Skip to main content

صحة نسبة بشارة يوحنا للرسول يوحنا نفسه

الباب السابع

بشارة يوحنا مع رسائله ورؤياه

الفصل الأول

يليق بنا قبل الدخول في شهادات يوحنا الرسول عن لاهوت المسيح أن نقول كلمة مختصرة في البشارة ذاتها:

لا يخفى أن أكثر الأقوال عن لاهوت السيد المسيح هي في بشارة يوحنا. فبطبيعة الحال وجد منكرو لاهوت المسيح أن بشارة يوحنا هي عقبة كؤود وحجر عثرة في سبيلهم. ففي الأجيال الأولى للمسيحية رفض الهراطقة بشارة يوحنا (ومع ذلك لم ينكروا صدق نسبيتها إلى يوحنا بن زبدي) لأنهم أبغضوا ما تحويه ولم يستطيعوا أن يجعلوها توافق معتقداتهم. أما في الأجيال المتأخرة فقد رفض أعداء المسيحية قبول هذه البشارة منتحلين عذراً في عدم قبولها بأنها ليست صحيحة النسبة إلى يوحنا الرسول، والحقيقة هي أنهم رفضوها لأنها قذى في عيونهم إذ أن موضوعها الوحيد بل غاية الوحي منها إثبات لاهوت المسيح، ولذا تراها تبتدئ بالقول: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" وتنتهي بشهادة توما الرسول عندما قال له " ربي وإلهي " وصادق المسيح على هذه الشهادة. وعقبها بالقول " أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه"

وكما أن سفر دانيال هو ميدان منازعات المنتقدين في العهد القديم وذلك لصراحة نبواته عن ملك المسيح فكذلك بشارة يوحنا في العهد الجديد هي ميدان منازعات. ولهذا السبب يلقبها الكثيرون بدانيال العهد الجديد … وقال لدون: “إن هذه البشارة هي أعظم ثقة يرجع إليها في موضوع لاهوت المسيح لوضوح تعبيراتها ووفرتها. وأنه لا يستغرب أبداً في أن أقوال البشير الرابع هي مثل ذاتية سيده نفسه" حجر صدمة وصخرة عثرة "للمنتقدين. ولا يستطيع القارئ في بشارة يوحنا أن يتأمل في شخص المسيح بدون اكتراث، لأنه أما أن يتحزّب لحزب لاهوت المسيح، وأما أن يتحزب عليه، وذلك لأن البراهين التي فيها مدهشة جداً. فأما أن يركع ساجداً قابلاً كل قول من أقوال البشارة، وأما أن يرفضها كلها، وفي هذه الحالة يصير عدواً لدوداً لها. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يكون على الحياد ".

إن كاتب هذه البشارة هو يوحنا الرسول ابن زبدي وسالومة، التلميذ الحبيب الذي عاش بحسب شهادة القدماء العمومية بعد موت جميع الرسل، ومات بقرب ختام القرن الأول للتاريخ المسيحي.

والشهادات على صحة نسبة هذه البشارة وقانونيتها مستوفاة شافية، منها:

أن بوليكاربوس كان تلميذاً ليوحنا الرسول كما تدل على ذلك كتابات كثيرين من آباء الكنيسة ومات سنة 166 مسيحية. وكتب ايريناوس في القرن الثاني شاهداً في رسالته إلى فرولينوس كيف أخبره بوليكاربوس عن هذه التعاليم التي أخذها من يوحنا نفسه وكيف قابلها مع تعاليم الرسل الآخرين فجاءت مطابقة لها تمام المطابقة.

وقال ايريناوس أيضاً أن يوحنا الإنجيلي قصد ببشارته الرد على الضلال الذي قرّره كيرنثوس الهر طوقي في عقول الناس والذي جاء أولاً من جماعة النيقولاويين ولكي يقنعهم بأنه لا يوجد إلا إله واحد قد خلق جميع الأشياء بكلمته.

وايرونيموس يثبت شهادة ايريناوس هذه إذ يقول: " لما كان يوحنا في آسيا قامت هرطقات ابيون وكيرنثوس وغيرهم ممن أنكروا لاهوت المسيح وهم الذين يدعوهم في رسالته أضداد المسيح والذين كثيراً ما يذمّهم بولس في رسائله فالتزم يوحنا بسبب طلب جميع أساقفة آسيا ورسل كنائس أخرى كثيرة أن يكتب بالتصريح عن لاهوت المسيح مخلصنا ويتقدم في خطاب سامٍ كثير الشجاعة والمناسبة عن الكلمة ". (انتهى)

وقال في مكان آخر– قد ذكر في التواريخ الكنائسية أن يوحنا لما التمس منه الأخوة أن يكتب أجاب أنه لا يصنع ذلك ما لم يفرز يوماً عمومياً للصلاة والصوم لطلب مساعدة الله. وإذ أجابوه إلى ذلك وشرّف الله ذلك اليوم بإعلان شافٍ نطق بالكلمات التي بدأ بها إنجيله وهي "في البدء كان الكلمة" الخ …

وقال أيضاً هذا الأب المعلّم في كتابه المعنون بمشاهير الأنام – أن يوحنا كتب بشارة بطلب أساقفة آسيا ضد كيرنثوس وغيره من الهراطقة خصوصاً ضد تعليم الأبيونيين الذين قاموا في ذلك الزمان وكانوا يقولون أن المسيح لم يكون له وجود قبل ولادته من مريم فلذلك التزم أن يعلن طبيعته الإلهية.

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن ايريناوس هذا استشهد من الكتاب المقدس في مؤلفاته خمسمائة مرة، منها مائة مرة من بشارة يوحنا ويذكر واضحاً أنه لم يوجد إلاّ أربع بشائر يوثق بصحتها مشبهاً إياها بأربعة أنهر الفردوس وأربع جهات الكرة الأرضية، وأن صحتها كان مسلماً بها في عصره تسليماً تاماً. ويذكر بشارة يوحنا بالاسم في كتاباته. وقد سبق القول بأنه استقى معلوماته من بوليكاربوس أسقف أزمير وتلميذ يوحنا الرسول، ونشأ في حضنه.

وكتب ترتوليانوس الشهير الذي اعتنق المسيحية سنة 185 م وميّز بين بشارتي الرسولين (متى ويوحنا) وبشارتي البشيرين (مرقس ولوقا) ومع تمييزه هذا لم يرتب مطلقاً في أن الأربعة أوحي إليهم من الله فكتب كل منهم البشارة المنسوبة إليه.

ويحسن بنا أن نلقي نظرة على القانون الموراتوري وهو أول قائمة عرفت عن أسفار العهد الجديد وكتبت على ما يظهر قبل سنة 156 لأنه جاء بها اسم بيوس أسقف رومية الذي توفي في السنة المذكورة.وقد ضاع الجزء الأول من هذه القائمة، والجزء الباقي يبدأ بعبارة في جملة تشير إلى بشارة مرقس ثم يقول "أن ثالث كتاب في الإنجيل هو بشارة لوقا والرابع هو بشارة يوحنا ثم أعمال الرسل التي كتبها لوقا الخ … فهذا القول يثبت أن المسيحيين في رومية سنة 170 كانوا فد قبلوا بشارة يوحنا صحيحة النسبة وموحى بها من الله واعتبروها من ضمن أسفار الإنجيل القانونية. ومما يجدر ملاحظته أن بوليكاربوس حضر إلى رومية سنة 163 فبالطبع كان اعتقادهم بالإنجيل مأخوذاً منه عند زيارته لهم.

وعلاوة على ذلك فإن ابوليناريوس كتب سنة 170 م وفي أثناء كتابته وثنايا كلماته أشار إلى طعن جنب المسيح بالحربة. ومعلوم أن هذه الحادثة لم يذكرها من البشيرين غير يوحنا. فمن ذلك نعلم أن بشارته كانت مقبولة وتقرأ في كنائس المسيحيين حينئذ.

وأغناطيوس أول بطريرك أنطاكي وهو الذي مات سنة 116 م ويوستينوس الشهيد الذي مات سنة 166 م كلاهما أشارا إلى بشارة يوحنا ككونها كلام الله الموحى به إلى يوحنا الرسول.

وقد قال القديس اغسطينوس "أن هذا الإنجيلي (يوحنا) كتب في لاهوت المسيح الأزلي ضد الهراطقة" فصادق بذلك على شهادة ايريناوس التي سبقنا فذكرناها.

وعدا ذلك فلنا شهادة الوثنيين والهراطقة القدماء برهان على صدق نسبة بشارة يوحنا الرسول إليه. فمن الوثنيين القدماء الذين كتبوا ضد الديانة المسيحية ووصل إلينا بعض كتاباتهم كلسوس الذي كان فيلسوفاً في القرن الثاني وفرفريون في الثالث والإمبراطور يوليانوس الذي كان مسيحياً ثم ارتد وصار من امرّ مقاومي الحق. أما كلسوس الذي كتب بعد العصر الرسولي بستين سنة فلم ينكر البتة صدق نسبة بشارة يوحنا إليه بل بالعكس أكّد صحة نسبتها إليه وأراد أن يحجّ المسيحيين من أقوال تلك البشارة. وهكذا يقال عن فرفريون ويوليانوس. فنرى أن كفرة تلك العصور لم يفتكروا البتة بأن ينكروا صحة نسبة أسفارنا المقدسة ومن ضمنها بشارة يوحنا بل بالأحرى قبلوا صدقها وقصدوا أن يتخذوا من ذلك أدلة لمقاومة الحق الموجود فيها.

فيتّضح من كل هذه الأقوال أن جميع المسيحيين الأولين في القرون الأولى قد قبلوا البشارة الرابعة وآمنوا يقيناً أنها وحي الله ليوحنا الرسول الحبيب ولم يرتابوا في ذلك مطلقاً. 

  • عدد الزيارات: 3558