التجسّد وعلاقته بعصمة المسيح
الفصل الثالث
إنه لأمر واضح ومتفق عليه أن كل البشر خطاة، ويصدق عليهم بدون استثناء قول الكتاب " ليس بار ولا واحد. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد. الجميع أخطأوا " وهذا أكثر وضوحاً لأن جميعهم طبّق قول داود النبي- بالإثم صوروا وبالخطية حبلت بهم أمهاتهم (مز51: 5) وقول أيوب " من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرّر” (اي15: 14 و25: 4) وقول موسى " رأى الرب أن شرّ الإنسان قد كثر... وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم” (تك6: 5).
ولكن الإنسان يسوع المسيح الذي عاش على الأرض كواحد من البشر هو معصوم " لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر” (1بط2: 22)، وكل حياته طهارة في طهارة وقداسة في قداسة. فلم يخطىء مرة بقول ولا بفكر ولا بفعل، ولم يهمل واجباً مرة ما، بل كان يجول يصنع خيراً للجميع ويسفي المتسلّط عليهم إبليس. وهذا ليس بغريب بل هو ما ينتظر طبعاً إذ لم يأت من زرع بشر حتى ينطبق عليه قول داود المذكور آنفاً بل قال الكتاب أن جبرائيل الملاك لما أرسل إلى مريم العذراء قال لها " الروح القدس يجل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35). فذلك الإنسان الذي ولدته مريم العذراء وأن يكن في إلهيئة كبقية البشر لكنه الله الكلمة المتجسّد لكي يفدي بناسوته البشر الأثمة لأن الله قد حكم على الإنسان بالموت فلا يفتدى إلا بالموت. وكان من الضروري أن الأقنوم الثاني هذا يتخذ ناسوتاً قابلاً للموت بدل الإنسان، وعليه يقول الكتاب " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين... كانوا... تحت العبودية "(عب2: 14 و15).
فالمسيح وأن كان لابساً جسد إنسان لكنه هو الله الذي صار إنساناً، وأمر طبيعي أن الله منزّه عن الخطأ. وذلك الإنسان يسوع الذي ظهر في العالم كان ذا طبيعتين طبيعة اللاهوت الأزلية وطبيعة الناسوت الحادثة. وإذا كان ذلك كذلك فكيف لا يكون معصوماً ومنزّهاً عن الخطأ؟ وقد ظهرت عصمته وخلوّه من الخطية في تاريخ حياته على الأرض إذ لم يستطيع أحد أن يبكّته على خطية ولو من أعدائه الذين كانوا يطلبون ذنباً ضده ويجعلونه سبباً في كراهة الناس له وابتعادهم عنه.
وإن قال أحدهم أن المسيح لم تظهر منه خطية لأنه لم يتعرّض للتجارب التي يتعرّض لها البشر فنقول كلا إن الفقر أحدق به للدرجة القصوى ولم يتذمّر، والأتعاب المتنوعة أحاطت به ولم يتضجّر ولم ينسب لله ظلماً، والأعداء قاموا عليه بكل أنواع الاضطهادات وقذفوه بأشنع التهم زوراً ولكنه لم يؤذهم ولم يصح ولم يسمع في الشوارع صوته، بل وإبليس والشيطان الخصم المشتكي عمل كل جهده وجرّبه مدة أربعين يوماً وأربعين ليلة تجارب ليس لها عدد وقد ذكرت ثلاث منها في الكتاب كنموذج، واستعمل الرجيم معه كل دهاء وخبث وألبس تجاربه أثواب الخداع التي تنطلي على كل واحد من الناس ولا يظهر لهم فيها شيء من الخطأ ولا بد أنه شبّه نفسه له مراراً بملاك نور لإتمام خداعه ولكن الفادي انتصر على عدو كل بر انتصاراً باهراً ويشهد عنه الكتاب أنه كان " مجرباً في كل شيء مثلنا بلا خطية ".
تقسم الخطايا عادة إلى خطايا بالفكر وخطايا بالقول وخطايا بالفعل ولكن توجد خطايا بالإهمال هي أكثر من جميعها وهي عدم إتمام الواجب الموضوع من الله على الإنسان أو التقصير فيه. فعندما يقيس الإنسان نفسه على هذا يجد نفسه مقصّراً كل التقصير بل ومهملاً واجبات كثيرة من نحو الله ومن نحو نفسه ومن نحو أسرته وأهله ومن نحو الكنيسة ومن نحو أهل العالم.ولكن لما قال المسيح لليهود " من منكم يبكّتني على خطية؟” (يو8: 46) كان واثقاً بنفسه حتى أنه قدر أن يقول أما أبيه السماوي في صلاته الشفاعية بملء الفم وبسلام القلب " أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته” (يو 17: 4) وأن يقول مراراً " طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله (يو 4: 34 و5: 30 و6: 38 و39 و40) واستطاع أن يقول فوق الصليب " قد أكمل” (يو19: 30). وقد شهد عنه الكتاب أنه " لم يعرف خطية” (2كو5: 21)، وأنه " بلا خطية” (عب4: 15)، وأنه " قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات” (عب7: 26) وأنه " ليس فيه خطية” (1يو3: 5) وأنه " لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر” (1بط2: 22) وحتى أعداؤه لم يروا ذنباً فيه وفي الوقت الذي كانوا ملزمين أن يذكروا عنه شراً عمله حتى تتم مطالبتهم لبيلاطس بقتله ولم يقدروا أن يذكروا له ذنباً عندما قال لهم " وأي شر عمل” (مر15: 14) ولذا أجابهم " أنا لست أجد فيه علة واحدة” (يو18: 38) وزوجة بيلاطس الوثنية قد قالت عنه لزوجها " إياك وذلك البار” (مت27: 19) حتى قائد المائة الوثني شهد عنه قائلاً " بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً (لو23: 47) و" حقا كان هذا الإنسان ابن الله” (مر15: 39 ومت 27: 54). ولما قال الرسول لليهود " أنتم أنكرتم القدوس البار” (أع 3: 14) لم يتجاسر واحد منهم ويكذّب كلامه. وهو الآن عنوان البر والصلاح بين كل أهل العالم والمؤمنون به قبلوه إلههم ومخلصهم ومبرّرهم ومقدّسهم. والكفرة يشهدون عنه أنه عنوان الكمال الأسمى وأنه لا يصح أن يسمى إنساناً لأنه أسمى من الإنسان. فيسوع المسيح لم يضع شرائع صالحة وقدوسة فقط حتى يقول عنها أحد الفلاسفة أن شرائع السماء لا يمكن أن تكون أطهر منها، بل مثاله طاهر وقدوته صالحة وهو نموذج الكمال في كل الأجيال ورب القداسة والجلال.
ولكون المسيح باراً طاهراً بلا ذنب ولا خطية فمن المعقول إذاً أن يكون شفيعاً في البشر إذ كيف يتصور أن إنساناً خاطئاً يشفع في الخطاة وهو نفسه محتاج إلى من يشفع فيه؟ وماذا يقول ذلك الخاطىء في شفاعته لدى عرش عدل الله؟ فإنه لقداسة الله التامة يستد كل فم ويصير الجميع تحت قصاص منه تعالى لأنه ليس بار ولا واحد. نعم أنه ليس بر المسيح وطهارته فقط هما اللذان يؤهلانه للشفاعة بل لأنه صار كفّارة عن الخطاة لأن عدل الله وقداسته الكاملة لا تجعلانه يتنازل عن كلامه أو يبطل قضاءه الذي قال " أجرة الخطية هي موت” (رو6: 23) " والنفس التي تخطىء هي تموت” (حز 18: 4 وراجع تك 2: 17). فلماذا شفع واحد في الآخر بمجرد كلام فإنه لا يوجد كلام مخلوق يرجع الله عن قضائه. ولذلك نجد في كل مرة في الكتاب ورد فيها خبر شفاعة المسيح أو وساطته ذكر فيها السبب وهو كونه مات كفارة عن الخطاة. ففي سفر أيوب 33: 23 و24 يقول أليهو بن برخئيل أن الله يطلق الإنسان عن الهبوط في الحفرة (الهلاك) على يد وسيط ويقول قد وجدت فدية أي أنه إن لم تكن الفدية مقدمة من الوسيط فلا تقبل وساطته. وكذلك لما قال النبي أشعياء عن المسيح أنه " شفع في المذنبين " قد سبقها بالقول " وه حمل خطية كثيرين” (إش53: 12). وكذلك لما قال بولس الرسول عن المسيح " الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا " قد سبقها بالقول " المسيح هو الذي مات” (رو8: 34) وكذلك لما قال في أف2: 13- 18 " لأن به (بالمسميح) لنا... قدوماً... إلى الآب " عدد 18 كان قد سبق فقال " صرتم قريبين بدم المسيح... الذي يصالح... مع الله بالصليب” (عدد 13- 16).
وكذلك لما قال " يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح " أعقبها حالاً بالقول " الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تي 2: 5 و6). ولما قال أن المسيح حي في كل حين ليشفع في الذين يتقدمون به إلى الله كان يتكلم عنه ككاهن قدّم نفسه ذبيحة إذ قال "لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه” (عب 7: 25 و27). وكذلك عندما يذكر أن المسيح "قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم " قال ذلك بعد قوله " لأن كل رئيس كهنة يقام لكي يقدم قرابين وذبائح. فمن ثم يلزم أن يكون لهذا (المسيح) أيضاً شيء يقدمه، لأنه " فعل هذا مرة واحدة إذ قدّم نفسه” (عب8: 6و3، 7: 27).وأيضاً لما قال " دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب " قال بعد ذلك " لأجل هذا هو وسيط عهد جديد... إذ صار موت لفداء التعديات” (عب 9: 14 و15).وكذلك لما قال قد أتيتم " إلى وسيط العهد الجديد يسوع " أعقبها بالقول "وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب12: 24).
ولما قال الرسول يوحنا " إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار " أعقبها بالقول " وهو كفارة لخطايانا... بل لخطايا كل العالم أيضاً (1يو2: 1 و2) فثبت من ذلك جميعه أن موت المسيح عن البشر الخطاة هو الذي أعطاه هذه الوظيفة (الشفاعة) فكيف يستطيع أحد البشر الخطاة المحكوم عليهم عدلاً بالموت أن يشفع في خاطىء نظيره ويشفع بمجرّد كلام؟
هذا وأن كانت شفاعة المسيح مبنية على موته كفارة لأجل البشر فبالتالي نقول أنه لو لم يكن معصوماً من الخطأ لما استطاع أن يكون فادياً، إذ كيف يتصور العقل أن خاطئاً يفدي خاطئاً آخر؟ فإنه إن مات والحالة هذه يموت قصاصاً عن ذنب نفسه أما ويسوع المسيح قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات فهو لذلك استطاع أن يكون فادياًللبشر وأن يشفع فيهم.وإننا لا نقدر أن نتصور كيف يمكن للناس أن يفتكروا أن خاطئاً أقرّ بذنوبه ومعاصيه وحسب نفسه مذنباً أمام الله مستحقاً لجهنم- إلا إذا كان الله يتغمّده برحمته- وأن يكون هذا شفيعاً في الخطاة! فإن ضلالا مثل هذا لم يعم غير المسيحيين فقط بل عمّ كثيرين من المسيحيين فضلّوا. ومتى علّم الكتاب بأن المسيح هو الوسيط الوحيد والشفيع الفريد بين الله والناس فهذا هو التعليم الصحيح والمعقول أيضاً. فإن العقل المتأمل يرفض كل تعليم يخالفه. ولقد سبقنا فقلنا أن عصمة الإنسان يسوع المسيح مبنية على أنه ليس من زرع بشر بل على أنه هو "الله الذي ظهر في الجسد " المولود من عذراء وحبل به بقوة الروح القدس.
العلاقة بين عصمة المسيح وبين تعاليمه ومعارفه
إن عيشة المسيح في هذه الدنيا تشهد من أولها إلى آخرها بطهارته وقداسته غير المحدودة ونقاوة تعاليمه وسموها عن تعاليم البشر في كل زمان ومكان وبتفوقه الإلهي.وأمامنا مبدآن يدلاّن على تفوّقه الإلهي.
المبدأ الأول- هو أن معرفة المسيح للاهوت كانت فائقة عن كل معرفة البشر فإن فمه الطاهر هو الذي وضّح عن طبيعة الله إذ قال " الله روح” (يو 4: 24) أي روح سام عن كل ما يتصوره البشر وروح متفرّد لا يماثله روح. وكذلك قال وقوله صادق " ليس أحد... يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت11: 27).والحياة الأبدية التي يعطيها هو (انظر يو 10: 10و28) هي أن يعرفوا " الإله الحقيقي” (يو17: 2و3) حتى قدر أن يقول في صلاته الشفاعية " أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم” (يو17: 6) وأن يقول أيضاً " أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك” (ع25). وبما أنه "أتى من الله معلماً وهو ابن الإنسان الذي نزل من السماء وفي الوقت نفسه هو في السماء وهو المتكلم بكلام الله (يو3: 2و13و14). وبما أنه بهاء مجد الله ورسم جوهره. وصورة الله غير المنظور الذي به كلمنا في هذه الأيام الأخيرة، لذلك وأن لم ير أحد الله قط لكن هذا هو الابن الوحيد الذي في حضن الآب وقد خبرنا عن كل ما هو ضروري عنه حتى أن قصده الأزلي وفكره الخاص في خلاصنا قد كشفه لنا بأجلى بيان في قوله " هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية " وقوله "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم " وهو الذي قدر أن يقول لتلاميذه " أخبركم عن الآب علانية” (يو3: 16، 17، 16: 25).
وبالإجمال فلا يمكن أن تكون لواحد من البشر معرفة عن الله كما ليسوع المسيح.وإن تكلم الأنبياء عن الله كثيراً لكن كلامهم عنه غير تام الإيضاح فلم يتكلموا عنه أنه كائن في ثلاثة أقانيم وأنه أحب العالم حتى أرسل أحد هؤلاء الثلاثة لكي يموت فدية عن خطايا البشر الخ بخلاف تعليم المسيح عن الله خاصة فحدّث عنه ولا حرج.
تكلّم الفرّيسيون والكتبة كثيراً عن الله لكن لا يوجد في كلامهم ما يسد حاجة الإنسان من جهة وجوده وصفاته. وتكلم غيرهم عن الله لكن تعبيراتهم عنه أنه الجبار المنتقم وأنه السلطان الذي لا يقدر أحد أن يقرب إليه وأنه غضوب ليس له أقل قربى نحو جنسنا الساقط المسكين. لكن المسيح وأن كان قد بيّن أن الله القدوس يبغض الخطية بغضاً كلياً لكنه أحبّ الخطاة ليخلّصهم ويقرّبهم إليه وينسبهم له نسبة البنين وأنه من محبته لهم فداهم بأعز شيء عنده. فما أحلى قول المسيح لقلوبنا اليائسة " متى صلّيتم فقولوا أبانا الذي في السموات " وما أشهى تعبيره بين آن وآخر بالقول " أبوكم السماوي ".
2- ثم إن المسيح لم يكن الفريد في التكلم عن الله فقط بل الفريد في التكلم عن الأمور الإلهية أيضاً. فإن الفلاسفة لم يقولوا سوى الظنون والتخمينات عن الحقائق الإلهية، ولكن يسوع قال كل الحق الإلهية عنها. ففلسفة سقراط وأن كانت مبنية على هذه الحقيقية التي هي " أنه لا يخلّص الإنسان من خطاياه إلا إذا نزل أحد الآلهة الروحيين ليخلّصه " لكنه لم يسد عملياً حاجة الإنسان الوحيدة وهي الخلاص. فلسفة الهنود القدماء الموجودة في كتبهم المقدسة القائلة " إن الإنسان كفّر عن خطاياه بنباتات الأرض ثم بحيواناتها ثم بفلذة كبده ولكنه لم يقدر أن يخلص منها ولن يقدر إلا إذا كفّر عنها بإلهه " هي غير موصلة للإنسان إلى الخلاص عملياً. لكن يسوع قال عن نفسه "أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” (يو10: 11) وقال أيضاً " وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 14و15) وقال أيضاً أن "ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك” (لو19: 10) و" ليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت 20: 28) ولم يقل ذلك مجرّد قول بل بذل نفسه عملياً لأجل الخطاة ورفع فوق الصليب حاملاً ذنب البشر على نفسه "لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة (رومية 6: 10) وبما أننا " كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا” (إش53: 6 و5)، وبما أن المسيح... أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة” (أف5: 2) " من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا” (أع9: 43).
وكل تعاليم البشر وأن وجد بينها ما يعلّم بأن البشر خطاة لكنها عجزت كلية عن إظهار طريق الخلاص، فإنها كلها مثلما إذا قدم إنسان على آخر أوشك أن يغرق وأخذ يكلمه عما يقول علم الطب عن كيفية الموت غرقاً- إن الماء يدخل إلى ميازيب الرئتين فيمتنع دخول الهواء إليهما وبالتالي يمتنع ورود الدم من القلب إلى الرئتين للتطهير والتقوية بأكسجين الهواء الذي يدخل اليهما بالتنفس ولذلك يموت الإنسان باسفكسيا الغرق. أو مثلما إذا أتى واحد إلى آخر واقع في وسط لهب النار وقال له- اعلم أن الحرق على ثلاث درجات رئيسية الأولى ما أصابت البشرة فقط والثانية ما تعمّقت إلى الجلد والثالثة ما تعمّقت تحت الجلد. وعلامة الأولى كذا والثانية كذا والثالثة كذا.وأنه إذا كانت الدرجة الأولى وحدها ولم يعترها مضاعفات أخرى تكون النتيجة سليمة، وإذا كانت كيت وكيت فتكون كذا وكذا الخ. فكلاهما يموتان الأول بالغرق والثاني بالحريق قبلما يقفان على كيفية النجاة من حالة الموت التي هما فيها.
3- نقول أيضاً أن المسيح كان إلهاً بدليل معرفته عن الخطية. فإن آخر ما وصلت إليه أفكار البشر هو أن الخطية هي التي يتممها الإنسان بالعمل، وأنه يوجد فرق جوهري بين خطية وخطية فضلاً عن اختلاف البشر في تحديد ما هو خطية وما هو ليس بخطية. وبعض المعلّمين الكذبة قالوا أن الخطية أمر سهل بهذا المقدار حتى يكفي لإزالتها والتطهير منها قليل من الماء.وقد افتكر كل المعلمين في كل ملّة ودين بأن أعمال الإنسان يمكن أن تغفر خطاياه معبّرين عن الخطية بأنها مثل خيط رفيع يستطيع كل واحد أن يقطعه بسهولة. لكن تعليم المسيح هو أن الخطية واحدة في جوهرها لدى الله. ألم يعلم أن من يغضب على أخيه باطلاً هو مثل قاتل النفس؟ وأن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه؟ وأن من قال يا أحمق يكون مستوجباً نار جهنم؟ نعم. بل علّم أن الخطية شنيعة بهذا المقدار ومبغضة من الله وأنها مهينة لقداسته وشرفه الإلهي حتى لم يكن ممكناً لديه تعالى أن تغفر إلا بتقديم ابنه ذبيحة عنها لأن الخطية ممسكة بالإنسان مثل العين واليد والرجل بحيث لا يقبل أحد أمام الله إلا إذا ولد ثانية.
4- بل المسيح كانت له معرفة إلهية عن السماء. فقد قال عن نفسه أنه نزل من السماء وأتى من فوق وأنه ليس من هذا العالم " وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء "، فالأحرى به دون سواه أن يعرف السماء. وبيّن في كلامه أن السماء هي بيت الله ومسكن القديسين إلى الأبد ولا يدخلها ما يصنع رجساً أو دنساً، وأن سعادة سكان السماء لا تقوم إلا بعتقهم من سلطة الشيطان وبخلاصهم من جسد الخطية وبشركتهم مع الله شركة مقدسة فيتعزون بإلههم وبوجودهم في رضى حضرته فيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم إلى أبد الآباد.
المبدأ الثاني- هو أن معرفة المسيح عن الإنسان وطبيعته وأحواله كانت فائقة وعظيمة جداً (اقرأ أيضاً الفصل التالي في "الإخلاء والامتلاء ". فلم يتشبه بأولئك المدعين بالعلم والفلسفة مع أن كثيراً من أقوالهم ليست من العلم في شيء وبينها وبين الفلسفة بون شاسع.
ألا ترى أن بعضهم يفتخرون بالقول: أنه لا فرق بين الإنسان والعجماوات؟ فإنهم بذلك ساووا أنفسهم بالضفدعة والخنزير والحمارـ أقوالا تحط الإنسان إلى درجة لا يرضاها لنفسه.ولكن المسيح المعصوم بيّن في تعاليمه أن الإنسان هو سيد المخلوقات وأفضل من كل ما في الكون لأن فيه نفساً خالدة أثمن من كل ما في العالم.ألم يقل " ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ (مت16: 26). ألم يبيّن أن الإنسان فيه نفس وأن هذه النفس أثمن من كل العالم بما فيه من مخلوقات ومن غنى وجاه وسطوة وبنين وأقارب ومحبين وغير ذلك؟ وقال أيضا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله” (لو4: 4) ففي أقواله هذه وما شاكلها لم يبيّن فضل الإنسان عن غيره من المخلوقات فقط، بل بين جوهر الإنسان السامي وأنه ليس كغيره من ذوات الأنفس بل هو مركّب من عنصرين العنصر الترابي الذي هوالجسد والعنصر الروحي الذي هو النفس الخالدة وأن الله من حكمته أعدّ طعاماً من التراب للجسد الترابي متوافقاً مع أصله وكذلك أعدّ طعاماً للروح الخالدة طعاماً نازلاً من السماء وليس من هذه الأرض فهو متوافق مع روح الإنسان المعطاة من السماء. وهذا الطعام يقول عنه المسيح هو كلمة الله التي تشبع النفس وتحييها كما يشبع الطعام الترابي الجسد الترابي (راجع متى 3: 4 ويو6: 63 و68). وظاهر أنه متى انقطع الإنسان عن إطعام جسده يموت فكذلك متى انقطع عن إطعام روحه تموت، وموت الجسد هو رجوعه إلى التراب، أما موت الروح فهو خلودها في العذاب إلى أبد الآباد.
تعال يا من تتشدّق بما يسقطك إلى درجة البهائم- أنت تعرف أن المادة تؤثر في المادة وأن المادة لا تؤثر في ما هو ليس بمادة. فلو كان الإنسان كالبهيم لكان ما يؤثر في الواحد يؤثر في الآخر على السواء. لكن، خذ حيواناً كالثور مثلاً وأعطه علفاً كافياً وماء للشرب وراحة كافية فلا يطلب من مزيد ولا تظهر عليه أقل علامة تدل على أنه ليس راضياً بحالته التي هو فيها بل بالعكس. ولكن خذ الإنسان وأعطه جنيهاً فلا يكتفي بل يطلب مائة. أعطه المائة فلا يكتفي بل يطلب ألفاً. أعطه الألف فلا يكتفي بل يطلب مليوناً. أعطه المليون فلا يكتفي بل يطلب العالم بأسره. أعطه العالم فلا يكتفي بل يبكي كما بكى الاسكندر عندما انتصر نصرته الأخيرة وسئل: عمّ تبكي يا سيدي؟ فأجاب: أبكي لأنه لا يوجد عالم آخر أحاربه وأتغلّب عليه. أو كما قيل عن نابوليون قالوا لنابوليون ذات عشية إذ كان يرقب في السماء الأنجما من بعد ملك الأرض ماذا تبتغي؟ فأجاب: انظر كيف أمتلك السما. فإذا كان الإنسان كالبهيم فإنه يكتفي بما يقوم بأوده بالراحة، ولكن المشاهد والمختبر ليس كذلك. فهنا الفلسفة المسيحية التي ترقي الإنسان وتعلّيه، الواضحة في تعاليم المسيح والمبيّنة أن " في الناس روحاً ونسمة القدير تعقّلهم” (أي 32: 8) فهي فلسفة أصح وأهم وأعظم من تعاليم كل الفلاسفة. ولذلك حيثما وصل تعليم المسيح ترقّى النوع الإنساني لأن تلك التعاليم توجد موافقة لاحتياج الإنسان في كل زمان ومكان. فكما عرف المسيح كل صفات الله ومشوراته ومقاصده عرف أيضاً كل أحوال الجنس البشري واحتياجهم فعلّم تعليماً لا يستغني عنه إنسان. وبما أنه يعرف القلب بعينه الإلهية فكان يتكلم للقلب رأساً وكان الناس يشعرون بأن نفوسهم عريانة أمام عينه كما يشعرون في يوم الدينونة.
انظروا إلى معاملته للفريسيين وكلامه معهم. فإنه كان يوبّخهم على ريائهم، ويكشف خبثهم وتجرّدهم من التقوى القلبية، فكانوا يخجلون. انظروا كلامه مع الشاب الغني. فإنه لما كشف له غلطه في فهم الوصايا وتقصيره الحقيقي وكشف له عدم رحمته للمساكين مضى حزيناً. لاحظوا كلامه مع مرتا التي لما كشف لها اهتمامها بالأمور الجسدية أكثر من الأمور الروحية صمتت ولم تحر جواباً. انظروا كلامه للجمهور الذي قدّم له المرأة الممسكة في الزنى وكيف كشف خطأهم لضمائرهم الميتة فتوبّخوا وخجلوا ومن خزيهم انسحبوا من أمامه واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. وغير هؤلاء كثيرون.
ويسوع نظراً لعلمه بالقلوب لم يكن ممكناً أن يخدع. فقد آمن كثيرون به إيمان اندهاش وتعجب. ومثل هذا الإيمان لا يؤثر في القلب ويغيّره، فلم ينطل إيمان هؤلاء على علاّم الغيوب بل يقول الكتاب أن "يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان” (يو2: 24 و25). فعرف طبع الإنسان جيداً لأنه "فاحص الكلى والقلوب” (رؤ2: 23) وهو يعرف أن " القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس” (إر17: 9 و10). ولذا لا يقبل أمام الله إلا إذا تجدد فقال مراراً: ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو3: 7) ويجب أن " ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد” (مت18: 3). وهو يعرف أن الإنسان خلق أصلاً على صورة الله ولكنه فقد تلك الصورة بالسقوط فلا يكون الإنسان إنساناً حقيقياً إلا إذا استرد حالة الطهارة التي خلق عليها.وظاهر أنه لا يوجد أثر لهذه الحقيقة إلا في تعليم المسيح. وهو يعرف أن الإنسان لم يتناسل من القرود بل خلقه رأساً ونفخ فيه من روحه، ولذلك قصد أن يعطيه سلطان البنوة لله وأن يورثه عنده في سماء المجد والسعادة. وحتى جسد الإنسان- وأن شابه جسد الحيوان في الحركة الدموية- لكن له قيمة عظمى لأنه مسكن الروح السماوية الخالدة بل هيكل روح الله القدوس (1كو6: 19) وهذا الجسد هو الذي به خدم الإنسان الله فسيقوم من الموت في يوم القيامة ويتمتع بالسعادة مع النفس المقدسة في دار الهناء الذي لا يعبّر عنه. وكم من المرات نقرأ أن يسوع علم أفكار الناس الصالحة والرديئة وذلك لأنه وأن كان في هيئة الإنسان لكنه هو الله الذي ظهر في الجسد فكان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً.
العلاقة بين عصمة المسيح وبين سمو شرائعه ومثاله
الله قدوس فينتظر أنه متى أمر أمراً أو سنّ شريعة تكون في غاية القداسة وإذا أوجد ديانة فتكون مطاليب تلك الديانة في غاية الطهارة. فلم يعلّم المسيح تعليماً يجيز عبادة الله بأنواع الفحشاء كما تعلّم بعض الأديان الوثنية بل علّم أن عبادة الله يجب أن تكون عبادة روحية طاهرة قدوسة ومن قلب طاهر. وبما أن الله غفور رحيم صافح عن ذنوب المذنبين إليه هكذا علّم المسيح شعبه أن يكونوا صفوحين للذين يذنبون إليهم وأن يغفروا للجميع وأن يكونوا رحماء وأن يحبوا أعداءهم ويباركوا لاعنيهم ويصلوا لأجل الذين يسيئون إليهم متمثلين بالله أبيهم الرحيم الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين.وكما أن الفساد شنيع لدى الله والنجاسة مرذولة أمامه تعالى فترى المسيح علّم عن عيشة القداسة والعفة التامة حتى في النظر بالعين بل في الزواج المحلّل يطلب أن يقتني كل إنسان إناءه بقداسة وكرامة لا في هوى شهوة كالأمم. وحدّث ولا حرج عن كل تعاليمه في كونها طاهرة وقدوسة ومعدنها إلهي صرفاً.
فأية الشرائع تكون أقرب لطبيعة الله القدوس؟ هل تلك التي يستصعبها الإنسان لكمال قداستها أو التي يشمئز منها كل أديب ويستقبحها؟ أو أية التعاليم هي الأكثر موافقة للطبيعة الإلهية؟ هل هي الآمرة: " للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " أو غيرها التي تأمر بالسجود للإنسان؟ ومعلوم أن السجود لغير الله وثنية. فتعاليم المسيح المعصوم جامعة مانعة، ولم يتكلم قط إنسان مثلما تكلم هو- فعلّم عن الحياة الأبدية والخلود، لأنه يعلم المستقبل كالحاضر والماضي فقال أن القديسين كلهم أحياء عنده في السماء وهناك لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله.
وعلّم عن التوحيد وقال أن الله هو الإله الحقيقي وحده، وعلّم عن الحرية الحقيقية إذ بيّن أن من يعمل الخطية هو عبد للخطية، وعلّم عن الإخاء والمساواة بين البشر، " أبانا الذي في السموات"، وعلّم عن المحبة واضعاً نفسه مثالاً لها " هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم "، وعلّم عن الشورى، " أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً (متى 20: 25- 27)، علّم عن إعلاء منزلة المرأة إذ قال " لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فبذلك ساواها بالرجل في البيت، وعلّم عن عدم تعدّد الزوجات ومنع الطلاق وقيّده، وعلّم عن فصل الدين عن السياسة إذ قال " أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".
يسوع المعصوم قرن كلامه بقدوته. فلم يعلّم تعليماً ويخالفه في سيرته كما يفعل غيره، بل في كل تاريخه على الأرض لم يستطع أحد ولو من أعدائه أن يبكّته على خطية. فلما علّم قائلا: أحبوا أعداءكم... وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم " علّم ذلك بصفاته وأعماله. ويكفي أن نقول أن صلاته وهو فوق الصليب " يا أبتاه اغفر لهم " أجلّ برهان على ذلك. ولما علّم عن التواضع وإنكار الذات علّم بعمله. ويكفي أن نقول أن غسل أرجل تلاميذه أجل برهان على ذلك. ولما علّم عن عدم وضع القلب على العالم وأباطيله فكل حياته على هذه الأرض تشهد بأن صفاته كانت هكذا. فبينما هو رب السماء والأرض والمعطي للملوك قصورهم ولكل واحد مسكنه مع ذلك لم يكن له أين يسند رأسه. بل إن ذات عيشته الهادئة الشفوقة العاملة الخير مع الجميع الراثية لبلاء الناس المحسنة إلى المحتاجين المغيثة للملهوفين الشافية للمرضى والمتوجعين هي أعظم تعليم علّمه المسيح وتفرّد به عن كل المعلّمين الذين عاشوا على الأرض ويعيشون إلى يوم القيامة. فلم نسمع عنه أنه غزا أو غنم أو سلب أو أخذ مال أحد أو اغتصب زوجة أحد.[1] لا ولم يصرّح لأحد من أتباعه بذلك. فبالحق أنه لم يقم أحد ولن يقوم نظيره قارناً كلامه بأعماله. ألا تدل كل هذه الأمور على عصمته الكاملة؟
شهادة الفلاسفة عن تفوّق تعاليمه
لقد شهد الناس على اختلاف درجاتهم وأشكالهم في كل زمان ومكان عن سمو تعاليم المسيح وأنها فائقة عن أن يأتي بمثلها عقل بشري. فقد شهد الفيلسوف اسحق نيوتن قائلا:إننا نعتبر كلام المسيح فلسفة سامية. وإني أجد في كتابه من دلائل الصحة ما لا أعثر عليه لصدق كتاب آخر ".
وقال الفيلسوف لوك: " إن كمال كتاب المسيح وسموّه لما يدهش العقل ويقف عنده الفكر حائراً. أمّا نفور ذوي الأفهام الناقصة منه فمنشأه أن هذا الكتاب يكشف لهم حقيقة أنفسهم ويكلّفهم بواجبات لا تألفها طباعهم ولا يميلون بحسب الفطرة لإتمامها فيشقون عصا الطاعة ضده ويضادّونه لأنه ضدهم ولا غرابة في ذلك ".
وقال الفيلسوف تولستوي أن تعاليم يسوع لا يسبر غور فلسفتها العقل البشري.
ودانيال وبستر السياسي الأميركي المشهور كتب بيده هذه الكلمات لتنقش على قبره: " لا ريب عندي أن إنجيل المسيح حقيقة إلهية لا شك فيها. ولا يمكن أن تكون الموعظة على الجبل من الأوضاع البشرية. وقد تأصل هذا الاعتقاد في أعماق ضميري، ولي ما يؤيده في تاريخ الإنسان بأكمله ".
وقال كوزان الفيلسوف الفرنساوي: " لو أن الشبان تعمّقوا في معرفة كتاب المسيح لاستحال عليهم أن يهزأوا بالديانة المسيحية أو يعتبروها من سقط المتاع، بل بالعكس تتضح لهم طهارة آدابها وسمو فلسفتها وعظمة تاريخها مما يحدو إلى ترك ذكر فلسفة هوميروس وفرجل واحتقار رومية واليونان ".
وقالت الحميدة الذكر جلالة الملكة فكتوريا أن سبب نجاح ملكها وامتداد سلطانها هو كتاب المسيح وحده- أي الكتاب المقدس.
وكثيرون غيرهم شهدوا بأن كلام المسيح فائق العقل البشري ولا يستطيع إنسان أن يأتي بمثله. وكان الذين نجحوا في العالم وأفادوه علمياً وأدبياً من أمثال السر أوليفر لودج واللورد أفربري الذي ترأس كل منهما المجمع العلمي البريطاني وميشيل فاراداي الذي فتح بمباحثه باب العلم الحديث في العصر الجديد وهو صاحب المباحث العظيمة في الكيمياء والكهرباء والفيلسوف اسحق نيوتن وجورج استوكس الذي لقّب بنيوتن الحديث وغيرهم كثيرون جداً كانوا مدينين حقاً وكان دين المسيح عزيزاً لديهم مكرّماً في عيونهم. ومن شهادة جورج استوكس المذكور آنفاً قوله: “أن الأمر الهام في المسيحية هو الإيمان بأن يسوع الناصري قد اتحد اللاهوت بالناسوت في شخصية واحدة ولذلك يدعى بحق ابن الله وأنه بعد موته على الصليب قام من الأموات وظهر بطريقة خارقة العادة لعدد كبير من تلاميذه الذين شهدوا بحقيقة قيامته الخ ".
شهادة الكفرة عنه
لا تظنوا أن المسيحيين وحدهم هم الذين شهدوا له ولقداسته ولسموّ تعاليمه. بل وأعداؤه والكافرون شهدوا بلاهوته. ونذكر الآن بعض شهاداتهم:
قال الفيلسوف الوثني فورفريون: كان يسوع رجلاً تقياً صعد إلى السماء لأنه كان محبوباً عند الآلهة.
وقال ستروس العالم الشهير وهو من منكري الوحي: إن المسيح باق إلى الأبد عنوان الدين الأسمى ونموذج الكمال المطلق.
وقال رينان العالم الفرنساوي المشهور مخاطباً يسوع: استرح الآن في مجدك أيها المؤسس الشريف فقد انتهى عملك وتأيد لاهوتك وليس بينك وبين الله فرق.
وقال العلاّمة نوح اليهودي: أي حق لمن يدعونه دجالاً (يشير إلى قول اليهود عن يسوع) ونحن نرى أكثر من 500 مليون يعتقدون بلاهوته ومن حولنا أدلة لا عدد لها من السعادة والإيمان والحكم الصحيح والإحسان الحي العامل للخير الذي ينبعث من تعاليمه ويتتبّع ديانته.
وقال الفيلسوف ستيوارت مل الكافر في أحد مؤلفاته: من من الناس يقدر على اختراع الأقوال المنسوبة إلى يسوع أو يستطيع أن يتصور الحياة الشريفة والصفات السامية المعلنة في الإنجيل؟
هذه بعض الشهادات الصريحة التي تدل على سمو تعاليم المسيح وطهارتها وبالتالي على سمو موجدها وتفوّقه على البشر.
الله ظهر في الجسد
أما كونه الله الذي ظهر في الجسد (1تي3: 16) فواضح من قول يوحنا " الكلمة... الله... صار جسداً فالكلمة الذي كان عند الله (العندية تفيد التعزيز والتكريم) وكان في البدء. وكان الله (يو1: 1 و2) قد صار جسداً ولم يكن كذلك قبلا. والذي كان في العالم بالروح وخلق العالم به (يو1: 3 و10) وكان حياة ونوراً يفعل في قلوب الناس وضمائرهم (يو1: 4 و5) قد أخذ طريقاً جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية. والكلمة " صار " في قوله " والكلمة صار جسداً بمعنى ضمّ أي أنه لم يتحول اللاهوت إلى ناسوت حتى لم يبق بعد لاهوتاً بل اللاهوت باق كما هو فقط ضمّ إليه ناسوتاً أو أخذه له واتحد لاهوته به وذلك طبيعي لأنه إن كان ممكناً أن اللاهوت يتغير فذلك ليس لاهوتاً لأن الله غير قابل للتحوير أو التغيير بل " ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع1: 17). وأن كان الله قديراً لكنه لا يقدر على إبادة نفسه ولا علىتغيير صفاته الجوهرية الكاملة. والكلمة "جسد" تفيد ما يأتي:
1- إن جسد المسيح كان جسداً حقيقياً لا صورة فقط ولا هيئة إنسان أخذت وقتياً كما حدث في إعلاناته في العهد القديم. وبمراجعة يو12: 27 حيث قال المسيح" الآن نفسي قد اضطربت " و13: 21 " لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح " ومت26: 38 " فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت " ولو23: 46 " ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح " وما شاكل ذلك يظهر جلياً أنه كان للمسيح نفس بشرية وأن الروح الإلهي يحل محل الروح الإنساني كما قال بعضهم. بل قد أخذ المسيح جسداً لكي يشبه إخوته في كل شيء " فإذ قد تشارك الأولد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً...فيهماً (عب 2: 14).
قد ذهب بعضهم إلى أن المسيح إله وإنسان وأنه كان إنساناً أصلاً وصار إلهاً كما جعل موسى إلهاً لفرعون (خر7: 1). فقولهم هذا عكس قول يوحنا هنا أنه الله الذي كان في البدء وصار إنساناً.
2- " جسد" تفيد أيضاً أنه أخضع نفسه لأتعاب الطبيعة البشرية وآلامها فهو صار جسداً أي أدنى عنصر في الإنسان الضعيف والمسيح " قد صلب من ضعف” (2كو13: 4).
3- " جسد" المرادفة لكلمة بشر وردت للدلالة على الإنسان المائت كقوله في مز 78: 39 " ذكر أنه بشر " والمسيح كان " مماتاً في الجسد "
4- " جسد" وردت للدلالة على الإنسان الخاطىء، والمسيح مع أنه قدوس خال من الخطية ولكنه أخذ "شبه جسد الخطية” (رو8: 3) أي لم يأخذ جسد آدم قبل السقوط.بل جسده بعد السقوط. زد على ذلك أنه جعل خطية لأجلنا (2كو5: 21) ودينت الخطية في جسده (رو8: 3) فيا للعجب! إن الكلمة الأزلي يضم إليه " جسداً بهذا المعنى! ذاك الذي " كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان " يتخذ جسداً خاضعاً لكل ما كان منزهاً عنه! فقد أخذ الجسد ليفدي به البشر كما ذكرنا في ما مر.
- عدد الزيارات: 4001