أقوال المصلوب
سبق لنا في الفصل السابق مناقشة أقوال المصلوب وأثبتنا من خلالها أنه هو المسيح وتبقى كلمتان سوف نناقشهما فيما يلي:
أ-قول المصلوب "إلهي إلهي لماذا تركتني؟":
"جاء في الأناجيل قول المصلوب "إلهي إلهي لماذا تركتني" وهذا الكلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم التسليم لأمر الله خالق الأرض والسماء، والمسيح منزه عن ذلك بالنسبة لمرتبة النبوة، فكيف وأنتم تزعمون أنه الإله وأنه ارتاح إلى الصلب بنفسه، أليس في هذا دليل على أنه شبه لهم .... وإذا كان الأشخاص العاديين يستبشرون بالموت، فكان بالأولى المسيح، ولما لم يكن الأمر كذلك، دل على أن المصلوب غيره، فلذلك كان يجزع ويصرخ ويضرع"[1]
التعليق:
لقد أساء الحاضرون الناطقون باليونانية فهم كلمات المصلوب وظنوا أنه ينادي إيليا وما زال كثيرون حتى اليوم يسيئون فهم ما قاله، ولقد حاول كثير من المفسرين الدخول إلى أعماق أسرار معنى قول المصلوب "إلهي إلهي لماذا تركتني" مت 27: 46، مر 15: 34. وقد ذكروا أربعة آراء نقدم هنا مختصراً لها[2]:
1-الرأي الأول:
إن يسوع كان يردد كلمات العدد الأول من مزمور 22 لنفسه، لأن المزمور وإن كان يبدأ بوصف الآلام المروعة ولكنه ينتهي بثقة عظيمة وانتصار (مز 22: 22-24) وقد قيل أن يسوع كان يردد كلمات المزمور تصويراً لحالته وإعلاناً لثقته الكاملة بالله، لأنه يعلم أن الآلام التي يجتازها ستنتهي بالنصر، فهي صرخة الانتصار وليس الجزع والارتياع.
2-الرأي الثاني:
وهو أكثر ميلاً للناحية البشرية، فإنه يبدو أن يسوع لا يكون يسوع حقاً، ما لم يدخل إلى أعماق الاختبار الإنساني، وقد اختبر البشر أنه في أثناء سير الحياة الطبيعي، عندما تدخل المآسي إلى الحياة، تأتي أوقات، وربما مرة واحدة في الحياة، عندما يشعر الإنسان أن الله قد نسيه، وحين نجوز في حالة فوق إدراكنا، نشعر إننا قد صرنا متروكين من الله نفسه، ولعل ما جاز فيه يسوع كإنسان ليختبر أعمق اختبارات البشر.
3-الرأي الثالث:
إن المسيح بقوله هذا، إنما كان يذكر اليهود بالمزمور الثاني والعشرين الذي يبدأ بهذه العبارة. كانوا "يضلون إذ لا يعرفون الكتب" مت 22: 29، بينما كانت هذه الكتب "هي التي تشهد له" يو 5: 39، فأحالهم المسيح إلى هذا المزمور بالذات وكانوا لا يعرفون المزامير بأرقامها الحالية، وإنما يسمون المزمور بأول عبارة فيه .... وهذا المزمور قيل بروح النبوة عن المسيح، وكأن المسيح على الصليب يقول لهم: اذهبوا واقرأوا مزمور "إلهي إلهي لماذا تركتني" وانظروا ما قيل عني.
4-الرأي الرابع:
إنه في تلك اللحظة حل الثقل الفظيع لخطايا العالم على قلب يسوع، وعلى كيانه كله، وأنه في تلك اللحظة صار من لم يعرف خطية، خطية لأجلنا (2كو 5: 12). وأن العقاب الذي حمله عنا، نتج عنه بالضرورة الانفصال عن الله بسبب الخطية، ولا يستطيع أحد أن يعترض على هذا التفسير، إلا أننا نقف أمام هذا السر العميق مشدوهين متعجبين. لقد حدث انفصال بين الآب والابن وقد قبله الآب والابن معاً. وهذا الانفصال ناجم عن خطايانا وما تستحقه من جزاء عادل وقد عبر المسيح عن هذا الانفصال باقتباسه من الكتاب المقدس الآية الوحيدة التي وصفته بدقة "إلهي إلهي لماذا تركتني" إن صرخته جاءت على شكل سؤال "لماذا؟" ليس لأنه لم يعرف الجواب، وإنما فقط لأن نص العهد القديم الذي يقتبس منه كان بهذه الصيغة.
*"إلهي إلهي لماذا تركتني؟"
"قالها المسيح بصفته نائباً عن البشرية، لأنه أخلى ذاته، وأخذ صورة العبد صائراً في شبه الناس (في 2: 7-8) ووضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 9)
وليس معناها الانفصال، وإنما معناها: تركتني للعذاب، تركتني أتحمل الغضب الإلهي على الخطية، إنها لا تعني أن الآب ترك الابن "لأنه في الآب والآب فيه" (يو 14: 11) لم يكن تركاً أقنومياً، بل تركاً تدبيرياً.
إنها تعني أن آلام الصلب كانت آلاماً حقيقية، وآلام الغضب الإلهي كانت مبرحة وفي هذا الترك تركزت كل آلام الصليب وكل آلام الفداء.
إنها لم تكن نوعاً من الاحتجاج والشكوى، إنما كانت مجرد تسجيل لآلامه، وإثبات حقيقتها، وإعلاناً بأن عمل الفداء سائراً في طريقه التمام"[3]
إذن فهذه العبارة لا تعني بالمرة عدم الرضاء بالقدر الإلهي وعدم التسليم لأمر الله خالق الأرض والسماء، ولا تعني أن المسيح كان يصرخ ويجزع ويضرع بل قدم نفسه طوعاً واختياراً وهي أيضاً لا تعني أن المصلوب غيره. ومعناها أعمق مما يدعون.
ب-قول المصلوب "أنا عطشان":
"روت الأناجيل أن المصلوب قال: أنا عطشان، فأعطوه خلاً ممزوجاً بمر فذاقه ولم يشرب ... بينما يروون عن المسيح أنه صام أربعين يوماً فكيف يظهر الحاجة المذلة لأعدائه بسبب عطش ساعة واحدة؟ أليس هذا دليلاً على أن المصلوب هو غيره"[4]
التعليق:
لقد جاء هذا القول في:
متى 27: 33-34 "ولما أتوا إلى موضع يقال له جلجثة وهو المسمى موضع الجمجمة، أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة ليشرب ولما ذاق لم يرد أن يشرب" وأيضاً مر 15: 23.
يو 19: 28-30 "وبعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان وكان إناء موضوعاً مملوءاً خلاً. فملؤوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل. قال قد أكمل".
مت 27: 48 وللوقت ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه" وأيضاً مر 15: 36.
قبل التعليق على هذا الادعاء، نوضح شيئاً آخر ففي مت 27: 34 المسيح لم يشرب، وفي مت 27: 48، يو 19: 30 شرب فهل هناك تناقض بين النصوص؟ إذ ينظر الناقد نظرة سطحية يقول نعم هناك، ولكن إذ ننظر نظرة فاحصة وصادقة نعرف الحق.
ففي المرة الأولى قد للمسيح خلاً ممزوجاً بمرارة، وكان هذا يستعمل كمخدر لتسكين وتخفيف آلام المصلوبين، وقد رفض المسيح أن يشربه كي يكون في أشد حالات الصحو والتنبه فيتجرع كأس الآلام حتى آخر قطرة.
ويقول جيم بيشوب: "لقد كانت في أورشليم هيئة من السيدات النبيلات، وظيفتها القيام بأعمال الرحمة، وإغاثة المنكوبين، فهن يقدمن الهدايا للفقيرات، ويقمن بعيادة المرضى، ويواسين المصابين، ويسكبن الدموع مع الحزانى الباكين. وقبل أن تبدأ عملية الصلب، اخترقت الدائرة جماعة من تلك النسوة وهن يحملن إبريقاً من رحيق مخدر وبضع كؤوس، واتجهت النسوة إلى يسوع وصببن الخمر له في الكأس ونظر السيد بتقدير إلى عواطف أولئك النبيلات وإلى دموعهن السائلة وإلى عمل الرحمة الذي يتقدمن به، ولكن هز رأسه ولم يشأ أن يذوق شيئاً. لقد فضل أن يتجرع كأس الآلام حتى الثمالة دون أن يخفف من أثرها المرير"[5]
وفي المرة الثانية، قال المسيح: أنا عطشان. فجاء هذا موافقاً لما ورد في الكتاب (مز 69: 21) فالمسيح لم يقل أنا عطشان بقصد أن يتم الكتاب، بل لأنه كان عطشاناً فعلاً، لأن آلام الصليب المحرقة يبست لسانه، لأن أربع ساعات مضت منذ أن علقوه على الصليب .... إن بين الكلمات السبع، التي نطق بها المسيح على الصليب، لم يفه إلا بهذه الكلمة الواحدة عن آلامه الجسدية. هذا عطش فدائي اختبره المسيح ليرفع به عن المؤمنين، ذلك العطش المحرق الذي كان عليهم أن يختبروه في لهيب الجحيم الأبدي (لو 16: 24).
قال المسيح المصلوب: أنا عطشان، ليستطيع المسيح الحي أن يقول بحق: "إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب" يو 7: 37.
"فملؤوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا أي على ساق من نبات الزوفا[6]في شكل قصبة، ومن أجل ذلك سماه كل من متى ومرقس "قصبة" وقدموها إلى فمه وفي هذه المرة لم يرفض المسيح أن يشرب هذا الخل"[7]
وبالتالي ليس هناك تناقض بين النصين
*أما الادعاء، بأن المصلوب هو يهوذا وليس المسيح، لأن المسيح صام أربعين يوماً فكيف لم يستطع أن يصبر على العطش ساعة واحدة.
فنقول: نعم، لقد صام المسيح أربعين يوماً (مت4). وكان هذا صوماً معجزياً، خارقاً للطبيعة، لأنه عندما يقول الكتاب أنه "جاع أخيراً" فهذا يدل على أنه لم يجع في خلال هذه الفترة، وقد كان هذا عملاً إلهياً معجزياً، له هدف محدد.
ولكن هذا لا يحتم أن تكون كل تصرفات المسيح الطبيعية –التي يشارك فيها بني البشر- مؤيدة بالمعجزات والأعمال الخارقة.
وعندما كان المسيح على الصليب، وطلب ماء ليشرب، فهذا أمر طبيعي بعد معاناة طويلة قد عاناها المسيح ابن الإنسان، وكون المصلوب عطش وطلب ماء ليشرب، فهذا لا يعني بالمرة أنه ليس هو المسيح.
لأننا وإن كنا نؤمن أن المسيح هو الله، ولكننا –في نفس الوقت- نؤمن أيضاً أنه أخذ جسداً بشرياً له نفس صفات جسدنا، ما عدا أنه بلا خطية.
فإذا كان وهو إله متجسد يستطيع أن يصوم أربعين يوماً، فإنه أيضاً بالجسد، كان له نفس الاحتياجات البشرية، وإذ أظهر لاهوته بعض العلامات الدالة عليه، فإن ناسوته أيضاً لم يحجب وعبر عن نفسه بعلامات أخرى. فاستخدام قول المسيح على الصليب "أنا عطشان" للدلالة على أنه ليس هو المصلوب، هو قول يلقى على عواهنه بدون دليل وبرهان، وبقية أقوال المصلوب تؤكد أنه هو المسيح وليس آخر.
(96) الفارق بين المخلوق والخالق. ص 743.
وانظر أيضاً :
أ-المنتخب الجليل من حرف الإنجيل. ص 316.
ب-بين المسيحية والإسلام. ص 164.
جـ-الأجوبة الفاخرة. ص 54.
د-المسيح في مصادر العقيدة المسيحية. ص 306.
(97) شرح إنجيل متى. د.وليم باركلي. تعريب القس فايز فارس جـ2. ص 383-385.
وانظر أيضاً: صليب المسيح. جون ستوت. ص 97.
(98) كلمات المسيح على الصليب. البابا شنودة الثالث. ط7. ص 29.
(99) الفارق بين المخلوق والخالق. ص 741.
وانظر أيضاً: 1-المنتخب الجليل. ص 316.
2-بين المسيحية والإسلام. ص 164.
3-الأجوبة الفاخرة. ص 54.
(100) اليوم الذي صلب فيه المسيح. ص 240, 247-248.
(101) إن كلمة زوفا ذكرت تسع مرات في العهد القديم (خر 12: 12. لا 14: 4, 6, 49. عدد 19: 6, 18. 1مل 4: 13. مز 51: 7) ومرتين في العهد الجديد (يو 19: 29. عب 9: 19-20) والكلمة غير محددة, ويقصد بها عدة أنواع من النباتات أو الحشائش, ومن جهة الذي ينمو في مصر بكثرة, فيظن أن الإشارة إلى نبات "السرجام" (نوع من الذرة الرفيعة). ولعله هو المقصود أيضاً في يو 19: 29, حيث أن للنبات ساقاً تشبه القصبة (مت 27: 48, مر 15:36). دائرة المعارف الكتابية.جـ4.ص292-293.
وإن يوحنا عندما يذكر نبات الزوفا فهو يعود بنا إلى خروف الفصح, وغمس باقة الزوفا في الدم ومس العتبة العليا والقائمتين بالدم ليكون هذا الدم المرشوش وسيلة الإنقاذ من الموت (خر21) ليربط بين خروف الفصح المذبوح كرمز للمسيح المصلوب ودمه المسفوك للتطهير من الخطايا في العهد الجديد.
(102)شرح بشارة يوحنا. د.إبراهيم سعيد. ص 780-781.
- عدد الزيارات: 615