المسيح
الفصل الثالث
والآن أيها العزيز ربما لاحظت في كلامنا الماضي أننا ذكرنا كثيراً الاسم " يسوع " ولم نذكر " المسيح " إلا نادراً فلا تلمنا لأنا لم نستحسن أن نذكر هذا الاسم قبل أن نفسر معناه كما فسّرنا الاسم " يسوع " فنقول: إن الكلمة " مسيح " عبرانية، وليست عربية الأصل، وتفيد في أصل وضعها عن شخص مدهون بدهن المسحة (أي ممسوح) سواء أكان كاهناً أو ملكاً، ولكن مع توالي الزمان أطلقت أكثر على الملوك. وورد في التوراة كلمة " مسيح " كلقب لكل ملك ولو كان شريراً. لاحظ أن شاول بن قيس سمي " مسيح الرب "، وكورش الوثني أيضاً سمي " مسيح (الرب)" (راجع 1صم 24: 6 و26: 9 وأش 45: 1)، وداود أيضاً سمّي " مسيح إله يعقوب” (2صم 23: 1). وبما أن بني إسرائيل وعدوا بملك من نسل داود ليملك عليهم ملكاً ممتازاً عن كل الملوك الذي جرّبوهم (مز 132: 11و17و72: 1 الخ. و2: 6و8) ولاحظوا وعد الله في إر 23: 5 أن " غصن البر " الذي يقام لداود " يملك ملك وينجح وفي أيامه يخلّص يهوذا " وغير ذلك من الآيات.
لذلك سمّوه "المسيح” (بال التعريف) وشاع بينهم هذا الاصطلاح كما يظهر في ما يأتي " والكلمة الواردة في الإنجيل "مسياً هي يونانية وهي عين الكلمة العبرانية (مشيحا) أي "المسيح ".
ويظهر أن المسيح هذا كان منتظراً من أمة اليهود علماء وجهلاء أتقياء وغيرهم. فسمعان الشيخ البار التقي المملوء من الروح القدس (لو2: 25 و26) واندراوس بن يونا الصياد (يو1: 41) ونثنائيل المتعبد (يو1: 49) ومجلس السنهدريم (يو1: 25) والمرأة السامرية الجاهلة والشريرة (يو4: 25 و29) والسامريون أيضاً (يو4: 42) وأهل أورشليم (يو7: 26 و27) والكتبة (مر12: 35) وجمهور اليهود (لو23: 2) ورئيس الكهنة (مت26: 63 ومر 14: 61) كانوا ينتظرون شخصاً يلقّب بالمسيح. والملاك السموؤ لقّبه "المسيح” (لو2: 11) ويسوع لقّب نفسه "المسيح” (لو24: 26) فكل ذلك يدلّنا على الاعتقاد الشائع وقتئذ بخصوص لقب الشخص المنتظر وهو "المسيح " أي الملك المعهود- الموعود به (دا9: 25 مع يو1: 41و4: 25) فلما نقول " يسوع المسيح " معناها يسوع الملك المعهود. ومن ثم تقدر أن تفهم أن بشارة الملاك للرعاة في لو 2: 11 إذ قال " ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب " تعني أنه ولد لكم اليوم الملك الموعود لكم به أنه يأتي من نسل داود ولذا قال الملاك عند البشارة بالحبل به " ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية ".
ويظهر لنا أن اليهود من قبل التاريخ المسيحي كانوا يعتقدون أن " المسيح " يسمّى " ابن الله ". يدلّك على ذلك
أولاً: كون نثنائيل أول ما رأى يسوع أقرّ قائلاً (يا معلم أنت ابن الله) (يو1: 49).
ثانياً: نرى أن بطرس الرسول لما أقرّ بالمسيح قال له " أنت هو المسيح ابن الله الحي” (مت 16: 16) وهذا هو عين إقرار نثنائيل بالتمام لأن " المسيح " معناها " الملك المعهود " كما ذكرنا.
ثالثاً: قول مرثا ليسوع " يا سيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم” (يو11: 27).
رابعاً: شهادة وزير الحبشة المتهوّد " أنا أومن أن يسوع المسيح هو ابن الله” (أع8: 37)
خامساً: سؤال الكهنة ليسوع "استحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله” (مت 26: 63).
فاليهود رأوا شخصاً اسمه يسوع، لكنهم أنكروا أنه المسيح أي ملكهم المنتظر، وعاملوه كمدّع دعوى كاذبة. ولكن الذين آمنوا به آمنوا أن يسوع هو ذات المسيح الملك المنتظر الموعود به. ألا ترى أن يسوع مدح نثنائيل وشهد بصحة إيمانه لما قال له: " أنت ملك؟ " ومدح إيمان بطرس لما قال له " أنت المسيح " قائلاً له أن الله الآب هو الذي أعلن له هذا الإقرار؟ بل قال المسيح ما يفيد أن الذي يؤمن أني أنا المسيح هو من ضمن كنيستي لأني على صخرة هذا الإيمان- إني أنا " المسيح ابن الله الحي "- ابني كنيستي.
لذلك تجدون أن الرسل لما ابتدأوا يبشّرون بيسوع كانوا يقرّرون أنه هو ذات المسيح. ألا ترى أن بطرس الرسول في خطابه الأول لأمة اليهود يوم الخمسينبرهن على أن يسوع هو الملك المنتظر ابن داود وهو المسيح الرب إذ قال " أيها الرجال الإخوة يسوغ أن يقال لكم جهراً عن رئيس الآباء داود أنه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح... أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً (ملكاً) أع 2: 29- 31 و36 وكان في كلامه يستلفت نظر اليهود إلى أن يسوع الذي احتقروه ورفضوه هو ذاته المسيح المنتظر حتى أنه لما أقام المقعد على الباب الجميل (أع 3: 6) قال له " باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش " وقال أيضاً لإينياس " يشفيك يسوع المسيح "(أع 9: 34) وكذلك في شهادته أمام جمهور اليهود في الهيكل لم يخبّىء هذه الحقيقة بل ذكر أن "المسيح " يجب أن يتألم فإن كنتم قد عذبتم يسوع وقتلتموه فأنتم قد عذبتم المسيح وقتلتموه (أع 3: 17- 19)ويتّضح لك هذا الفكر أكثر إذا راجعت القول أن بولس عندما آمن " جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله "، وكان بولس يحيّر اليهود " محققاً أن هذا يسوع هو المسيح” (أع 9: 20 و22). فإن بولس نفسه لما كان اسمه شاول أي قبل الإيمان كان معتقداً بوجود شخص اسمه يسوع، وأن يسوع هذا ادّعى أنه المسيح المنتظر لكنه حسبه كاذباً في مدعاه واعتبره مضلاً ورئيس مضلّين وكان مستصوباً الحكم عليه بالموت وبالتالي الحكم على أتباعه بالإعدام ولأنه كان غيوراً في دينه كان يضطهد أتباع يسوع المضل (حسب اعتقاده). ولكنه لما كشف الله عنه ورفع رقع الجهل عن عينيه رأى أن غيرته ليست حسب المعرفة، ولذا كان يدخل مجامع اليهود ليقنعهم بأن ذات يسوع الذي صلبوه هو المسيح منتظرهم. والذي لا يفهم هذا الفكر جيداً لا يستطيع أن يفهم قول الرسول يوحنا " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله” (1يو 5: 1) فإنه واضح من هذا القول أنه يوجد من يؤمن بيسوع ولكنه لا يؤمن أنه هو " المسيح " الملك المنتظر. فالذي لا يؤمن أن يسوع الذي رفضه اليهود وصلبوه هو هو المسيح الملك المنتظر فبرقع اليهودية لا يزال على عينيه، وهذا برهان على أنه ليس مولوداً من الله، لأن الفرق الوحيد بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لم يؤمنوا بأن يسوع هو مسيحهم الذي وعدوا به، ولكن الذين آمنوا منهم آمنوا بأن يسوع هو المسيح " فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله” (يو1: 12) ولذلك صاروا يبشرون اخوتهم اليهود ويقولون لهم " ونحن نبشّركم بالموعد الذي صار لآبائنا” (أي عن المسيح) " إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم " وليس سيكمل "إذ قد أقام يسوع... فهكذا قال إني سأعطيكم مراحم داود الصادقة” (أع 13: 32- 34) فالذين آمنوا بقلوبهم، وشهدوا بحياتهم، واعترفوا بألسنتهم، أن يسوع هو المسيح المنتظر حسب نبوات الكتاب، ولم يسجدوا لوحش المال وصورة زخارف العالم وشهواته المهلكة ولم يقبلوا على جباههم ولا على أيديهم سمات ذوي الضلال بل حفظوا بدم الفادي المسيح من سلطان الموت الثاني بأن ماتوا عن الخطية فدفنوا مع المسيح بالمعمودية وقاموا معه بقيامته وطلبوا ما فوق حيث هو جالس، هؤلاء الذين ماتوا معه سيحيون معه، ونؤلاء الذين صبروا على آلام الحياة واضطهاد العالم معه سيملكون أيضاً معه في يوم ظهوره وملكوته (2تي2: 11 و12).
وأما الذين أنكروا أن يسوع هو المسيح فهؤلاء سيصرف وجهه عنهم حينما يأتي بمجده وقواته (انظر متى 24: 40 و41) وسيعاقبهم بما كانوا يقولون وما كانوا يفعلون وما كانوا يفتكرون (انظر متى 25: 31- 46).
فها قد وضح أمامنا أن يسوع المسيح هو ابن الله الذي أتى إلى العالم ليفدي الخطاة حتى أن كل من يؤمن به تكون له الحياة الأبدية وأنه هو في صورة الله ولم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله بل أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس وإذ وجد في إلهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لأجلنا. ووضح أمامنا معنى البنوة. وأنها لا تفيد ولادة طبيعية ولا لاحقية للآب بل هذه هي الأسماء التي اختارها الله جلّ جلاله ليسمي ذاته بها عندما أعلن نفسه للبشر كمخلّص لهم وفاد يفديهم من آثامهم. فالله الذي بيده قلوب الجميع نسأله أن ينير بصائرنا لنرى حقه المعلن في كتابه المقدس ويرشدنا بروحه القدوس لنؤمن أن الرب يسوع الذي يقول عنه الكتاب أنه " إله الأنبياء القديسين” (رؤ22: 6) والذي أقرّ له توما بأنه ربه وإلهه (يو20: 28) هو ربنا وإلهنا وليخضعنا له بصفة كونه ملكنا العظيم له المجد كل آن وإلى الأبد آمين.
- عدد الزيارات: 4100