Skip to main content

"خالية" أم "مشوشة"؟

هنا نأتي إلى الحجة الثانية الهامة المستخدمة في تأييد نظرية الفجوة. إن كانت تكوين 1: 2 تصف حالة الأرض عند الخلق، فكيف نفسر العبارة "خربة وخالية" (tôhû wābôhû)؟ هل يمكن لإله حكيم وقوي بشكل لا متناهي أن يخلق أرضاً بمثل هذه الحالة من الشواش والفوضى؟ إن المواضع الأخرى الوحيدة في الكتاب المقدس التي تظهر فيها الكلمتان (tôhû) و (bôhû) معاً (أشعياء 34: 11 وأرميا 4: 23) هي مقاطع تتحدث عن الدينونة الإلهية على الأمميين وعلى شعب إسرائيل. أفلا يدل هذا على أن هذه الكلمات تشير، ولا بد، إلى الدينونة والدمار في (تك 1: 2)؟ حتى الكلمة (tôhû) المترجمة "بدون شكل" في طبعة للكتاب المقدس و"لا شكل لها" في ترجمة أخرى للكتاب المقدس، في الآيات العشرين حيث تظهر بدون (bôhû) في العهد القديم، تُستخدم أحياناً بمعنى الشر.

هذه حجة قوية معترَفٌ بها، لأن أحد الطرق المعتمدة أكثر في تحديد معنى الكلمات والتعابير العبرية هي بمقارنة استخدامها في مقاطع أخرى. ومن هنا، إن كانت (tôhû) تشير إلى شيء شرير عندما تستخدم في مكان آخر في العهد القديم، فعلى الأرجح أن تكون لها هذه الدلالة في تكوين 1: 2. ولكن تمعناً وتقحصاً دقيقاً في استخدام هذه الكلمة لا يؤيّد هكذا معنى. فعلى سبيل المثال، في أيوب 26: 7 نقرأ أن الله "يَمُدُّ الشَّمَالَ عَلَى الْخَلاَءِ وَيُعَلِّقُ الأَرْضَ عَلَى لاَ شَيْءٍ". بالتأكيد لا ينبغي أن نرى في هذه الآية أي إيحاء بأن الْخَلاَء أو الفضاء الخارجي هو شر أساساً. في بعض المقاطع تشير الكلمة إلى البرية أو الصحراء، بمعنى أو كدلالة على انعدام الحياة (تثنية 32: 10؛ أيوب 6: 18؛ 12: 24؛ مزمور 107: 40). وفي معظم الأماكن حيث تظهر الكلمة في أشعياء، تكون موازية لمعنى اللاشيء أو العدم.

في أشعياء 45: 18 نجد اهتماماً خاصاً بهذا المعنى في سياق النص، وكان هذا النص قد استُخدم كدليل هام لبرهان نظرية الفجوة. تخبرنا الآية أن "الله الذي خلق الأرض وصنعها، أسسها ولم يخلقْها كمكانٍ خربٍ (tôhû) ولكن صوّرها للسكن". لطالما زُعِمَ أن حالة الـ (tôhû) على الأرض في تكوين 1: 2 لم تكن هي الحالة الأصلية، لأن أشعياء 45: 18 يقول أنها لم تُخلقْ خربة (أو لم تخلق باطلاً). وبالتالي، لا بد أن الله قد خلق أصلاً أرضاً طافحة بالمخلوقات الحية، وفيما بعد دمّرها، فجعلها تصبح (tôhû).

مهما يكن من أمر، هكذا تفسير يغفل عن المغزى الحقيقي للعبارة النهائية في هذه العبارة "صوّرَها للسكن". إن المغزى الأساسي في هذا المقطع على ما يبدو هو أن الله لم يقصد أساساً أن يكون العالم خلواً من الحياة، بل أن يكون ممتلئاً بالكائنات الحية. ومن هنا، فهو لم يسمح للعالم بأن يبقى في حالة الفراغ واللا شكل التي كان كان قد خلقه عليها أولاً، بل إنه ملأه في ستة أيام خلقٍ بكائنات حية وشكّله ليكون موطناً جميلاً للإنسان. ولذلك فإن الآية تتكلم عن الهدف النهائي الأخير لله من الخلق، والتضاد في هذه الآية بين الـ "" والـ "مسكونة أو للسكن"، يُظهر بوضوح أن الـ "tôhû" تعني "خالية" أو "فارغة غير مسكونة"، وليس "مُدانة"، "مدمرة" أو "مشوشة". يُقرُّ آرثر كوستانس بصراحة بأن (أشعياء 45: 18) هي شهادة قوية فقط بالنسبة لأولئك الذين يقبلون لتوهم التفسير البديل لتكوين 1: 2 ("خربة وخالية"، ص 115)، وخاصة لأن الكلمة "" تظهر من جديد في الآية التالية (أشعياء 45: 19) وبالكاد يمكن أن تترجم "خراب"، في ذاك الفحوى أو السياق للنص.

لكي نكون متأكدين، إن المقاطع الوحيدة إلى جانب تكوين 1: 2، حيث تظهر الكلمتان "" و"bôhu" معاً- أشعياء 34: 11 وإرميا 4: 23- موضوعة في نصوص ذات سياق يؤكد على الدينونة الإلهية. ولكن حتى هنا فإن المعنى الأساسي أن "خاوية وغير مسكونة" يلائم أكثر على نحو أفضل. بما أن هدف الله النهائي للأرض كان أن تكون مملوءة بالناس (أشعياء 45: 18؛ 49: 19- 20؛ زكريا 8: 5)، فسيكون دليلاً واضحاً على غضبه وسخطه على الأرض أن تصبح خاوية وغير مسكونة من جديد. إن مبدأ الفراغ، إذاً، يتضمن أو يشتمل ضمناً على معنى الدينونة الإلهية فقط عندما يتم الحديث عن إزالة شيء حسن. من جهة أخرى، عندما يتبع الفراغ شيئاً شريراً، يمكن أن يكون بركة نسبية. نجد مثالاً عن ذلك في عمل المسيح في طرده الأرواح الشريرة من الناس (لوقا 8: 27- 35؛ انظر أيضاً متى 12: 44- "فارغاً، مكنوساً، ومرتباً").

رغم حقيقة أن العبارة (tôhû wābôhû) تظهران في مكان آخر في فحوى إدانة وهكذا تأخذ دلالة شريرة في تلك المقاطع، فإن نفس العبارة قد يكون لها دلالة مختلفة جداً عندما تظهر في فحوى مختلف. حتى مؤيدوا نظرية الفجوة يقرّون بأن سياق نصٍ بفحوى إدانة إلهية يبدو أنه منقص (أو غير موجود) في الآيات الافتتاحية من التكوين[190]. صحيحٌ أن الأرض كانت خاوية فارغة من حيث الكائنات الحية ولكنها كانت خاوية من الكثير من الملامح الساحرة والجميلة والهامة التي امتلكتها لاحقاً، مثل القارات، والجبال، والأنهار، والبحار؛ ولكنها بالتأكيد لم تكن مشوشة أو مهدمة أو مُدانة. يقول إدوارد يونغ شاعراً بذلك:

"لعله من الحكمة أن نتخلى عن فكرة "مشوشة" كصفة مميزة للحالات الواردة في الآية الثانية. إن القول المثلث الجوانب الظرفي بحد ذاته يبدو وكأنه يشتمل ضمناً على النظام. إن المادة التي تتكون منها هذه الأرض كانت في ذلك الوقت مغطاة أو مغمورة بالمياه، وعلى المياه كان روح الله يرفرف[191].[192]"

منذ أن كانت مشوشة، فإن الأرض في هذه المرحلة المعينة من الخلق يمكن أن توصف على أنها كاملة. لم يكن هناك أي خطب في أي من العناصر المادية التي أتى بها الله إلى الوجود. كانت للأرض نواة، وغلاف خارجي، وقشرة مكونة من معادن وصخور كاملة؛ لقد كانت مغطاة بالمحيطات أو بالمياه الكاملة؛ وكانت يحيط بها دثار من الغلاف الجوي الكامل. ولكنها لم تكن قد صارت كاملة كما كان الله يهدف لها بشكل نهائي. على نفس المنوال، فإن آدم، كإنسان، كان كاملاً عندما خُلق في البداية. ولكنه كان "وحيداً" وحتى هذه المرحلة غير مكتمل إلى أن خلق الله حواء لتكون نظيراً له يعينه. لهذا السبب، فإن الله أمكنه أن يصف حالة آدم قبل حواء بأنها "ليست حسنة" (تك 2: 18). بمعنى آخر، إلى أن انتهى أسبوع الخلق، كان آدم نفسه (tôhû wābôhû) (كامل في هذه المرحلة من الخلق، ولكن لوحده كان غير مكتمل، ومن هنا فيمكن القول نسبياً أنه كان "ليس حسناً").

[190]- ج. هـ. كيرتس، "وجيز التاريخ المقدس"، 1888، وقد ورد في عمل كورتيس سي. ميتشيل، "دراسة كتابية ولاهوتية لنظرية الفجوة" (أطروحة غير منشورة لمعهد تالبوت اللاهوتي، لاميرادا، 1962)، ص 45.

[191]- الكلمة الأصلية هي يحتضن (brood)، وهذا يُذكّرنا بالدجاجة التي ترقد فوق بيوضها كي تدفأها وكي تساعدها على أن تفقس [فريق الترجمة].

[192]- إدوارد يونغ، "دراسات في تكوين 1"، ص 13. ومن هنا فإن لدينا بديل هام عن التفسيرين الوحيدين لتكوين 1: 2 المقترحين في "كتاب سكوفيلد المقدس المشوهد الجديد"، ( ص 1، ملاحظة 5). إضافة إلى تفسيرات "الشواش الأصلي" و"الدينونة الإلهية" المقترحين هناك، لدينا ما يجب اعتباره التفسير التقليدي اليهودي والمسيحي، وتحديداً، "الكمال الأصلي ولكن غير المكتمل".

  • عدد الزيارات: 3933