الشك والتساؤل، ولو أن تلاميذ الأحد عشر، اجتمعوا في نفس المكان، الذي قضى فيه يسوع معهم جانباً كبيراً من ساعاته الأخيرة على الأرض، وشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه، وأطلقوا لعواطفهم العنان في التفكير والخيال، عن الأمور الماضية الساحرة، وتذكروا وعوده بمجيئه ثانية، وأخذوا يمنّون أنفسهم برجوعه إليهم، إلى أن تم لهم تحقيق انتظاراتهم بظهوره المفاجئ، لو حدثت هذه، فإننا نخشى أن يكونوا قد أُخذوا على غرة، بخدعة ساخرة قاسية... ولكن لم تكن هذه ظروفهم أو حالتهم. وفي الواقع، إن فحصاً دقيقاً للمرات العشر، التي ظهر فيها، تكشف لنا القناع عن تنوّع فريد من حيث ظروف الأشخاص والأماكن، والمزاج التي فيها حدثت.. وبذا نرى ثلاث مقابلات فردية (مريم المجدلية، وبطرس ويعقوب) ومقابلة مع التلميذين في الطريق إلى عمواس.. ثم ظهر لعشرة على الأقل، في أول أحد للقيامة، ثم للأحد عشر أو أكثر في الأحد التالي، بينما يذكر بولس الرسول، بأنه ظهر دفعة واحدة، لأكثر من خمس مئة أخ (ربما في الجليل). وأما بشان الأماكن، بخلاف ما ظهر في واحد أو اثنين مقدسين منها، فقد كانت هناك أماكن بقدر ما رأى من أناس، بينها البستان الذي به القبر، وفي مكان ما بين البستان والمدينة، وفي العلية، وفي الطريق إلى عمواس، وفي الجبل في الجليل، وشاطئ بحيرة الجليل، وجبل الزيتون بالقرب من بيت عنيا...
وبما أن هناك تنوّعاً في الأشخاص والمكان، فلا بد من تنوّع أيضاً في الظروف والأحوال... فقد كانت مريم المجدلية تبكي، وكانت النساء خائفات متحيرات، وبطرس يعذبه ضميره، وتوما ينساب في شكوكه وارتيابه، وتلميذا عمواس، تشغلهما حوادث الأسبوع والتلاميذ انهمكوا بالصيد في الجليل، إلا أنهم في غمرة شكوكهم ومخاوفهم، وفي عدم إيمانهم وانشغال بالهم، وقف الرب المقام، بهم وعرّفهم نفسه، واقتحم الحواجز الضخمة لعدم إيمانهم.. فلا يجسرنّ إنسان على أن يغضّ الطرف عن هذه الإعلانات عن الرب الإله المقام، وأن يدّعي إنها هذيان أو خبل في عقل بشري..
- عدد الزيارات: 13122