ناسوت المسيح الحقيقي
الفصل الثاني
إن تاريخ كنيسة المسيح مملوء بذكر المجادلات في موضوع التوفيق بين لاهوت المسيح وناسوته أو شرح كيفية وجود اللاهوت مع الناسوت. أما هنا فيليق بنا أن نقول:
إن ناسوت المسيح الذي اتّحد بلاهوته هو ناسوت حقيقي أي مؤلّف من جسد ونفس إنسانية وروح خالدة عاقلة ناطقة. وهذا الناسوت اتّحد اتّحاداً غير مدرك بلاهوت الأقنوم الثاني الأزلي. نعم قد قام في تاريخ الكنيسة من انكروا حقيقة الناسوت ذاهبين إلى أنه لم يكن للمسيح جسد حقيقي ولا نفس ناسوتية قائلين " أما ما ظهر فلم يكن إلا خيالا بدون حقيقة "- هذا حسب زعمهم- ومعنى ذلك أنه لم يولد ولم يتألم ولم يمت. فهؤلاء بذلك قد أنكروا الفداء أولاً وآخراً معتقدين أن اللاهوت هو موضوع الروح الخالدة في الإنسان، أي أنهم أنكروا الروح الناسوتية، ذاهبين إلى أن جسد المسيح كان من جوهر سماوي، وأنه لم يأخذ ناسوتاً من مريم العذراء، وقائلين أنها لم تكن سوى إناء وضع فيه ذلك الجوهر بدون أن يأخذ شيئاً منها.
فكل هذه الأفكار وما يماثلها خطأ لأنها تناقض أقوال الكتاب المقدس الصريحة كقوله " ها أنت (يا مريم) ستتحبلين وتلدين ابناً (لو1: 31) وقوله " أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً. ولكن فيما هو متفكّر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع... لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً (مت 1: 18- 23) وقوله " لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع " عدد 25وقوله " وبينما هما هناك (أي يوسف ومريم) تمّت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته واضجعته في المذود” (لو2: 6 و7) وقوله: " فقال لهم (أي للرعاة) الملاك... أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود... قال الرجال الرعاة... لنذهب الآن إلى بيت لحم... فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود” (لو2: 10- 16). وقوله " ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمّي يسوع كما تسمّى من الملاك قبل أن حبل به في البطن. ولما تمت أيام تطهيرها (مريم)... صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب. كما هو مكتوب... إن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب" (لو 2: 21-23).
فهذه النصوص وغيرها تبيّن بما لا يقبل الريب أن مريم العذراء حبلت بجسد يسوع، وظهرت علامات حبلها ليوسف حتى أنه قصد تخليتها، وأنه حبل به المدة العادية حتى أنه لم يولد إلا لما تمت أيامها لتلد، وأنه فاتح رحم، وأنه قمط ووضع في مذود وقد ختن حسب الناموس وأمه طهّرت من الولادة بعد المدة المقرّرة في الناموس وغير ذلك مما يدل على أن يسوع كان إنساناً حقيقياً ذا جسد حقيقي كغيره من الناس (ولكنه قدوس).
وقوله " بعدما انصرفوا (المجوس) إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلاً قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر... فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلاً: قم وخذ الصبي وأمه وارجع... لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه الخ” (مت2: 13- 21). وهذا يدل على أنه كان يخاف عليه لئلا يقتل بسيف هيرودس. وعمل الله الوسائط التي يمكن أن يفعلها البشر لحفظ حياته بالهروب إلى مصر والبقاء فيها إلى موت هيرودس. فهل أمر الله يوسف أن يأخذ خيالاً ويهرب به إلى مصر خوفاً من أن هيرودس يقتل ذلك الخيال؟ وهل دعا الله خيال ابنه من مصر ليتم القول " من مصر دعوت ابني” (؟!!) وقوله " ولما كانت له (يسوع) اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم... وإذ ظناه بين الرفقة... ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم... ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما... وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو 2: 42- 52). فذلك كله يدل على أن يسوع كان إنساناً حقيقياً ينمو جسده النمو الطبيعي كلما زادت السنون. ولما صار له من العمر ثلاثون سنة اعتمد بيد يوحنا المعمدان. وبعد هذا ابتدأ في عمله الجهاري (لو 3: 21 و23) دلالة على أنه وصل إلى طور الرجولة، وباشر الأعمال التي جاء لأجلها. فلا يمكن أن الخيال يتقدم إلى الرجولة بهذه الكيفية، كما لا يمكن أن يوحنا يعمّد خيالاً بعدما حدثت مباحثة بينهما وجاوب عنها الرب يسوع جواباً سديداً يدل على أنه ليس خيالاً " اسمح الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمّل كل بر” (مت 3: 13- 15) كما ويذكر الكتاب صريحاً أنه تربّى في الناصرة (لو 4: 16). فهل الذي تربى كان خيالاً؟
وزيادة على ذلك فإن الإنجيل يخبرنا صريحاً أن المسيح كان يجوع ويأكل ويعطش ويشرب (لو 4: 2 ويو 4: 7 ومت 11: 19 ويو 19: 28) والخيال لا يعمل شيئاً من هذه بل هي من خصوصيات الجسد الحي الحقيقي.ويخبرنا الإنجيل أيضاً أن المسيح كان يحزن ويتألم ويبكي وينزل عرقه كقطرات دم على الأرض (مت 26: 37 ولو 22: 44 ويو11: 35). وهذه الانفعالات من خصائص الانسان الحي العاقل.
وقال المسيح أيضاً نفسي حزينة جداً حتى الموت (مت 26: 38)، وقيل عنه أنه " انزعج في نفسه” (يو 11: 38)، وقال وهو فوق الصليب " يا أبتاه في يديك استودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح” (لو23: 46). فأية نفس التي تحزن وتنزعج؟ أليست هي النفس العاقلة؟ وأية روح أسلمها المسيح في يدي أبيه؟ هل اللاهوت يسلّم؟! حاشا. بل ما أبلغ ما ورد في إنجيل لو 24: 36 الخ " وفيما هم (التلاميذ) يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً. فهل صادق المسيح على ظنّهم بأنهم نظروا روحاً؟ كلا بل وبّخهم قائلاً ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يدي ورجلي إني أنا هو. جسّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي ". وهل الخيال له لحم وعظام كما أراهم؟ " وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم ههنا طعام " لكي أبرهن لكم أني لست روحاً أو خيالاً، " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم ". بل لما رآه تلاميذه ماشياً فوق الماء وظنوه خيالاً لم يرد هو أن يفتكروا أنه خيال بل قال لهم " أنا هو. لا تخافوا” (مت 14: 26و27) يعني أنا هو الذي تعرفونني الذي أكلت وشربت وعشت معكم ولمستني أيديكم.
وما أوضح قول الرسول عن المسيح " لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً” (عب 10: 5) وقوله " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما” (عب2: 14) وقوله " بهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة” (عب10: 10).ونظير ذلك كثير جداً بحيث لم يرد في كل الكتاب من أوله إلى آخره شيء يدل على أن المسيح كان خيالاً بدون جسد ونفس وروح، بل كل ما جاء فيه يبرهن أن المسيح هو الله منذ الأزل ولكنه جاء في ملء الزمان مولوداً من امرأة مشتركاً في جسد البشر ليحمل خطاياهم ويكفّر عن آثامهم بموته فصار ذا طبيعتين متميّزتين في أقنوم واحد أي الطبيعة الأزلية الإلهية والطبيعة الحادثة الناسوتية المقدسة.
ومن الذي صعد إلى السماء وأجلسه الله عن اليمين قائلاً له " اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ (مر16: 19 ومز 110: 1) ورآه استفانوس " قائماً (واقفاً) عن يمين الله؟" (أع 7: 55) هل هو خيال؟!
ومن الذي قال عنه الملاكان " أيها الرجال الجليليون... إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء "؟ (أع1: 11).
وجاء في قرار الإيمان لمجمع وستمنستر قوله " إن ابن الله الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، وهو الإله الحق الأزلي من جوهر الآب ومعادل له، لما جاء ملء الزمان أخذ لنفسه طبيعة الإنسان مع خواصها الجوهرية وصفاتها العامة ولكن بلا خطية فحبل به بقوة الروح القدس في مستودع العذراء مريم ومن جسدها، وبذلك اتحدت طبيعتان صحيحتان كاملتان متميزتان اتحاداً غير منفصل في شخص واحد بدون تحويل ولا تركيب ولا اختلاط. وذلك الشخص إله حق وإنسان حق، بل مسيح واحد، والوسيط الواحد بين الله والإنسان ". وهذا هو القول الصواب.
وقد ورد في قانون الإيمان المسمّى غالباً قانون أثناسيوس ما يأتي: " يلزم الإنسان للخلاص الأبدي أن يؤمن يقيناً بتجسّد ربنا يسوع المسيح، لأن الإيمان المستقيم هو أنّا نؤمن ونعترف بأن ربنا يسوع المسيح ابن الله هو إله وإنسان. إله تام وإنسان تام ذو نفس ناطقة وجسد بشري ذي وجود مساو للآب بحسب لاهوته ودون الآب حسب ناسوته. وهو وأن يكن إلهاً وإنساناً فإنما هو لا إثنان بل مسيح واحد الخ ".
- عدد الزيارات: 8264