Skip to main content

الفصل الرابع: قيامة المسيح

درسنا فيما تقدّم الدعاوي السخية، التي نسبها يسوع إلى نفسه، ورأينا طبيعته المنزهة عن كل أنانية، وها نحن الآن بصدد فحص الدليل على قيامته التاريخية من بين الأموات.

يبدو واضحاً أن للقيامة أهمية عظمى، فلو استطعنا أن نثبت قيامة يسوع الناصري من الأموات، لما كان هناك أدنى شك أو خلاف في أن يسوع شخص فريد وعجيب، وليست المسألة مسألة بقائه حياً روحيّاً، ولا إعادته إلى الحياة جسدياً، بل غلبته على الموت، وقيامته إلى أفقٍ جديدٍ من الوجود. ولم يجز في مثل هذا الاختبار شخص آخر سواه، ولهذا يقف الإنسان العصري، في وقتنا الحاضر، موقف السخرية والاستهزاء، كما وقف الفلاسفة الأثينيون من بولس، وهو يتكلّم عن قيامة الأموات، في أريوس باغوس، الذي قال عنهم الكتاب: "ولما سمعوا بالقيامة من الأموات كان البعض يستهزئون" (أعمال 17: 32).

ربما لا نشعر أن قيامة يسوع، تثبت لاهوته، ولكن ينبغي أن نتفق بأنّها تشير إليه، ومن المناسب أن نفكّر أنَّ الشخص الفائق الطبيعة، يدخل هذا العالم ويخرج منه، بطريقة فائقة للطبيعة... وهذا ما ينسجم في الواقع، مع تعليم العهد الجديد، ومع ما تؤمن به الكنيسة، ولَئِن كانت ولادته طبيعياً، فإن الحبل به كان فائقاً للطبيعة، وإن كان موته طبيعية، فقيامته فائقة للطبيعة، وإن لم يثبت الحبل به معجزياً، وقيامته، إن لم يثبتا كلاهما لاهوته، لكنهما تتفقان وتنسجمان مع لاهوته، وليس المقصود هنا، أن نخوض البحث فيما نسميه "بالولادة من العذراء" إلا أن هناك من الأسباب ما يكفي لتصديقها والإيمان بها، حتى ولو لم يستخدمها العهد الجديد، لكي تبرهن على أنه المسيّا أو أنه ابن الله،كما هو الحال في مسألة القيامة من الأموات.. وما من مرة تنبأ يسوع عن آلامه وموته، إلا واقترن بها ذكر قيامته أيضاً- ووصف قيامته بأنها آية أو معجزة، ويكتب الرسول بولس في بداءة رسالته إلى أهل رومية عن المسيح قائلاً: "وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات" (رومية 1: 4) كما تؤكد أقوال ومواعظ الرسل، المسجلة في سفر الأعمال، إن بالقيامة أبدل الله حكمه الأول، الذي يقضي بأن النفس التي تخطئ هي تموت، بحكم آخر، زكىّ فيه ابنه الذي بذله لأجلنا أجمعين.

وهاكم لوقا المؤرخ الدقيق، يسجل عن القيامة، بأنها مدعومة "ببراهين كثيرة" (أعمال1: 3) وربما لا نحتاج أن نصل إلى ما قاله متى ارنولد عن القيامة بأنها "أقوى حقيقة مدعومة في التاريخ" والحق يقال إن عدداً كبيراً من العلماء المنصفين، أيدوا صحة القيامة تأييداً تاماً، فقد كتب السر ادوارد كلارك إلى قسيس صديق له في هذا العدد، قائلاً: "بوصفي محام درست البراهين والبيّنات المختصة بموضوع قيامة المسيح، دراسة دقيقة مطولة، وأقرر أنها أمر حقيقي واقع، لا يأتيه الشك من الأمام أو الخلف، وكم من مرة ربحت في المحكمة العليا أحكاماً، استناداً إلى بعض البيّنات والدلائل، التي لا توازي في قيمتها شيئاً إذا ما قُورِنَت بالأدلة المؤيدة للقيامة، والمألوف أن الاستنتاج يتبع عادة الدليل والبينة، ونلاحظ أن الشاهد الصادق الأمين، يتصف ببساطة القلب، وعدم الاكتراث بالنتائج، ولعل ما تتضمنه الأناجيل من أدلة وبراهين قاطعة عن القيامة، تجيء تحت هذا النوع، وبوصفي محام، فإنني أعلن قبولي للإنجيل بدون تحفظ، متخذاً إياها شهادة صادقة من رجال موثوق بهم، سجلوا حقائق مدموغة بالدليل القاطع".

فما هو هذا الدليل إذاً؟

وجواباً على ذلك، سنحاول أن نلّخصه في أربع حقائق:


أولاً: القبر الفارغ

تبدأ قصة القيامة في الأناجيل الأربعة، بزيارة بعض النساء للقبر باكراً جداً في صباح أحد القيامة، وكم كانت حيرتهن شديدة جداً لما لم يجدن جسد الرب في القبر، وهذا معناه طبعاً، أنّ القبر كان فارغاًَ، وما هي إلاّ أيام قلائل، حتى بدأ الرسل ينادون ويكرزون بأن يسوع قد قام، وهذا هو جوهر رسالتهم وكرازتهم، ولم يكن من المعقول، أنّ الرسل يجاهرون بهذا الأمر، وليس بينهم وبين القبر سوى دقائق.. لكن الحقيقة الواقعة هي أنّ القبر كان فارغاً.. ولا بدّ من تقديم تفسير لهذه الوقائع.

1- نظرية تقول أنّ النساء ذهبن خطأ إلى قبرٍ آخر:

وكان الظلام باقياً، وقد تملكهنّ الحزن، الأمر الذي يجعله من السهل عليهن أن يرتكبن خطأ، ولو بدا هذا القول مقبولاً ظاهرياً، إلا أنه يحتاج إلى فحصٍ وتدقيق، ولم يكن الظلام حالكاً بل كما قال يوحنا (20: 1) "إن النساء أتين والظلام باقٍ" وقال متى: "عند الفجر" (28: 1) وقال لوقا: "في أول الفجر" (24: 1) أمّا مرقس فيقول بصراحة "أتين إذ طلعت الشمس" (26: 1) وزد على ذلك، لم تكن النسوة غبيّات، وعلى الأقل عرفت اثنتان منهن، أين وضع يوسف ونيقوديموس الجسد (مرقس 15: 47، لوقا 23: 55) وراقبتا كل عملية الدفن لأنهما "كانتا جالستين تجاه القبر" (متى 27: 61) والاثنتان كلتاهما (مريم المجدلية ومريم أم يوسف) رجعتا عند الفجر، وجاءتا بسالومة معهما (مرقس 16: 1) وأيضاً يونّا "والباقيات" (لوقا 24: 10) ولو أنّ واحدة ضلّت الطريق أو أخطأت القبر، لاستطاعت الباقيات أن يصلحن خطأها أو يهدين ضلالتها.. ولو أخطأت مريم في المرة الأولى، وذهبت إلى مكان غير المكان المقصود، لما أخطأت مرة أخرى عند رجوعها في وضح الصباح، حيث بقيت في البستان، إلى أن التقت بيسوع، فضلاً عن ذلك، لم يكن الحزن العاطفي، الذي جاء بهنّ إلى القبر، وإنما أتين بمهمة أخرى "حاملات الحنوط الذي أعددنه" ليدهنّ جسد يسوع لأن حلول السبت، قبل ذلك بيومين، لم يترك لهنّ فرصة لإعداد الحنوط والأطياب اللازمة، وليس من السهولة بمكان، إن مثل هؤلاء النسوة، اللواتي أفرزن أنفسهن لهذا العمل، ليس من السهولة أن يخدعن، فضلاً عن ذلك، لو أن النسوة أخطأن القبر، فهل يمكن لبطرس ويوحنا اللذين ركضا ليتحققا الخبر، أو لغيرهما ممن لحقوا بهما، بما فيهم يوسف الذي من الرامة ونيقوديموس، هل يمكن أن جميعهم يرتكبون نفس الخطأ؟

2- الإغماء والغيبوبة:

يذهب أصحاب هذه النظرية إلى القول، أن يسوع لم يمت فوق الصليب، لكن أغمي عليه، ثم فاق في القبر، وخرج منه فيما بعد، وأظهر نفسه لتلاميذه– إلا أنه تحفَّ بهذه النظرية مشاكل عديدة، وهي في حد ذاتها، باطلة أصلاً وفصلاً، يناقضها الدليل كل التناقض.. لقد تعجب بيلاطس، أنّ يسوع مات كذا سريعاً، فدعا قائد المئة وسأله هل له زمان قد مات (مرقس 15: 44، 45) ولما اقتنع بيلاطس بذلك، وهب الجسد ليوسف، ولعل قائد المئة استطاع، أن يعطي بيلاطس التأكيد الكافي، لأنه شاهد بأُمِّ عينيه، "واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء" (يوحنا 19: 34) فأخذ يوسف ونيقوديموس الجسد، وأنزله ولفه بكتان، ووضعه في قبر منحوت.. فهل يمكن أن نصدّق أنه كان طوال هذا الوقت في غيبوبة، وأنه بعد آلام ومرائر محاكمته والاستهزاء والصلب، استطاع أن يعيش مدة ست وثلاثين ساعة، في قبر منحوت في الصخر، لا تدفئة فيه ولا طعام ولا تضميد لجراحه الثخينة؟ أو أنه استطاع أن يستجمع قواه ويقوم بعمل فائق للطبيعة؟ فيرفع الحجر الكبير عن القبر، وأن ذلك تم في غفلة من الجند الروماني؟ وأنه وهو المتعب والضعيف والجائع، يقف أمام التلاميذ ويقنعهم بأنه قهر الموت؟ وأنه جاهر بموته وقيامته، وبأنه سيرسلهم إلى العالم أجمع، ووعدهم أن يكون معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر؟ وأنه سوف يمكث على الأرض، أربعين يوماً، ومن ثم يختفي، بينما لا نرى أحداً ظاهراً يطعمه أو يؤويه، كما أن أحداً لم يرهُ يموت أخيراً؟ فكيف نصدّق هذه التي هي أبعد تصديقاً مما شك فيه توما.

3- لصوص سرقوا الجسد:

أشاع الأعداء، أن بعض اللصوص أتوا ليلاً وسرقوا جسد يسوع، وليس من دليل أو شبه دليل يؤيد هذا الزعم، فكيف نفسر مجيء اللصوص إلى القبر، وكيف دحرجوا الحجر الكبير، في غفلة من الحراس الرومان الساهرين؟ ولا يمكن أن يتصور عقل كيف يجرؤ اللصوص على سرقة الجسد وترك الأكفان في موضعها، أو ما الذي دفعهم إلى هذا العمل؟

4- التلاميذ سرقوا جسد يسوع:

ويسجل لنا متى في إنجيله، أن اليهود ابتدعوا هذه الإشاعة، ونشروها حالاً بعد القيامة ويصف كيف أن بيلاطس، بعد أن أمر بإعطاء الجسد إلى يوسف الرامي، استقبل وفداً من رؤساء الكهنة والفريسيين الذين قالوا له: "يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل، قال وهو حي أني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه، ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات فتكون الضلالة الأخيرة، أشر من الأولى" ثم عاد بيلاطس يقول مؤكداً: "عندكم حراس اذهبوا واضبطوه كما تعلمون، فمضوا وضبطوا القبر بالحراس، وختموا الحجر" (متى 37: 62- 66) ومن ثم يستمر البشير متى، في وصف كيف أن الحجر الكبير، والختم الذي عليه، والحراس عجزوا عن أن يمنعوا القيامة، وكيف أن قوماً من الحراس، جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان، وكيف أنهم اجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا للعسكر فضة كثيرة قائلين: "قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين" ثم يختم متى هذه القصة، بقوله: "فأخذوا الفضة وفعلوا كما علّموهم. فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم" (متى 28: 11- 15).

ولكن هذه القصة التي اختلقها اليهود، لا يقبلها عقل سليم، فهل من المعقول أن قوماً من خيرة الحرس، رومانياً كان أم يهودياً، ينام جميع عساكره، أثناء قيامهم بالعمل؟ وما دام قد ظلوا ساهرين، فكيف يتسنى لجماعة من النساء، العزّل من السلاح، والسليمات النوايا، أن يعبرن المحرس، ويدحرجن الحجر الكبير، ليحملن الجسد؟ ولو فرضنا جدلاً، أن التلاميذ تمكنوا من سرقة جسد الرب، لاصطدمنا بعامل نفسي يناقض هذا الافتراء، وبالرجوع إلى الجزء الأول من سفر الأعمال، نجد مواعظ الرسل كلها، تدور حول نقطة واحدة هي القيامة، كما نرى في العبارة القائلة: "هذا أخذتموه.. وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه... يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك" فهل يُعقل إذاً أنهم كانوا ينادون، بما لا يؤمنون به، ولو أنهم سرقوا جسد المسيح، لكانت كرازتهم بالقيامة، تعني المناداة بالكذب والباطل، ولم يبلغ الأمر حد الكرازة بالقيامة فحسب، بل احتمال الآلام والأهوال في سبيلها، فهل كانوا على استعداد للذهاب إلى السجون، والجلد بالسياط، والموت لأجل سرد قصة خيالية؟ ولا شيء أوضح في الأناجيل وسفر الأعمال، مثل وضوح إخلاص الرسل وولائهم لسيدهم ورسالتهم.. وإن كانوا مخدوعين، فلن يكونوا خادعين، والمراؤون والشهداء ليسوا من جبلة واحدة أو طبيعة واحدة.

5- إن السلطات الرومانية أو اليهودية أخفت جسد المسيح:

ربما كان هذا أقلها معقولية، وأبعدها تصديقاً، ويذهب أصحاب هذا الرأي، إلى أن رغبتهم في وضع حراسة شديدة عليه، باعث قوي لإخفائه.. ولسنا في حاجة إلى القول، أن هذا الزعم منقوض، لا أساس له من الصحة، ولا يقوم دليل يؤيده.. على أن برهاناً واحداً يجعله من المستحيل، أن ندافع عن هذا الزعم، فالسبب الوحيد الذي حدا بالمسؤولين أن يأخذوا الجسد هو منع وقوع الخداع والاحتيال، فقد ترددت إشاعات كثيرة أن يسوع كان يقول إنه سوف يقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام، ولذلك وضعوا الجسد تحت حراسة شديدة، وإن هي إلا بضعة أسابيع، حتى أخذ التلاميذ ينادون بكل مجاهرة بأن المسيح قد قام، وقد ذاع الخبر في سرعة هائلة، وهددت حركة الناصري الجديدة، بتقويض أركان الديانة اليهودية، وتعريض سلامة أورشليم وأمنها للخطر، وخاف اليهود أن يعتنق الناس المسيحية، وخاف الرومان من ثورة انقلابية، ولم يكن أمام السلطات الرسمية إذ ذاك، إلا إظهار جسد يسوع، وإصدار بيان بما كان، ولكنهم بدلاً من أن يفعلوا ذلك، لزموا الصمت، ولجأوا إلى وسائل العنف والتعذيب، فألقوا القبض على الرسل، وهددوهم وجلدوهم وسجنوهم وافتروا عليهم وتآمروا ضدهم وقتلوهم، وما كانوا في حاجة إلى كل هذه إطلاقاً، لو وجدوا جسد المسيح، ومن البديهي أن الكنيسة قامت على أسس القيامة، فلو كانت القيامة باطلة، لتلاشت الكنيسة من الوجود، ولكنهم لم يقدروا، لأن الجسد لم يكن في قبضة يدهم، ولعل سكوت السلطات برهان قاطع على صدق القيامة، له من القوة والتأثير ما لشهادة الرسل!

هذه بعض النظريات والمزاعم التي ابتدعها البعض في محاولة فاشلة، لتوضح فراغ القبر واختفاء الجسد.. وليس فيها ما يقنع أو يشبع، وبسبب انعدام الأدلة الأخرى، كان لا بد من الارتكاز على البراهين الكتابية كما سجلها الوحي... فمن ناحية ليس من دليل يثبت صحة هذه الإدعاءات، ومن ناحية أخرى لنا في الأناجيل ما يؤيد صدق هذه الحقيقة فيما رواه البشيرون عن القيامة ألا وهو: أن جسد المسيح لم تنقله أيدٍ بشرية، بل أقامه الله.


ثانياً: الأكفان الموضوعة في القبر

ومما هو جدير بالذكر، أن الأناجيل التي قالت بأن جسد المسيح لم يكن في القبر، تؤكد أن الأكفان كانت موضوعة فيه، وقد نبّر يوحنا على هذه الحقيقة، لأنه رافق بطرس وأتيا كلاهما إلى القبر، وكان الاثنان يركضان معاً، ولعله فيما ذكر في (20: 1- 10) يشهد يوحنا شهادة عيان، فهو يصف ما رآه بنفسه، وهو هو الذي يشير إلى نفسه بالقول: "التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه" (ع 2) وقد سبق بطرس وجاء أولاً إلى القبر، ولم يفعل شيئاً سوى أنه ألقى نظرة، وظل بانتظار رفيقه بطرس، فلما جاء سمعان بطرس دخل القبر "فحينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن" (ع 8). وهنا يبتدرنا السؤال: "ما الذي رآه وجعله يؤمن؟" وترينا القصة بوضوح، أنه لم يكن القبر الفارغ فحسب، أو عدم وجود جسد المسيح فيه، بل الأكفان الموضوعة في نظام وترتيب، كما لو أنها لم تلمس بيد.

كتب القس "هنري لاثام" الأستاذ في جامعة كمبردج سابقاً، كتب في كتابه المدعو: "السيد المقام" ما معناه:

"هيا بنا نعيد القصة كما سجلها يوحنا البشير في (19: 38- 42) يذكر يوحنا أن يوسف الذي من الرامة سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع، وأن نيقوديموس "جاء... وهو حامل مزيج مر وعود نحو مئة مناً" فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان مع الأطياب، كما لليهود عادة أن يكفّنوا" أي كما يلفون الجروح بضمادات، حول جسده، ثم رشوا الأطياب عليها، ولا ريب أن الرأس ملفوف وحده بلفاف أو منديل مستقل، كما كان لعازر (يوحنا 11: 44) وهكذا لف يوسف ونيقوديموس جسد المسيح لفاً محكماً- الجسد والرأس- تاركين الوجه والرقبة عريانتين، حسب العادات المألوفة إذ ذاك، ثم وضعا الجسد في قبر جديد، لم يوضع فيه أحد قط... ولنفرض أننا كنا عند القبر في وقت القيامة، ماذا كنا نرى؟ هل نرى يسوع وهو يتململ أولاً، ثم يتثاءب، ثم يقوم ناهضاً؟ كلا... إننا لا نؤمن أن قيامته كانت بهذا المعنى، أي أنه عاد إلى الحياة ثانية، فلم يفق من غيبوبة. إنه مات حقاً، وقام ثانية من بين الأموات، قيامة حقيقية بكل معنى الكلمة، وليست عودة ثانية إلى الحياة، وإيماننا إنه جاز واختبر الموت، بطريقة معجزية عجيبة وقام من جديد.

ولو كنا هناك عند القيامة ماذا كنا نرى أيضاً؟

نشاهد كيف اختفى الجسد فجأة، وكأنه قد "تبخّر" إن صح القول، متحولاً إلى عنصر جديد عجيب، يختلف كل الاختلاف عن ذي قبل، قام وترك الأكفان موضوعة كما كانت، دون ما تغيير يُذكر، كما دخل والأبواب مغلقة... ولا يبعد أن تغييراً طفيفاً حدث، بسبب خروج الجسد، الذي كان يدعمها، وتحت ضغط وثقل الأطياب التي بلغت مئة مناً (نحو خمسين كيلوغراماً) كما أنه لا بد من حدوث ثغرة أو انخفاض بين أكفان الجسد، ولفافة الرأس حيث كان رأسه ورقبته، وفي منديل الرأس، بسبب نمط وطريقة اللف المتقاطعة المستعملة في تلك الأيام.

وإذا أنعمنا النظر في درس ما كتبه يوحنا في هذا الصدد، نلاحظ ثلاثة أشياء، يذكرها التلميذ الحبيب عن الأكفان:

1- "رأى الأكفان موضوعة": وقد تكررت كلمة "موضوعة" مرتين في العددين 5، 6، وفي اللغة الأصلية أي اليونانية تعني "رآها كما كانت موضوعة".

2- المنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده، والكلمة المترجمة "ملفوفاً" تعني في لغتها الأصلية، مستديرة كما لو كان الرأس في داخلها... وليس من الصعب، أن نتخيل المنظر الذي رآه التلاميذ المتحيرون لما جاءوا إلى القبر، ودخلوا... لقد رأوا الحجر المرفوع، والأكفان الموضوعة، والمنديل الذي على الرأس لم يكن معها.. كما رأوا الهبوط القائم بين المنديل، وبين الأكفان على الجسد.. فلا غرابة إن كان قد "رأى وآمن" لأن نظرة واحدة إلى هذه الأكفان، تؤيد حقيقة القيامة وتدل على طبيعتها، فإن هذه الأكفان، لم تلمسها يد إنسان، ولم ترتبها قوى بشرية، بل كأنها فيلجة خرجت منها الفراشة بعد تطورها، وعسانا ندرك أن هذه دلائل شاهد عيان، قُصد منها أن تكون دليلاً واضحاً قاطعاً على القيامة، استناداً إلى الواقع- كما يسجل يوحنا- بأن مريم المجدلية (التي عادت ثانية إلى القبر بعد أن أخبرت بطرس ويوحنا) "انحنت إلى القبر ونظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين" (20: 11، 12) والمحتمل أنهما كانا جالسين على الحجر المرفوع، والأكفان بينهما، ويضيف متى ومرقس، أن أحد الملاكين قال للمرأتين: "ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه" (متى 28: 6، مرقس 16: 6) وعسانا نرى في إشارة الملاك إلى الموضع الذي كان يسوع مضطجعاً فيه، وفي وضع وكلمات الملاكين، ما يؤيد الحقيقة بأن الأكفان الموضوعة، وعدم وجود جسد المسيح، كانتا شهادتين قويتين لتأييد حقيقة القيامة.


ثالثاً: رؤية الرب

يعرف كل قارئ للأناجيل، بأنها تتضمن قصصاً غريبة وعجيبة، عن كيفية ظهور يسوع لتلاميذه بعد قيامته، فقد ظهر الرب عشرة مرات، لمن دعاهم بطرس "شهوداً سبق الله فانتخبهم" (أعمال 10: 41) فقد ظهر لمريم المجدلية (يوحنا 20: 11- 18، مرقس16: 9) وللنسوة الراجعات من القبر (متى 28: 9) ولبطرس (لوقا 24: 34، 1كورنثوس 15: 5) ولتلميذي عمواس (لوقا 24: 13- 35، مرقس 16: 12، 13) وللعشرة التلاميذ المجتمعين في العلية (لوقا 24: 36- 42، يوحنا 20: 19- 23) ثم للأحد عشر تلميذاً وتوما معهم (يوحنا 20: 24- 29، مرقس 16: 14) ولأكثر من خمسمائة أخ معاً، ربما عند سفح الجبل في الجليل (1كورنثوس 15: 6، متى 18: 16- 20) ثم ليعقوب (1كورنثوس 15: 7) ثم لبعض التلاميذ، بينهم بطرس وتوما ونثنائيل ويعقوب ويوحنا عند بحيرة الجليل (يوحنا 21: 1-23) ولكثيرين عند جبل الزيتون بالقرب من بيت عنيا وقت الصعود، (لوقا 24: 50-53، أعمال 1: 6- 12) كما أن الرسول بولس يضع نفسه في نهاية قائمة الذين رأوا الرب المقام (1كورنثوس 15: 8) مشيراً إلى اختباره الذي جاز فيه وهو في الطريق إلى دمشق، كما أن لوقا يذكر في بدء سفر الأعمال، أن يسوع أراهم أيضاً نفسه حيّاً ببراهين كثيرة.. بعدما تألم وهو يظهر لهم (أي للتلاميذ) أربعين يوماً (أعمال 1: 3) وربما كانت هناك بعض المرات التي ظهر فيها ولم تسجّل..

وليس في مقدورنا، أن نغضّ الطرف، عن هذه المجموعة الحيّة القوية الشاهدة للقيامة، ولا بدّ من إيضاح هذه النصوص، ونكتفي بتوضيح ثلاثة أمور: (1) هل هي اختلاق وابتداع؟ (2) أم أنها هذيان؟ (3) أم أنها حقيقة واقعية؟

لا حاجة أن نضيع وقتاً أو جهداً في تفنيد الزعم الأول، لأنه يجب أن نستبعد كون قصة القيامة وظهور الرب المقام، أمراً مبتدعاً ومختلقاً، لأن اختلاقه أمر مستحيل، ومن بين الأسباب لذلك إن الأناجيل جديّة، ورزينة رصينة، لا تزويق فيها ولا تنميق، كما أنها رواية شهود عيان، كتبت بطريقة مؤثرة تصويرية، فإن رواية حادث السباق والركض إلى القبر، أو السير إلى قرية عمواس، أبعد من أن تكونا خيالاً أو اختلاقاً، ولو قدّر لنا أن نختلق قصصاً عن القيامة، ربما فعلنا أكثر مما جاءنا، لأنّ اختلاقنا يدفعنا إلى تجنب العقد المحيرة، والنقاط المربكة المزعجة، التي تدعو إلى التساؤل، لكننا قد أسقطنا– أو على الأقل خففنا- من سلوك التلاميذ وخوفهم، وكان من الجائز أن نكتب أناجيل تصويرية (مثل الأبوكريفا) نصف فيها سلطان ابن الله ومجده، الذي حطّم قيود الموت، وقام من القبر ظافراً منتصراً... لكنّ أحداً منا لم يرَ الحادث بعينه، كما لا يوجد لدينا وصف له، ولو استطعنا، لما رضينا أن تكون مريم المجدلية أول شاهد للقيامة، تفادياً للتهكم والسخرية من أمثال رينان على الأقل.

ولعل هناك اعتراضاً ضد زعم الاختراق، أعظم وأقوى مما حوته براءة الأناجيل، مما أشرنا إليه سابقاً، إلاّ وهو أن الرسل والمبشرين والكنيسة الأولى، اقتنعوا اقتناعاً كلياً بأن يسوع قد قام، وأن كل ما في العهد الجديد، ينّم عن جوٍ ملؤه التأكيد والنصرة.

وما دامت هذه الكتابات المدونة في الإنجيل ليست اختلاقاً، فهل يمكن أن يكون ظهوره هذياناً وسخرية؟ ذهب كثيرون بهذا المذهب، وجاهروا به بشدة، ولكن مثل هذا الهذيان أمر لا يكتم ولا يخفى ويعرّفه قاموس اللغة هكذا: "الهذيان هو الشعور الظاهري بشيء خارجي حينما لا يكون لهذا الشيء وجود حقيقي" وهو ظاهرة تبدو في المصابين بأمراض عصبية على الأقل، أو ممن أصيبوا فعلاً بخلل في العقل.. وكثيرون منّا عرفوا أناساً ممن رأوا أشياءً وسمعوا أصواتاً، وعاشوا عيشة- بعض الوقت أو كل الوقت- في عالم خيالي، خلقوه لأنفسهم، ولا يجوز أن يقال بأن التلاميذ كانوا من هذا النوع غير المتزن، وإن صدُق القول على مريم المجدلية، فلن يتطرق إلى بطرس المندفع أو توما الشكوك.

وأصبح من المعلوم أن الهذيان قد شقَّ طريقه، إلى عدد كبير من الناس العاديين الطبيعيين، وفي مثل هذه الحالات تظهر خاصيتان بارزتان: الأولى أنه يبلغ ذروته، نتيجة فترة من التفكير الإرادي الجامح. والثانية ملائمة ظروف الوقت والمكان والمزاج، وينبغي أن تكون هناك رغبة داخلية قوية تتمشى تماماً مع الوضع الخارجي.. وبالرجوع إلى ما كتبه الإنجيل بشأن القيامة، نلاحظ على كل حال أنّ كلا العاملين مفقود، وبدلاً من أن يكون هناك أي دليل للتفكير الإرادي، نرى العكس، فقد أنزل جسد المسيح من فوق الصليب، ولفّ في أكفان من الكتان، ووضع في قبر منحوت في الصخر وما بدأه يوسف الرامي ونيقوديموس من فرائض للدفن يوم الجمعة قبل حلول السبت، جاءت النساء لإكماله وإتمامه في صباح الأحد فقد مات يسوع ودفن، ولم يخطر على بالهن أن أي شيء غير ذلك سيحدث.. فسرعان ما رأين القبر فارغاً، حتى خرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنّ خائفات" (مرقس 16: 8) ولمّا أخبرت مريم المجدلية ومن معها من النساء، الرسل بأن يسوع حي "لم يصدقوا" (مرقس 16: 11) بل أكثر من ذلك "تراءى كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقونهن" (لوقا 24: 11) وعندما جاء يسوع ووقف في وسطهم "جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً" (لوقا 24: 37) وأن يسوع وبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم (مرقس 16: 14) أمّا توما فقد تردد في إيمانه وقال لهم: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أومن" (يوحنا 20: 24، 25) وعندما التقى المسيح بالأحد عشر تلميذاً والآخرين فوق جبل في الجليل، يقول متى: "ولما رأوا سجدوا له ولكن بعضهم شكوا" (متى 28: 17) وفي هذه جميعها لا نرى تفكيراً إرادياً جامحاً، ولا تصديقاً بسيطاً ساذجاً، ولا ثقة عمياء، فما كان التلاميذ أغراراً أغبياء، بل بالأحرى كانوا حذرين يقظين متسائلين. قال المسيح لاثنين منهم في لوقا 24: 25: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان" لأنهما كانا كذلك، وقد انبلج فجر إيمانهم أخيراً، عن طريق عدم إيمانهم وارتيابهم فلن يمكن أن يرضيهم هذيان أو خبل، لأنهم بنوا إيمانهم الأقدس على حقائق ثابتة أكيدة، هي خلاصة اختباراتهم الشخصية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن عرفوا أيضاً الظروف الخارجية المواتية، فلو أن المسيح في ظهوره، قد اقتصر على مكان واحد أو مكانين، من الأماكن المقدسة، التي اختصت بذكريات عن يسوع، ولو أن مزاجهم وحالتهم النفسية كانت تتوقع ظهوره، لأفسح لنا المجال للارتياب والظن.. ولو أن لدينا قصة ظهوره في العلية فقط، لفُتِحَ أمامنا باب الشك والتساؤل، ولو أن تلاميذ الأحد عشر، اجتمعوا في نفس المكان، الذي قضى فيه يسوع معهم جانباً كبيراً من ساعاته الأخيرة على الأرض، وشعروا بالفراغ الكبير الذي تركه، وأطلقوا لعواطفهم العنان في التفكير والخيال، عن الأمور الماضية الساحرة، وتذكروا وعوده بمجيئه ثانية، وأخذوا يمنّون أنفسهم برجوعه إليهم، إلى أن تم لهم تحقيق انتظاراتهم بظهوره المفاجئ، لو حدثت هذه، فإننا نخشى أن يكونوا قد أُخذوا على غرة، بخدعة ساخرة قاسية... ولكن لم تكن هذه ظروفهم أو حالتهم. وفي الواقع، إن فحصاً دقيقاً للمرات العشر، التي ظهر فيها، تكشف لنا القناع عن تنوّع فريد من حيث ظروف الأشخاص والأماكن، والمزاج التي فيها حدثت.. وبذا نرى ثلاث مقابلات فردية (مريم المجدلية، وبطرس ويعقوب) ومقابلة مع التلميذين في الطريق إلى عمواس.. ثم ظهر لعشرة على الأقل، في أول أحد للقيامة، ثم للأحد عشر أو أكثر في الأحد التالي، بينما يذكر بولس الرسول، بأنه ظهر دفعة واحدة، لأكثر من خمس مئة أخ (ربما في الجليل). وأما بشان الأماكن، بخلاف ما ظهر في واحد أو اثنين مقدسين منها، فقد كانت هناك أماكن بقدر ما رأى من أناس، بينها البستان الذي به القبر، وفي مكان ما بين البستان والمدينة، وفي العلية، وفي الطريق إلى عمواس، وفي الجبل في الجليل، وشاطئ بحيرة الجليل، وجبل الزيتون بالقرب من بيت عنيا...

وبما أن هناك تنوّعاً في الأشخاص والمكان، فلا بد من تنوّع أيضاً في الظروف والأحوال... فقد كانت مريم المجدلية تبكي، وكانت النساء خائفات متحيرات، وبطرس يعذبه ضميره، وتوما ينساب في شكوكه وارتيابه، وتلميذا عمواس، تشغلهما حوادث الأسبوع والتلاميذ انهمكوا بالصيد في الجليل، إلا أنهم في غمرة شكوكهم ومخاوفهم، وفي عدم إيمانهم وانشغال بالهم، وقف الرب المقام، بهم وعرّفهم نفسه، واقتحم الحواجز الضخمة لعدم إيمانهم.. فلا يجسرنّ إنسان على أن يغضّ الطرف عن هذه الإعلانات عن الرب الإله المقام، وأن يدّعي إنها هذيان أو خبل في عقل بشري..


رابعاً: تغير التلاميذ

لعل ما طرأ على التلاميذ من تغيّر ملحوظ، أعظم الأدلة القاطعة، لإثبات قيامة يسوع، لأنه خال من كل تزويق أو تنميق فلم يحاولوا في دعوتهم، أن يجذبوا الأنظار إليهم، بقدر ما رغبوا في أن يوجهوا النظر إلى القبر الفارغ، والأكفان الموضوعة، والرب الذي رأوه... وفي استطاعتنا أن نرى التغيير الذي طرأ عليهم واضحاً، دون أن يطلبوا منا ملاحظة ذلك، فالرجال الذين يحتلون المكانة في سفر الأعمال، هم رجال جدد يختلفون عنهم في الأناجيل، حيث ترك في نفوسهم موت المسيح، اليأس والقنوط فأصبحوا على قاب قوسين أو أدنى من الفشل والاستسلام لليأس، بينما نراهم في سفر الأعمال جماعة نذروا نفوسهم، وبذلوها رخيصةً لأجل اسم الرب يسوع المسيح، وقد فتنوا المسكونة وقلبوها رأساً على عقب (أعمال 15: 26، 17: 6) فما السبب في هذا التطور؟ ما هو السرّ الذي دفعهم إلى إيمانهم ومحبتهم، وقوتهم، وفرحهم الجديد؟ بدون ريب إن ليوم الخمسين وحلول الروح القدس، تأثيراً ولو جزئياً... ولكن الروح القدس حلّ فقط، عندما قام المسيح وصعد، وكأنما أطلقت القيامة سراح القوى الأدبية والروحية، وهنا يبرز مثالان: أولهما سمعان بطرس، ونراه وقد انزوى من قصة آلام المسيح، وأنكر سيده ثلاث مرات، وقال بقسم وهو يلعن أنه لم يعرف حلاوة تأثير يسوع في حياته، وخرج في ظلمة الليل البهيم وبكى بكاء مراً وحينما مات يسوع، انضم بطرس إلى رفاقه في العلية، خلف الأبواب المغلقة "بسبب الخوف من اليهود" (يوحنا 20: 19) وكان مكتئباً جداً... ولكن إذ نقلب صفحة أو صفحتين في الكتاب المقدس، نراه واقفاً- ربما على الدرج الحجري للعلية نفسها، حيث كان يختفي في أورشليم- نراه واقفاً يجاهر بكل قوة وجسارة، أمام جمهور عظيم جداً، بدرجة أن ثلاثة آلاف نفساً قبلت المسيح وتعمدت... وإذ ننتقل إلى الإصحاحات التالية من سفر الأعمال، نراه يتحدى أعضاء السنهدريم الذين حكموا على يسوع بالموت- يتحداهم فرحاً مسروراً لأنه حُسب مستأهلاً أن يُهان من أجل اسمه، كما نراه- فيما بعد- في سجنه نائماً، في الليلة السابقة لإعدامه وقتله.. (أعمال 2: 14- 41، 4: 1- 22، 5: 41، 12: 1- 6) فقد أضحى سمعان بطرس إنساناً جديداً، وقد ذهبت الرمال المتزعزعة الخاوية، وظهر كالصخر الحقيقي، وفقاً لتسميته، فما هو السر في هذا التطور العجيب؟!

والمثال الثاني هو يعقوب، الذي أسند إليه مركز القيادة في أورشليم فيما بعد، إنه أحد "أخوة الرب" الذين تذكرهم الأناجيل بأنهم "لم يكونوا يؤمنون به" (يوحنا 7: 5) وما أن نصل إلى الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل، ونقرأ أسماء المجتمعين الذين سجلهم لوقا، حتى نجد "أخوته" بينهم (ع 14) ومن الواضح أن يعقوب الآن أصبح في عداد المؤمنين... فما هو السر في هذا التطور العجيب؟! وما الذي أقنعه؟ ربما نكتشف السر فيما كتبه بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (15: 7) وهو يعدّد أسماء الذين رأوا المسيح المقام، واضعاً بينهم يعقوب في قوله: "وبعد ذلك ظهر ليعقوب".

إنها القيامة التي حولت جبن بطرس إلى شجاعة وجرأة، وحولت شكوك يعقوب إلى إيمان... إنها القيامة هي التي أبدلت السبت بالأحد والبقية اليهودية المختارة، إلى الكنيسة المسيحية، إنها القيامة التي غيرت شاول الطرسوسي، من فريسي ناموسي إلى رسول للأمم وحولت اضطهاده المرير للمسيحيين، إلى كرازة باسم المسيح.

هذه هي دلائل القيامة!

وبما أن القبر ظل فارغاً، والأكفان بقيت فيه موضوعة، والرب قد ظهر ورأوه، والتلاميذ تغيروا وتطوروا... فلا يبقى من دليل آخر سوى تأكيد الحقيقة المسيحية العظيمة! "الرب حقاً قام".

تناولنا في الفصول الثلاثة السابقة، بعين الفحص والاستقصاء الناقدة، أعظم شخصية جذابة عرفها التاريخ... ألا وهي شخصية النجار المتواضع الذي من ناصرة الجليل، الذي أصبح كارزاً للبسطاء والقرويين، ومات موت الأثمة المجرمين.... كانت دعاويه فائقة للطبيعة وسامية جداً، وبدا متحلياً بكل كمال أدبي، قام من بين الأموات، وهل هناك من دليل جامع مانع أعظم من هذا؟ ولكن يعوزه خطوة صغيرة قصيرة، هي الإيمان الذي يأتي بنا، لنسجد على ركبنا أمامه، ونضع في شفاهنا، ذلك الاعتراف الجبار، الذي نطق به قبلنا توما الشكوك فقال: "ربي وإلهي" وكل من ينكر أن "يسوع المسيح جاء في الجسد فليس من الله، بل صار ضد المسيح" (1 يوحنا 2: 22، 4: 2، 3، 2 يوحنا 7) فإذا آمنتم بها أو بالحري آمنتم به، تكون لكم حياة أبدية باسمه (يوحنا 20: 21).

  • عدد الزيارات: 13124