الفصل الرابع: قيامة المسيح - أولاً: القبر الفارغ
أولاً: القبر الفارغ
تبدأ قصة القيامة في الأناجيل الأربعة، بزيارة بعض النساء للقبر باكراً جداً في صباح أحد القيامة، وكم كانت حيرتهن شديدة جداً لما لم يجدن جسد الرب في القبر، وهذا معناه طبعاً، أنّ القبر كان فارغاًَ، وما هي إلاّ أيام قلائل، حتى بدأ الرسل ينادون ويكرزون بأن يسوع قد قام، وهذا هو جوهر رسالتهم وكرازتهم، ولم يكن من المعقول، أنّ الرسل يجاهرون بهذا الأمر، وليس بينهم وبين القبر سوى دقائق.. لكن الحقيقة الواقعة هي أنّ القبر كان فارغاً.. ولا بدّ من تقديم تفسير لهذه الوقائع.
1- نظرية تقول أنّ النساء ذهبن خطأ إلى قبرٍ آخر:
وكان الظلام باقياً، وقد تملكهنّ الحزن، الأمر الذي يجعله من السهل عليهن أن يرتكبن خطأ، ولو بدا هذا القول مقبولاً ظاهرياً، إلا أنه يحتاج إلى فحصٍ وتدقيق، ولم يكن الظلام حالكاً بل كما قال يوحنا (20: 1) "إن النساء أتين والظلام باقٍ" وقال متى: "عند الفجر" (28: 1) وقال لوقا: "في أول الفجر" (24: 1) أمّا مرقس فيقول بصراحة "أتين إذ طلعت الشمس" (26: 1) وزد على ذلك، لم تكن النسوة غبيّات، وعلى الأقل عرفت اثنتان منهن، أين وضع يوسف ونيقوديموس الجسد (مرقس 15: 47، لوقا 23: 55) وراقبتا كل عملية الدفن لأنهما "كانتا جالستين تجاه القبر" (متى 27: 61) والاثنتان كلتاهما (مريم المجدلية ومريم أم يوسف) رجعتا عند الفجر، وجاءتا بسالومة معهما (مرقس 16: 1) وأيضاً يونّا "والباقيات" (لوقا 24: 10) ولو أنّ واحدة ضلّت الطريق أو أخطأت القبر، لاستطاعت الباقيات أن يصلحن خطأها أو يهدين ضلالتها.. ولو أخطأت مريم في المرة الأولى، وذهبت إلى مكان غير المكان المقصود، لما أخطأت مرة أخرى عند رجوعها في وضح الصباح، حيث بقيت في البستان، إلى أن التقت بيسوع، فضلاً عن ذلك، لم يكن الحزن العاطفي، الذي جاء بهنّ إلى القبر، وإنما أتين بمهمة أخرى "حاملات الحنوط الذي أعددنه" ليدهنّ جسد يسوع لأن حلول السبت، قبل ذلك بيومين، لم يترك لهنّ فرصة لإعداد الحنوط والأطياب اللازمة، وليس من السهولة بمكان، إن مثل هؤلاء النسوة، اللواتي أفرزن أنفسهن لهذا العمل، ليس من السهولة أن يخدعن، فضلاً عن ذلك، لو أن النسوة أخطأن القبر، فهل يمكن لبطرس ويوحنا اللذين ركضا ليتحققا الخبر، أو لغيرهما ممن لحقوا بهما، بما فيهم يوسف الذي من الرامة ونيقوديموس، هل يمكن أن جميعهم يرتكبون نفس الخطأ؟
2- الإغماء والغيبوبة:
يذهب أصحاب هذه النظرية إلى القول، أن يسوع لم يمت فوق الصليب، لكن أغمي عليه، ثم فاق في القبر، وخرج منه فيما بعد، وأظهر نفسه لتلاميذه– إلا أنه تحفَّ بهذه النظرية مشاكل عديدة، وهي في حد ذاتها، باطلة أصلاً وفصلاً، يناقضها الدليل كل التناقض.. لقد تعجب بيلاطس، أنّ يسوع مات كذا سريعاً، فدعا قائد المئة وسأله هل له زمان قد مات (مرقس 15: 44، 45) ولما اقتنع بيلاطس بذلك، وهب الجسد ليوسف، ولعل قائد المئة استطاع، أن يعطي بيلاطس التأكيد الكافي، لأنه شاهد بأُمِّ عينيه، "واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء" (يوحنا 19: 34) فأخذ يوسف ونيقوديموس الجسد، وأنزله ولفه بكتان، ووضعه في قبر منحوت.. فهل يمكن أن نصدّق أنه كان طوال هذا الوقت في غيبوبة، وأنه بعد آلام ومرائر محاكمته والاستهزاء والصلب، استطاع أن يعيش مدة ست وثلاثين ساعة، في قبر منحوت في الصخر، لا تدفئة فيه ولا طعام ولا تضميد لجراحه الثخينة؟ أو أنه استطاع أن يستجمع قواه ويقوم بعمل فائق للطبيعة؟ فيرفع الحجر الكبير عن القبر، وأن ذلك تم في غفلة من الجند الروماني؟ وأنه وهو المتعب والضعيف والجائع، يقف أمام التلاميذ ويقنعهم بأنه قهر الموت؟ وأنه جاهر بموته وقيامته، وبأنه سيرسلهم إلى العالم أجمع، ووعدهم أن يكون معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر؟ وأنه سوف يمكث على الأرض، أربعين يوماً، ومن ثم يختفي، بينما لا نرى أحداً ظاهراً يطعمه أو يؤويه، كما أن أحداً لم يرهُ يموت أخيراً؟ فكيف نصدّق هذه التي هي أبعد تصديقاً مما شك فيه توما.
3- لصوص سرقوا الجسد:
أشاع الأعداء، أن بعض اللصوص أتوا ليلاً وسرقوا جسد يسوع، وليس من دليل أو شبه دليل يؤيد هذا الزعم، فكيف نفسر مجيء اللصوص إلى القبر، وكيف دحرجوا الحجر الكبير، في غفلة من الحراس الرومان الساهرين؟ ولا يمكن أن يتصور عقل كيف يجرؤ اللصوص على سرقة الجسد وترك الأكفان في موضعها، أو ما الذي دفعهم إلى هذا العمل؟
4- التلاميذ سرقوا جسد يسوع:
ويسجل لنا متى في إنجيله، أن اليهود ابتدعوا هذه الإشاعة، ونشروها حالاً بعد القيامة ويصف كيف أن بيلاطس، بعد أن أمر بإعطاء الجسد إلى يوسف الرامي، استقبل وفداً من رؤساء الكهنة والفريسيين الذين قالوا له: "يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل، قال وهو حي أني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه، ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات فتكون الضلالة الأخيرة، أشر من الأولى" ثم عاد بيلاطس يقول مؤكداً: "عندكم حراس اذهبوا واضبطوه كما تعلمون، فمضوا وضبطوا القبر بالحراس، وختموا الحجر" (متى 37: 62- 66) ومن ثم يستمر البشير متى، في وصف كيف أن الحجر الكبير، والختم الذي عليه، والحراس عجزوا عن أن يمنعوا القيامة، وكيف أن قوماً من الحراس، جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان، وكيف أنهم اجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا للعسكر فضة كثيرة قائلين: "قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين" ثم يختم متى هذه القصة، بقوله: "فأخذوا الفضة وفعلوا كما علّموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم" (متى 28: 11- 15).
ولكن هذه القصة التي اختلقها اليهود، لا يقبلها عقل سليم، فهل من المعقول أن قوماً من خيرة الحرس، رومانياً كان أم يهودياً، ينام جميع عساكره، أثناء قيامهم بالعمل؟ وما دام قد ظلوا ساهرين، فكيف يتسنى لجماعة من النساء، العزّل من السلاح، والسليمات النوايا، أن يعبرن المحرس، ويدحرجن الحجر الكبير، ليحملن الجسد؟ ولو فرضنا جدلاً، أن التلاميذ تمكنوا من سرقة جسد الرب، لاصطدمنا بعامل نفسي يناقض هذا الافتراء، وبالرجوع إلى الجزء الأول من سفر الأعمال، نجد مواعظ الرسل كلها، تدور حول نقطة واحدة هي القيامة، كما نرى في العبارة القائلة: "هذا أخذتموه.. وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه... يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك" فهل يُعقل إذاً أنهم كانوا ينادون، بما لا يؤمنون به، ولو أنهم سرقوا جسد المسيح، لكانت كرازتهم بالقيامة، تعني المناداة بالكذب والباطل، ولم يبلغ الأمر حد الكرازة بالقيامة فحسب، بل احتمال الآلام والأهوال في سبيلها، فهل كانوا على استعداد للذهاب إلى السجون، والجلد بالسياط، والموت لأجل سرد قصة خيالية؟ ولا شيء أوضح في الأناجيل وسفر الأعمال، مثل وضوح إخلاص الرسل وولائهم لسيدهم ورسالتهم.. وإن كانوا مخدوعين، فلن يكونوا خادعين، والمراؤون والشهداء ليسوا من جبلة واحدة أو طبيعة واحدة.
5- إن السلطات الرومانية أو اليهودية أخفت جسد المسيح:
ربما كان هذا أقلها معقولية، وأبعدها تصديقاً، ويذهب أصحاب هذا الرأي، إلى أن رغبتهم في وضع حراسة شديدة عليه، باعث قوي لإخفائه.. ولسنا في حاجة إلى القول، أن هذا الزعم منقوض، لا أساس له من الصحة، ولا يقوم دليل يؤيده.. على أن برهاناً واحداً يجعله من المستحيل، أن ندافع عن هذا الزعم، فالسبب الوحيد الذي حدا بالمسؤولين أن يأخذوا الجسد هو منع وقوع الخداع والاحتيال، فقد ترددت إشاعات كثيرة أن يسوع كان يقول إنه سوف يقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام، ولذلك وضعوا الجسد تحت حراسة شديدة، وإن هي إلا بضعة أسابيع، حتى أخذ التلاميذ ينادون بكل مجاهرة بأن المسيح قد قام، وقد ذاع الخبر في سرعة هائلة، وهددت حركة الناصري الجديدة، بتقويض أركان الديانة اليهودية، وتعريض سلامة أورشليم وأمنها للخطر، وخاف اليهود أن يعتنق الناس المسيحية، وخاف الرومان من ثورة انقلابية، ولم يكن أمام السلطات الرسمية إذ ذاك، إلا إظهار جسد يسوع، وإصدار بيان بما كان، ولكنهم بدلاً من أن يفعلوا ذلك، لزموا الصمت، ولجأوا إلى وسائل العنف والتعذيب، فألقوا القبض على الرسل، وهددوهم وجلدوهم وسجنوهم وافتروا عليهم وتآمروا ضدهم وقتلوهم، وما كانوا في حاجة إلى كل هذه إطلاقاً، لو وجدوا جسد المسيح، ومن البديهي أن الكنيسة قامت على أسس القيامة، فلو كانت القيامة باطلة، لتلاشت الكنيسة من الوجود، ولكنهم لم يقدروا، لأن الجسد لم يكن في قبضة يدهم، ولعل سكوت السلطات برهان قاطع على صدق القيامة، له من القوة والتأثير ما لشهادة الرسل!
هذه بعض النظريات والمزاعم التي ابتدعها البعض في محاولة فاشلة، لتوضح فراغ القبر واختفاء الجسد.. وليس فيها ما يقنع أو يشبع، وبسبب انعدام الأدلة الأخرى، كان لا بد من الارتكاز على البراهين الكتابية كما سجلها الوحي... فمن ناحية ليس من دليل يثبت صحة هذه الإدعاءات، ومن ناحية أخرى لنا في الأناجيل ما يؤيد صدق هذه الحقيقة فيما رواه البشيرون عن القيامة ألا وهو: أن جسد المسيح لم تنقله أيدٍ بشرية، بل أقامه الله.
- عدد الزيارات: 13119