أقوال المصلوب
من خلال الأناجيل الأربعة نجد أن المصلوب قد تفوه بسبعة أقوال وهو على الصليب, ويرى المفسرون أنها في الغالب قيلت على النسق التالي:
أ-قبل الظلمة:
1-طلبة لأجل أعدائه: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" لو 23: 24.
2-قوله للص: "الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" لو 23: 43.
3-قوله للعذراء مريم: "يا امرأة هوذا ابنك" ثم ليوحنا "هوذا أمك" يو 19: 26-27.
ب-أثناء الظلمة:
4-صرخته إلى الآب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" مت 27: 46, مر 15: 34.
جـ-بعد الظلمة:
5-قوله: "أنا عطشان" يو 19: 28.
6-قوله: "قد أكمل" يو 19: 30.
7-قوله للآب: "في يديك أستودع روحي" لو 23: 46.
وإذ نفحص هذه الكلمات نرى فيها أدلة واضحة على أن المصلوب هو المسيح:
1-الكلمة الأولى: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" لو 23: 34.
هنا نرى أن المصلوب وهو في قمة الألم الجسماني. ومع ذلك لم يطلب لصالبيه الغفران فقط, وإنما التمس لهم عذراً... إنه لم يصب عليهم اللعنات, ولم يطلب النقمة منهم, بل أيضاً لم يصمت ويأخذ منهم موقفاً سلبياً, وإنما كان حبه إيجابياً من ناحيتهم, فطلب لهم المغفرة وقدم عنهم عذراً, مدافعاً عنهم أمام الآب السماوي, معلناً أن خطيئتهم هي مجرد جهل. قد تستطيع أن تغفر لإنسان أتعبك, أما أن يلفق إنسان حولك تهماً,ويحكم عليك ظلماً ويثير عليك الشعب والحكام, ويهزأ بك ويجلدك, ويعلقك على صليب, ويدق المسامير في يديك وقدميك, ثم بعد ذلك ... وأنت في عمق الألم, تستطيع أن تغفر له وتصلي لأجله وتدافع عنه. فهذا يحتاج إلى حب فوق الطاقة وفوق العادة[1].
فهل لو كان المصلوب أي شخص آخر غير المسيح يستطيع أن يفعل مثل هذا؟ إنها طبيعة المسيح هي التي أملت عليه هذا القول وجعلته ينسى آلامه الرهيبة ويتشفع من أجلهم وهو بذلك قدم مثالاً عملياً لتنفيذ وصاياه, فقد قال من قبل "أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم, وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (مت 5: 44) فالمسيح هنا ينفذ بنفسه ما سبق أن أوصى به, وهذا يؤكد أن المصلوب هو المسيح.
2-الكلمة الثانية: عندما قال اللص للمسيح "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" لو 23: 42-43.
في هذه العبارة نرى:
أ-اللص يكتشف أن المصلوب معه ليس شخصاً عادياً, بل هو المسيح مصلوباً بلا خطية. كيف عرف ذلك؟ لسنا ندري. هل عرف ذلك من شفاعته لصالبيه, أو من ملامحه ونظراته, أو لعل المسيح نظر إليه نظرة خاصة أعلنت له هذا. لسنا ندري ولكنه على أية حال أدرك حقيقة شخصية المسيح وعمله الخلاصي. فطلب منه أن يذكره في ملكوته وملكوته هنا يشير إلى مجده الملكي, عندما يذهب إلى عرشه ومملكته في العالم الآخر.
ب-المصلوب بقوله للص: "اليوم تكون معي في الفردوس" فهو يعلن:
ثقته في النهاية وهو هنا يعده بأنه سوف يدخل معه الفردوس في نفس اليوم, وكلمة الفردوس هنا تشير إلى مقر المباركين في العالم الآتي (2كو 1: 3, رؤ 2: 7)[2]. وقول المصلوب للص بأنه سيكون معه في الفردوس, يعني غفران خطاياه, وهنا يمارس المسيح سلطانه الإلهي في مغفرة الخطايا.
فلو كان المصلوب هو يهوذا أو أي شخص آخر:
-فمن أين جاءه اليقين في دخول الفردوس؟ وهو خائن قد باع سيده.
-كيف له أن يعد شخصاً آخر بدخول الفردوس؟ وهو لا يملك هذا لنفسه.
-من أين له سلطان مغفرة الخطايا حتى يتمكن اللص من دخول الفردوس؟ هذا يؤكد لنا أن المصلوب هو المسيح, لأنه واثق من النهاية, واستجاب لطلب اللص عندما عرف حقيقته ودعاه "يا رب" وفي الحال غفر خطاياه ووعده بأنه سيكون معه في الفردوس في نفس اليوم.
3-الكلمة الثالثة: عندما أوشك المسيح أن يفارق الحياة وهو على الصليب, أدار بصره فرأى أمه العذراء مريم وبدأ يفكر في الأيام الحزينة التي تنتظرها, ورأى بجوارها يوحنا تلميذه الذي يحبه فنظر إلى أمه مشيراً إلى يوحنا وقال: "هوذا ابنك", ثم نظر إلى يوحنا تلميذه مشيراً إلى أمه وقال: "هوذا أمك" (يو 19: 26-27).
وهاتان العبارتان تؤكدان أن المصلوب هو المسيح:
-لأنه من المؤكد أن العذراء مريم, لو كان المصلوب هو شخصاً آخر غير المسيح, لعرفت ذلك من شكله وصوته, حيث أنها كانت على مسافة قريبة جداً حتى تسمع هذا الكلام, وإذا أخطأ كل الناس في معرفة المسيح, فلا يمكن أن تخطئ العذراء في معرفة ابنها. وإلا فقل على كل عواطف الأمومة السلام.
-لو كان المصلوب هو أي شخص آخر غير المسيح, لأمكن ليوحنا تلميذه المحبوب اكتشاف ذلك.
-إذا كان المصلوب هو يهوذا, فما الداعي لأن يستودع العذراء مريم لدى يوحنا ويقول لها هوذا ابنك وهو يعلم أن المسيح ابنها مازال حياً.
فالكلمة الثالثة تؤكد صحة دعوانا أن المصلوب هو المسيح.
4-الكلمة الرابعة: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" مت 27: 46.
5-الكلمة الخامسة: "أنا عطشان" يو 19: 30.
سوف نناقشهما بالتفصيل فيما بعد.
6-الكلمة السادسة: "قد أكمل" يو 19: 30.
قبل موته مباشرة, صرخ المسيح بصوت عظيم قائلاً: " قد أكمل".
"إن كلمة قد أكمل في الأصل اليوناني كلمة واحدة (تيتلستاي Tetelestai) وهي تعني صرخة المنتصر, هي هتاف من أتم عمله, ومن فاز في المعركة, صرخة رجل خرج من الظلام إلى مجد الضياء وأمسك بالتاج. وهكذا مات يسوع منتصراً وصيحة الفائز على شفتيه. إنه لم يهمس بها بانكسار من يجتاز وادي الهزيمة, لقد هتف بها بفرحة من كسب الانتصار"[3].
لقد أكمل المسيح هنا عمل الفداء والكفارة.
فلو كان المصلوب أي شخص آخر؟ فلماذا يقول قد أكمل, وما هو الشيء الذي أكمله؟ ومن أين له الفرح والانتصار وهو يوشك أن يفارق الحياة بميتة شنيعة؟
7-الكلمة السابعة والأخيرة: قال المسيح: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" ثم نكس رأسه وأسلم الروح.
وفي هذا النص نرى:
أ-قول المصلوب "يا أبتاه" وهنا يرد المسيح على الذين كانوا يتحدونه قائلين: "إن كنت ابن الله انزل من على الصليب". فأثبت أنه ابن الله, ولكنه لم ينزل من على الصليب وإنما رفع الصليب إلى علو السماء.
ب-إن هذه العبارة تعبر عن الثقة, حيث يستودع المسيح المصلوب روحه في يد الآب.
جـ-نكس رأسه: في الأصل أسند رأسه, كمتعب, يسند رأسه على وسادة بعد رحلة شاقة مرة, إن المعركة بالنسبة ليسوع قد انتهت بالانتصار واختبر راحة من أكمل واجبه وأدى رسالته[4].
د-أسلم الروح: ليست هي العبارة المعتادة أن تقال عن موت إنسان ... فهي توضح أن في موت المسيح كان هناك أمر غير عادي على الإطلاق[5]. فهي تشير إلى فعل إرادي تم من المسيح أي أن "موته لم يكن نتيجة طبيعية أو إعياء, بل عملاً طواعياً, وبذلك كان فريداً. وقبل أن يصبح أي سبب طبيعي مميتاً. وفي اللحظة التي اختارها هو أسلم روحه, حتى أن بيلاطس تعجب أنه هكذا مات سريعاً (مر14)"[6].
فهل ينطبق هذا على يهوذا؟ هل يستطيع يهوذا في ذلك الموقف أن يخاطب الله يا أبتاه؟ وهل له من السلطان أن يسلم روحه في الوقت الذي يشاء. إنه المسيح الذي قال عن نفسه: "ليس أحد يأخذها مني, بل أضعها أنا من ذاتي لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" يو 10: 18.
فكلمات المصلوب إعلان وبرهان لا يقبل الشك أو التأويل أنه هو المسيح.
(15) كلمات السيد المسيح على الصليب. البابا شنودة الثالث. ص9, 10, 14.
(16) التفسير الحديث: إنجيل لوقا. القس ليون موريس. ترجمة نيكلس نسيم. دار الثقافة. ص351-352.
(17) شرح إنجيل متى. د.وليم باركلي. تعريب. د.القس فايز فارس. ج2. ص385 وشرح بشارة يوحنا. تعريب. د.عزت ذكي. ص57-58.
(19) شرح إنجيل لوقا. القس لين. ص353.
(20) تفسير الكتاب المقدس. جماعة من اللاهوتيين برئاسة د.فرنسس دافدسن ج5. ص164.
*لقد سبق للمؤلف وقدم دراسة تفصيلية حول هذه الأدلة في كتاب "موت أم إغماء"
- عدد الزيارات: 660