بحث في القيامة والصعود
الباب الثالث عشر
بحث في القيامة والصعود
وعلاقتهما بإثبات لاهوت المسيح
إن قيامة المسيح هي حجر زاوية عمله الفدائي، لأنها ختام ما أجراه المسيح بشخصه لما كان على الأرض من أعماله الفدائية. وهي الحلقة المتوسطة بين عمله على الأرض لغاية وقت صعوده وبين عمله في السماء الآن عن يمين عرش العظمة إلى منتهى الدهور، لأنه بها قد ختم على قبول موته كذبيحة مكفّرة عن خطايا البشر، وبها يتبرهن أن له حق الشفاعة في الذين يتقدمون به كشفيع لدى عرش النعمة وأن له القدرة على إيهاب بركات الفداء للذين يقبلونه بالإيمان.والآن نتكلّم:
أولاً: عن قيامة المسيح من حيث هي.
إن يسوع المسيح له المجد بعدما مات فوق الصليب كفّنه يوسف الرامي ونيقوديموس ووضعاه في قبر كان قد نحته يوسف المذكور لنفسه في البستان المجاور للجمجمة.وبما أن رؤساء اليهود هم الذين عملوا في صلبه لذا تقدموا إلى بيلاطس الوالي الروماني قائلين: "يا سيد قد تذكرنا أن ذاك المضل قال وهو حي أني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى. فقال لهم بيلاطس عندكم حراس. اذهبوا واضبطوه كما تعلمون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر ". ولكن حدث في اليوم الثالث وفي فجر ذلك اليوم أن " زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر... فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات ". ولكن في الصباح " جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان. فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين، قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام.وإذا سمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علّموهم. فشاع هذا القول عند اليهود ".
فهذا القول الذي قاله الحراس بتلقين رؤساء اليهود لا يحتمل أقل فحص بل كذبه ظاهر لأنه كيف يمكن أن التلاميذ الضعفاء- الذين تركوا المسيح وهربوا لئلا ينالهم سوء من اليهود بسبب مرافقتهم لسيّدهم، بل ومنهم من أنكره خوفاً من اليهود- كيف يمكنهم أن يجرؤوا على الذهاب إلى القبر ليلاً وهم عالمون أنه محاط بحراس أقوياء ويسرقوه؟ بل وأين الشهود على أن التلاميذ هم الذين سرقوه؟ وأن قيل أن الحراس هم الشهود فما هي البيّنات لديهم لتبرهن على أن التلاميذ سرقوه؟ لا بيّنة عندهم مطلقاً سوى عدم وجود الجسد في القبر ووجود الحجر مرفوعاً من باب القبر. حسناً أيها الحراس لماذا لم تقبضوا على أتباع يسوع إذا كنتم عاينتموهم سارقين جسد سيدهم وذاهبين؟ فاسمع ماذا يقولون- أنه جواب لا يقبله الطفل الصغير- يقولون: كنا نيأما حسناً كنتم نياماً. فمن قال لكم أن تلاميذه سرقوه؟ إن حبل الكذب قصير ولا يثبت لدى أقل امتحان. أيها الحراس أنتم كثيرون فإن نام بعضكم يستيقظ البعض الآخر، ونومكم كلكم هو شهادة واضحة على صدق رواية أتباع يسوع في الإنجيل المقدس أنكم ارتعدتم من قيامة يسوع ودحرجة الحجر وصرتم كأموات. وإلا فأي عقل يقبل مثل هذه الحجة الفارغة التي لم يقبلها بل لم يحرّضكم عليها سوى أناس مغرضين كذبهم مشهور وضلالهم أشهر من نار على علم؟ لكننا لما نقول نحن أنه قام من الأموات نقول ذلك شهادة شهود عين رأوه ومشوا معه وأكلوا معه ولمسته أيديهم وتحادثوا معه بعد قيامته من الأموات.
ولدينا لإثبات هذا الأمر أولاً قبر فارغ زارته النساء اللواتي ذهبن ليحنطنه في صباح الأحد (متى 28: 1- 8 ومر 16: 1- 8 ولو24: 1- 11 و22 و23 ويو20: 1و2) وزاره أيضاً بعض الرسل فوجدوه فارغاً (لو24: 12 و24ويو 20: 3- 10).
ثانيا: ظهر ثلاث عشرة مرة بعد قيامته وهاك هي حسب ترتيبها:
1- لمريم المجدلية (مر16: 9- 11 ويو20: 11- 18).
2- لنساء كثيرات (مت 28: 9 و10)
3- لبطرس (لو24: 34 و1كو15: 5).
4- لكليوباس وآخر (غالباً هو لوقا البشير) (مر16: 12 و 13 ولو24: 13- 35).
5- للرسل وآخرين ما عدا توما (مر16: 14 ولوقا 24: 36- 43ويو20: 19- 25 و1كو15: 5).
6- للرسل وتوما معهم (يو20: 26- 29).
7- لسبعة رسل على بحر طبرية (يو21: 1- 23).
8- للرسل في الجليل (مت28: 16ـ 20 مر 16: 14- 18).
9- لأكثر من خمسماية أخ (1كو15: 6).
10- ليعقوب (1كو15: 7).
11- للرسل في أورشليم (لو24: 44- 49 وأع1: 1- 5).
12- للرسل وآخرين في بيت عنيا (مر16: 19 و20 ولو24: 50- 53 وأع 1: 6- 11 و22 و1كو15: 7).
13- لبولس (أع9: 3- 9 و1كو15: 8).
فهؤلاء الشهود ينحصرون في الرسل وبعض النسوة وأكثر من خمسماية أخ كان أكثرهم باقياً على قيد الحياة عندما كتب بولس رسالته لأهل كورنثوس سنة 58م. وجميعهم رأوه وقالوا أنهم رأوه بعد صلبه ودفنه.
وقبل أن نفحص قيمة شهادتهم وما لها من الأهمية يليق بنا أن نشير إلى أمور عمومية بخصوص الشهادة والشهود فنقول:
1- يجب أن يكون عدد الشهود كافياً علىفم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة "(2كو13: 1).
2- أن يكون الشهود أمناء أي غير مغرضين.
3- أن يكونوا شهود عين لا نياماً.
4- أن يكون لهم إلمام تام بما يشهدون عنه ويعرفونه جيداً (لا ملخومين) ولا ممتلئين برعب وصائرين كأموات.
5- أن تكون حصلت لهم فرصة كافية للتحقق مما يشهدون عنه 6- أن يكونوا هم أنفسهم متيقنين بما يشهدون به.
7- أن يؤدوا شهادتهم وهم في حالة الصحو والتنبه.
8- أن يكونوا سليمي النية في شهادتهم. فإذا تمت هذه الشروط في الشهادة والشهود فلا موضع لأقل ريب في حقيقة ما يشهدون عنه. وعليه يكون لدينا براهين لا تدحر على حقيقية قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، لأن شهودها:
1- عددهم كثير جداً. وأن كان في كل قانون مرعي في العالم قيامة الشهادة على فم شاهدين أو ثلاثة لكن عندنا شهوداً بالمئات.
2- من جهة أمانتهم يكفي أن نقول أنهم ختموا على شهادتهم بدمهم. فقد ضحوا حياتهم تحت أشد العذاب والميتات المتنوعة وهم متمسكون بأقوالهم ليؤيدوا صدقها. (لا يعارضني معارض بالقول أنه وجد من ضحى نفسه من أجل عقائد كاذبة أو في المحاماة عن مبادىء غير صحيحة فإن مثل هذا القول ليس من نموذجات موضوعنا الذي هو عبارة عن حادثة حدثت وفحصتها الحواس- فالمعين رأت والأذن سمعت واليد لمست).
3- إن شهود قيامة ربنا من بين الأموات لم يبلغهم الخبر من آخرين بحدوثها بل وجد بينهم من لم يصدق بها بمجرد التبليغ ووجد بينهم من شكّ عند أول رؤية كأنهم حسبوها خيالاً غير كاف لأن يشهدوا شهادة مؤكدة بموجبه. فلم يقتنعوا بصدق ما رأوا إلا بعد تكراره وبعد لمس الجسد المقام ووضع الاصبع محل المسامير في اليدين والرجلين ومحل الحربة في الجنب.
4- أم من جهة إلمامهم بما شهدوا عنه ومعرفته جيداً فحدّث عنه ولا حرج.
5- وكذلك من جهة حصولهم على فرصة كافية للتحقق مما يشهدون عنه. فإنهم لم يروه بالليل فقط بل النهار أيضاً، وليس داخل البيت فقط بل في الطريق وفي الجبل وفي البحر، ولم يروه مرة واحدة فقط بل مرات كثيرة، ولم يروه فقط بل لمسته أيديهم وحادثوه في مواضيع هامة وأجابهم عنها وأكلوا وشربوا معه ووعدهم بمواعيد أتمّها لهم وعزّاهم وطمأن خوفهم وشجعهم خصوصاً تعزيته لمن أنكره منهم وتصريحه له بأنه غفر خطيته وأمره له بخدمته. فكل هذه الأمور تبرهن على أن لهم الإلمام التام بما شهدوا عنه، وأنه حصلت لهم لا فرصة واحدة بل فرص كافية للتحقق مما شهدوا به.
6- أما عن اقتناعهم هم أنفسهم بما شهدوا به فلم يشهدوا بقيامته مرة ثم ندموا أو كفوا بل ثابروا عليها في كلامهم وتعاليمهم سواء للعوام أو المتعلمين، أمام الجهلاء والحكماء، والرعية والحكام والملوك، لليهود وللأمم، للبسطاء والفلاسفة. وليس في كلامهم فقط بل في كتاباتهم أيضاً فلا يكاد يخلو كتاب مما كتبوا، صغيراً أو كبيراً، إلا وفيه خبر عن تلك الحادثة التي شهدوا عنها.
7- أما عن تأدية شهادتهم وهم في حالة الصحو والتنبه فيظهر مما قاله بطرس لأولئك المتعنتين الذين قصدوا أن يصرفوا فكر الناس عن الإيمان بقوة الله بقولهم عن أولئك الشهود أنهم امتلأوا سلافة (مسكراً) إذ قال: “أيها الرجال... إن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون لأنها الساعة الثالثة من النهار بل هذا ما قيل بيوئيل النبي الخ " وكيف يمكن لواحد أو أناس هم مائة وعشرون شخصاً أن يتكلموا بنحو ست عشرة لغة مختلفة وهم لم يتعلموها وتفهم تلك اللغات عند من ولدوا فيها؟ وأي شخص له ذرة من العقل يمكن أن يصدق أن شهادة تتكرر ألوفاً بل ربوات من المرات بالكلام وبالكتابة من أناس كثيرين وهم في حالة السكر أو الذهول في كل مرة!
8- أما عن سلامة نية الشهود فنقول: إن الذي يلجىء الإنسان للكذب هو انتظاره الفائدة والنفع من كذبه أو دفع ضرر يتوقعه. فأي شيء يدفع أولئك الشهود إلى التكلم بالكذب في شهادتهم وشهادتهم جلبت إليهم الشدائد والضرورات والضيقات والضربات والسجون والاضطرابات والأتعاب والاكتئابات والاضطهادات والميتات المتنوعة والرجم والتعذيب حتى الموت الزؤام؟ فشهود يختمون شهادتهم بسفك دمهم لا يتجاسر أحد ويقول عنهم غير سليمي النية في ما يشهدون به. فبالاجمال نقول أن أولئك الشهود شهدوا عنه حالاً بعد قيامته، وشهدوا عنه في مكان حدوث القيامة، وشهدوا عنه بكيفية منتظمة، وتكررت شهادتهم على الدوام وفي كل مكان، وشهدوا باجماع بلا تواطؤ قط فلم يزلف من أحدهم ما يمكن بهم تكذيب الآخر وكانت الشهادة تقال ولو أدت إلى الموت.
وزيادة على ذلك فإن الحادثة التي شهدوا عنها (القيامة) متنبأ عنها في كتاب الله قبل حدوثها بمئات من السنين.وعلى ذلك فإن هذه الشهادة قد أثّرت أيما تأثير في كل سكان العالم، وكان لها نتيجة غريبة وعجيبة حيثما وصلت وحيثما سمع عنها في كل الأجيال وبين كل الأمم. وفضلاً عن كل ذلك فإن الحقائق المبنية على تلك الشهادة فعل فيها روح الله وأقنع بها ربوات في كل الأجيال. فهل يساعد الله الكذب؟ وهل يفعل به؟ ومعلوم أن الديانة المسيحية مؤسسة على قيامة المسيح، والخير الذي أنتجتهالمسيحية في العالم وسوف تنتجه فيه هو أمر تاريخي ولا يحتاج إلى برهان. فالمسيحية قد أبطلت القساوة حتى على العجماوات، وعابت الانتحار، ومنعت قتل الأطفال، وأبطلت حرق الأحياء وراء موتاهم، وأبطلت كثيراً من عوائد الأمم النجسة المخجلة، وقلما توجد رذيلة في العالم إلا وقد مستها شجاعة المسيحية بإصلاح، فقاوموا المسكرات وحاربوها بكل بسالة، وحرروا العبيد، وحموا المسبي، واعتنوا بالمريض، وآووا اليتيم، ورفعوا مقام المرأة، وستروا الطفولة بستر النقاوة المقدسة، وغيروا الرفق بالمجرمين من رذيلة إلى فضيلة، وشرفوا الشغل من حالة الدناءة إلى الشهامة، وقدسوا الزيجة من درجة اعتبارها بين الناس كأنها اختراع بشري إلى مقام قريب لسر مقدس، وقبّحوا تعدد الزوجات ومنعوه بقدر إمكانهم، ونادوا بالإخاء الحقيقي بين كل أصناف البشر، وبتعاليمهم وقدوتهم قد طهروا الحياة، ورقوا النفس، وأوجدوا السلام بين العائلات، وأظهروا السعادة الحقيقية المبتغاة. فهم السبب في إبطال مفاسد العالم وفي إصلاحه لأنهم وحدهم الذي يحاربون الكفر والإلحاد في العالم ويحاربون الموبقات التي تجر البلاء على الجنس البشري. وأن وجد أحد من غير المسيحيين في العالم يسعى في أمر من هذه الأمور فهو إنما أخذه عن المسيحيين. وهذه الأمور الملموسة جميعها لا ينكرها حتى غير المؤمنين، وهي أمور تاريخية كما ذكرنا وهم لا يزالون يدأبون في أعمالهم النافعة ولا يعرفون الكلل ويستعملون جهدهم في جلب الخير للبشرية وترقيتها وفي كل أعمالهم هذه لا يجرون شيئاً من عندياتهم بل يكررون الشهادة بقيامة الرب يسوع من بين الأموات. والإيمان بتلك القيامة هو الذي يحرك لهذه الأعمال المبرورة. فهل ننتظر أن الله يبارك على خبر كاذب وشهادة ملفقة ويستخدمها لعمل تسر به نفسه؟ فمن سوء النية بل ومن الجنون التجاسر بإنكار حادثة القيامة التي تمت فيها شروط الشهادة والشهود بهذه الصورة. ولا يمكن إثبات أية حادثة من الحوادث التاريخية في العالم المقبولة والمصادق عليها من الناس بكيفية أثبت من هذه الحادثة التاريخية ألا وهي قيامة ربنا يسوع من الأموات. أمامنا خمساية شاهد ونيف رأوه رؤية العين. فإذا فرضنا أنهم كلهم خدعوا دفعة واحدة كان ذلك أغرب خدعة حصلت في العالم وهذا لا يمكن تصوره.
أناس أسسوا ديانة- القداسة ديدنها، والطهارة أساسها، والصدق تاجها، يقررون حقيقة في محادثاتهم وخطاباتهم وكتاباتهم وأمامهم أعداء ألدّاء متعطّشون لدمهم كيف يتسنى لهم أن يتلفظوا بحقيقة كاذبة؟ وكيف يتسنى لبطرس الرسول مثلاً (إن كان كاذباً في ما يدعي) أن يقف أمام جمهور رؤساء اليهود المتعصبين وهو صياد فقير عامي عديم العلم ويقول " أيها الرجال... اسمعوا هذه الأقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه. لأن داود يقول فيه... لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فساداً... فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه... إن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً (أع2: 22- 36). ويقول أيضاً " إن إله ابرهيم واسحق ويعقوب إلى آبائنا مجّد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه. ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك... والآن أيها الاخوة أنا أعلم أنكم بجهالة عملتم كما رؤساؤكم أيضاً "وبينما هما (بطرس ويوحنا) يخاطبان الشعب أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون متضجرين من تعليمهما الشعب وندائهما في يسوع بالقيامة من الأموات... ولما أقاموهما في الوسط... حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم يا رؤساء الشعب... فليكن معلوماً عند جميعكم... أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات بذاك وقف هذا (الأعرج) أمامكم صحيحاً. هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية. وليس بأحد غيره الخلاص " إلى أن قال " لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا... إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه معلّقين إياه على خشبة. هذا رفّعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا. ونحن شهود له بهذه الأمور” (أع3: 13- 17 و4: 1 و7 -12 و20 و5: 30 و31).
فهب أن بطرس كان كاذباً في ما قال كيف لا يتقدم أحد الرؤساء أو الكهنة في وسط الجمهور ويكذبه بالقول- أيها الرجال لا تصدقوا هذا الكاذب في ما يدعيه زوراً بل عليكم فقط أن تذهبوا إلى المقبرة فترون هناك جسد يسوع؟ فكان ذلك أعظم دليل يبكمهم ويعطل نداءهم في وسط الشعب بقيامة ربهم من بين الأموات. وإذا كانت الحيلة الصبيانية التي ذروا بها الرماد في عيون البسطاء أو المغرضين- أي أن تلاميذه سرقوه ليلاً- وكانوا يشعرون بأن هذه الحيلة حقيقية- فلماذا لم يعترض بها أحد عليهم عند تأديتهم الشهادة بالقيامة؟ وعوضاً عن أن يتضجر الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون من تعليمهم الشعب ونداءهم في يسوع بالقيامة من الأموات ويلقوا عليهم الأيادي ويحبسوهم لماذا لم يكذبوا نداءهم بقيامة المسيح بأدلة وبراهين محسوسة إن كان ذلك ميسوراً لديهم؟ وهل يمكن لجماعة كبيرة امتدت إلى كل أطراف العالم المعمور أن يكون شعارها قضية كاذبة ليس لها أصل بل يكون أول تعليم يقدم منها في كل مكان هو تلك القضية الكاذبة؟ (1كو15: 3 و4 وأع10: 40 و41 و13: 30 و17: 3 و18 و31 و26: 8 وغيرها). ومن يتصور أن المسيحية هي ديانة مؤسسسة بأناس غاشين كذابين؟ ومن ذا الذي يطالع أقوال البشيرين عن قيامة المسيح وعن ظهوراته ويلاحظ رواياتهم التي وردت بكل بساطة وبدون قصد التفخيم والتعظيم- من الذي يقدر أن يقول أن أولئك الكتبة كاذبون؟ فإنهم لو قصدوا أن يغشوا الناس لما بدأوا اخبار ظهوراته بقولهم أنه ظهر لمريم المجدلية بل كان ينتظر بالأولى أن يقال أنه أول ما ظهر لأمه أو لرسله.ولو كانوا كاذبين لما كانوا عندما يذكرون جسد ربنا المقام من الأموات يصفونه أنه لم يعرف عند ذويه ومعارفه وتلاميذه الذي عاشوا معه زمناً طويلا بل كنا ننتظر أن يقال أنه عرف ممن عاينوه لأولا وهلة. لأن الكاذب الغاش لا يتكلم كلاماً مثل هذا يوجد الشبهة بل لا ينتظر من الكاذب أن يذكر الشك الذي خامر التلاميذ في قيامة سيدهم ولا أن يصفهم بالغباوة وعدم الإيمان. فبالحق أن أناساً يصفون ذواتهم بمثل هذه الأوصاف لهم صادقون في ما يقررونه ولا شك أنهم قرروا ما اعتقدوا حقيقته لأنهم عاينوا يقيناً جسد ربهم ولمسوه بأيديهم وأكلوا وشربوا وتحادثو معه وسألوه أسئلة مهمة في انتظار أمة اليهود وما شاكل ذلك ولا يتسنى لأحد أن يأتي بشبه دليل على أنهم كانوا مغشوشين أو مخدوعين في ما رأوه بعد ما وضعت الأصبع في محل المسامير والحربة ولمسوا جسداً لا خيالاً وسمعوا صوتاً ألفوا سماعه ألوف المرات عدة سنوات.
بل يمكن أن يكذب الإنسان في أمر وهو بعيد عن الأبدية ولكنه لا يمتنع عن تقرير الحقيقة بتمامها وهو على حافة الموت. فلم يخف أحدهم من الموت ويرجع في كلامه الذي جاهر به مراراً متوالية لأن ما هو ربحهم وفائدتهم من ذلك الكذب حتى يجعلهم يستمرون عليه في كل الأحوال ولو جُردوا من أملاكهم وعُذبوا بأقسى أنواع العذاب؟
ومعلوم أنهم كانوا أناساً ضعفاء لا حول لهم ولا طول حتى أنهم لم يقدروا أن يعملوا شيئاً لمنع الصليب عن سيدهم بل بالحري تركوه وهربوا. فكيف يتسنى لهم بالكذب والخديعة أن يقنعوا العالم بأنه قام من الأموات؟ فلا نقدر إلا أن نقول أن اقتناعهم التام بقيامته جعلهم يجاهرون بها في كل الظروف. وكان لا بد أيضاً من أحاطتهم بقوة فائقة الطبيعة حتى أدوا الشهادة بكل جسارة وأدوها إلى المنتهى. نعم كما وعدهم ربهما المقام من الموت بتلك القوة من الأعالي هكذا نالوا وهكذا شهدوا. فلو لم يقتنعوا بقيامة ربهم الذي أراهم نفسه حياً ببراهين كثيرة بعد ما تألم وظهوره لهم مرات متعددة في مدة أربعين يوماً متكلما عن الأمور المختصة بملكوت الله آمراً إياهم بالأوامر اللازمة واعداً إياهم بإرسال الروح القدس، لما أمكنهم أن يفتحوا فمهم بكلمة أمام خصومهم وخصوم سيدهم ولماتت المسيحية في مهدها وهلكت على الصليب.
وفوق ذلك فإن الكرازة بالقيامة قد امتدت في نواحي العالم المملوء من العلم والعلماء وبشّر بها في رومية وأثينا وكورنثوس وغيرها من أمهات المملكة الرومانية مهبط العلم والفلاسفة. ومجاهرة بولس في كل مكان وتقريره في رسائله عن هذه الحقيقة الناصعة أعظم دليل على صدق أولئك الشهود. ولذلك آمن الكثيرون من جميع أصناف البشر في كل البلدان فآمن من الحكماء والأقوياء والشرفاء (1كو1: 26) وآمن من هم مثل أراستوس حاكم كورنثوس وديونيسيوس الأريوباغي في أثينا وثاوفيلس العزيز الذين لم يقبلوا المسيحية إلا بعد البحث والاستقصاء وبالأدلة القوية. فكل هذه الأفكار تبرهن لنا أن خبر قيامة المسيح من الأموات ليس هو خرافة أو قصة ملفّقة مخترعة، وتبرهن أيضاً أن رؤية الذي رأوه ليست من باب الخيال أو ألوهم ولا أن الذين رأوه رأوا روحاً بل جسداً لأن الروح لاترى بل يتبرهن أنه يقصد الجسد من كلام بولس الرسول نفسه لما قال أن المسيح مات ودفن وقام وظهر لصفا وغيره وله هو، لأن الروح لا تدفن. والنساء اللواتي ذهبن ليحنطن جسد الرب يسوع لم يجدن الجسد بل وجدن القبر فارغاً. ولا معنى للكلمة (قيامة) إن كان يقصد بها الروح بليكون معناها تاماً متى قيلت عن الجسد الذي كان مدفوناً في القبر.
وفوق ذلك فإنّا نجد الرسول يعمل مقابلة بين جسد داود وجسد المسيح فيقول إن جسد داود رأى فساداً أما جسد المسيح فلم ير فساداً مما يدل على أنه حذا حذو البشيرين في إيمانهم بقيامة جسد ربنا وأن جسده أخذ حياة وترك القبر، وآمن أيضاً بأنه لم يصر جسده كبقية الأجساد لكنه صار جسداً روحانياً له بعض صفات الأرواح على نوع ما (إلى حد محدود).
إنه ظاهر من كل الحوادث أن التلاميذ لم يكونوا منتظرين قيامة المسيح وأنهم اندهشوا منها. على أنهم تذكروا فيما بعد أنه كان قد أخبرهم عنها. وهذا يظهر ليس فقط من الاتيان بالحنوط ليحنطوه في صبيحة الأحد (وظاهر أنه لا يحنط سوى الأموات الباقين في قبورهم) بل أيضاً من كل الظهورات التي ظهر فيها المسيح لتلاميذه (ما عدا ظهوره على الجبل في الجليل) نرى أنها كانت غير منتظرة ولكنهم على رغم عدم انتظارهم قد تأكدوا أنهم رأوا الرب وحادثوه فعلاً لأنهم حينما كانوا منتظرين إرجاع المملكة لليهود سألوا المسيح: “هل في هذا الوقت ترد الملك " فأجابهم بأن ليس لهم أن يعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه.
إننا نعجب ممن يقولون أن ظهورات الرب لتلاميذه إنما كانت كأحلام في عقول أتباعه (المخرّفين) به، فلم تكن ظهورات حقيقية بل وهمية! ونقول هل يمكن أن الأحلام تتطابق مع الوقائع المذكورة في ظهورات المسيح؟ هل يمكن أن نتصور أن جاعات مختلفة تحلم ذات الحلم الواحد في وقت واحد؟ هذا لم يحصل مطلقاً، وهل يمكن أن أكثر من خمسماية شخص يحلمون حلماً واحداً أنهم تصورا رؤية المسيح بعد قيامته؟ وهل في الحلم يرى الجميع شخصاً مكلماً إياهم وهم سائلون إياه وهو مجاوبهم وجميعهم يأكلون ويشربون؟ هذا ما لا يسعه عقل عاقل. وهل يمكن أن يحلم رجلان ويمشيا في حلمهما عدة أميال إلى عمواس معاً ويتصورا وجود ثالث معهما وذلك الثالث ليس له وجود حقيقة ولا يعرفانه إلا بعد مدة طويلة عندما أخذ خبزاً وناولهما ثم اختفى ثم يقومان للوقت ويرجعان ليلاً إلى أورشليم ويقصان المسألة على التلاميذ.
أما الصعوبة التي تعترض المعترضين على صحة قيامة المسيح فهي عجز اليهود عن إبراز جسد يسوع لينفوا به ادعاء أتباعه مع أن المقبرة معروفة عندهم جيداً وقريبة منهم. بل لو كانوا عارفين أن تلاميذه سرقوه حقاً لكانوا قد قبضوا عليهم وحاكموهم ولكانوا هم المشتكين عليهم لدى الوالي ولطالبوهم بالجسد الذي سرقوه. أما كونهم تغاضوا عن هذه المسألة ولم يشتكوا العسكر للوالي كمتهاملين، ولم يشتكوا تلاميذ المسيح للحكومة كسارقين، فهذا دليل على أنهم هم أنفسهم كانوا مصدقين بقيامته. فكما كانوا مقرين بقوة معجزات المسيح التي جذبت الناس كلها وراءه في حياته (يو11: 47 و48 و12: 17- 19) كذلك كانوا مصدقين خبر إنبائه بقيامته حتى أنه لما قام لم يحسبوا هذا الأمر غير منتظر. بل يبان لي أن أعداء المسيح آمنوا بقيامته قبل أخصّائه، لأن رؤساء اليهود لم يشكّوا في كلام الحراس كما شك التلاميذ في كلام مريم المجدلية والنسوة وكليوباس ورفيقه وكما شكّ توما بعدما قال له العشرة أنهم رأوا الرب.
ونتأكد حقيقة المسألة من أمر واحد وهو أن الجسد كان مدفوناً في القبر وكان القبر مختوماً عليه بحجر كبير من الخارج، وحراس مخصوصون كانوا معينين لحراسة القبر، والحراس باتوا أمام القبر نفسه، ولكن لما طلب الجسد فإذا هو ليس بموجود. فمن يقدر أن ينقض هذا الفكر ويقول لنا أن اليهود عارضوا تعليم الرسل بقيامة يسوع الذي ملأ البلاد بأن كذّبوهم وأحضروا لهم الجسد الذي ادّعوا عليه بأنه قام؟
نعم إن القبر الفارغ وفشل كل المساعي التي سعىبها اليهود في تكذيب دعوى الرسل وغيرهم بقيامة يسوع كانا من الأسباب التي جعلت الرسل يعمّدون ثلاثة آلاف في يوم واحد ومن الأسباب التي نشرت المسيجية في كل مكان، لأنهم كانوا يكرزون دائماً بأن المسيح قد قام من الأموات وعلى هذه القيامة تأسست المسيحية وتأسست الكنيسة في كل زمان ومكان.
وماذا يقال عن ظهور المسيح لشاول الطرسوسي وهو في طريق دمشق؟ هل هو من باب الأوهام والخيالات؟ وهل الأوهام تعمي وتجعل الرجال المسافرين معه يقودونه بيده ويدخلونه إلى دمشق أعمى؟ وهل شاول الطرسوسي يتوهم بقيامة المسيح وبظهوره له وهو من ألد أعدائه والذي كان يمسك كل من يحصل عليهم من أتباع ذلك الطريق ويسوقهم للسجن؟ إن المدعين بتأثير الأوهام يقولون أن الآمال والأشواق تولد الأفكار. فلا آمال ولا أشواق كانت عند شاول لرؤية المسيح حتى ولّدت فيه الأوهام هذه. فأمامنا رجل عدو للمسيح- رجل ذو مواهب عقلية وسامية قد تجدد وآمن بواسطة ظهور المسيح له. فقيامة المسيح كانت السبب في إيمانه بل في إيمان جميع الذين بشرهم الرجل وآمنوا على يده وهم- كما هو معلوم- في جميع أنحاء المسكونة من اسبانيا غرباً إلى الأناضول شرقاً.
وقد ارتأى بعض المعارضين في أمر قيامة المسيح آراء حديثة وهي إن الرسل رأوا رؤى بطريقة عجيبة عملها الله معهم ليقنعهم بالاستمرار في الكرازة بالإنجيل مع أن هذا الفكر لا يقل فساده وبطله عن كل الأفكار الأخرى إن لم يكن أشر منها. إذ كيف يتصور أن الله جلّ جلاله يضلل تلاميذه ويجعلهم يفتكرون أن جسد المسيح قد قام من القبر ولم ير فساداً ويجعلهم يكرزون بذلك للناس بينما هو فاسد في القبر؟ فإن كان الله يعمل معجزة أو عجيبة مثل تلك الرؤى التي أراها لرسله فينتظر ان يقنع بها عما هو حق وصدق وليس عما هو نفاق وكذب.
وظن البعض أن المسيح لم يمت حقاً بل أغمي عليه فقط وأنه لما أنزل ووضع في القبر أفاق وصحا وخرج من القبر. والغريب أن الناس يرمون القول جزافاً غير متأملين في ما يقولون. فلننظر إلى هذه الأقوال التي ظهر فيها التعسف الكاذب. فإن هذا الحكم (بالإغماء) كان أولى أن يقوله حرّاس الصليب لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم في هذا الأمر إذ هم متعوّدون كثيراً على صلب المجرمين. ويسوع ليس هو أول من صلب في الحكومة الرومانية، بل صلب ألوف قبله. فأولئك الحراس حكموا أنه مات، ولذلك لم يكسروا ساقيه، بل أن قائد المئة الذي أرسله بيلاطس الوالي لتدبير مسألة الصلب وتنفيذها ومراقبة المصلوبين والتأكد من موتهم قد أقرّ بموته. ونيقوديموس ويوسف الرامي اللذان كفناه ودفناه لو كانا قد لاحظا فيه أية علامة للحياة لكانا قد أخذاه حياً بدون دفن وأيقظاه في البيت سيما لأن بعض النساء من معارفه كن موجودات آنئذ وعرفن أين دفن حتى يأتين ويحنطنه. بل أعداؤه اليهود تأكدوا من موته حتى طلبوا حراساً من بيلاطس ليضعوهم على القبر. ثم إن الحراس حرسوا القبر. فكيف خرج المسيح إذاً من القبر؟ فإن المسألة لا تحتمل أقل تصديق من هذه الوجهة إلا إذا قلنا أن الحراس ارتشوا حتى لا يقبضوا عليه وهو خارج من القبر!
ومن الذي رشاهم يا ترى؟ فلا يمكن لأحد أن يرشوهم إلا إذا كان عارفاً بأنه لم يمت حقاً وأنه لا بد من إفاقته في القبر وخروجه. وبطلان هذا واضح مما ذكرنا إن لم يكن يسوع نفسه هو الذي رشاهم أو يكون في القبر " ضربخانة " نقود رشا منها المسيح أولئك الجند. وإلا فنقول أن خروج يسوع من القبر بعدما صحا كان رغماً عن الحراس، والحراس لم يقدروا أن يمنعوه، وحينئذ تكون المسألة فيها تدخل قوة فائقة الطبيعة. فمهما قبلنا المسألة يثبت لدينا سخافة عقل القائلين بهذا الفكر عن الإغماء.
فضلاً عن أن طعن جنب المسيح بالحربة وخروج دم وماء منه كاف لموته لأنه كان يظهر واضحاً أن الحربة قد اخترقت غشاء القلب المملوء بالماء واخترقت القلب المملوء بالدم. ومن يقدر أن يقول أن إنساناً مضنى مصلوباً مسفوكاً دمه فوق الصليب مطعوناً قلبه بالحربة مدفوناً في قبر بارد- من يقدر أن يقول أن إنساناً كهذا يقوم بعد موته بصفة كونه مغمى عليه؟ وهل المغمى عليه يمكنه أن يخلّص نفسه أولاً من الكفن المحبوك به واللاصق بجسمه بسبب مائة المنا من المر والأطياب التي كفّن بها، وثانياً من القبر المغلق بحجر كبير ختم على فمه، وهذا الحجر وضعه الأعداء المتخوفون من قيامته أو من سرقة تلاميذه له فصار غير ممكن أن يدحرج الحجر من الداخل، ولا يدحرج من الخارج إلا بكل مشقة، وثالثاً من عيون الحراس الضابطين للقبر بوصية خصوصية وهم متخوفون من سرقة تلاميذه له. بل ويجب أن نلاحظ أن الأكفان وجدت في القبر ملفوفة كما كانت على الجسم (لأن هذا هو معنى الكلمة "موضوعة" المعبّر بها عن حالة الكفن) والجسم ليس داخلها فكأنها ناطقة بأن الشخص الذي كان ملفوفاً بها خرج منها بطريقة غير عادية وبقوة فائقة الطبيعة. فلم يوجد الكفن ممزقاً أو مبعثراً كما لو كان المكفّن به قد قام بحيلة من الحيل بل وجد بإلهيئة التي كان ملفوفاً بها على الجسم بدون حل أو فك. فكل الأخبار التي ذكرها البشيرون، وكل ما يمكن العقل أن يستخلصه، جميعها تؤيد أن المسيح قام حقاً من الأموات بقوة إلهية فائقة. ولا يصرّ على إنكار حقيقة قيامته إلا المنكر لله تعالى والمنكر لكتابه المقدس.
ثم نختم هذا القسم بالقول أن الديانةالتي أسسها يسوع المسيح يوجد فيها تعاليم تشترك فيها أديان أخرى من أديان العالم. وتلك التعاليم إما روحية (أي المختصة بالعلاقة الكائنة بين الله والإنسان) وإما أدبية (أي المختصة بالعلاقة الكائنة بين الإنسان وبني جنسه). أما الحقائق التي تمتاز بها المسيحية عن غيرها من الأديان فكثيرة وأخصها القيامة من الأموات. فإن هذه الحقيقة هي مسيحية على نوع خاص. نعم يوجد على نوع ما في الأديان الأخرى أفكار عن خلود النفس، لكنها غير واضحة كما يجب. فديانة المصريين القدماء تبين أن النفس تعود فتتحد مع الجسد المعاذ ثانية إلى الحياة، كما نتعلم ذلك من عادة التحنيط عندهم ومن تحنيطهم الأجساد بعناية تامة وصرفهم عليها مصاريف باهظة وتشييدهم أهراماً وقبوراً فخمة جداً لدفن أجساد موتاهم، وكما يظهر من تعاليمهم الواردة في كتابي " الموتى ". ولكن لا يوجد في تعاليمها نظير ما يوجد في المسيحية عن القيامة سواء أكان في الكثرة أوالصراحة أوالقوة المرافقة لها. ولا يوجد في دين من أديان العالم توضيح عن القيامة يذكر بجانب ما أوضحه بولس الرسول في الأصحاح الخامس عشر من كورنثوس الأولى عن الجسد المقام والحياة التي له في القيامة. وهنا نلاحظ:
1- إن غرابة القيامة ليست بأعظم من الغرابة في كثير من الحوادث التي تتكرر كل يوم. فإن الولادة مثلاً هي أغرب وأعجب من القيامة رغماً عن تكرارها وحدوثها كل يوم، لأن إيجاد حياة جديدة هو أغرب بكثير من إرجاع حياة وتجديدها. فلو كانت القيامة تكرّر كل يوم كالولادة لكنا نجد أن الولادة أغرب كثيراً من القيامة.
2- لكن مع عدم تكرار حدوث القيامة فهي معقولة- لأنه لماذا قد حدثت قيامة واحدة في تاريخ العالم كله من أوله إلى آخره؟ السبب هو أنه لم يظهر في التاريخ سوى مسيح واحد. فالقيامة كانت طبيعية وضرورية للمسيح الواحد، كما أن الموت هو طبيعي وضروري لنا- فإن كمال قداسته وبنوته الممتازة لله يجعلان قيامته ضرورية ويجعلان رؤية جسده فساداً أمراً مستحيلاً. وإذا كان ابن الله أخذ جسداً حقيقياً فأيهما أكثر احتمالاً وأكثر معقولية- الاعتقاد بأن جسده لم ير فساداً أوالاعتقاد بأن جسده مات موتاً أبدياً لا قيامة له؟
3- لو وُجد مسحاء كثيرون وواحد منهم فقط قام من الأموات أما البقية فرأوا فساداً لكان يسوغ لنا القول بأن قيامة هذا المسيح هي ضد ناموس الطبيعة الساري على كل المسحاء. لكن مادام لم يوجد سوى مسيح واحد فلا محل لذكر ناموس طبيعة بخصوصه، بل يجب أن يكون الحكم على ما حصل معه شخصياً.
4- وماذا تكون النتيجة من إنكار قيامة المسيح؟
تكون النتيجة أن المسيحية مؤسسة على الكذب والخداع، وأن المسيح ورسله خادعون وكاذبون، وأن الله ساعد الكذب وانجح مساعي الكذابين الخادعين وبارك في الديانة المؤسسة على الكذب وجعلها تسود على كل العالم ! فهل توافق هذه الأقوال مع بعضها؟! بالطبع لا.
إننا نرى الكفرة أنفسهم يشهدون في كتاباتهم بقداسة المسيح، وكلهم عند ذكرهم إياه يقولون عنه "الذي إذا كان يصح أن نسميه إنساناً مقرّين بذلك أنه لا يليق أن يسمى المسيح إنساناً فقط لأن عيشته ومبادئه وأفعاله تفوّقت تفوّقاً جماً عن الإنسان.
ثانياً: ما هي الفوائد التي للمؤمنين من قيامة المسيح
إننا لسهولة المراجعة نجعل هذه الفوائد على ثلاث درجات: الأولى فوائد قيامته للمؤمنين في هذه الحياة، والثانية فوائدها لهم عند الموت، والثالثة فوائدها لهم في الأبدية.
فعن الأولى نقول: إن قيامة الرب يسوع تبرهن للمؤمنين تبريرهم وتختم عليه لأن المسيح " أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا " أي أنه مات لأننا خطاة وقام لأننا تبررنا فيه. فلو لم يقم الرب من الأموات لكنا بعد في الخطيةـ جرمها وفسادها وعقابها- لكن قيامته تبرهن لنا أن الله رضي بكفارته عنا وقبل موته لأجلنا ولذلك كان لا لزوم لبقائه تحت الموت ما دامت الغاية من موته قد تمت.
بل الاعتراف بقيامة الرب يسوع هو واسطة فعالة للخلاص (رو10: 9) وذلك لأنها آخر حلقة من السلسلة التي بانفراطها تنفرط البقية. فلما نؤمن أن المسيح قام نؤمن بموته ضمناً. وإذا آمنا بقيامته نؤمن أنه بها قد أظهر أنه ابن الله (رو1: 4). وإذا آمنا بموته وهو ابن الله نسأل: لماذا مات وهوابن الله؟ فيكون الجواب: أنه مات ليس لأجل نفسه بل لأجلنا نحن. وإذا كان هو ابن الله فكيف مات والله لا يموت؟ عندئذ يكون الجواب: إن ابن الله اتخذ لنفسه جسداً ونفساً ناطقة بقوة الروح القدس من مريم العذراء المباركة ليضع نفسه فدية عن الإنسان لأنه " إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في إلهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (في 2: 6- 8). فابن الله إذ احبنا وقصد خلاصنا ووجد أن خلاصنا غير ممكن إلا بإيفاء حق العدل الإلهي القاضي على الإنسان بالموت أخذ ناسوتاً لكي يموت ويفي العدل الإلهي حقه وبذلك نكون قد جررنا السلسلة بتمامها بواسطة جر حلقة القيامة.
ثم إن قيامة الرب يسوع توجد عند المؤمنين الطمأنينة والصبر والمثابرة على إتمام الواجبات، لأن المسيح المقام- الذي يحيا في المؤمنين به- هو المثال الوحيد الذي لا يرجع عن إتمام الواجبات مهما قاسى من الأتعاب والأخطار والاضطهادات. فبسبب قيامة المسيح يستعد المؤمنون لمقابلة الصعوبات التي تصادفهم في حياتهم المسيحية، ويحتملون الصليب بكل شكر وصبر عالمين أنه كما أقيم الرب يسوع سيقومون هم أيضاً ويظهرون معه في المجد نائلين الأكاليل المعدة لكل من تعب لأجل اسمه. وعليه يقول الرسول " إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (1كو 15: 19). " ولماذا نخاطر نحن كل ساعة؟ إني... في يسوع المسيح ربنا أموت كل يوم.إن كنا إنساناً قد حاربت وحوشاً في أفسس فما المنفعة لي؟ إن كان الأموات لا يقومون فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت” (1كو 15: 30- 32).
وبقيامة الرب يسوع قد أقمنا من موت الخطية ونلنا الروح القدس وكل بركاته. لأنه ما دام يسوع قد مات لأجل خطايانا فنحسب أننا متنا معه ولذلك نكو قد قمنا معه بقيامته وصرنا أحياء معه فلا تتملّك الخطية علينا إذ نكون " قد صلبنا الجسد مع الأهواء والشهوات " ويكون قد "مات الذي كنا ممسكين فيه " فنعيش عيشة سعيدة في " جدة الحياة " متهللين مع الرسول الذي كان يتغنى مبتهجاً قائلا: “أقامنا معه وأجلسنا معه في السموات ".
بل لنا بركة عظمى من قيامة المسيح وهي الاقتيات به لأن حياتنا فيه تستلزم حياته فينا لأننا لا نقدر أن نسكن في الله إلا بسكناه فينا. وهذا هو الامتياز العظيم الذي ميز الله الإنسان به.فإن كان المسيح قد مات ولم يقم فكيف يحق القول أنه يحيا فينا؟ ولكنه قال وقوله الحق " إني أنا حي فأنتم ستحيون. في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم” (يو14: 19 و20)، وقال أيضاً " والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين” (رؤ1: 18).
فحياة المسيح المقام من الأموات أوجدت قربى بينه وبيننا ليس بعدها قربى. وهذه القربى منحصرة في قوله " إليه نأتي وعنده نصنع منزلاً وقوله " أنتم فيّ وأنا فيكم ". فالمسيح الحي يسكن في شعبه، وهذا هو سر قيامة المسيح، لأن صيرورتنا فيه هي تبريرنا وتقديسنا وفداؤنا. فكيف يسكن المسيح في شعبه ويحييهم إن كان مجرد إنسان؟ ألا ترى أن حياة المسيح المقام في شعبه وسكنه فيهم مع أبيه السماوي تبرهن على لاهوته؟
أيضاً ألإيمان بقيامة المسيح يؤكد لنا الاعتقاد بقيامة الذين يموتون فيه. لأنه إن كان المسيح لا يزال في القبر فلا حياة للذين فيه، ويكون جميع الذين رقدوا فيه قد هلكوا (1كو15: 18). ولكن ما دمنا نؤمن أن المسيح مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيقومون أيضاً في مجيئه الثاني. وسنتقابل مع أعزائنا وأحبائنا في ذلك اليوم السعيد، وهذا هو عامل قوي لتعزيتنا في هذه الحياة عن موت المؤمنين فلا نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم.
والثانية فوائد قيامة المسيح للمؤمنين عند الموت:
معلوم أن أكرب ساعة تمر على الإنسان في هذه الحياة هي ساعة الموت، لأنه عدا عن الآلام التي يكابدها من فراق روحه لجسده، وعدا عن أفكاره المتألمة من فراق ذويه وأهله وأصدقائه وكل ما اقتناه وتعب فيه في هذه الأرض وعدا أفكاره التي تنصب في مقابلة ربه الذي سيدينه عن كل فكر وقول وعمل صدر عنه في هذه الحياة، ففي تلك الساعة الرهيبة تصطف خطاياه أمام عينيه. وأن كان قد تغاضى عن شناعتها طول حياته لكن في تلك اللحظة تظهر له شناعتها كما هي فير أنه قادم إلى إله عادل منتقم وجبار. فما أمرّها ساعة، ساعة سلطان الظلمة المملوءة من الخوف والجزع والفزع والاضطراب الذي ليس بعده اضطراب! فلا تهون تلك الساعة إلا على من عنده كمال الثقة بغفران خطاياه، ويعلم أن كل دينه قد وفي إلى التمام، وأنه منطلق لمقابلة إله محب ليس منتقماً جباراً بل هو أب رحيم شفوق وأن السماء التي كانت مقفلة أمامه لأنه لا يستحق أن يلجها بسبب ذنوبه إذ " لا يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً ترى مفتوحة أمامه إذ قد اغتسل وتطهّر وتقدّس من كل ما يمنعه من دخولها.على مثل هذا فقط تهون تلك الساعة الرهيبة ساعة الموت.
فمن هو ترى ذلك الإنسان الذي يوجد فيه هذا الاطمئنان في تلك الساعة المخوفة؟- هو الذي آمن بحمل الله الذي رفع خطيته، الذي جرح من أجل معاصيه، وسحق من أجل آثامه، ذلك الإنسان الذي وأن كان قد ضلّ عن الله كشاة عن راعيها ومال إلى طريقه الشريرة مرات لا تحصى لكن يوجد واحد وضع عليه كل إثمه وجعل نفسه ذبيحة إثم لأجله فحمل خطيته وشفع فيه. وإذ تبرر بالإيمان به نال سلاماً مع الله، وإذ آمن به إيماناً قلبياً فقد انتقل من الموت إلى الحياة ولا يأتي إلى دينونة لأن بديله وفاديه قد دين نيابة عنه وقد محا الصك الذي كان عليه. وهذا جميعه يعني ذلك الذي آمن بأن يسوع المسيح قد مات لأجل خطاياه واحتمل ذنبه وقدم نفسه ذبيحة إثم لأجل آثامه. أما لو كان المسيح قد مات ولا يزال ميتاً فحينئذ لا يوجد وجه يتبرهن به تمام الغفران وقبول ذبيحته للتكفير عن الخطايا. ولكن إذ قام المسيح من الأموات فهذا أعظم دليل على أن ذبيحة المسيح قد قبلت لدى العدل الإلهي وعليه يقول الرسول بولس في (1كو15: 17) " إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم. أنتم بعد في خطاياكم ". فالذي يطمئن قلب الإنسان الطمأنينة الكاملة بغفران خطاياه إلى التمام ومصالحته التامة مع الله ليس هو سوى إيمانه بقيامة الرب يسوع من الأموا إذ أنه أقيم لأننا تبررنا. وليس ذلك فقط بل حياة المسيح بعد موته تعطيني الحياة أنا الميت بالذنوب والخطايا كما رأينا في ما مر. قال يسوع " أنا أمضي لأعد لكم مكاناً وأن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إلي ّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً، وقد صلى قائلاً: " أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون "، ووعد أيضاً أن يعطينا روحه القدوس كعربون لميراثنا الأبدي. وعليه يقول الرسول " الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو8: 16 و17). فتكون قيامة المسيح إذاً مؤكدة للميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ لنا في السموات. فعند الموت نتيقن أن ستحملنا الملائكة إلى حضن المسيح ونكون معه في الفردوس ونرث ميراثنا الذي أخذنا عربونه في هذه الحياة فنقول "في طمأنينة تسكنني".
وليس ذلك فقط بل ما يزيدنا طمأنينة عند الانتقال من هذه الحياة هو أن جسدنا الذي هو عزيز جداً علينا والذي استخدمناه في خدمة ربنا في هذه الحياة وبذلناه في محبته وقدمناه ذبيحة مقدسة مرضية عند الله سيأتي يوم فيه يعتق من عبودية الفساد ويصير جسداً روحانياً غير قابل للوجع والألم والحزن أو الجوع والعطش والعري ولا يتعرض للفساد والموت ثانية. وأن ذلك يتم له في القيامة في اليوم الأخير. وما يؤكدللإنسان المائت هذه القيامة ليس إلا قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات. فإيماننا بأن المسيح هو باكورة الراقدين يؤكد لنا أننا نحن الذين للمسيح سنقوم في مجيئه الثاني (1كو15: 13) "المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئه"
فالموت ليس موتاً أبدياً بل هو رقاد بعده استيقاظ وحياة سعيدة خالدة لا تموت أيضاً. ولأن المسيح وشعبه هم واحد فكما سيقومون إذ أنه كما سقط كل الجنس البشري في آدم عندما أخطأ لأنهم جميعاً واحد فيه هكذا سيقوم ثانية كل المؤمنين بالمسيح لأنهم واحد فيه- أنه حي فهم سيحيون " كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع ". فبقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لنا مصدر جديد بل أساس جديد للحياة. فإن الروح الذي فيه بدون كيل قد قسمه لنا نحن أعضاءه لكي يقدسنا ويقيمنا أجساداً روحانية ويحفظ لنا الحياة الحقيقية حتى أننا بذلك الروح نقوم ثانية ونحيا بروحه الساكن فينا. ولذلك نرى الرسول يقول في (رومية 8: 11) " إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم ". فقيامة الرب يسوع ليست فقط عربوناً لقيامتنا بل هي قيامتنا إذا كنا له، وجسده المقام نموذج لما تصير عليه أجسادنا. وما دمنا فيه فنحن جزء من جسده. فكل هذه الحاسيات الناشئة عن الإيمان بقيامة المسيح الذي مات من أجل خطايانا تهون علينا تلك الساعة الرهيبة وتجعلها فقط كعبور من حياة الشقاء إلى حياة السعادة. ولذلك تنفتح عينا المؤمن بنعمة المسيح الخصوصية التي يعمل بها في قلبه في تلك الساعة الرهيبة فيرى الأمجاد المعدة له فيه، بل يرى المسيح نفسه قائماً عن يمين الله فاتحاً أحضانه ليرحّب بقدومه إليه كما يفعل الحبيب عند قدوم حبيبه. فينقلب الخوف إلى طمأنينة والفزع إلى سلام. ومن ذلك تصدر العبارات المفرحة التي قرأناها عن المؤمنين المنطلقين من هذه الحياة. فمنهم من قال " الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام " ومنهم من قال " ها أنا أنظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله. أيها الرب يسوع اقبل روحي " وغير ذلك من العبارات الدالة على الثقة والطمأنينة بيسوع المسيح صاحب ذلك الموطن المنتقلين إليه ورب بيتهم الأبدي.
والثالثة فوائد القيامة للمؤمنين في الأبدية
إن المسيحيين يؤمنون أنه حال موتهم تنتقل أرواحهم وتكون مع المسيح (لو16: 22، 23، 43، في1: 23، مز73: 24)، أما أجسادهم فترجع إلى التراب إلى أن يأتي المسيح ثانية فيحضر معه أرواحهم من السماء وتنفخ الملائكة بالأبواق فتقوم أجسادهم عديمة فساد وتلبس أرواحها المكملة، والأحياء يتغيرون إلى جسد روحاني نظير جسد المقامين من الموت ثم ينقلهم معه أناساً كاملين ممجّدين في مركبات من السحاب إلى السماء وهناك يتمتعون بالسعادة والمجد إلى أبد الأبدين (راجع 1تس 4: 13- 17 الخ).
وأساس هذا الإيمان هو موت المسيح وقيامته كما يقول الرسول في 1تس4: 14 " إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضاً معه ". فإن لم يكن المسيح قد قام من الأموات فلا توجد أبدية سعيدة لأنهم بالطبع لا يقومون كما ذكرنا آنفاً وتشقى الأرواح بعذاب الخطية لأنهم لم يخلصوا منها.ولكن يوجد فرح عظيم للمؤمنين بالرجاء أنهم سيقومون ثانية بمجيء المسيح المقام ونكون معه كل حين ونراه كما هو ونكون مثله ونفرح به ونتمتع به إلى الأبد، ويكون هو ومحبته وخلاصه الكامل من الخطية وفسادها وعقابها موضوع فرحنا وسعادتنا إلى أبد الآباد.
قلنا أن القيامة مؤكدة عند المؤمنين بسبب قيامة ربهم الذي مات لأجل خطاياهم. فأولئك الذين يعتقدون بها من غير المؤمنين- ولا أدري كيف يؤمنون بها!- نعم إن اعتقادهم بها من باب المجاراة جعلهم لا يفهمونها ولا يفهمون فوائدها ولا يعرفون شيئاً عن النصيب المعد من المسيح للذين يقومون فيه.
وسر سعادتنا هو أن المسيح إذ دين لأجلنا وحمل ذنبنا ووفى ديننا وختم على ذلك بقيامته من الموت فلذلك لا نأتي إلى دينونة لأن الديّان الذي يجلس على عرش القضاء في يوم الدين هو ذات الرب يسوع المقام من الأموات (يو5: 22، أع10: 42، رو8: 13 و14: 10؛ 2تس1: 1- 10؛ 2تي4: 1؛ راجع متى 25: 31- 36 ورؤ22: 12)، ولذلك هو يعرف الذي هم له وأنهم أحياء فيه فلا يأتون إلى دينونة. أما أولئك الذين لم يقبلوه كابن الله الذي ذبح لأجلهم وقام لأجلهم فيقول لملائكته إيتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي.
ثم إن المسيح المقام سيكمل الذين هم له في الأبدية. فهم الآن يعرفون بعض المعرفة، ولكن هناك يعرفون كل شيء. وهنا تنتابهم الضعفات المتنوعى ويغلبون على أمرهم مراراً كثيرة لأنهم في عالم النقص والحزن، ولكن هناك لا يوجد شيء مما يكدّر صفو أبديتهم، بل ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه.
ثالثاً اعتبارها كدليل على لاهوت المسيح
إن المسيح في حياته على الأرض قال عن نفسه مراراط كثيرة أنه ابن الله، قولا عدّه خصومه أنفسهم أنه يقصد به مساواة نفسه بالله، وعليه حسبوه مجدّفاً وبنوا على ذلك أنه غاش لا ينبغي أن يسمع كلامه. ومع أنه عمل عجائب كثيرة ليبرهن لها على لاهوته- فقد قال مرة للمتعصبين أنه لا تعطى لهم آية إلا آية قيامته لأنها في نظره أهم بل أعظم كل الآيات والمعجزات التي عملها- فقيامته برهنت على أن كل المعجزات التي عملها لما كان على الأرض عملها بسلطانه الإلهي لأنه لو كان كاذباً في دعواه أنه ابن الله لما أمكن أن يقوم من الموت. فقد أظهره الله أنه ابنه وشهد بأبوته له لأنه أقامه من الأموات مبرهناً بذلك على أنه رضي بكفارته التي قدمها عن خطايا البشر وبالتالي على أنه لم يتألم لأجل نفسه بل لأجل شعبه، الأمر الذي لا ينتظر حدوثه إلا من قبل ابن الله.وعليه يبني الرسول قوله: "تعيّن (أظهر) ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4).
ومن قوله " بقوة " نفهم أنه لا يعني قوة المسيح التي بها عمل المعجزات بل بالحري قوة طبيعته الإلهية التي بها غلب الموت وكسر شوكته وقام منتصراً.وإن تلك القوة الإلهية التي له هي بعكس ضعف طبيعته الناسوتية التي بها احتمل الموت (2كو13: 4). ونلاحظ أن الرسول يعقبها بقوله " من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات ". فقوله من جهة روح القداسة يبيّن أن روحه الإلهي الذي فيه هو الذي حفظ ناسوتيته طاهرة قدوسة بحيث لم يعادله أحد من البشر. فقداسته الكلية دلّت على صدق بنوته لله وعلى أصل عظمته الشخصية وسمّوه.
إنه من الأمور المشهورة والمقررة عند العلماء في هذه الأيام مسألة الوراثة. فأخلاق الآباء والأجداد تظهر في أولادهم. وعدا عن كون هذه الحقيقة مثبتة علمياً فإنها مشاهدة بكثرة لدى كل متأمل. نعم توجد أخلاق اكتسابية يأخذها الإنسان بالمعاشرة أو من الوسط الذي يوجد فيه، لكن تلك الأخلاق الاكتسابية لا تلاشي الأخلاق الوراثية. فكورش الفارسي، مع أنه رضع من امرأة راعي مواش وتربّى في كوخ ذلك الراعي، لكنه لما صار غلاماً لم يسر بألعاب أولاد الفلاحين الاعتيادية، ولذلك شخص مملكة بوزرائها بقوادها بجيوشها بقوانينها مما دل على أنه ابن كمبز ملك الفرس وابن بنت ملك بابل وليس ابن الراعي الفلاح. وعلى ذلك نقول: ممن أخذ يسوع فلسفته وتعاليمه الغريبة؟ فيوسف مربيه كان نجاراً، وهو نفسه لم يتلق العلوم على أستاذ، ولم يجلس تحت رجلي غمالائيل، وفلسفة اليونانيين والرومانيين الشائعة في ذلك الوقت لا يوجد فيها ما يماثل تعاليم المسيح كما ظهر بالبحث والتدقيق. بل لم يقم على الأرض من بداءة وجود إنسان إلى اليوم من علّم نظيرها. ثم لاحظوا مبدأ آخر من جهة روح القداسة. فإننا كلنا نقول: “بالآثام صوّرنا وبالخطية حبلت بنا أمهاتنا "، ولم يقم في البشر من أول الزمان واحد خال من الخطية. فممن من الأجداد أخذ يسوع طبيعته القدوسة؟ وممن أخذ قوة إبداع المعجزات وعمل العجائب العظيمة ما دام لم يقم في الأرض من يذكر بجانبه؟ كذا الوسط الذي وجد فيه يسوع وتربى بين أبنائه هو أمة مستعبدة للرومانيين مهانة جاهلة للعلوم التي كانت شائعة بين العلماء والفلاسفة، ومع ذلك نجد أنه من حداثته كان يناقش علماء اليهود ويباحثهم حتى بهت كل الذين سمعوه، وأصمت كهنة اليهود وكتبتهم وفريسييهم مرات عديدة مع تصلّفهم وكبريائهم حتى لم يعودوا يجسرون أن يقفوا أمامه.والمبادىء التي علّم بها لم يسبقه إليها أحد، ولا يمكن تصور أسمى وأنقى منها في الدين والآداب كما شهد بذلك أعاظم رجال العالم من أعداء وأصدقاء. فقولوا لي ممن من الأجداد أو من أية بيئة أخذ يسوع تلك الطهارة والقداسة في العيشة والتعليم؟ لا يقدر العقل المخلص أن يجيب على هذا السؤال جواباً لا يقبل النقض إلا إذا قال أن المسيح ليس مجرد إنسان بل هو أسمى من الإنسان. نعم قد قال وقوله الحق "أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم. أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق " " أنا من عند الآب خرجت " " أنا ابن الله " و" الله أبي "، وقاليوحنا المعمدان " أنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (ولكي تفهم بنوة المسيح لله راجع الباب التاسع). فكما أن ابن الإنسان إنسان كذلك ابن الله هو الله، فهو ابن الله الأزلي وابن العلي وكلمة الله.
معلوم أن ألإنجيل مؤسس على كون يسوع الناصري هو ابن الله. والذي يميّز المسيحية عن غيرها من الأديان هو الاعتقاد بلاهوت المسيح. على أن توراة اليهود مملوءة من تسمية المسيح المنتظر منهم (واسمه غصن داود وغيره) باسم " يهوه " الاسم العلم للعزة الإلهية عندهم.
نعم من الممكن أن نقول عن المسيح أنه ابن الله من أوجه عدة:
1- من جهة كون جسده الناسوتي لم يؤخذ من زرع بشر بل حبل به بقوة روح الله.
2- نظراً لمشابهته لله في العمل إذ كان يتمم أعمال الله (يو4: 34).
3- نظراً إلى السلطان على كل شيء في السماء وعلى الأرض الذي دفع إليه عند صعوده. لكن المسيح يسوع هو ابن الله ليس بمعنى من هذه المعاني بل بمعنى أنه هو الله نفسه كما ذكرنا. فهذه الحقيقة الساميةكان يجب أن تبرهن ببرهان قوي وتثبت بأدلة متينة، ولذلك رأى في حكمته أن يبرهنها بالقيامة من الأموات. وربّ قائل يقول: كيف يمكن لقيامته التي تستلزم موته ضمناً أن تبرهن على وجوده منذ الأزل كالله، والله لا يموت؟
فنجيب:
1- إن المسيح في حياته كان يقول عن نفسه أنه ابن الله وأن ما يعمله أبوه يعمله هو أيضاً بل أنه عامل في الكون مثل أبيه وادعى لنفسه الألقاب الإلهية والصفات الإلهية وقبل لذاته العبادة الإلهية. فلو كان مدعياً كاذباً لما أمكنه أن يقوم من الأموات إذ أن الله لا يعمل معجزة كهذه مع شخص خادع غاش يسلب حقوق الله لنفسه. فكأنه بقيامته قد ختم على صدق مطالبه التي ادعى بها في حياته.وفوق ذلك فإن تعاليمه التي علّم بها والمبادىء التي قررها هي سامية سمواً إلهياً.
2- إن قيامته من الأموات هي بقوته الذاتية، كما أشار إلى ذلك مراراً في كلامه، فقال لليهود " انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (أنا) " وكان يقول عن هيكل جسده " وقال مرة " لي سلطان أن أضعها (نفسي) ولي سلطان أن آخذها أيضاً (أي ثانية). فمن ذا الذي يقدر أن يقيم جسده من بين الأموات سوى الله الذي لا يموت؟
فعلى كل حال قيامته من الأموات تبرهن على أنه ليس مجرد إنسان بل أنه هو الله الذي أخذ ناسوتاً واتحد به.
ولكي نوضح الفكر من وجهة أخرى نقول: إن كل معجزات المسيح عملت قبل موته؛ ولكن لو لم يقم من بين الأموات لما كان لتلك المعجزات التأثير المطلوب، ولما كان معنى لكرازة خدامه بالإنجيل، ولما كان الإيمان به إيماناً نافعاً بشيء، بل لكان سقط معنى الإنجيل (بشارة مفرحة) من أوله إلى آخره، بل لكان دفن الإنجيل معه في ذات القبر الذي دفن فيه، وبالتالي كانت دفنت المسيحية في القبر ذاته، وذلك لأن القيامة هي التي جعلت أتباعه الجبناء شجعاناً أقوياء، وهي التي جعلت أولئك العاميين العديمي العلم يحيّرون العلماء والفلاسفة " ويقلبون المسكونة " كما شهد بذلك أعداؤهم (أع 17: 6) مع أنهم فقراء ومزدرى بهم وليس لهم جاه ولا سطوة ولا ملك منظور يحامي عنهم ولا سيف يدافعون به بل بالعكس كان كل الحكام والولاة ضدهم. وقيامته أوجدت الشجاعة في نفوس الشهداء حتى قبلوا أصعب الاضطهادات وأمر الميتات وهم واثقون بها بل وهم فرحون بالعذاب لأجلها. فالإيمان ليس هو سبب القيامة بل القيامة هي الموجدة للإيمان. وعليه نقرأ 24 مرة في سفر الأعمال فقط أن الرسل كانوا يكرزون بقيامة المسيح من الأموات، والذين آمنوا بالمسيح آمنوا بكرازة قيامته من الأموات. فهي واسطة وجود المسيحية في العالم، والمسيحية تعلّم أساسياً أن المسيح هو الله فتعليم القيامة يبرهن لاهوت المسيح.
هذا ولا يخفى أنه توجد علاقة حية بين تعاليم المسيح وبين قيامته. فلا تؤخذ قيامته كبرهان فقط على صدقها بل أنها أعظم دليل على قدرته على إتمام وعده لتلاميذه بإرسال الروح القدس ليعدّهم للكرازة بإنجيله وقدرته على إقامة الذين يؤمنون به في اليوم الأخير حسب وعده. وظاهر أن الميت لا يقدر أن يقيم ميتاً، ولا يقدر أن يعطي الروح القدس محيي النفوس. ومعلوم أن إرسال الروح القدس وإقامة المؤمنين في اليوم الأخير هما الركنان العظيمان في كل تعاليم المسيح.
لاحظوا أن اليهود اجتهدوا أن يفنّدوا معجزات المسيح التي عملها وهو على الأرض بنسبة بعضها لقوة شيطانية وبعضها للسحر. ولكنهم رأوا أن قيامته تبرهن ولا شك على تداخل قوة إلهية فيها، ولذلك لم يجتهدوا أن ينسبوها لقوة من القوات الطبيعية أو الشيطانية بل نفوها بتة وقالوا أنه لم يقم بل سرقه تلاميذه. فعملهم هذا برهان على أنهم رأوا في قيامة المسيح أعظم دليل على القوة الإلهية وأعظم برهان على صدق قوله تحت القسم باسم " الله الحي " أنه " المسيح ابن العلي ". فإن كانت قيامة المسيح لا تقنع الناس بلاهوته فلا يمكن الاتيان بدليل أقوى منها لاقناع العالم. والذي يؤمن بواسطة قيامة المسيح من الأموات فلا يؤمن ولو قام هو نفسه من الموت. فما أعظم نصيب المؤمنين بمسيحهم المقام من الأموات!
الصعود
لنلاحظ هنا أمراً هو من الأهمية بمكان، وهو أن ربنا يسوع قد قام من الأموات- قام منتصراً على الموت فلا يكون للموت سلطان عليه بعد. فإذا كان المسيح قد قام ولم يمت ثانية فأين هو الآن؟ نعم أنه قد صعد إلى السماء وقد نص الإنجيل على ذلك مراراً كثيرة- منها " وفيما هو (المسيح يباركهم (تلاميذه) انفرد عنهم وأصعد إلى السماء” (لو24: 51) ومنها " ولما قال (المسيح) هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السما ء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس أبيض وقالا أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء "(أع1: 9- 11).
وكما كرز الرسل بقيامة المسيح كرزوا أيضاً بصعوده إلى السماء. فقال بولس الرسول في أف 4: 9" وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل ". كذا بطرس في أول كرازة قدمها لأمة اليهود عن قيامة المسيح وصعوده معاً قال: " فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله... سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه” (أع 2: 32 و33).
وقد أنبأ المسيح بصعوده إلى السماء مرات كثيرة: منها قوله في يوحنا " وليس أحد صعد (لا أصعد) إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء". [1]فقد نزل من السماء آخذاً جسداً ليفدينا من الخطية بموت ذلك الجسد، وإذ أكمل عمل الفداء صعد إلى السماء ليعمل ببركات الفداء في قلوب الناس لجذبهم إليه وتخليصهم من عبودية ابليس وليشفع في الذين يؤمنون به وليعدهم بعمل روحه القدوس ليكونوا مشابهين لصورة قداسته. ومتى كمل عدد المعيّنين للحياة الأبدية من ثم يأتي بذلك الجسد الذي صعد به لينقلهم إليه حتى حيث يكون هو يكونون هم أيضاً ليتمتعوا به نفساً وجسداً إلى أبد الآبدين.
ونختم كلامنا بالقول: إنّا نقرأ عن كيثرين ماتوا وأقيموا ثانية في العهد القديم والعهد الجديد. فإن ابن أرملة صرفة صيدا الذي أقامه إيليا، وابن الشونمية الذي أقامه أليشع، والرجل الذي قام بعد طرحه في قبر أليشع، وابنة يايرس، وابن أرملة نايين، ولعازر، والذين قاموا عند صلب المسيح، وغزالة، قد عاشوا ومارسوا أعمال معيشتهم الاعتيادية ثم عادوا فماتوا ثانية. ولكن يسوع لما قام من الأموات صرف أربعين يوماً على هذه الأرض لكي يري نفسه حياً ببراهين كثيرة للرسل ولآخرين من المؤمنين ثم صعد إلى السماء. ويعبّر عنه الكتاب بأنه جلس عن يمين الله ومن هناك أرسل الروح القدس فحل على تلاميذه يوم الخمسين حسبما وعدهم قبل صعوده ولا يزال يمارس هناك وظيفته الكهنوتية بشفاعته في المؤمنين في كل حين (عب 7: 25). فهذا هو الذي قال "والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين... ولي مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ1: 18) فهو حي منذ الأزل لأنه الله وأتى في الجسد وبه مات وقام أيضاً لأنه هو الحي إلى أبد الآبدين. فما أعظم نصيب المؤمنين بمسيحهم الحي إلى أبد الآبدين!
[1] - (وقوة هذا الكلام هي في القول " صعد" (وليس أصعد) الدالة على أنه صعد بقوة نفسه أما أخنوخ وإيليا فأصعدا. ناهيك عما في هذه الآية من البرهان على أنه مالىء السموات والأرض إذ بينما هو ابن الإنسان على الأرض هو موجود في السماء).
- عدد الزيارات: 17576