Skip to main content

الإنسان القرد وإنسان الكهف

إنّ الفروقات الجسدية بين البشر والقرود ضخمةٌ جداً ويمكن تعليلها بحقيقة أنّ شيفرة الحمض النووي (د.إن.أ) فيها، أي "المخطط" الأصلي، كان مختلفاً.

"إنّ الأنف البشري فيه جسر ناتئ وأسلة ممدودة وهذه لا توجد عند القرود .... والإنسان لديه شفاه حمراء يشكلها الغشاء المخاطي الذي يبطن فمه؛ ولكن ليس للقرود مثل هذا. والقرود لها إبهام في أقدامها كما في أيديها.... وإن للإنسان عند ولادته أكبر وزن نسبة إلى وزنه العام كراشد. ومع ذلك فإنه عند الولادة يبدي أقل درجة من النضج ويكون أضعف المخلوقات على الإطلاق. إن رأس الإنسان متوازن عند قمة عموده الفقري؛ بينما رأس القرد متمفصلٌ عند المقدمة بدلاً من الذروة"[161].

لقد قامت الجمعية الجغرافية الوطنية برعاية عدة بعثات إلى أفريقيا الشرقية بحثاً عن أشكال إنتقالية متوسطة بين القردة والبشر. وكان لويس وماري ليكي، وابنهما ريتشارد، ودونالد جوهانسون من بين الشخصيات الأبرز في اكتشاف مستحاثات لمخلوقات زعموا أنها أسلاف البشر، كانت تعيش منذ حوالي أكثر من ثلاثة ملايين سنة. إن غلاف عدد نوفمبر 1985 من مجلتهم الرائجة والمؤثرة احتوى على صورة خطية لجمجمة ما يفترض أنه إنسان قرد.

ولكن نشوئيين رائدين متعددين بعيدون عن الاقتناع بأن مستحاثات هذا "القرد الأولي الجنوب إفريقي" تمثل المراحل الأولى من النشوئية البشرية. في تحد للإدعاءات الأولى القائلة بأن هذه المخلوقات التي يبلغ طولها أربعة أقدام كانت تمشي منتصبة القامة كالبشر، أشار سولي زكرمان، وهو عالم تشريح بريطاني لامع، وتشارلز أوكسنارد، البروفسور في علم التشريح في جامعة كاليفورنيا الجنوبية الطبية، مستنتجين أنها ".... لم تكن تسير منتصبةًً أو قائمةًً بل كان لها شكل من التحرك أو التنقل يشابه ذاك الذي لإنسان الغابة[162]"[163].

إن الأدلة المشهورة عن "الإنسان القرد"، مثل البلتداون والنبراسكا، وغيرها وغيرها، قد ضعفت الثقة بها بفضل المحللين الموضوعيين والمتأنيين. إنها إما أن تكون بقايا حيوانات أو كائنات بشرية حقيقية، ولكنها ليست انتقالاً بينهما. إضافة إلى ذلك، فإن الجماجم التي هي بشرية حقاً قد وُجدت مدفونة في طبقات أدنى بكثير من تلك التي تحتوي على البقايا المزعومة لسلفها النشوئي. ومن هنا، تبزع النشوئية من جديد كالتزام إيماني أكثر منها علم موضوعي تجريبي[164].

خلال مئة سنة من الأبحاث الدقيقة عن أشكال انتقالية ("عقد اتصال") بين الحيوانات الشبيهة بالقردة والبشر لم يظهر إلا بضعة ضئيلة جداً من عينات مشكوكٍ فيها (لا تكاد تملأ مدفناً صغيراً). ولكن إن كان البشر قد تطوروا عن حيوانات خلال مئات من السنين، فأين جميع الكائنات البشرية التي يجب أن تكون هنا الآن، إن لم تكن هناك بقايا لها؟

"إنّ معدل حجم العائلة اليوم، في كل أرجاء العالم، هو حوالي 3.6 أطفال، ومعدل النمو السكاني السنوي هو 2%.... إنه لمن غير المعقول أنه كانت هناك 25000 جيلاً من الناس ينتج عنهم تعداد سكاني يبلغ فقط 3.5 ملياراً. إن كان عدد السكان قد ازداد بنسبة 0.5% سنوياً على مدى مليون سنة، أو إن كان معدل حجم العائلة فقط 2.5 طفلاً في العائلة لـ 25000 جيلاً، فإن عدد السكان في الجيل الحالي يجب أن يزيد على (10 2100)، وهذا عدد مستحيل تماماً بالطبع: ففقط (10 130) إلكتروناً يمكن أن تُحشر في الكون المعروف برمته[165]."

إضافة إلى كل هذه الاعتبارات، لا تزال توجد شكوك كبيرة فيما يتعلق بالتواريخ المطلقة المقدرة لمستحاثات "الإنسان القرد" عند باحثين ملتزمين بالجدول الجيولوجي لأكثر من ملياري سنة. في مقالته "البحث عن أسلافنا" في المجلة الجغرافية الوطنية (عدد نوفمبر 1985)، يؤكد كينيث ويفر لقراءه أن الأعمار الكبيرة المقدرة للعظام المستحاثية تستند بشكل أكيد على معدل انحلال البوتاسيوم الإشعاعي إلى آرغون:

"إن الاستخدام الباكر لتقنية البوتاسيوم-آرغون عام 1961 لتأريخ المستوى الأدنى في أولدوفاي جورجي في تانـزانيا هو ما أدى جذرياً إلى إطالة الامتداد الزمني لنشوء الإنسان الأولي وإشعال إنفجار المعرفة عن الإنسان الأول (ص 589)."

ولكن الافتراضات غير المثبتة الكامنة وراء ذلك والتقنيات الأخرى المشابهة قد عرّاها مراراً وتكراراً وبشكل فعال علماء أكفاء جداً على مدى سنين عديدة[166].

من ناحية جينية وترموديناميكية، إنه لمن المستحيل تماماً بالطبع للحيوان أن يصبح كائناً بشرياً. إن المعايير الثابتة لشيفرة الـ د.إن.أ المعقدة بشكل هائل، والأثر المدمر للتغايرات الأحيائية العشوائية للمعلومات المخزنة في تلك الشيفرة، وبالتالي "انجراف" أو "انسحاب" السمة الجينية انحداراً في الأنظمة الحية من جيل إلى جيل كما تنبأ به القانون الثاني من الترموديناميك تساهم جميعاً في تدمير مصداقية ومعقولية النشوئية العضوية كفرضية علمية.

أوضح عالِمُ الحيوان الألماني، ج. ج. دويفين دي ويت بشكل بيّنٍ أن عملية التخصيص (كما ظهور تنوعاتٍ عديدةٍ في الكلاب والقطط) مرتبطة بشكلٍ يتعذر اجتنابه بالنضوب أو الفصد الجيني كنتيجة للانتقاء الطبيعي. عندما تُطبق هذه الحقيقة الراسخة علمياً على مسألة فيما إذا كان الإنسان قد تطور عن حيواناتٍ تشبه القردة، ".... فإن مفهوم الشكل الانتقالي في نظرية النشوء على تعاقب يتلقى ضربة في الصميم"[167].

سبب ذلك، كما يستطرد ج. ج. دويفين دي ويت، هو أن عملية النشوء كلها من حيوان إلى إنسان:

".... ستسير بعكس منحنى الفصد الجيني. أي.... الإنسان (يجب أن يمتلك) إمكانية جينية أصغر من سلفه الحيوان. وهنا يصبح السخف أكثر وضوحاً في مبدأ الانتقال (في نظرية النشوء) وهذا يربكها لتناقضها مع الدليل العلمي الواقعي الحقيقي. إذ تؤكد منطقياً أن الإنسان قد نشأ أو تطور عن مملكة الحيوان"[168].

على ضوء اعتبارات كهذه، المعروفة منذ عدة سنوات، ما الذي يمكن قوله عن مسيحيين يسلمون بفكرة الخلق المباشر لآدم وحواء بدافع الاحترام للآراء السائدة حالياً عند العلماء النشوئيين؟

ما من حيوان سواء كان قرداً، أم غوريلا، أم شمبانـزي، أم ببغاء، أم دلفين، قد نطق أبداً بكلمة عاقلة واحدة. ويعلق السير جون إكليس قائلاً:

"إن التجارب مع الشمبانـزي الذين "يتكلمون" لغة الإشارة تظهر بأنهم يستطيعون إعطاء إشارة للدلالة على أشياء أو الحصول عليها، ولكنهم "لا يصفون (الأشياء).... ولا يجادلون.... وليس لديهم نظام قيمة. ولا يتخذون قرارت أخلاقية.... ولا يعلمون أنهم سيموتون.... فعلينا ألا نحكم على الحيوانات كما لو أنها أتت إلى الوجود بكائنات بشرية على نحو سيء".

إن سبب هذا واضح جداً كتابياً: فوحده الإنسان لديه صورة وشبه الله، والتي تشتمل على العقلانية (تك 1: 26؛ 5: 1؛ 9: 6؛ 1كورنثوس 11: 7؛ يعقوب 3: 9). ومن هنا، وبينما الفوارق الجسدية بين البشر والحيوانات الرئيسية[169] كبيرة جداً، فإن الفوارق الروحية/الفكرية/اللغوية/الثقافية هائلة جداً.

من بين كل الكائنات الحية على هذا الكوكب، وحدُه الإنسان يتمتع بالإدراك الذاتي كشخص. وحدُه الإنسان متحررٌ كفايةً من عبودية الغريزة فيمارس خيارات حقيقية وله أهداف وغايات ذات أهمية في الحياة. وحدُه الإنسان لديه قدرات عاطفية فيشعر بالحزن والفرح. وحدُه الإنسان يقدّر ويتذوق الفن والموسيقى على نحو مبدع. وحدُه الإنسان يمكنه أن يتخيل ويصنع أدوات حقيقية. وحدُه الإنسان يمكنه أن يتعلم حقاً أكثر وليس أن يكون متدرباً وحسب. وحدُه الإنسان يمكنه أن يستخدم رموزاً شفهية أو مكتوبة لينقل مفاهيم مجردة لأشخاص آخرين وهكذا يتمتع بشركة وصداقة حقيقية. وحدُه الإنسان بمقدوره أن يحرز معرفة وأن يحصل على الحكمة دون الأجيال السابقة وبهذا يصنع له تاريخاً حقيقياً جديداً ويختبر تقدماً. وحدُه الإنسان يمكنه أن يميز أخلاقياً بين الصواب والخطأ ويشعر بنوبات من تأنيب الضمير. وحدُه الإنسان يعتبر مسؤولاً عن أفعاله، ويُدان على أخطاءه ويُحاكم. وحدُه الإنسان يمكنه أن يدرك وجود خالقه ومطالبه المحقة من خلال العبادة، والتسبيح، والصلاة، والتضحية، والخدمة الطوعية.

ولذلك فإنّ مفهوم "الإنسان-القرد" سخيف من الناحية العلمية ومن جهة الكتاب المقدّس، وكذلك الحال مفاهيم "الإنسان-الزرافة" و"الإنسان-وحيد القرن". ولكنّ المسألة ليست مجرّد سخافة أو بلادة أو تحزير غير ضار لخيال قصصي علمي، بل إنّه أيضاً تحريف مميت، لأنه يصيب صورة وشبه الله في الإنسان بأمها[170].

لم يكن هناك أبداً ما يسمى "الإنسان-القرد"؛ ولكن ويوجد هناك وسيبقى ملايين كثيرة من "رجال الكهف". قبل أربعة آلاف سنة وصف أيوب الناس في مناطق شمال العربية فقال:

".... فِي الْعَوَزِ وَالْمَجَاعَةِ مَهْزُولُونَ يَنْبِشُونَ الْيَابِسَةَ الَّتِي هِيَ مُنْذُ أَمْسِ خَرَابٌ وَخَرِبَةٌ، الَّذِينَ يَقْطِفُونَ الْمَلاَّحَ عِنْدَ الشِّيحِ وَأُصُولُ الرَّتَمِ خُبْزُهُمْ. مِنَ الْوَسَطِ يُطْرَدُونَ. يَصِيحُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَى لِصٍّ لِلسَّكَنِ فِي أَوْدِيَةٍ مُرْعِبَةٍ وَثُقَبِ التُّرَابِ وَالصُّخُورِ" (أيوب 30: 3- 6).

ولماذا عاشوا تحت وطأة هكذا ظروف؟ لأنهم "مِنَ الْوَسَطِ يُطْرَدُونَ. يَصِيحُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَى لِصٍّ" (الآية 5).

لقد كانت المأساة هي مصير هكذا ضحايا للقسوة البشرية طوال تاريخ البشر. إن حاملي صورة الله، ورغم أنهم في هذا العالم الساقط، قد اضطروا للعيش مثل الحيوانات، كصيادين وجامعي طعام، وليسوا في منأى عن الموت جوعاً. إن داود، ورغم كونه إنساناً بحسب قلب الله (1ملوك 11: 4؛ 15: 3) قد اضطر، مع مئات من أتباعه، لأن يعيش في الكهوف في جنوب فلسطين بينما كان الملك شاول وجيوشه يسعون وراءه لإهلاكه (1 صم 22- 24). وبينما كان في حالة "إنسان الكهف" نظم اثنين من أعظم مزاميره (مز 57، 142).

في الواقع، كثيرون من شعب الله ".... طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ الأَرْضِ" (عب 11: 37- 38). إنه لأمر لا يعقل أبداً على ما يبدو، أنّ ابن الله نفسه، ورغم أنّ الكون قد خُلق به (يوحنا 1: 1- 3)، قد رفضه شعبه نفسه (يوحنا 1: 10، 11) وقال: "«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ .... وَأَمَّا ابْنُ الإنسان فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»" (متى 8: 20).

في نهاية هذا الدهر، الغالبية الساحقة من البشر ستُقلّص إلى وجود إنسان الكهف. " وَمُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ" (سوف يختبئون) فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ"، بسبب دينونات الله العظيمة على عالم قد رفض ابنه الحبيب وخلاصه العظيم السخي (رؤيا 6: 15- 17؛ انظر أيضاً أشعياء 2: 19- 22).

[161]- بول أ. زيمرمان، "دارون، والنشوء والخلق" (سانت لويس: منشورات كونكورديا، 1959)، ص 128. يستطرد مايكل بيتمان حول الفروقات في حجم الدماغ، والأيدي، والأقدام، والحوض، وطريقة المشي، والأسنان، والوجه، والفكين، واللغة، والمعرفة، في كتابه "آدم والنشوء" (1984)، ص 241- 255.

[162]- إنسان الغاب: (orangutan): ضرب من القردة العليا الشبيهة بالإنسان يقطن في بورنيو وسومطرة [فريق الترجمة].

[163]- دوين ت. غيش، "النشوء: تحد لسجل المستحاثات"، ص 156؛ انظر أيضاً ص149، 56، 59، 62.

[164]- انظر دوين ت. غيش، "النشوء: تحد لسجل المستحاثات"، ص130- 228؛ هنري موريس، "النشوئية العلمية"، الطبعة الثانية، ص171-202؛ م. بودين، "الإنسان القرد: حقيقة أم مغالطة؟" الطبعة الثانية (بروملي: منشورات سوفيرين، 1981)؛ جون مور، "كيف تعلم الأصول" (ميل فورد: موت ميديا، 1983)، ص 185-265.

[165]- هنري موريس، "النشوئية العلمية"، الطبعة الثانية، ص 167- 169. انظر أيضاً إيان تايلر، "في فكر البشر"، ص 440- 441.

[166]- انظر دوين ت. غيش، "النشوء: تحد لسجل المستحاثات"، ص51، 91؛ هنري موريس، "النشوئية العلمية"، ص 145- 148.

[167]- "نقد جديد لمبدأ الانتقال في البيولوجيا النشوئية" (كامبن: منشورات Kok، 1965)، ص 56.

[168]- المرجع السابق، ص 57.

[169]- الحيوان الرئيس: ( :(Primates واحد الرئيسات، وهي رتبة من الثدييات تشمل الإنسان والقرد الخ [فريق الترجمة].

[170]- انظر كارل هنري، "الله، الإعلان والسلطان"، المجلد 6، ص 177.

  • عدد الزيارات: 7175