الإخلاء والامتلاء
الفصل الرابع
" أخلى نفسه " " رجع... ممتلئاً من الروح القدس” (فيليبي 2: 7 ولو4: 1). إننا إذا تأملنا في الكلمة الأصلية اليونانية المترجمة " أخلى " نجد أن الرسول بولس قد اصطلح عليها في رسالته ليعبّر بها عن الحالة التي كان عليها ربنا يسوع المسيح على هذه الأرض وذلك بخلاف الحالة التي كان عليها قبلاً مع الله في السماء.
فعندما يقرأ القارىء قوله: " لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد " يخطر له في الحال هذا السؤال: " مم أخلى المسيح نفسه "؟ وأحسن جواب على هذا السؤال هو ما نراه واضحاً في ذات الفصل الذي وردت فيه هذه العبارة فإننا بالتأمل فيه نرى أن الرسول بولس لم يقصد أن يكلّم الفيلبيين عن موضوع لاهوتي أو فلسفي بل عبّر عن قصده بهيئة بسيطة وبتغيير عادي، ونرى أنه بعد أن حثّ مسيحيي فيليبي على التواضع وعدم الكبرياء والأنانية (كما هو واضح من ع3و4) قدّم إليهم المسيح نفسه مثلاً أعلى على التواضع الحق فقال: فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، والذي بذل نفسه في خدمة الآخرين تخليصاً لحياة الجميع أيضاً.
إن لغة الكتاب الأصلية ما دقت على وتر الكلمة " أخلى " بل بالأحرى على الكلمة " نفسه ". وكيفما كان المعنى فهو يشير إلى شيء عظيم قد عمله المسيح باختياره الشخصي، وأن هذا العمل صدر منه دون سواه.ولكن لم يزل السؤال أمامنا كما هو: "مم أخلى نفسه "؟ وكما سبقنا فقلنا نعود فنقول: إن أفضل جواب على هذا السؤال هو أن سيدنا المسيح له المجد لما اتخذ لنفسه طبيعة الناسوت أخلى نفسه من نفسه أي مما كان له من الأمجاد الذاتية أو بعبارة أوضح " أنكر نفسه " وكما أنه لم ينظر إلى ما هو المقصود من تنازلهم وتواضعهم وحسبانهم البعض أفضل من أنفسهم.
وتتضح قيمة هذا الفكر اللاهوتي من عبارتين وردتا في ذلك الفصل أولاهما في ع6 حيث قال عن المسيح: “الذي إذ كان في صورة الله " لأننا بمراجعتنا للأصل اليوناني لهذه العبارة نرى الحقيقة المعبّر عنها بالكلمة " إذ كان" هي في استمرار صيغة هذا الفعل. والمعنى المقصود هو: الذي كان ولم يزل كائناً ويستمر كائناً.
إن الجملة المترجمة " صورة الله " تعني صفات الله الجوهرية. فمن الواضح إذاً أن المسيح كان كل أيام وجوده على الأرض ولم يزل هو الله بصفاته الجوهرية الإلهية. وهذا يؤكد لنا أن المسيح لم يخل نفسه من مساواته لله قط.
وثانيتهما العبارة التي وردت في ع7 والتي تفيد حسب الأصل اليوناني أن المسيح " أخلى نفسه بأخذه صورة عبد مبيّناً بذلك أن الإخلاء لا يقصد به كونه حصر نفسه بل كونه وجد اهتمامه للعمل في شؤون الحياة البشرية لأجل تخليص الخطاة. وهاكم مما سبق، الاستنتاجات التالية
1- بما أن المسيح كان موجوداً في السماء قبل أن يتجسّد ويولد في بيت لحم فلا بد من وجود بعض القيود والحدود البشرية مع صيرورته إنساناً. ولذلك قال أحد اللاهوتيين: أن قبول السيح لهذه القيود والحدود البشرية التي هي من ضروريات التجسّد وقبوله لكل ما هو من شؤون الحياة الإنسانية أثناء التجسد (ما عدا الخطية) يستلزم إرجاء إظهار مجده (الذي هو له من قبل كون العالم) إلى حين.
2- من البدهي أنه يستحيل على المسيح أن ينزع عنه لاهوته أثناء تجسده وحياته على هذه الأرض. وذلك ليس فقط لأن إخلاء نفسه عن لاهوته غير مقبول منطقياً، بل أيضاً لأن العبارة " إذ كان في صورة الله " تعلّمنا أنه كان قبل التجسد ولا يزال باقياً "في صورة الله " كما ذكرنا. وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن المسيح، طول حياته على الأرض، لم يزل هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لأنه، لو لم يكن المسيح هو الله دائماً حتى بعدما صار إنساناً، فموته لا يصلح أن يكون كفارة عن البشر لأن فداء البشر يستلزم عملاً ليس في قدرة البشر أن يقدّموه ولا يمكن أن يقوم به حق القيام إلا الشخص الذي هو إله وإنسان معاً.
3- إن الرأي الصحيح الذي نستنتجه من الكلمة " أخلى " هو أن المسيح الكلمة لما اتخذ جسداً واتحد ناسوته بلاهوته وصار إنساناً وهو الله تخلى حين التجسّد (موقتاً) عنالظهور بعظمته ومجده الإلهيين، ولأجل خلاصنا رضي أن يرجىء إظهار بهائه الإلهي وأن يعيش كإنسان بيننا. ويدل هذا على قوله " أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو17: 4 و5).
4- إن الصعوبة التي أمامنا في هذه المسألة هي: كيف يظهر الله في الجسد البشري؟ والجواب هو أن هذه المعرفة فوق إدراكنا وتصوراتنا، وليس لنا أن نبت في أمر هو من سرائر الله نفسه.وكل ما يمكننا أن نقوله هو: أنه لأجل خلاص إنسان قد رضي الابن "الأقنوم الثاني " بالتجسد وبحياة متمشية مع المظاهر البشرية (مع أنه باللاهوت لم يزل في مركز لاهوته غير المحدود بجوهره الإلهي العامل في خليقته والظابط الكل إلى الأبد). ونرى أن هذا الابن الذي له السلطان على نفسه وليس لأحد سلطان عليه، لأجل كمال الفداء وتتميم الكفارة، قد أرجأ استعمال قدرته الإلهية استعمالاً كلياً إلى ما بعد قيامته ودخوله إلى مجده.
إننا لا يمكننا أن نعبّر عن ظهور الأقنوم الثاني بمظاهر بشرية إلا بقولنا أن المسيح مع كونه الله اتخذ جسداً وصار إنساناً وعاش بيينا كإنسان بكمال الطهارة ونقاوة الحياة ثابتاً في أبيه دائماً، وبينما هو الله الذي هو في غنى عن أن ينال شيئاً من آخر نراه أيضاً بصفة كونه نائلاً من أبيه كل نعمة لنفسه وعقله وجسده. وهذا هو معنى قوله "أخلى نفسه " أي أنه وهو في غنى عن نيل أية عطية خارجية اتخذ لنفسه طبيعة الإنسان التي تحتاج إلى الموازنة الإلهية.
6- إننا عندما نذكر ذلك الإخلاء الذي هو الدخول من مظاهر الحياة البشرية يجب علينا أن لا ننسى المسحة الفريدة العجيبة التي مسح المسيح بها من الروح القدس والتي بواسطتها قال وعمل كل ما ذكر عنه في إنجيله الطاهر لأن هذه المسحة السماوية سميت "الامتلاء " مقابلة لما سمّي " الإخلاءً الذي ذكرناه في ما سبق. فقد قيل عن هذا الامتلاء: " أما يسوع فرجع من الاردن ممتلئاً من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية” (لو4: 1)، وأيضا: “روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين الخ” (لو4: 18)، وأيضا: "إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين الخ” (متى 12: 28). فهذه الأقوال وما ماثلها تدلنا على أن المسيح- ولو كان قد أخلى نفسه ورضي لنفسه أن يتخذ جسداً بشرياً- قد امتلأ بالروح القدس. فهو بعد أن كان قائماً بذاته منذ الأزل اتخذ إنساناً كاملاً عائشاً بالاعتماد على الله ابيه في كل حين. ولذلك أخبرنا أثناء تجسده المبارك أن الآب الحال فيه هو الذي يعمل الأعمال.ونقرأ أيضاً أنه بالروح القدس فضلاً عن أمره وسلطانه وإرادته- قد عمل المعجزات كما في متى 12: 28 وعلّم بتعاليمه وتعاليم أبيه إتماماً لوصية الآب: " لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم"- "الآب الحال في هو يعمل الأعمال” (يوحنا 12: 49 و14: 10). وليس ذلك فقط بل أنه له المجد أعطي سلطاناً وهو على الأرض أن يغفر الخطايا (راجع لو 5: 24).وقد أطاع أباه كل حين وكان في كل حين يعمل ما يرضيه إلى أن بذل نفسه فوق الصليب إطاعة لأمره وتنفيذاً لإرادته. لاحظوا قول المسيح المبارك: “العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته” (يو17: 4)، وقوله " لأني في كل حين أفعل ما يرضيه” (أي ما يرضي الآب) (يو8: 29). ولاحظوا قول الرسول: “أطاع حتى الموت موت الصليب” (فيليبي 2: 8) وقوله له المجد: “هذه الوصية قبلتها من أبي” (يو10: 18). فكل هذه النصوص براهين على أن المسيح أخلى نفسه ليصير خادم عهد الفداء وليصير ممتلئاً من روح الله مطيعاً للآب في كل أيام هذا الاخلاء. أما قبل هذا الاخلاء فلم ينسب إليه شيء من ذلك.
7- إذا تأملنا في الانجيل نراه ينبئنا أن المسيح كان ينمو في المعرفة لما كان على الأرض (لو2: 52) وأنه بحسب الجسد وحده لا يعرف يوم مجيئه الثاني (مرقس 13: 32). ولكننا في الوقت نفسه نرى أنه بحسب لاهوته علاّم الغيوب فاحص الكلى والقلوب كما قال عنه يوحنا الحبيب في بشارة يوحنا 2: 15 أنه " لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان "، وكما قال المسيح عن نفسه في متى 11: 27و28 حيث أثبت لنفسه كل المعرفة أولاً وكل القدرة ثانياً: “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له. تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم ". وكيف لا يعرف مجيئه الثاني حسب الجسد وهو في الوقت عينه يعرف الآب ويعلم ما كان كامناً في أعماق الانسان حسب اللاهوت فهذا فوق طاقة عقولنا وتصوراتنا وأفهامنا ولكن كما قال بعضهم: " إن هذا هو سر المحبة الإلهية. وقدرة المسيح ابن الله على إخلاء نفسه إنما هي من أعمق أسرار الثالوث الأقدس ولكنها تظهر لنا محبة الله التي لا تستقصى ".
8- إن إحدى نتائج هذا الاخلاء وهذا الامتلاء هي أننا نرى المسيح آكلاً شارباً نائماً تعباً الخ. ونرى أن حياته على الأرض كانت متمشية مع النظم البشرية. ولكن، من وجهة أخرى، نرى أن كلامه هو ذات كلام الله وأن كل كلمة نطق بها هي كلمة الآب المتكلم فيه. وعلى هذا قوله "موسى كتب عني " هو ذات قول الله وله الصحة الكاملة والسلطان الإلهي. وبما أن سلطان الآب موجود في كلام ربنا يسوع المسيح فقد كان وجود هذا السلطان علّة قول الرسول الحكيم: “الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه "(عب 1: 1 و2) الذي انطبق تمام الانطباق على هذه الحقيقية اللاهوتية التي هي "الاخلاء والامتلاء ". فالذين يشكّون في لاهوت المسيح لوقوفهم عند ظواهر بعض أقوال الكتاب المقدس كالتي ذكرناها وأمثالها غير مدركين لهذه الحقيقة- أن المسيح ابن الله الأزلي بينما نرى أنه هو الله منذ الأزل، وأن عجائبه وهوعلى الارض تثبت لنا أنه لا يزال هو الله دائماً، نرى أنه سبحانه وتعالى قد أخلى نفسه وظهر في الجسد البشري، ونرى أنه ظهر بحسب الجسد محتاجاً إلى الامتلاء بالروح القدس بل وإلى ملاك من السماء ليقوي هذا الجسد البشري الضعيف عند ما وضع قليلاً عن الملائكة.
9- ولما تقدّم من الأسباب نقول: أنه لمن الأمور العظيمة الأهمية أن لا ننسى أن دخول ربنا يسوع المسيح باختياره الأتم إلى هذا العالم في الجسد لم يكن أمراً أدّاً في ذاته بل كان في غاية المناسبة لأنه جلّ جلاله قد تمم بذلك خلاصنا الذي يحتاج إلى شخص هو الله منذ الأزل ليكون ببرارته وقداسته قادراً أن يفدي جميع البشر الخطاة الأثمة، وفي الوقت نفسه يكون إنساناً لكي يمكنه أن يموت كفارة عن كل البشر هو ذاك الذي "أخلى نفسه" موقتاً من المجد "وامتلأ" أيضاً من الروح القدس ليقوم بمهمة الفداء التي أخلى نفسه بالتجسد لإتمامها.
- عدد الزيارات: 5323