الفصل الخامس: حقيقة الخطية وطبيعتها
ثانياً: حاجة الإنسان
أفردنا جانباً كبيراً من هذا الكتاب لتمحيص البراهين على لاهوت يسوع المسيح، حتى أننا اقتنعنا بأنه الرب، ابن الله الوحيد ولكننا نجد أن العهد الجديد لا يقتصر على وصف شخصه فحسب بل يصف عمله أيضاً، ولم يقف كتّاب العهد الجديد عند حد معرفة من هو، ولكنهم تناولوا ماذا عمل ويقدمونه لنا ليس بوصفه الرب الذي جاء من السماء فقط، ولكن بوصفه المخلص الذي مات على الصليب، وليس هذا معناه أن نفصل الأمرين عن بعضهما البعض، فهما مرتبطان تمام الارتباط، والواقع أن دوام صلاحية عمله يتوقف على لاهوت شخصه المبارك.
ولكي نقدّر قيمة العمل الذي أكمله، حق قدره، ينبغي أن نتفهم حقيقة أنفسنا "من نحن" كما نتفهم حقيقة شخصه "من هو" وأن عمله قد تم لأجلنا لأنه عمل شخصي لأشخاص، وما هو إلاّ العمل الذي أدّاه الشخص الوحيد- القادر أن يسد الحاجة- لأشخاص محتاجين، وقدرته هذه، مبنية على لاهوته، كما أن حاجتنا مبنية على خطيتنا، أما وقد اختبرنا وامتحنا قدرته، فيجب أن نعرض حاجتنا قدامه.
وجدير بنا في هذا البحث، أن نتحول عن المسيح إلى الإنسان أي نتحول من العصمة عن الخطية والمجد الذي فيه، إلى الخطية والعار الذي فينا. ولن نستطيع أن ندرك كنه ما عمله لأجلنا وما قدمه لنا، ما لم نفهم حقيقة أنفسنا فهماً تاماً، أي أنه يجب تشخيص المرض جيداً، قبل أن نظهر استعدادنا لتناول الدواء اللازم.
الخطية موضوع غير مرغوب فيه، ولعل المسيحيين يقاسون مرَّ الانتقاد بسبب كثرة تكراره، ولكنهم إنما يفعلون هذا، لأنهم أناس واقعيون، فما كانت الخطية- ولن تكون- اختراع رعاة أو قسيسين، حرصاً على وظائفهم، لكنها حقيقة واقعة عامة، يوضَّحها كاتبو الكتب المقدسة، فهاكم سليمان، في أثناء صلاته العظيمة، وهو يدشّن الهيكل يقول: "ليس إنسان لا يخطئ" (1 ملوك 8: 46) ثم يعود الجامعة فيقول: "لأنه لا إنسان صدّيق في الأرض يعمل صلاحاً، ولا يخطئ (جامعة 7: 20) كما أن عدداً لا يستهان به من المزامير، أشبه بالمراثي، على انتشار الخطية وعموميتها بين البشر، فالمزمور الرابع عشر الذي يصف "الجاهل الذي لا إله له" يرسم صورة بشعة مخيفة لشرّ البشرية، ملؤها التشاؤم فيقول: "فسدوا ورجسوا بأفعالهم، ليس من يعمل صلاحاً. الرّب من السماء أشرف على بني آدم لينظر هل من فاهم طالب الله. الكلّ قد زاغوا معاً فسدوا، ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد" (مزمور 14: 1-3) وكأنّ ضمير المرّنم يحدثه أنه إذا قام الله لمحاكمة الإنسان ودينونته، فلن ينجو إنسان من قضائه "إن كنت تراقب الآثام يا رب يا سيد فمن يقف؟" (مزمور 130: 3) ولهذا يصلي قائلاً: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدّامك حيّ" (مزمور 143: 2) ولم يكن الأنبياء أقل إصراراً أو حماساً، من المرّنم أو غيره من كاتبي سفر المزامير، بالنسبة إلى أن جميع البشر خطاة، ولم تكن عبارات أكثر وضوحاً ودقة، من العبارتين الواردتين في النصف الأخير من سفر أشعياء: "كلّنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه" (أشعياء 53: 6) "وقد صرنا كلّنا كنجس وكثوب عدّة كل أعمال برنا" (أشعياء 64: 6).
وما كان هذا وهماً في مخيلة كتبة العهد القديم، ولكن ها هو بولس الرسول يفتتح رسالته إلى أهل رومية- في الثلاثة إصحاحات الأولى تقريباً- بمحاججته المكشوفة الصريحة، وفحواها أن جميع البشر- يهوداً كانوا أم أمميين- خطاة في نظر الله، ثم يصف في عبارات حيّة قوية، الانحطاط الخلقي الذي ساد العالم الوثني، ويضيف إلى قوله، أن اليهودي ليس أفضل، لأنه وهو الذي يملك شريعة الله المقدسة أي الناموس، ويعلمها لغيره، فإنه مجرم في كسرها والتعدي عليها، ومن ثم يقتبس الرسول من المزامير ومن النبي أشعياء ما يوضح به رأيه، ويفسر موضوعه، ملخصاً قوله بهذا "لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رومية 3: 22 ،23) وعسى الرسول يوحنا، كان أوضح ما يمكن في تصريحه: "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضلّ أنفسنا وليس الحق فينا" ثم "إن قلنا إننا لن نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا" (1 يوحنا1: 8 ،10).
إن انتشار الخطية وعموميتها ليست حقيقة، تعرف بالوحي والإعلان فحسب، لكنها حقيقة تنبع من واقع اختبارنا اليومي نشاهدها ونحن نقرأ التاريخ أم نتصفح الصحف، ونراها لو سافرنا خارج البلاد أو بقينا في وسط رفاقنا ومواطنينا، نراها في بيوتنا وفي حياتنا، ولعل كل قوانين التشريع العامة والخاصة، نشأت لأن الجنس البشري لا يوثق به، ولا يعتمد عليه في حل مشاكلهم ومنازعاتهم بأمانة وإخلاص دون مراعاة المصلحة الشخصية، ولولا خطية البشر، لما حدث شيء من الأمور الكثيرة التي تحدث في المجتمع الراقي، فلماذا لا يكفي أن نقطع عهداً شفوياً، ولكن يلزمنا عقد اتفاق خطي؟ ولماذا لا نكتفي بالأبواب، بل يجب أن نغلقها ونوصدها بالمزاليج؟ ولماذا لا يفي دفع الأجور بالغرض المطلوب دون أن نحصل على بطاقات، توضع عليها العلامات، وتفتش وتجمع؟ ومع وجود القانون والنظام، لماذا نحتاج إلى شرطة لتنفيذها؟ إن كل هذه الأمور وكثيراً غيرها، مما ألفناه وقبلناه حجة مسلمّة، تعزى إلى الخطية، فلا يمكننا أن نثق ببعضنا البعض، ولكنا في حاجة إلى حماية، الواحد ضد الآخر.. يالها من حالة مشينة محزنة!
ولكن ما هي الخطية؟
إن انتشارها اليوم واضح صريح، فما هي طبيعتها إذاً؟ جاء في الكتاب المقدس، عدة كلمات تصف الخطية، ويمكن تلخيصها في مجموعتين: بالنسبة للنظر إلى الخطأ، سلباً أو إيجاباً.. فمن الناحية السلبية، الخطية هي التقصير، وهاك كلمة تعني هفوة أو زلة أو غلطة، بينما أخرى تعني الفشل في إصابة الهدف كما هو الحال في رمي سهم نحو هدف معين، وأخرى تعني رداءة في الداخل، أو وضع لا يحقق ما هو صالح.. أما من الوجه الإيجابي، فالخطية هي التعدي وإن كلمة من الكلمات تعني أنها خروج عن الحدود، وأخرى تعني التمرد ومخالفة القانون، وغيرها تعني العمل المخالف للحق والعدالة وكلا هاتين المجموعتين، تتضمنان وجود مقياس أدبي، وهو إما أن يكون مثلاً أعلى نعجز عن الوصول إليه أو شريعة نكسرها "ومن يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فذلك خطية له" (يعقوب 4: 17) هذا هو الوجه السلبي، أما الوجه الإيجابي فهو: "كل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً، الخطية هي التعدي" (1 يوحنا 3: 4).
ويوافق الكتاب المقدس على الحقيقة القائلة بأن للبشر مقاييس مختلفة باختلاف أجناسهم، فاليهودي يدين بناموس موسى، والأممي يعتبر ناموس الضمير... ولكن البشر جميعاً فشلوا في تحقيق شرائعهم... وهكذا هو الحال معنا، فما هو دستور حياتنا الأدبي إذاً؟ قد يكون ناموس موسى أو شريعة يسوع، أو قد يكون قانون بوذا الثماني، أو أركان الإسلام الخمسة، ومهما يكن هذا الدستور، فقد أخفقنا في تحقيقه، ووقفنا موقف المُدان، ولعل الذين يعيشون عيشة حسنة يرون غرابة في ذلك، لأن لهم مُثلاً عليا ويظنون أنهم سوف يدركونها، دون أن ينهمكوا في فحص دواخلهم، أو أن يهتموا في نقد أنفسهم، وهم يعلمون بهفواتهم وتقصيراتهم، ويشعرون بما فيهم من عيوب أخلاقية ونقائص مسلكية... دون أن تفزعهم، ويحسبون أنفسهم بأنهم ليسوا أردأ من غيرهم، ويلوح أن جميع هذه الأمور مفهومة ومعروفة، إلى أن نتذكر أمرين:
(1) إن الإحساس بالفشل يتوقف على سمو مقاييسنا ... فمن السهل أن يعد الإنسان نفسه، بطلاً من أبطال القفز العالي، إذا لم يرتفع قضيب القفز عن ثلاث إلى ست بوصات.
(2) إن الله يهتم بالنية الكامنة وراء العمل، كما يهتم بالدافع الذي يكمن وراء التصرف والسلوك، الأمر الذي أوضحه يسوع في موعظته على الجبل، مما يدعونا أن نعيره كل انتباه واهتمام... ومن اللائق أن نتخذ الوصايا العشر ناموساً لنا ودستوراً لحياتنا، في ضوء هذين المبدأين، لنعرف كم يعجز الإنسان في تحقيق هذه الوصايا.
- عدد الزيارات: 8576