Skip to main content

قِدَم الإنسان

إن حلَّ الإعلان الخاص محل الإعلان الطبيعي (ولكن دون أن يتناقض معه) فيما يتعلق بكرامة الإنسان الحقيقية وخلقه الفائق الطبيعة، أفلا يقدم لنا هذا على الأقل أساساً بتحديد قدمه؟ يعتقد جيمس أوليفر باسويل، وهو عالم أنثروبولوجيا مسيحي كان يقر بالخلق المباشر لآدم على أنه التعليم الواضح للكتاب المقدس، بما يلي:

"قد يقبل الخَلْقي الدليل على عصر إنسان ما قبل التاريخ وثقافته. ولكن هذا لا يتعارض مع فكرة قِدَم الإنسان لمئات الآلاف من السنين؛ فما من مؤشر في الكتاب المقدس يدل على متى خُلِق الإنسان"[171].

عندما انتقد كارل هنري علماء الإنسان المسيحيين لفسحهم المجال لـ "الضغوط الجامحة للنظرية العلمية المعاصرة حول قِدَم الإنسان[172]، ردّ باسويل بأنه وعلماء أنثروبولوجيا آخرين إنما كانوا يتبعون ويليم هنري غرين وبنجامين وارفيلد في إنكارهم لفكرة أن السلالات في سفر التكوين قد وضعت أي قيود على قِدَم الإنسان".

"إني متأكد بأننا نحن علماء الأنثروبولوجيا المسيحيين مستعدون لأن ندرس بفكر منفتح أي محاولة جدية عُلمائية لإضعاف وإبطال والإطاحة بالأعمال الكلاسيكية في هذا المجال التي عليها تقوم فرضيتنا جزئياً"[173].

في مواجهة هذا التحدي أود أن اقترح عدة تقييدات كتابية على قِدَم الجنس البشري. ففي الدرجة الأولى، أن نمد السلالات في تكوين 5 و 12 لتغطي فترة تزيد على مئة ألف سنة هو عمل غير ملائم للإطار التسلسلي التاريخي لكل تاريخ الكتاب المقدس المتعاقب. باستخدام السلالات في الكتاب المقدس، من الممكن فعلياً أن نجد ثغرات أو فجوات، خاصة في سلسلة النسب الواردة في التكوين 11. ولكن هذه السلالات نفسها تفيد في تقييد المقياس الزمني في التكوين 11. إن الفرجة بين عمرام وموسى كانت 300 سنة، وليس 3000 (انظر خروج 6: 20؛ عدد 3: 17- 19، 27- 28). والفاصل الزمني بين يورام وعزيا في متى 1: 8 كانت 50 سنة، وليس 5000. [174]

بالدرجة الثانية، ثلاثة فقط من البطاركة العشر الذين ترد أسماؤهم في تكوين 11- وهم رعو، وسروج، وناحور- يمكن قياس الفترة الزمنية الواسعة بينهم من قبل علماء الأنثروبولوجيا هؤلاء، لأن البطاركة وردت أسماؤهم قبل دينونة برج بابل وتبعثر الجنس البشري (انظر تكوين 10 :25). ومع ذلك فإن أوضح اقتراح عن فجوة زمنية في التكوين 11 يرد قبل هذه الدينونة، بين عابر وفالج، بسبب إسقاط مفاجئ في امتداد حياة طبيعية.[175]

بالدرجة الثالثة، من غير الممكن أن نتخيل أن رعو، وسروج، وناحور- إن لم نذكر لامك ونوح وسام- كانوا سكان كهوف قساة متوحشين وجاهلين في حقبة العصر الحجري. الأصحاح الرابع من سفر التكوين، بدلالته الواضحة عن الإنجاز الحضاري، الذي يشمل صيانة "كل الأدوات النحاسية والحديدية" (الآية 22)، وتكوين 6، بوصفها لمشروع بناء الفلك العظيم، يجعلان هكذا نظرية متعذراً الدفاع عنها كلياً. أم هل أن علينا أن نفترض أنه في بقعة صغيرة من الحضارة، كاد محيط الوحشية البشرية أن يجرفها، توجد سلسلة غير منكسرة من رجال أتقياء (بعضهم عاش لقرون) تديم سلالة سام المسيانية وترجع معرفة الله الوحيد الحقيقي إلى الوراء لمئات آلاف من السنين؟ إن مجرد طرح هكذا سؤال هو جواب عليه.

وأخيراً، يجب أن نسأل كم هي أكيدة تفاصيل قصة الطوفان العظيم المسلمة من حضارة أولية في العصر الحجري إلى أخرى، عبر تقليد شفهي مجرد، لمئات آلاف السنين، لتكون متجسدة في نهاية الأمر في ملحمة جلجامش البابلية؟ أن يكون هذا هو ما قد حدث خلال عدة آلاف سنة أمر يمكن تخيله. ولكن أن يكون قد حدث قبل مئة ألف سنة أمرٌ يصعب جداً تصوره. إن ملحمة جلجامش لوحدها، والحق يقال، تسدد ضربة قاصمة لمفهوم القِدَم الشديد لآدم ونوح[176].

صحيح أن بنجامين ب. وارفيلد (1851- 1921) كان أحد أعظم اللاهوتيين الأرثوذكس في العصر الحديث، ولكنه كان أيضا عرضة لارتكاب أخطاء. من بين هذه الأخطاء، على ما أعتقد، هو تأكيده على أن " ألفي جيل ونحو مئتي ألف سنة ربما كانت تفصل" بين آدم ونوح بحسب معطيات الكتاب المقدس في تكوين 5 و11.[177] ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن وارفيلد تابع يقول (وهذا القول قلما يقتبس حالياً) أن الإنسان على الأرجح لم يوجد على الأرض لأكثر من عشرة آلاف أو عشرين ألف سنة.[178] لسوء الحظ، أن أحد أقوال وارفيلد بما يخص تكوين 5و 11 يُلجَأ إليها غالباً ككلمة أخيرة في موضوع الكرونولوجيا قبل إبراهيم.

إنه لأمر في غاية الأهمية أن ندرك أننا مع اعتقادنا بعصمة المخططوطات الكتابية المطلقة (التي أكدها وارفيلد بشكل واضح) على أنها أمر جوهري أساسي بالفعل، إلا أنها ليست كافية كأساس للاهوت صحيح بشكل عام أو نشوئية صحيحة بشكل خاص.[179] كيف يمكن للمرء أن يفسر نصاً من الكتاب المقدس غير معصوم (أي علم التفسير الكتابي) ككقضية جوهرية اليوم، كما كان في عصر يسوع. إن القادة اليهود الذين عارضوا ربنا كانوا في توافق شكلي معه فيما يخص السلطة النهائية والموثقية للعهد القديم، ولكنهم كانوا يرفضون تفسيره للنص.

ومن هنا، فبالنسبة للمناصرين كمثل دافيس يونغ[180] والنشوئيين الإيمانيين كمثل دافيد ليفينغستون[181]، أن يبني اللاهوتيون المتنوعون قضيتهم على التسويات والتنازلات اللاهوتية في الفترة ما بعد الدارونية (مثل وارفيلد) يعني أن يبنوا على أساس من الرمل. هؤلاء اللاهوتيون ما كانوا ليتنازلون عن قناعاتهم اللاهوتية بخصوص الأصول الأساسية لولا الضغط الهائل الذي فرضه عليهم الإجماع في الرأي القائل بالتشاكل والنشوئية بفضل التأسيس العلمي في أواخر القرن التاسع عشر. لقد افترضوا ببساطة وسذاجة أن العلماء كانوا يقولون حقائق موضوعية يمكن إثباتها أو التحقق منها عندما كانوا يتحدثون عن القِدَم الهائل للأرض ونشوء الكائنات الحية.

نجد هنا حالة مفاجئة هي "غاليليو بالاتجاه المعاكس". هذا العالم العظيم الذي ظهر في بداية القرن السابع عشر لم يكن يرفض الإعلان الكتابي عندما رفض فكرة أن الشمس تدور حول الأرض. بل كان يرفض آراء "الكنيسة" اللاتينية التي كانت تتبنى وبسذاجة وقبل الأوان مفاهيم "علماء" غير مسيحيين (أريسطوتل وبطليموس)[182]. وكذلك الحال اليوم أيضاً، فالمسيحيون هم في خطر دائم بتبنيهم غير الناضج للفلسفات العلمانية الرائجة حالياً، إذ يكتشفون في نهاية الأمر وبارتباك شديد أنهم قد اقترنوا بالمنظومة الخطأ بشكل يتعذر اجتنابه وفرضوا على الكتاب المقدس التعايش مع ذلك أيضاً. وبالتالي، فمن المحتم، أنهم، ومثل أيوب سيستيقظون "في الصباح" و"إذَا هِيَ لَيْئَةُ" (تك 29: 25؛ رو 12: 1- 2؛ كول 2: 8).

أحد الاتجاهات الرائجة في الكنيسة اليوم هي الرفض الواسع الانتشار عند رجال العلم المسيحيين للتشاكل في افتراضاتها التي تتعلق بتحديد عمر المستحاثات. لماذا على المسيحيين أن يقبلوا الجدول الزمني في علم المستحاثات النشوئي والأنثروبولوجيا الذي يشتمل على إنكار للعقائد الكتابية التي تقول بأسبوع خلق فوق طبيعي، ودخول الموت الجسدي إلى العالم لدى سقوط آدم، وأيضاً التأثيرات الكارثية لطوفان عالمي الأرجاء في أيام نوح؟ هذه العقائد الكتابية تؤيدها حجج جدلية كثيرة ومتنوعة، ومع ذلك فإننا قد نجد عدة علماء إنجيليين يتجاهلونها أو ينكرونها في تساهلهم مع مفاهيم التشاكل في تاريخ الأرض. فعلى سبيل المثال، أكّد رسل ل. ميكستل الذي من جامعة ويتون أن على الخَلْقي الصادق أن يسأل عالمَ المستحاثات عما يعرفه عن زمان أصل الحيوانات وأن يبني آراءه استناداً إلى هذه المعطيات[183]. عندما اقترح عالم المستحاثات لويس ليكي تاريخاً يصل إلى 1750000 سنة لعمر مستحاثة بشرية كان قد اكتشفها، وجد بسويل وكنوع من التنبؤ أنه ليس هناك مشكلة محددة في ملاءمة تكوين 5 و11 مع هذا الجدول الكرونولوجي الجديد (ومن جديد ملتجئين إلى وارفيلد). في "مراسلة مع علماء الأنتروبولوجيا الخَلْقيين الآخرين في طلب الرأي المباشر حول الإنسان ما قبل الحالي ..... أشارت الإجابات إلى نقص عام في الانتباه إلى قِدَم الإنسان المتزايد"[184].

هكذا أناس قد لا يرون مشكلة في اعتبار انقضاء 10 آلاف سنة بين كل من البطاركة الاثني عشر في تكوين 5 و11، ولكن هذه تُعتبر عبثية كاملة بالنسبة لمعظم المسيحيين المؤمنين بالكتاب المقدس. وحتى مع فهمنا لكرامة الإنسان والخلق فوق الطبيعي له من خلال الإعلان الخاص الواضح، فهكذا أيضاً فهمنا للمخطط الرئيسي لتاريخ الإنسان المبكّر لا بد أن يتأتى من الكتاب المقدس وليس من العلم[185].

حقيقة أن الأصحاحات الإحدى عشر الأولى من التكوين لا يمكن توفيقها مع البرامج النشوئية عن تاريخ الأرض لها ما يبرهن عليها في حقيقة أن علماء الأرثوذكسية الجديدة والليبرالية الجديدة قد هجروا منذ زمن محاولة اعتبار هذه الأصحاحات على أنها تاريخية جادة[186]. لعل في مقدور هؤلاء الناس أن يستغنوا عن آدم التاريخي إن رغبوا بذلك. ولكن لا يمكنهم أن يستغنوا عن الاعتراف بأن يسوع المسيح قد نطق بالحق. إن آدم ويسوع المسيح يقفان معاً أو ينهاران معاً، لأن يسوع قال: "لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي.... فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟" (يوحنا 5: 46- 47). وأكد ربنا أيضاً أنه.... "إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ (بما فيه سفر التكوين) حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ" (متى 5: 18). إن كان سفر التكوين لا يمكن أن يعول عليه تاريخياً، فعندها لا يكون يسوع دليلاً يعول عليه إلى كل الحق، ونكون عندها بلا مخلص.

قال الرسول بولس: "لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإنسان الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً هَكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً" (رومية 5: 19)؛ و"لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ" (1 كورنثوس 15: 22). لو لم يسقط آدم من حالة البر الأصلية، لما كان هناك خطيئة، ولكان المسيح قد مات عبثاً. إن كان الموت الكوني بسبب آدم هو أسطورة، فعندها تكون عقيدة القيامة هكذا أيضاً، ويكون بولس شاهد زور (1 كورنثوس 15: 15). إن التاريخية الكاملة لرواية التكوين عن آدم وحواء حاسمة بالمطلق لكل مخطط الخلاص الذي أعلنه الله.

[171]- "النشوئية والفكر المسيحي اليوم"، ص 181.

[172]- من مقالة رئيسية في "المسيحية اليوم" (15 كانون الثاني، 1965)، ص 28. من أجل المزيد من الإطلاع على تحليله المعاصر انظر كارل هنري، "أصل الإنسان وطبيعته" في كتاب "الله والإعلان والسلطان" (1983)، 6: 197- 228.

[173]- رسالة إلى المحرر، "المسيحية اليوم" (12 آذار 1965)، ص 22.

[174]- انظر ج. سي. ويتكمب وهـ. م. موريس، "الطوفان في التكوين"، ص 485- 486.

[175]- المرجع السابق، ص 481- 483.

[176]- المرجع السابق، ص 483- 489.

[177]- "قِدَم ووحدة الجنس البشري" في "دراسات كتابية ولاهوتية" (فيليبزبيرغ: منشورات الكنيسة المشيخية والمصلحة، 1952)، ص 247.

[178]- المرجع السابق، ص 248.

[179]- في مقالة في بيان شيكاغو عن عصمة الكتاب المقدس، على سبيل المثال، نجد أساسا جوهريا وليس كاف لكل الدراسات حول التكوين 1- 11: "إننا ننكر أن عدم خطأ وعصمة الكتاب المقدس أمر مقيد بالمواضيع الروحية والدينية أو الإفتدائية ونستثنيها من التأكيدات في مجال التاريخ والعلوم. بل أننا ننكر حتى الفرضيات العلمية حول تاريخ الأرض والتي قد تكون صحيحة لتُستخدم في نقض تعليم الكتاب المقدس حول الخلق والطوفان". إن هذا القول جدير بالاعتبار, ولكن الكثيرين ممن يؤيدون نظرية يوم-دهر يصادقون عليها دون تردد.

[180]- دافيس يونغ، "المسيحية وعمر الأرض"، ص 58- 59.

[181]- دافيد ليفيغستون، ووارفيلد، "نظرية النشوء والأصولية المبكرة"، "الفصلية الإنجيلية" 58: 1(كانون الثاني 1986)، ص 69- 83.

[182]- للإطلاع على مناقشة ممتازة عن "قضية غاليليو" انظر إيان تايلر، "في فكر البشر"، ص 22- 25. انظر أيضاً جون سي. ويتكامب: "العالم الذي تلاشى" (غراند رابيدز: منشورات باكر، 1973)، ص 137- 138.

[183]- "النشوء والفكر المسيحي اليوم"، ص 183.

[184]- "مجلة الجمعية العلمية الأمريكية"، 17: 3 (سبتمبر 1965)، ص 77.

[185]- للإطلاع على مناقشات مفيدة حول المستحاثات البشرية انظر آرثر كوستانس، "الإنسان الأحفوري على ضوء رواية التكوين"، في "لم لا للخلق؟"نشر والتر لاميرتس (نتلي: منشورات الكنيسة المشيخية والمصلحة، 1970)، ص 194- 229: وإيان تايلر، "في فكر البشر"، ص 204- 264؛ ومايكل بيتمان، "آدم والنشوء"، ص 86- 100؛ ووين فير وبيرسيفال دافيس، "قضية في الخلق"، الطبعة الثالثة (شيكاغو: منشورات مودي، 1983)، ص 117- 126.

[186]- مثل رالف هـ. إليوت، "رسالة التكوين" (ناشفيل: منشورات برودمان، 1961).

  • عدد الزيارات: 4645