ولادة يسوع من عذراء
الباب الثاني عشر
بحث في التجسد والولادة من عذراء
الفصل الأول
لقد سمعنا البعض يقولون: “سواء كانت ولادة المسيح من عذراء هي حقيقية أم لا فعلى كل حال هذه ليست من المسائل المهمة والجوهرية!" عجباً! أليست هذه الحقيقة جوهرية! كيف لا وعليها تتوقف عصمة المسيح- إذ كيف يكون المسيح معصوماً إذا ولد ولادة طبيعية من أبوين كبقية البشر! أليست الولادة من عذراء ضرورية للتجسّد حقاً أنه لأمر مخطر جداً كون البشر الخطاة الساقطين يحكمون في ما هو جوهري أو ما هو ليس بجوهري في مسألة خطيره كهذه- مسألة "إدخال البكر إلى العالم ". ولكن شعور المسيحيين تعمّق أكثر من ذلك وقالوا بأن ولادة المسيح من عذراء ليست مسألى مستقلة بذاتها بل لها علاقة كلية بغيرها من المسائل المختصة بالمسيح. وإنكار الولادة الطاهرة يستلزم إنكار الحياة الطاهرة لوجود الارتباط التام بين هذه وتلك. أما حقيقة التجسّد فتستلزم المعجزة في صيرورة المسيح إنساناً كما يتضح في ما يأتي:
تقرير الحالة
وغرضنا الآن أن نبيّن أن الذين يستهينون بمسألة إنكار ولادة المسيح من عذراء يجحفون كل الاجحاف بأهمية التعليم الذي ينكرونه ونقيم الأدلة عليه. أما الدليل عليه وأن لم يكن عاماً أي مذكوراً في كل كتب البشيرين كالدليل على القيامة مثلاً فذلك لا يقلّل من قيمته بل هو أقوى مما يظن المعارضون. وإنكار هذه الحقيقة يؤثر على الإيمان المسيحي بأكثر مما يتوهمون.وغرضنا أيضاً أن نبيّن أننا بوضعنا هذه العقيدة في مركزها الحقيقي بين بقية العقائد المسيحية لا نزيل العثرة في الإيمان فقط بل نزيد متانة العلاقة الكائنة بينها وبين غيرها من الحقائق ونوجد الإيضاحات اللازمة عن قداسة المسيح وعن شخصه الفائق.
ومن ثم نطلب من كل مسيحي من جميع الطبقات أن يكون شاهداً في هذه المسألة.
ألا ترى أنك حينما تقرأ الإنجيل تجد المطابقة التامة بين قصة الولادة من عذراء وبين خبر عيشة المسيح العجيبة المذكورة في الأصحاحات التالية لها، والمطابقة التامة بين تلك العيشة وبين سمو المسيح الإلهي المبيّن في كتابات يوحنا وبولس؟ نعم بلا شك فإن كل واحد يرى أن كل ما ذكر عن المسيح في كتب البشيرين مرتبط ببعضه، وكل جزء منه متمم للآخر، وولادة المسيح من عذراء هو أمر طبيعي في بداءة حياة ابن الله كما أن القيامة هي أمر طبيعي في نهايتها. وكلما زدنا المسألة تأملاً واعتباراً رأينا تأثيرها أقوى وأعظم. ولا نرى صعوبة في قبول هذه الحقيقة أو نرتاب في صدقها إلا إذا كنا ننبذ شهادات الكتب المقدسة كلها عن المسيح نبذاً كلياً.والحال أن العهد القديم شهد شهادات واضحة منها ما هو تصريح، ومنها ما هو تلميح، ومنها ما هو تنبؤ صريح عن ولادة المسيح، من عذراء قديسة، بمنتهى التوضيح.
النظرة الأولى إلى المسألة
حقاً إن الذين يرتابون في ولادة المسيح من عذراء لهم في ضلال، لأنهم ينظرون إلى المسألة بكيفية خادعة. إذ من من الناس يجيد النظر في هذه المسألة ولا يرى أنه إذا كان المسيح مولوداً من عذراء وإذا كان (كما يقول قانون الإيمان) " حبل به بالروح القدس وولد من مريم العذراء " كان من الضروري أن يوجد في شخصه عنصر يفوق الطبيعة؟ وإذا كان المسيح معصوماً بل هو كلمة الله المتجسد فلا بد أن تكون قد حصلت معجزة في تجسده بل أعظم معجزة في الكون. وإذا كان المسيح هو ابن الله الذي صار إنساناً وهو آدم الثاني ورئيس الجنس البشري كما يقول عنه بولس ويوحنا الرسولان وكما آمنت الكنيسة منذ البداءة إلى الآن، فلا بد أن ينتظر الناس حصول معجزة لأنه بدون معجزة لا يتصور أن الله يصير إنساناً.
فلماذا يرتابون في أقوال الكتاب التي تبيّن حقيقة هذه المعجزة؟ ومن ذا الذي لا يرى أن تاريخ الإنجيل يكون ناقصاً لو لم يحتو على تلك الأقوال الواردة فيه بخصوصها؟ إن الوحي لم يقدم لنا عن هذه الحقيقة سوى ما يتطلبه الإيمان وما هو ضروري لكمال اليقين، على رغم إنكار أولئك المفترين.
الأساس التاريخي
قد أتينا إلى النقطة التي يجب علينا فيها أن ننظر إلى أقوال الكتاب المقدس نفسه ونتأمل في ولادة المسيح من عذراء من جهة أساسها التاريخي ومن جهة علاقتها بغيرها من حقائق الإنجيل. وقبلما نبحث الأدلة التاريخية يجب أن نسأل: هل يوجد في العهد القديم أمور ممهدة لهذه المعجزة؟ إننا ننتظر على الأقل وجود إشارات في العهد القديم تشير إلى حادثة العهد الجديد العجيبة هذه. فمنها:
الوعد الأول
إن أول ما يستلفت نظر الإنسان بخصوص هذه المسألة هو أول وعد إنجيلي ورد في العهد القديم مبيناً عهد النعمة- الذي مفاده أن نسل المرأة يسحق رأس الحية- إذ قال الله للحية المجرّبة " أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تستحقين عقبه” (تك 3: 15). فإذا أوّلنا هذا الوعد (الذي هو أول وعد إنجيلي ورد في كتاب الله) بأنه يشير إلى وجود ضغينة مستمرة بين الجنس البشري وبين الثعابين نسل الحية أضعفنا هذا الوعد بل أبطلنا قيمته بالمرة. فإن الحية هي رمز قوة الشر المعبّر عنها في سفر الرؤيا 12: 9 " بإبليس والشيطان " والهزيمة التي تصيبه من نسل المرأة تشير إلى نصرة روحية ينتصر بها نسل المرأة. ولاحظوا أن النسل المشار إليه في الوعد بأنه يسحق رأس الحية منصوص عنه " نسل المرأة " وليس نسل الإنسان. فإن المرأة هي التي أدخلت الخطية إلى العالم. فبنسل المرأة (وحدها) يأتي الخلاص. إن كتبة الكنيسة في كل الأجيال الماضية كثيراً ما استعملوا هذا التمثيل وإظهار المشابهة بين حواء ومريم العذراء، ولا يزال تمثيلهم الذي مثّلوه يبرهن على مجيء المخلص من امرأة كما دخلت الخطية بامرأة. ولا يمكنني أن أصدق أن هذا التخصيص من الوحي حصل اتفاقاً بطريقة غير مقصودة. فإننا نرى أن الوعد الذي قيل لابراهيم هو " تتبارك في نسلك جميع قبائل الأرض "، أما هنا فقيل نسل المرأة ولم يقل نسل آدم- بل المرأة على نوع خاص. ومن المرجح أن الاشارة إلى هذا الوعد هي تلك الواردة في 1تي2: 15 حيث ذكر آدم وحواء ولكن تكلم عن المرأة فقط وقال " ولكنها ستخلص بولادة الأولاد” (كما افتكر ذلك بعض أعاظم العلماء). ومنها:
النبوة عن عمانوئيل
إن الفكر عن المسيح المتجمعة فيه صفات الملك الإلهي قد صارت النبوات عنه واضحة جداً حتى سمي عمانوئيل في اش 7: 14 " ولكن يعطيكم (يا بيت داود) السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل ". وقد تكررت " عمانوئيل " مرتين أخريين (أش 8: 8 و10). فعمانوئيل هذا ما هو إلا ذاك المذكور في ص 9: 6 و7 " لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر... " وهذه هي النبوة التي اقتبسها متى عن ولادة المسيح (مت 1: 23)، والتي أشار إليها الملاك في وعده لمريم (المذكور في لو 1: 32 و33). وليعلم أن مترجمي الترجمة السبعينية للعهد القديم قد ترجموا الكلمة العبرانية "عَلمَه" الواردة في أش 7: 14 بالكلمة "بارثينوس" اليونانية التي تعني عذراء. ومنها:
ولادة والدة
إنه بمقارنة مي 5: 2 الذي اقتبسه متى في بشارته ليبرهن به على محل ميلاد المسيح بالعدد الثالث من نفس الأصحاح حيث يقول " لذلك يسلّمهم إلى حينما تكون قد ولدت والدة " يعني إلى حينما تكون قد ولدت والدة الملك الذي من بيت لحم والذي لم يذكر اسم والدته ولا اسم أبيه. ومعلوم أن ميخا كان معاصراً لأشعياء. فإذا راعينا حرفية أقوالهما الواردة في إش 2: 2- 4 ومي 4: 1- 3 لا يصعب علينا إذ ذاك أن نجعل أقوال ميخا عن مولود بيت لحم موضحة ومتممة لأقوال أشعياء عن عمانوئيل وعن الوالد الذي يولد لنا والابن الذي نعطاه من العذراء ليجلس على كرسي داود ويكون رئيس السلام.
شهادة الإنجيل عن هذه الحقيقة
إن الأقوال المتنبأ عنها في كتب الأنبياء- وعلى ما يظهر أنها لم تثمر بشيء في انتظار الأمة اليهودية للمسيح المولود من عذراء- قد ظهرت بنور واضح لدى المسيحيين، وتبرهنت أنها أقوال نبوية عن المخلص عند ما تمت الحادثة فعلاً وولد عمانوئيل المنتظر. ففي بيت لحم اليهودية، كما تنبأ ميخا، ولد من عذراء ذاك الذي " مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (مي 5: 2 ومت2: 6). ومتى الإنجيلي الذي اقتبس الجزء الأول من هذه الآية لم يكن جاهلاً إلالماع الموجود فيها عن سبق وجود المسيح قبل ولادته. وهذا يؤدي بنا إلى التأمل في الشهادة الواضحة عن ولادة المسيح العجيبة الوارد خبرها في البشارة الأولى والثالثة وهما البشارتان الوحيدتان المذكور فيهما خبر ولادة مخلصنا له المجد. والجميع بدون استثناء يصادقون على أن الأخبار الواردة في بشارة متى ص 1 و2 هي مستقلة تماماً عما ورد في بشارة لوقا ص 1 و2 أي أن الواحدة لم تؤخذ عن الأخرى ومع ذلك فإن كلتيهما تثبتان بكيفية موجزة بأن يسوع حبل به بقوة الروح القدس وولد من عذراء طاهرة هي مريم الساكنة في ناصرة الجليل وكانت مخطوبة ليوسف النجار الذي " لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " وأن الميلاد حصل في بيت لحم عندما ذهب يوسف مع مريم ليكتتبا هناك في الاكتتاب الذي صدر الأمر عنه من أوغسطس قيصر. فالاعلان يخبر الحبل والولادة قد أعطي لمريم على يد جبرائيل الملاك، وقد رافق ميلاد المسيح كما وقد سبقته وأعقبته حوادث شهيرة مثل ولادة يوحنا المعمدان بالبشارة لأبيه زكريا المتقدم في السن هو وامرأته، ومثل البشارة لمريم العذراء، ومثل ظهور الملاك للرعاة مصحوباً بأجواق الملائكة مسبحين ومهللين، ومثل زيارة المجوس الذين أتوا خصوصاً من المشرق للسجود له وغير ذلك. فعلينا أن نقرأ هذه الأخبار بتروٍ وانتباه حتى نستطيع أن نفهم التوضيحات التي بعدها.
تقرير الشهادة بالولادة من عذراء
إن الفصول المحتوية على هذا الخبر نراها مدونة في كل نسخ الإنجيل الخطيّة والتراجم التي وجدت. وعندنا مئات من النسخ التي بعضها قديم العهد جداً، ووجدت في جهات مختلقة من العالم، وعندنا أيضاً تراجم كثيرة في لغات متعددة (كاللاتينية والسريانية والقبطية وغيرها) ولا تخلو واحدة منها من هذه القصة المشهورة، بل وهي موجودة فيها جميعها. ونقول أيضاً أن كتب البشيرين ذاتها لم تصدر في عصر متأخر ولا من مصدر رسولي بل كتبها أناس رسوليون وقبلت منذ البداءة وانتشرت في الكنائس المسيحية باعتبار أنها أقوال الرسل الخالصة والمعتمدة والمستحقة كل اعتبار. فبشارة لوقا كتبها لوقا نفسه، ومما لا ريب فيه أن إنجيل متى قد اعتبر في كل زمان ومكان أنه إنجيل متى الرسول نفسه، وقانونيته معتبرة منذ عصر الرسل إلى الآن. فرأينا إذاً أن مسألة ولادة الرب يسوع من عذراء قد وصلت إلينا من مصدر رسولي (من أتباع المسيح أي رسله، وكما يقول المسلم "من الصحابة " الحواريين).
ويظهر واضحاً لمن يتصفح الروايات في كتابي البشيرين بإمعان أن تلك الأخبار بخصوص الولادة عن عذراء كان يمكن أن تستقى من يوسف النجار ومن مريم العذراء نفسها. وظاهر أن تنوع أسلوب الروايتين يبيّن واضحاً أن متى استقى خبره من يوسف ولوقا من مريم. ومتّى يخبرنا عن الصعوبات التي رآها يوسف وعن قلق باله وتفكّره في الأمر وماذا قصد عندما رأى خطيبته حبلى ولم يذكر شيئاً عن مريم ولا عن أفكارها وحاسياتها، أما لوقا فيخبرنا كثيراً عن مريم وعن كلامها الذي جاوبت به الملاك وعن أفكارها الداخلية وزيارتها لأليصابات وعن ذات التسبحة التي سبّحت بها بينما لم يخبرنا شيئاً عن يوسف كما أخبرنا متى وكلا الخبرين لا يوجد بينهما أقل تناقض- فها هما خبران مستقلان، وكل منهما متمم للآخر، وكلاهما معاً ضروريان جداً إذ يعطياننا الخبر اليقين الكامل عن المسألى، وعليهما صبغة الصدق والأمانة والطهارة، ويستحقان كل قبول بما أنهما قبلا عند كل الكنيسة منذ نشأتها باعتبارهما وحياً سماوياً.
صمت مرقس ويوحنا عن ذكر هذه المسألة
عرف كل من مرقس ويوحنا أن يسوع قد وُلد من مريم ولكنهما لم يخبرانا شيئاً عن كيفية ذلك. قإن مرقس يبدأ إنجيله بدخول المسيح في خدمته الجهارية ولم يشر أقل إشارة إلى أيامه السابقة ولا حتى عن كيف دعي المسيح ابن الله مر1: 1 وكذلك يوحنا لم يخبرنا مطلقاً عن كيفية الحبل بالمسيح بل ابتدأ إنجيله بذكر لاهوته مبيّناً أن " الكلمة " " هو الله " ولما أشار إلى تجسده قال بكل اختصار " والكلمة صار جسداً يوحنا 1: 14 ولكنه لم يقل شيئاً عن كيفية المعجزة الفائقة في صيرورة الكلمة جسداً لأن ذلك لا يوافق قصده الذي أراد أن يكتب عنه. نعم هو كان يعرف العقيدة الموجودة في الكنيسة بهذا الخصوص، وكانت بشارتا متى ولوقا كلاهما بين يديه في ذلك الحين وفيهما الخبر عن كيفية الحبل بيسوع وكان مسلّماً به لأنه لو كان يعرف أن ذلك الخبر الموجود في كتابي البشيرين غير حقيقي لكان قد أشار إلى ذلك أو أتانا الخبر اليقين.
صمت بولس أيضاً
ألا ترى أن بولس الرسول يقول في غل4: 4 " ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس"؟ فما السر في قوله " مولوداً من امرأة "؟ فإن كان الغرض أنه مثل بقية البشر فقوله هذا من باب تحصيل الحاصل، وكان يمكنه أن يقول مولوداً من إنسان أو من فلان. ولماذا خصص ولادته من امرأة إن لم يكن غرضه أن تلك الولادة لم تكن من زرع رجل؟ وهل بعد هذا نقول أن بولس صمت صمتاً تاماً عن الإشارة إلى ولادة المسيح من غير زرع بشر؟ كلا. بل كيف يقول بولس عن المسيح أنه هو الله الذي أخلى نفسه، وأنه ابن الله الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، وأنه لم يعرف خطية، وأنه الحياة الذي يحيي أموات الخطية التي ورثها الجميع من آدم بولادتهم منه حسب الطبيعة، وأنه صار نعمة للخطاة المساكين؟ فكيف تتفق كل هذه الصفات والألقاب والأعمال التي نسبها للمسيح مع ولادته كغيره من البشر الذين هم بالاثم صوروا وبالخطية حبلت بهم أمهاتهم؟ نعم إن كل مخلص يقرّ بأن الله لا بد أن يكون قد تدخل بطريقة عجيبة في صيرورة ابنه إنساناً. فعليه تكون ولادة المسيح من عذراء أول حادثة معقولة وقابلة للتصديق. وما نقوله عن بولس نقوله أيضاً عن غيره من كتبة العهد الجديد.
البرهان بعصمة المسيح
قد اعترض البعض بالقول أن ولادة المسيح من عذراء لا تساعد على الاعتقاد بعصمته لأنه ما دامت مريم أمه خاطئة حسب الطبيعة فمن المعقول أن الفساد ينتقل إلى المولود بواسطة أحد الوالدين كما بالوالدين معاً. ولكن قد طاش سهمهم وفاتهم أن كل الحقيقة ليست منحصرة في القول بأن المسيح ولد من عذراء بل بوجود عامل آخر هو أنه " حبل به من الروح القدس ". فما تم كان أمراً إلهيا "، حصلت معجزة خالقة في إيجاد ذلك الناسوت الذي كان خالياً من آثار الفساد منذ كان جرثومة صغيرة في بدء وجوده. فلا لزوم إذ ذاك للتناسل الأبوي الطبيعي لأن ميلاد المسيح لم يكن ميلاداً طبيعياً بل هو إيجاد شخصية جديدة لم يسبق لها مثيل لأنه كان الله قبل تجسّده ودخل دخولاً حادثاً في الناسوتية فلا يمكن إتمام هذا الأمر المدهش إلا بمعجزة.ونظراً لأن طبيعة المسيح الناسوتية هي من أصل عجيب بواسطة معجزة فائقة كهذه فلذلك كان قدوساً منذ البداءة (لو1: 35) وكل حياته تبرهن على أنه كان بالحقيقة معصوماً إلى التمام. فهل يقدر أحد أن يخبرني عن ولادة طبيعية انتجت شخصية معصومة كشخصية يسوع المولود من عذراء في زمن من الأزمان؟
الكنيسة الأولى شاهدة بولادة المسيح من عذراء
نقول أن الكنيسة الأولى (بقدر ما عندنا من الوسائط لنتتبّع معتقداتها) قد تمسكت بهذا التعليم في كل طوائفها المختلفة على وجه العموم. والذين أنكروه قد صدّهم أعاظم معلمي الكنيسة عند ظهورهم. ونعرف أن الرسول يوحنا قد عارض وناضل بكل حدة وحماس أناساً منتسباً إليهم إنكار هذه العقيدة.
العلاقة بين المسيح الحقيقي وبين الولادة من عذراء
العلاقة التعليمية- يجب أن نعرف بأن عقيدة ولادة المسيح من عذراء ضرورية جداً لفهم ذاتية المسيح الفريدة والمعصومة فهماً صحيحاً. فأمامنا شخص يقدمه لنا بولس في رسالته إلى رومية 5: 12 وما يليه- وذلك الشخص خال من الخطية وغير معرّض لخطايا الجنس البشري وليس عليه المسؤولية التي على آدم ونسله بل مزيل للخطية واللعنة والموت التي دخلت إلى العالم بواسطة آدم الأول ومثبت لملكوت البر والحياة. فلو كان المسيح قد ولد حسب الطبيعة لما أمكننا أن ننسب إليه عملاً من هذه الأعمال. ولو كان من نسل آدم فقط ومصدره ليس من عالم أعلى لكان يشترك في فساد آدم ويقع عليه الحكم الذي حكم به على آدم ونسله وكان هو نفسه يحتاج إلى فداء كبقية الجنس البشري. ولكن سواء أبصر المعارضون أو عموا فإن رحمة الله غير المحدودة قد دبّرت أن المسيح يأتي من فوق غير وارث لذنب الجنس البشري، ولا يحتاج إلى تجديد أو تقديس نظيرهم، بل صار نفسه هو الفادي والمجدّد والمقدّس لجميع الذين يقبلونه ويؤمنون به بكل قلوبهم " فشكراً لله على عطيته التي لا يعبّر عنها” (2كو9: 15).
ملاحظتنا على هذه المقالة
ظاهر أن شهادة البشيرين متى ولوقا صريحة جداً ولازمة للموضوع الذي كتبنا عنه، كما ظهر أيضاً أن بولس الرسول نفسه كان يعتقد بهذه الحقيقة. ونقول أيضاً أن آباء الكنيسة الأولين المعتمد عليهم، مثل أغناطيوس ويوستينوس الشهيد وغيرهما، قد اعتقدوا بهذه الحقيقة. وبالاختصار فإن هذه العقيدة قد اعتبرت لدى الكنيسة المسيحية من أول نشأتها إلى الآن أنها هي السلّم التي عليها قد نزل "الكلمة- الله " والذي " كان عند الله " إلى هذه الأرض وظهر في الجسد. وظاهر أنه لو كان المسيح قد ولد حسب الطبيعة ما كان قد خلا من الفساد ولا نفع بشيء وكان هو نفسه يصبح محتاجاً إلى مخلّص فلا يقدر أن يخلص. ولو ولد من امرأة متزوجة، بقوة الروح القدس، لكان يسهل الشك جداً في طهارته.ولو كان قد ولد ثاني ولادة أو ثالث ولادة لما وجد عقل يقدر أن يثق بأنه ولد بالروح القدس. فالله الحكيم قد دبّر كل ما يمنع الشك والريب، وهكذا قد حصل. وما أجمل شهادة الكتاب بهذا الخصوص عندما قال " الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35). وقال الملاك هذا بعد سؤال مريم " كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً (ع34) ولمّا قال الكتاب " يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس” (مت 1: 20) ولما قال " فولدت ابنها البكر” (لو2: 7) و"حتى ولدت ابنها البكر” (مت 1: 25) فغاية الوحي في هذه الشهادة " البكر " هي أن يمنع كل شك أو وهم يمكن أن يتسرّب للفكر بخصوص طهارة يسوع الكاملة.
يقول العلاّمة أنسلمس في كتابه " لماذا تجسّد الكلمة " ما يلي: أن الله قادر أن يصنع الإنسان على أربعة أنواع. إما من رجل وامرأة كما هو الشأن الجاري، أو من غير رجل ولا امرأة كما صنع مع آدم، أو من رجل بلا امرأة كما صنع حواء، أو من امرأة من غير رجل الذي لم يكن قد صنعه إلى حين تجسّد المسيح. فلكي يتحقق أن هذا الوجه الأخير هو تحت حكمه تعالى وأنه جدير بهذا العمل لاق أن يتخذ هذا الناسوت الذي هو موضوع بحثنا من امرأة وحدها.وأما من جهة مناسبة مجيئه من عذراء أو من ثيب فإنه يتيسّر لنا أن نثبت إثباتاً تاماً لا ريب فيه أنه يقتضي أن لا يولد الإله المتأنس إلا من عذراء... وكما أن خطية الإنسان وعلة دينونتنا قد نشأتا من امرأة هكذا وجب أن دواء الخطية وسبب خلاصنا يولد من امرأة أيضاً.وكذلك لما كانت الأنثى التي صنعها الله من رجل بلا امرأة مأخوذة من رجل بكر (أي أعزب) قد لاق أن يكون الإنسان المولود من امرأة بلا رجل مولوداً من امرأة بكراً. وحسبك هذا دليلاً على وجوب مجيء ابن الله من عذراء".
أما إذا قيل: وما الحكمة في حبل مريم العذراء بيسوع بعدما خطبت ليوسف النجّار وليس قبل؟ فنقول أنه على ما يظهر لنا أن يوسف النجّار هو القضيب الذي من يهوذا والذي لا يزول حتى يأتي شيلون” (راجع تكوين49: 10) وهو الوارث الشرعي لكرسي داود. فالمسيح المنتظر يرث كرسي داود منه، لأن الوارثة المنوية هي وراثة حسب الجسد (أع 2: 30 مع مز 132: 11 راجع لو1: 32). ومريم أم يسوع وأن كانت بنت داود لكنها ليست من بيت داود الملكي لأنها ابنة ناثان بن داود لو 3: 31 (فضلاً عن أن اليهود لا يورثون الملك من النساء). أما كرسي الملك فقد انحصر في سليمان بن داود بأمر الرب (1أي 28: 5- 7). لذلك صبر الله حتى خطبت مريم إلى مورّث يسوع كرسي داود حسب الجسد، وحينئذ حلّ بجسد ابنه فيها، حتى أنه لما قصد يوسف تخليتها بعدما رأى علامات الحبل عليها ناداه ملاك الرب قائلاً "يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك " فكأنه يقول له: " يا يوسف الوارث الشرعي لكرسي داود! يا من قصدت أن اورّث ابني كرسي داود حسب الجسد منك وصبرت حتى خطبت ام ابني خطبة شرعية فحللت بجسد ابني فيها، أتتركها الآن وتبطل ما دبّرته؟ فلا تظن أنها زانية كما تصورت بل الذي حبل به (وفي الأصل ولد) فيها هو من الروح القدس ". وهكذا قد تم. فامتنع يوسف عن تخليتها حتى ذهب معها عند الاكتتاب إلى مدينة داود- بيت لحم- وهي بعد مخطوبة، وهناك ولدت يسوع، واكتتب شرعياً أنه يسوع وولي أمره يوسف الذي من " ببيت داود وعشيرته” (لاحظوا قول الوحي هذا عن يوسف دون مريم) وصار مربياً ليسوع وكان يقول عنه ابني ويسوع يقول عنه ابي ومريم نفسها قالت مرة ليسوع " هوذا أبوك وأنا " بل الوحي نفسه قال " وكان أبواه” (لو2: 41 و48) وذلك لكي يبرهن أن يسوع هو المسيح الملك المنتظر الوارث لكرسي داود وراثة شرعية باعتبار أنه ابن شرعي لا صلبي.
فهكذا كل أقوال الإنجيل تشهد بأن يسوع ولد من عذراء بقوة الروح القدس، وجميع فصوله مبنية على هذه الحقيقة. وما أوضح القول " ولما تمّت أيام تطهيرها (مريم) حسب شريعة موسى وصعدوا به إلى أورشليم ليقدّموه للرب. كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب” (لو 2: 22 و23).
- عدد الزيارات: 11381