Skip to main content

شهادة رسائل بولس عن لاهوت المسيح

 الباب الثامن

الرسائل البولسية والبطرسية

الفصل الأول

 إن ما أوحي به إلى بولس الرسول ليكتبه عن لاهوت المسيح فادي البشر ومخلصهم نلخصه للقارىء المتأمل في ما يأتي:

أولاً: إن الرب يسوع المسيح يعظّم ويمجّد في كتابات الرسول بولس سواء ذكر وحده أو مقترناً باسم الآب. ويذكر كثيراً بصفة كونه أصل البركات العظمى ومعطيها. فما ذكره من هذا القبيل قوله "كما غفر لكم المسيح” (كو3: 13) "المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة” (1تي 1: 15) "لأجل ذلك أن أصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم أيضاً على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجد أبدي” (2تي 2: 10) "لهذا رحمت ليظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية” (1 تي 1: 16).

"المسيح … رأس الكنيسة وهو مخلص الجسد” (أف 5: 23).

"أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب" (أف5: 25- 27).

الكنيسة "هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل” (أف1: 23) أي مجموع جماعة المسيحيين الحقيقيين هم كوعاء يملأه المسيح.

"وليملك في قلوبكم سلام الله (المسيح) الذي إليه دعيتم في جسد واحد" كو 3: 15 " نعمة الرب يسوع المسيح معكم” (1كو16: 23). " نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين” (2كو 13: 14).

"نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم أيها الاخوة” (غل 6: 18).

"أمين هو الرب الذي سيثبتكم ويحفظكم من الشرير” (2تس 3: 3).

"الرب يسوع المسيح مع روحك” (2تي4: 32).

"ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم فأنقذت من فم الأسد. وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلّصني لملكوته السماوي. الذي له المجد إلى دهر الدهور آمين” (2تي 4: 17 و18) وظاهر أن الكلمة " الرب " تشير إلى الذي خدمه بولس لأنه خلصه لملكوته السماوي.

إن في الآيات التي ذكرناها، وفي كثير من أمثالها مما لم نذكره، نسبت الأوصاف الإلهية للمخلّص يسوع المسيح وحده. ولكن في ما يلي نرى أن تلك الأوصاف نسبت إليه بالمساواة مع الآب "نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح" "نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والرب يسوع المسيح مخلّصنا" "وربنا نفسه يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبنا وأعطانا عزاء أبدياً ورجاء صالحاً بالنعمة يعزي قلوبكم ويثبتكم في كل كلام وعمل صالح” (رو 1: 7 وتي1: 4 و2تس2: 6 و17؛ راجع أيضاً ديباجة كل رسالة). فأطلب من المسيحي المخلص والمتعبّد الذي يؤمن بكلمة الله والذي هو مختبر ضعفات الطبيعة البشرية في حالتها الحاضرة ومختبر إعوازها وآثامها وأخطارها وتجاربها وهمومها ويعرف توقعها للدينونة الأبدية، أطلب منه أن يتأمل في تلك البركات والنعم التي رأينا أنها عمل المسيح وعطيته. ففي الفصول التي سردناها آنفاً ذكر بأوضح الأقوال وأكملها أن المسيح قد تنازل لينقذ البشر من شقاوتهم وليخلص الخطاة، وأنه يعطي الشفقة والرأفة المتناهية، ويرحم برحمة لا حد لها، وينجي من أعظم الشرور في الحياة الحاضرة والعتيدة، ويمنح القداسة التامة، ويهب البركات الثمينة والعظمى، ويعطي معرفة حق الله، ويمنح القدرة على التعليم بحقه، وأنه هو الذي يمد عمل الإنجيل وينجحه. وكل البركات الجسدية والفضائل الأدبية والمزايا المسيحية هي عطية يديه الكريمتين. ورأينا أن المسيح يحل في نفس الإنسان، ويحفظ الإنسان من الخطية ومن التجربة ومن الأعداء، وينقذ من الاضطهادات ومن الأحزان ومن الموت، وأنه هو الذي يكلل بإكليل السعادة السموية إلى الأبد. فقولوا لي من ذا الذي يستطيع أن يعمل هذه الأمور سوى ذاك الذي هو ينبوع الماء الحي؟

ثانياً– إن المسيح ظاهر في كلام الرسول بصفة كونه هو السلطان الذي يشتغل الرسول تحت أمره وتحت يده، وهو العلة الفعالة في المعجزات والعجائب التي رافقت إرساليته وفي النجاح الذي صادف أعماله. فقد قال الرسول في ذلك " بولس وتيموثاوس عبدا يسوع المسيح” (في 1: 1) " بولس عبد ليسوع المسيح … الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم” (رو1: 1 و5).

"بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات" "… أم أطلب أن أرضي الناس؟ فلو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح. وأعرّفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به أنه ليس بحسب إنسان. لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علّمته. بل بإعلان يسوع المسيح” (غل1: 1 و10- 12).

"كذلك نحن أيضاً للمسيح. فإني وأن افتخرت شيئاً أكثر بسلطاننا الذي أعطانا إياه الرب لبنيانكم لا لهدمكم لا أخجل” (2كو10: 7 و8). "وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قواني أنه حسبني أميناً إذ جعلني للخدمة" (1تي1: 12).

"لأني لا أجسر أن أتكلّم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب بقوة روح الله" (رو15: 18و19).

"وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشّرين والبعض رعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح” (أف4: 11 و12).

إن الرسول إذ تنبّه إلى التأثير الإلهي على العقل– ذلك التأثير الذي هو ضروري لإيجاد التقوى ونموها- يسمّي موجد ذلك التأثير " روح المسيح " مرادفاً للقول " روح الله ". ولكن لو كان قد أنكر لاهوت المسيح لكان قوله هذا سخيفاً بل ومخطراً أيضاً.

وترادف العبارتين " روح الله " و" روح المسيح " يظهر في القول " أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكناً فيكم.ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (رومية8: 9).

ففي هذه الأقوال يظهر أن المسيح هو منشىء الوظيفة الرسولية وربّها. وهو المنسوب إليه تكوين الأفكار وإيهاب الصفات المرشحة لوظائف الخدمة المسيحية سواء أكانت الخدمة الوقتية أو المستمرة، وهو المنسوب إليه المواهب الطبيعية والقوات المعجزية التي وجدت في العصر الرسولي، وهو المنسوب إليه أيضاً قوة الإنجيل العجيبة في التعليم والتجديد وفي إصلاح العالم حتى إننا لما نتأمل في عمل المسيح الذي أجراه بقوته الإلهية نستطيع أن نصرخ ونقول "من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا” (متى 21: 42).

ثالثاً– إن العناية الإلهية وترتيب أعمالنا الزمنية من عمل المسيح نفسه:

"إني أرجو في الرب يسوع أن أرسل إليكم سريعاً تيموثاوس” (في2: 19) والعبارة المترجمة "أرجو في الرب يسوع" تفيد في الأصل (بإذن المسيح ومعونته) "والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا إليكم” (1تس 3: 11).

رابعاً– إن الرسول يبيّن لنا في كتاباته أن المسيح هو موضوع إكرامنا ومحبتنا ويجب أن نذعن لإرداته ونعتمد عليه لنيل الخير الأعظم. فإن الرسول بعدما بيّن أنه " لا بد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح” (2كو5: 10)زاد على ذلك فقال مشيراً إلى المسيح " فإذ نحن عالمون مخافة الرب نقنع الناس” (2كو5: 11). فيحق لنا أن نقول أن ما ورد في أف5: 21 "خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله" أنها تشير أيضاً إلى المسيح كما ورد في بعض النسخ المعول عليها وكما ورد في أف6: 5 أن العبيد يطيعون ساداتهم في بساطة قلوبهم كما للمسيح "وهذا القول يرادفه في كو 3: 22-24 "ببساطة القلب خائفين الرب... اعملوا من القلب كما للرب ليس للناس عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث. لأنكم تخدمون الرب المسيح. وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة".

فترى أن "خوف الرب" الوارد في الآيات التي ذكرناها يليق أن نطبّقه على قول الرسول في 2كو 7: 1 "لنطهّر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله "فالخوف الواجب أن يقدّم لله هنا مذكور في كثير من الآيات الأخرى أنه يجب أن يقدّم للمسيح. ويجب أن تقدّم له طاعتنا القلبية لأنه الحاكم الأعلى والديّان للجميع والذي سيعطي له كل واحد حساباً عما صنع بالجسد خيراً كان أم شراً.

نرى أيضاً أن يسوع المسيح قدّم لنا في رسائل بولس بصفة كونه موضوع رجاء المؤمنين ومتّكلهم ومعتمدهم. فبهذه الكيفية لا بد أن يكون هو الله فقد قال "ربنا يسوع المسيح رجاؤنا” (1تي 1:1)و "متذكرين... عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح” (1تس 1: 3) وقوله "وعليه يكون رجاء الأمم” (رو15: 12) وقوله "لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح” (أف1: 12) وقوله "إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (1كو15: 19) وقوله "لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم " 2تي 1: 12 (قابل 2تي 4: 8). فالرجاء والاعتماد والإيمان لا يمكن أن تكون بمخلوق، واللعنة محتمة على من يتكل على غير الله (انظر مز 2: 12 و84: 12 وأم16: 20 ومز65: 5 وإر 17: 5). والمرجو والمتكل والمؤمن به هو الذي يحفظ ويعتني ويخلص. فمن يقدر أن يهب هذه البركات ويعمل هذه الأعمال سوى الله تعالى؟

خامساً: إن فكرة المسيح ومشورته مظهرة في الكتاب أنها فكرة الله ذاته ومشورته غير المدركة عند البشر ولا يمكن لأحد أن يعرفها إلا إذا أعلنها له هو بشخصه "لأن من عرف فكر الرب فيعلّمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح” (1كو2: 16). ففي هذه الآية نرى أن فكر المسيح هو فكر الرب بعينه، وقد سبق أشعياء فقال هذا القول ذاته عن الله (أش 40: 13).

سادساً: "يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد"(عب 13: 8) يظهر أن الرسول وضع هذا القول كمبدإ يبني عليه الحض على الثبوت في الإيمان الذي ذكره في العدد التالي. أما قصد الرسول الظاهر في قوله المشار إليه فهو أن مخلصنا غير متغير وكمالاته هي هي أبداً ومجده غير متناه فلذلك يجب علينا أن نخضع لحقه وسلطانه خضوعاً تاماً وقلبياً. فلا يوجد أقل إشارة في القول المذكور تجعلنا أن نحول المعنى المقرر الواضح. كيف لا وأن الرسول في ختام رسالته كرر ما سبق فقرره في بداءة الرسالة حيث قال عن الابن " كرسيّك يا الله إلى دهر الدهور... وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى” (عب1: 8- 12).ولكي نعزز فكرنا نذكر قول أحد علماء فلسفة اللغات الذين اشتهروا في القرن الماضي: قال "إن هذا القول (عب1: 8- 12) يبين عدم تغيّر المسيح ويبيّن أزليّته ويتضمّن برهاناً لا يدحض عن لاهوته وهو مقتبس من مز 102: 24- 28 وهو من الأوصاف الإلهية ويدل على عدم تغيّر طبيعته وقضائه وأحكامه وأفكاره. ولما كرّر الرسول معنى هذا القول في ص 13 بنى عليه قوله "لا تساقوا بتعاليم متنوعة وغريبة".

فنرى أمامنا أسباباً راهنة لاعتبار أن هذه الآيات مبينة صفة المسيح اللاهوتية الغير المتغيرة.

سابعاً: انا نجد في كتابات الرسول أن الأحكام الكنسية توقّع "باسم ربنا يسوع المسيح” (1كو 5: 4) وذلك مهم حتى لا نحسب أن تلك الأحكام هي من سلطة مخولة لمعلّمي الكنيسة بل أنها تتضمّن قوة لإيقاع القصاص على المذنب بكيفية كافية لأن تقنعنا أن تلك الأحكام صادرة من قضاء إلهي.

وكذلك يتكلم الرسول عن بركات الإنجيل قائلاً أننا قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإنجيل (الإيمان) "بيسوع المسيح ولأجل اسمه" رو 1: 5 بل يقول في 1كو 6: 11 "اغتسلتم بل تقدّستم بل تبرّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا"، فيبيّن أن كل بركات الإنجيل ننالها باسم الرب يسوع. وفي قوله المذكور جعل "اسم ربنا يسوع المسيح وروح إلهنا في درجة واحدة وبيّن لاهوات الابن ولاهوت الروح القدس أيضاً. بل في أف 5: 20 نرى أن الرسول يأمرنا قائلاً " شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح لله والآب " فكل واجبات الديانة العمليّة نعملها " باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به” (كو 3: 17). وغاية الطاعة الإلهية هي "لكي يتمجّد اسم ربنا يسوع المسيح فيكم وأنتم فيه بنعمة إلهنا والرب يسوع المسيح” (2 تس 1: 12).

ثم نذكر شاهداً مهماً مظهراً فيه وظيفة المسيح الشفاعية ووظيفته الملكية " لذلك رفّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (في 2: 9-11) وفي ذلك لنا عدة اعتبارات:

1- لنا وصف حالة تواضع المسيح (المذكورة في ع 8 من هذا الفصل) كونه أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس وأطاع حتى الموت موت الصليب، الأمر الذي يدل على أنه أخلى نفسه من إظهار أمجاد طبيعته اللاهوتية وجوهره الأزلي اللاهوتي حينما ظهر في الجسد.

2- لنا إظهار لاهوته وكمالاته وجلاله بعد إتمام عمل الفداء حيث تمجّد بالمجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم وأعطي له اسم فوق كل اسم.

3- لنا امتداد سلطانه كفاد وملكوته كمكفّر عن خطايا البشر وهو أن "تجثو باسمه كل ركبة... ويعترف كل لسان أنه رب". ولا شك أن الرسول كان يشير بهذا القول إلى ما ورد في إش 45: 23 و24 "بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع أنه لي تجثو كل ركبة يحلف كل لسان... إليه بأتي ويخزى جميع المغتاظين عليه".

وواضح أن المسيح ابن الله هو المشار إليه في قولي بولس وأشعياء المذكورين، وهو هو يهوه الذي قدر أن يقول "هكذا يقول الرب فاديكم... لأجلكم أرسلت إلى بابل” (أش 43: 14).

4- نقول أنه بخصوص تمجيد طبيعة المسيح الناسوتية وإظهار عظمته يتضمّن ما يأتي: أ- قيامته من بين الأموات ب- صعوده إلى السماء ج- نواله أسمى رفعة وهو معبّر عنه بجلوسه عن يمين الله د- العظمة الخصوصية والسعادة والسرور الذي نالته الطبيعة الناسوتية من اتحادها بالطبيعة اللاهوتية التي للمسيح ذلك الاتحاد الدائم والعديم المثال والغير المدرك عند المخلوقات العاقلة. نواله ملكوتاً خاصاً وسلطاناً خاصاً.

فقد سماه دانيال "المسيح الرئيس” (دا 9: 25) ووصف مملكته بالقول " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدّامه. فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا 7: 13 و14).

وهنا يليق أن نبيّن بعض الحقائق الواجب فهمها لتعيننا على حل كثير من آيات العهد الجديد بخصوص المسيح. فنقول: لا يخفى أن المسيح ابن الله المتجسّد هو ذو طبيعتين ممتازتين في أقنوم واحد، أي طبيعة اللاهوت وطبيعة الناسوت. وفي الكتاب نسبت صفات وأعمال إلى المسيح، بعضها مما يليق أن ينسب إلى لاهوته فقط، وبعضها مما يليق أن ينسب إلى ناسوته فقط. وفي هذين من باب الإطلاق على الكل ما يطلق على الجزء مثلما تقول الإنسان فانٍ والإنسان خالد فإن القول الأول يقصد به الجسد دون الروح والثاني يقصد به الروح دون الجسد وفي كليهما تقول الإنسان، أو يتكلّم الإنسان عن نفسه ويقول أنا فانٍ أو أنا خالد.

ومن الصفات والأعمال المنسوبة إلى المسيح ما ينسب إليه كإله وإنسان معاً آخذاً وظيفة فادي الخطاة فهو بصفة كونه "في البدء. وكل شيء به كان. وكائن قبل إبراهيم    وفاحص الكلى والقلوب. وعالم بكل شيء. والله الذي كرسيّه إلى دهر الدهور. والذي هو والآب واحد" وما شاكل ذلك. وهو ينسب إليه ولكنه خاص بلاهوته فقط. وبصفة كونه– يأكل ويشرب ويجوع ويعطش ويتعب وينام ويبكي ونفسه تحزن حتى الموت ولا يعلم ولا يقدر أن يعمل شيئاً من نفسه وأبوه أعظم منه ويموت– فهذه تنسب إليه ولكنها خاصة بناسوته فقط. وبصفة كونه له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا ويسجد له ويدفع إليه كل سلطان في السماء والأرض ويرفّع ويعطى اسماً فوق كل إسم ويتوسّط وما شاكل ذلك تنسب إليه وتطلق على شخصه باعتبار أنه ذو طبيعتين متحدتين في أقنوم واحد. ومن هذه النماذج قوله "متى سلّم الملك" الخ الذي يعني أن الملك الذي هو كنيسته بقول لأبيه عنه ها أنا والأولاد الذين أعطيتنيهم قد جمعت كل مختاريك فخذهم أيها الآب. فحينئذ يكون قد انتهى عمل المسيح كخادم الفداء ويصير الحال كما كان قبل خلق العالم حيث لم يكن بشر ولا تسمية أقانيم اللاهوت باسم الآب والابن والروح القدس لأجل إعلان عمل الفداء للبشر وهذا معنى قول الرسول ويكون الله الكل في الكل أي لا يصير في ما بعد تمييز في عمل الأقانيم كما كان في وقت عمل الفداء.

والآن نرجع فنقول أن كل الشواهد التي ذكرناها وما يماثلها تشخّص مملكة المسيح بنظام أو بناء مرتّب ومنسّق أنشأته وبدأت به حكمة الله وبرّه وصلاحه وخدمه ابن الله وأنهاه طبق مشيئة أبيه وبعد ذلك جلس عن يمينه.[1]

زد على ذلك فإن هذه الفصول تبيّن أن ملك المسيح هذا لم تستمد سلطته من نظامات عالمية، ولم يعضد بقوة خارجية مهما كان نوعها، وتدل على أن سلطة ذلك الملك قائقة، وصولته عامة ممتدة فوق كل المخلوقات وعلى كل أعمالها السموية والأرضية والجهنمية، وعلى عقول البشر وعواطفهم وكل تصرفاتهم الأدبية، وعلى كل أعمال العناية، وعلى تأثير الديانة في القلوب، وعلى الموت والحالة المقبلة بعد الموت، وعلى أن إعطاء الشرائع الدينية وتنفيذها هو تحت تصرفه، وكذلك إذاعة خبر الإنجيل ونجاح الكرازة به والشفاعة وعمل النعمة الإلهية والنصرة على أضداده وقهر كل قوة عدائية أخرى، وجزاء الأبرار وعقاب الأشرار– هذه كلها من أعماله حتى أن نهاية تلك الأمور المحتمة تكون إذاعة مجد المسيح الفائق والتعجب منه وتمجيد الآب به. وحينما تتم كل المقاصد بخصوص ذلك الملك ينتهي هذا النظام الوساطي، ولا يعود المسيح يعمل كفاد ومخلص في هذه الأرض لأن عدد مختاريه يكون قد كمل وأحضرت كنيسته تامة وكاملة له ولأبيه، فيسلّم سلطانه على الكون لله الآب باعتبار كونه وسيطاً ليكون ذلك الملك للاهوت خاصة لا للوسيط، ويكون إذ ذاك قد دخل كل القديسين إلى المجد حيث لا خطية ولا شقاء ويتمتعون في الحال بنعيم الله الأبدي. وكل ما حصل من إتمام عمل الفداء يكون لمدح مجده، ويكون الله الآب والله الابن والله الروح القدس الإله الواحد هو الكل في كل سكان السماء السعداء المغبوطين.

على أن نسبة المسيح إلى شعبه الخاص ككاهن وملك تدوم إلى الأبد ولو لم يبق لزوم للمارسة هذه الوظائف في العالم السماوي.[2]

ثم ليعلم أن مهما كانت آراؤنا ناقصة وغير جليّة بخصوص انتهاء ملك المسيح الوساطي لكن مع ذلك هذا لا ينقص من مجد الفادي ولا يقلل من درجة المفديين لأننا متيقنون بنعيم وهناء الحالة السموية إذ يقول الكتاب " الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها... لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها " ونهر ماء الحياة الصافي اللامع كالبلور الخارج من عرش الله والخروف هو معين بركاتها الذي لا ينضب (رؤ21: 22 و23 و22: 1).

فاتحاد المسيح بشعبه لا ينفصم لأنه لا أمور حاضرة ولا مستقبلة تقدر أن تفصلنا عن محبة المسيح (رؤ8: 35- 39). ويعبّر الرسول بكل وضوح عن حالة المسيحيين الأخيرة بالقول "دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي” (2بط1: 11). والآن نطلب من اخوتنا الموحّدين أن يتأمّلوا في النتائج المريعة الناتجة عن رفض لاهوت مخلّص العالم. فمنها: الارتباك في الأفكار التي أخذوها من بيلاجيوس وآريوس وسوسيندوس وغيرهم من الهراطقة وأن كانوا لا ينسبون انفسهم لهم ظاهراً. وما الذي أوجد فيها الأفكار المنحرفة سوى " محبة العالم التي هي عداوة لله " ممن " لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها " الامور التي تسبّب عنها رفض الكثيرين منهم لكل ما هو فائق الطبيعة وانكار الوحي واتّباعهم لمذهب تأليه الكون والكفر والإلحاد. قال المسيح وقوله حق " من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير” (يو12: 48).

 ثامناً: إن القسم في تقرير الحقائق لا بد أن يكون بالله العليم القدير، لأن القسم عادة يقترن بطلب وقوع العقاب على الحالف إذا كان ما يقرّره كاذباً. وعليه فإنه يوجد في كتابات بولس أمثلة متنوعة من الأقسام وفي أغلبها القسم بيسوع المسيح كما بالله ومن ذلك قوله في رو 9: 1 "أقول الصدق في المسيح ولا أكذب " وقوله في المسيح " يعني " بالمسيح " مثل ذات العبارة الواردة في دا12: 7 " وحلف بالحي إلى الأبد " وفي إر 5: 7 وحلفوا بما ليست آلهة ". والعبارة " في المسيح " باليونانية هي في صيغة القسم كالعبارة " بالله " في العبرانية (وكذلك العربية) لأن معناها – إني أدعو المسيح نفسه كشاهد على صدق ما أقرّره – لأن الحرف " في " في اليونانية مثل الحرف "ب" في العبرانية (أو العربية) يدل على أن ما بعده هو مقسم به كقول المسيح للمؤمنين في مت 5: 35 الخ " لا تحلفوا... لا بالسماء... ولا بالأرض... ولا بأورشليم... ولا برأسك " 10: 6 "وأقسم بالحي الخ " واش 62: 8 " حلف الرب بيمينه " الخ ومثلها تماماً أف 4: 17 "فأقول هذا وأشهد في الرب ".

ومن نماذج التوسلات التي توسّلها الرسول إلى المؤمنين قوله 1تي5: 21 " أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين "، و1تي 6: 13 " أوصيك أمام الله الذي يحيي الكل والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن "، و2تي2: 14 " فكّر بهذه الأمور مناشداً قدّام الرب " و4: 1 " أنا أناشدك إذاً أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته ". فهذه الأقوال وما شابهها تظهر لنا أنها تنسب لربنا ومخلصنا يسوع حضوره مع الأشخاص المذكورين وفي الأزمنة والأماكن المشار إليها بكيفية لا تقبل النقض. وحضور كهذا هو حضور شخصي بل حضور واحد خبير بكل الأحوال ومطّلع على كل الأمور. ونرى أن الملائكة المختارين قد ورد ذكرهم في أحد الفصول المذكورة. فسواء كان هؤلاء الملائكة هم خدام الكنائس– كما افتكر البعض- أو ملائكة روحانيين، فعلى كل حال هم مشار إليهم بصفة كونهم حاضرين في أحوال تأدية تيموثاوس واجبات وظيفة الكنيسة. وبقي علينا أن نعرف أي نوع من الحضور يجب أن نؤمن به بخصوص حضور المسيح. فإن أولئك الذين يؤمنون به أنه مجرّد أنسان لا يتفق إيمانهم مع كونه له خاصيات الملائكة. وافترض حضور المسيح بالجسد مراراً في العصر الرسولي لا يتفق مع ما ورد في الرسائل بهذا الخصوص؛ لأنه كما يظهر، أنها ليست حوادث نادرة وقليلة الحدوث (كما يحمل ذلك الافتراض) بل اعتيادية، سواء كان في الاجتماعات الدينية أو في أعمال الحياة الاعتيادية. ولكن تفسّر هذه الفصول تفسيراً معقولاً متى قبلنا التعليم عن طبيعة المسيح اللاهوتية لأن هذه الفصول تدل على أن قداسة المسيح وقدرته وسلطانه هي التي تنفّذ بموجبها الواجبات الرعوية، وهي التي تشجع وتقوّي خدامه وتمدّهم بالنعمة اللازمة لهم، وهي تدل على أن المسيح هو الذي يعلّم ويحافظ ويمدح ويستهجن كما يليق بذاك الذي ستعرف كل الكنائس أنه هو الفاحص الكلى والقلوب وسيعطي كل واحد بحسب أعماله (رؤ 2: 23).

تاسعاً: إن المسيح يسوع هو موضوع الخضوع الديني:

إن الرسول لما نظر إلى دخول الأمة اليهودية إلى الإيمان بالمسيح وصفهم بأنهم " رجعوا إلى الرب " أع 11: 21 وسياق الكلام هنا يدل على أن " الرب " هو المسيح رئيس نظام الإنجيل.وإلى المسيح أيضاً قد نسبت القوة والنعمة اللتان تكمّلان خضوع الأمم (عب 5: 9 و10: 26) وظاهر أن المسيح هو موضوع ذلك الخضوع. ونراه يقول أن غرضه الأعظم في خدمته الرسولية هو أن يستأسر كل فكر إلى طاعة المسيح (2كو10: 5). وفوق ذلك نجد أن الأعمال الخصوصية التي يعملها المسيحي في طاعته تسمّى خدمة للمسيح رأساً كقوله في رو 14: 17و18 " بر وسلام وفرح في الروح القدس لأن من خدم المسيح في هذه فهو مرضي عند الله " وفي رو 16: 17 و18 " الذين يصنعون الشقاقات والعثرات... لا يخدمون ربنا يسوع المسيح " وفي 1كو9: 21 "مع إني... تحت ناموس للمسيح " و14: 37 " إن كان أحد يحسب نفسه نبياً... فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصايا الرب " و11: 23 " لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً " و2كو 5: 14 و15" محبة المسيح تحصرنا... كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام " وغل 6: 2 " احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمّموا ناموس المسيح" وكو 3: 23 و24 " وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث. لأنكم تخدمون الرب المسيح". ففي هذه الأقوال وما يماثلها نرى أن جميع أعمال المسيحيين تعمل إطاعة للمسيح وخضوعاً لأوامره ولأجل خاطره. ولا يمكننا أن نتصوّر أن مثل هذا الخضوع وهذه الطاعة المذكورة في هذه الفصول وغيرها مبالغة في قبول تعاليم المسيح النبوية، لأنه لو كان بشرياً مجرداً لماوجب له الخضوع والطاعة المذكورة. عدا عن أنه ليس من عادة الكتاب المقدس تبجيل البشر مطلقاً بل هو على خلاف ذلك على خط مستقيم. فلم نقرأ أن اللاويين في العهد القديم كانوا يخدمون موسى ويعيشون له، ولا المسيحيين في العهد الجديد كانوا يخدمون بولس ويوحنا ويعيشون لهما، بل كانوا جميعهم يوجهون أفكار الناس إلى الله. فيوحنا المعمدان، مثلاً، لما لاحظ أن أفكار اليهود اتجهت إليه ظانين أنه المسيح، ناضل بكل قوة لنزع هذا الفكر منهم قائلا: لست أنا هو. ويعبّر الكتاب عن ذلك بالقول " اعترف ولم ينكر وأقرّ أني لست أنا المسيح ". وكذلك بطرس ويوحنا لما أقاما المقعد على الباب الجميل ورأيا الناس يشخصون إليهما لم يحتملا مجرّد نظرهم إليهما، بل قالا لهم بكل غيرة " لماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي ". فيجب أن لا نعصر الكلمات ونلويها ليّاً لتحويلها عن معناها الصريح المقصود، بل نقبلها كما هي بكل بساطة، فنرى فيها لاهوت ربنا يسوع المسيح مجسّماً ظاهراً لمن عنده ولو جزء صغير من البصر وواضحاً لدى من عنده ذرّة من الاخلاص ومحبة الحق.

عاشراً: إن المسيح مقدم لنا في الإنجيل بصفة كونه الشخص الذي يرتكب الانسان خطية بالعصيان عليه وذلك بكيفية تمتاز كل الامتياز عما يقمع في حق البشر اخوتنا من الذنب. لأنه، وإن صحّ أن يقال أنني أذنبت في حق أخي، فإن هذا الذنب ثانوي بالنسبة للذنب في حق الله.زد على ذلك فإنه مذكور في الكتاب أن الذنب في حق المسحي يجعل الإنسان تحت طائلة أشنع عقاب وأشد قصاص. ويظهر ذلك واضحاً من مراجعة بعض أقوال الرسول التي منها " وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح” (1كو 8: 12) " ولا نجرّب المسيح كما جرّب أيضاً أناس منهم فأهكلتهم الحيّات” (1كو 10: 9) الذي منه يستدل أن المسيح كان في الوجود ومخطأ في حقه في مدة سفر الشعب المختار في البرية. فيكون إذا هو يهوه أو الله الذي تذمّر الشعب عليه (عدد 21: 5 و7). وهل يوجد من يتصور أن تكلّم إسرائيل في حق الله هو في درجة تكلّمهم في حق موسى من الشناعة واستحقاق القصاص؟ وقوله: "فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به” (عب 2: 3) وقوله: “فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله” (عب10: 29)، وقوله: " انظروا أن تستعفوا من المتكلم. لأنه إن كان أولئك لم ينجوا إذ استعفوا من المتكلم على الأرض فبالأولى جداً لا ننجو نحن المرتدين عن الذي من السماء” (عب12: 25).

حادي عشر: إن المسيح مقدم في رسائل بولس بصفة كونه موضوع تعبّدنا والذي تقدم إليه صلواتنا وابتهالاتنا وتشكراتنا:

1- "كنيسة الله التي في كورنثوس... مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح” (1كو1: 2) ومعنى " يدعون باسم ربنا يسوع المسيح " يصلون إليه. وكذلك قوله: " وأنا أشكر ربنا الذي قوّاني ". ففس هذا يظهر أن الرسول كان يقدّم صلوات الشكر للمسيح يسوع.

2- لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى. لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن رباً واحداً للجميع عنيّاً لجميع الذين يدعون به. لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص. فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به. وكيف يؤمنون بمن لمن يسمعوا به” (رو 10: 11- 14).

فأما كون الشخص المشار إليه في هذه الأعداد أنه يؤمن به ويدعى به هوالمسيح فهذا يتّضح جليّاً من مراجعة الفصل من أوله (خصوصاً ع 9) " لأنك إن اعتبرفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت....لأن الكتاب يقول الخ ". والاقتباس الذي اقتبسه الرسول هنا من أشعياء قد خصّصه الرسول بطرس واضحاً للمسيح يسوع (طالع 1بط 2: 6). فكلاهما حسبا أن قول أشعياء المشار إليه هو نبوة عن المسيح. لأنهما كانا تحت ارشاد روح المسيح الواحد الذي كان في الأنبياء قديماً (1بط 1: 10 و11).

ويظهر أن تشبيه المسيح بحجر كبير موضوع في زاوية بناء مقدس رابطاً الحوائط بعضها ببعض وله كل الحق في حماية الهارب من سيف وليّ الدم– كان هذا التشبيه مأثوراً بين اليهود. وأن كان يقصد به التأكيد عن حفظ حزقيا الملك ومملكته من حصار الأشوريين إلا أنه يتضمّن الوعد بالمسيح الذي يأتي من نسل حزقيا.

ولا يخفى أنه ورد في سفر يوئيل أيضاً القول "كل من يدعو باسم الرب ينجو” (يخلص) وفسّرها بطرس بأنها تشير رأساً إلى المسيح. فكلتا هاتين النبوتين تتنبآن عن الشخص الذي تكلم عنه بولس الرسول، أعني المسيح الموعود به بصفة كونه أتى فعلاً وملك ملكالعظمة والمجد وصار معطي الخلاص ويدعو الناس أن يأتوا إليه لنوال الخلاص منه (قابل يوئيل 2: 28- 32 مع أع2: 16- 36).

وفوق ذلك يظهر لنا واضحاً أن الشخص المشار إليه بصفة كونه موضوع الإيمان والصلاة هو المسيح الذي " ليس بأحد غيره الخلاص” (أع4: 12) والذي عليه يكون رجاء الأمم (رو15: 12مع أش 11: 10) بل الأمم مدعوون ليتكلوا عليه (مز2: 12) ذاك الذي لم يسمعوا به بعد والذي لا يمكن أن يؤمنوا إن لم يكرز لهم عنه بالإنجيل. وواضح أيضاً أن بطرس لما حمل بشارة الخلاص إلى بيت كرنيليوس– أول عائلة أممية قبلت إنجيل المسيح– قال لهم " يبشر بالسلام بيسوع المسيح. هذا هو رب الكل” (أع 10: 36).

3- "أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع. من جهة هذا تضرّعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني. فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح” (2كو12: 7- 9). فالقرينة هنا تدل على أن " الرب " الذي تضرّع إليه الرسول مراراً ليرفع عنه تلك الشوكة هو الرب يسوع المسيح (لاحظ قول المرنم " الرب قوتي " وقول الرسول " قوة المسيح "). زد على ذلك فإن المسيح هو الذي وعد أن يبقى مع رسله " كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت 28: 20)، وهو الذي ظهر لبولس ظاهراً وفي الرؤيا.

ومن المقابلة التي نوردها هنا بين صلاة الرسول مع ما يماثلها في العهد القديم يتبيّن أن الرب يسوع هو ذات يهوه المعروف عند شعب الله من القديم.

من جهة هذا تضرّعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني (2كو12: 8)

فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل (عدد 9)

 لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي (2كو12: 10)

 أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني (في 4: 13)

ولما تضايق طلب وجه الرب

إلهه (2أي 33: 12)

الله... هو المعطي قوة وشدة

للشعب. مبارك الله (مز68: 35)

صخرة قلبي... الله إلى الدهر (مز73: 26)

"لأني إلهك. قد أيّدتك وأعنتك” (أشعياء 41: 10)

ويصعب علينا معرفة نوع الشوكة التي كانت عند بولس الرسول هل هي ضعف جسدي (مثل الرمد الصديدي) أو ألم عقلي أو كلاهما معاً، ولكن مهما كان الحال فإن بولس صلى للمسيح طالباً مفارقة تلك الشوكة. ومعلوم أن طلبة كهذه إذا قدّمت لمخلوق فهي غباوة وإلحاد وما هي سوى نسيان الرب والاتكال على ذراع بشر. فإذاً قدّم الرسول طلبته إلى المسيح بوصف كونه الإله الخالق.

4- "وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب1: 6). أنه لا يصح أن نفتكر أن هذه الآية تدل فقط على سمو المسيح عن غيره من أنبياء الله ورسله – كما افتكر البعض– لأنه واضح بأن الله هو القدير الناطق بأصوات الأنبياء وبكتبهم ووعد أن يفك ختوم مشوراته الأزلية ليعرف الرؤساء والسلاطين في السمويات مشورات بره ورحمته. فعند ما يدخل إلى العالم ذاك الذي هو مكمّل تلك المشورات والضامن للعهد الأزلي– "الابن الوحيد"– "بهاء مجده ورسم جوهره " وعندما يكسوه "يشبه جسد الخطية " يقول لكل المخلوقات السامية " اسجدوا له يا جميع الآلهة” (مز 97: 7).

ويظهر هذا جلياً من مراجعة المزمور المقتبس منه هذا العدد فإنه بأكمله تمجيد لا يليق إلا ليهوه العظيم نفسه. فإما أن يكون روح الله قصد بذلك المزمور أن يكون كنبوة تصف المسيح وملكوته وأما أن يكون كتبة العهد الجديد لم يرتابوا في أن ينسبوا أقوال الأسفار المقدسة (التي هي بين أيدي اليهود والتي تصف كمالات الله وتمجده) بتمامها للمسيح رأساً. والنتيجة واضحة في كلا الفرضين.وإذا كان كتبة العهد الجديد لم يرتابوا في أن يخصصوا أقوال الأنبياء بالمسيح فيكون المسيح هو الله وينسب له كل ما ينسب للعزة الإلهية من الكمالات والمجد. ولكننا إذا أنكرنا ذلك فكأننا لم نحذف هذه الرسالة فقط من كتاب الله بل نكون قد حذفنا كل ما كتبه الرسل وبالتالي نكون قد حذفنا العهد الجديد بجملته لأنه يحتوي على التصريح بلاهوت المسيح مرات لا تحصى وفيه قد نسب له كل الأعمال الإلهية والصفات الإلهية والتعبد الإلهي وتكون النتيجة هدم الديانة المسيحية من أساسها والعياذ بالله لأنها امتازت عن كل أديان العالم باعتقادها أن المسيح هو الإله الوحيد الحي الحقيقي وبأن الخلاص الذي يحتاج إليه البشر لا يمكن أن يجريه سوى الله القدير جلّ جلاله.

ثاني عشر: "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو13: 14).

إن هذه الآية هي صلاة مقدمة من الرسول لله جلّ جلاله. ويظهر منها وجود ثلاثة أقانيم في اللاهوت، وهؤلاء الثلاثة هم واحد لا أول ولا آخر بينهم. ونرى في ترتيب هذه الصلاة ما ينزع الفكر بوجود سابق أو لاحق أو أعظم أو أدنى بين أقانيم اللاهوت. فربما ينتظر البعض أن ذكر الآب يسبق ذكر الابن دائماً لكن هنا ذكر الابن قبل ذكر الآب وبملاحظة البركة الرسولية في ختام الرسائل (رومية وكورنثوس الأولى وغلاطية وفيليبي وتسالونيكي الأولى وتسالونيكي الثانية وتيموثاوس الثانية وفيلمون) نجدها "نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم " ولم يذكر فيها الآب أو الروح القدس. وبمراجعة الرسائل (أفسس وكولوسي وتيموثاوس الأولى وتيطس وعبرانيين) نجد ألفاظ البركة الرسولية " النعمة معكم " ومفهوم بالمقابلة مع كل آيات الكتاب أن النعمة تنسب للمسيح. فالرسول في رسائله الثلاث عشرة المذكورة يستودع المؤمنين لنعمة المسيح لأنه لا يعلم علم اليقينأن المسيح من حيثية الجوهر هو الله الواحد الحي الحقيقي (راجع الباب التاسع من هذا الكتاب) حتى نسب الروح القدس إلى أنه روح المسيح إذ قال في رو 8: 9 " إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له " وفي 1بط 1: 11 " الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم” (في الأنبياء). ويبعد عن الفكر كل البعد أن الرسول يفكر بهذا المقدار حتى يستودع المؤمنين في يد مخلوق أياً كان.

ثالث عشر: "لأنه فيه سرّ أن يحل كل الملء” (كو1: 19) " فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً. وأنتم مملوؤن فيه الذي هو رأس كل رياسة وسلطان” (كو2: 9 و10).

إن المعنى العمومي لكلمة " ملء "– حسبما ورد في الكتاب المقدس– يفيد الغرازة والوفرة أو كل ما يمتلكه الشخص الذي تنسب إليه. وبالنتيجة يكون معنى "ملء" متوافقاً مع معنى "كمال” (راجع 1أي16: 32، مز24: 1، إش 34: 1، رو11: 12 و25 و15: 29). فينتج إذاً من قول الرسول المذكور أن كمال البركات (المذكورة في كولوسي 1: 12 و13)– أي تأهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، وإنقاذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبة الله والفداء وغفران الخطايا– هي بركات انحصرت في المسيح وضروري أن يكون هو مخزنها بل منبعها لإتمام عمله كمخلص ولسد حاجة المذنبين والخطاة الواقعين تحت الدينونة ولإنقاذهم من حالة الفساد والشقاوة ورفعهم إلى درجة القداسة والحرية. ويعمل كل ذلك من غير أن يتعدى على عدل الله الكامل وقضائه الذي لا بد منه. أفلا يقتضي أن الشخص الذي يستطيع أن يتمم هذه البركات تكون له الكمالات الإلهية؟

"إن في المسيح كابن الله حل ملء الكمالات الإلهية، وفي المسيح كناسوت الله كان ملء القوة والنعمة التي بها ننال البركات الصالحة لأننا– من ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة– ففيه ننال غفران الخطايا والسلام مع الله– وقوات الروح والفرح في الرب ورجاء الحياة الأبدية وهو معلمنا والمكفر عن ذنوبنا والمحامي عنا والمتسلط علينا ونجد فيه كل ما يستلزمه خلاصنا".

والآن نسأل لماذا قيل عن المسيح أن " فيه كل ملء اللاهوت؟ " فهل يمكن أن نتصور أن مخلوقاً يهب جميع المواهب والنعم الروحية الخاصة بالله نفسه؟ فلو لم يكن المسيح هو الله حقاً لما ساغ للرسول أن ينسب له ملء اللاهوت ويقدمه لنا بصفى كونه منبع كل النعم الخلاصية.

رابع عشر: إن الرسول قد نسب أعمالاً كثيرة للمسيح تدل على كمالاته اللاهوتية، ومنها:

1- الخلق العام "الذي به أيضاً عمل العالمين” (عب1: 2) " كل ّشيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان " " وكوّن العالم به” (يو1: 3و10). فهذه الأقوال تدل على أن المسيح هو الخالق، والخالق للعالمين. والكلمة " العالمين " إما أنها تفيد كل العوالم أو كل العوالم وما يحدث فيها أو ما يتعلق بها فبأمره يتم كل شيء من الخلق والعناية، ويوضح ذلك قوله (في عب1: 10) أما عن الابن " أنت يا رب في البدء أسست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى ". وقوله في عدد 3 عن المسيح " وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته". فلمن تنسب مثل هذه الأعمال إلا لله الذي لا إله سواه؟ أليس قول الروح القدس صريحاً على لسان الرسول " أما عن الابن يقول الخ " يزيل كل شبهى ويبطل كل تأويل يؤؤل به البشر شهادة الكتاب عن لاهوت المسيح؟

2- إيجاد الخلائق ومنحها السعادة والغبطة سواء كانت خلائق بشرية أو ملائكية. " ابن محبته... الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل " كو1: 13 و15- 17.

إن القرينة في هذا الفصل ترينا أن غرض الرسول الخصوصي هو أن يؤثر في أفكار المؤمنين لكي يشكروا الله على رحمته المسبغة عليهم بواسطة إيمانهم " بكلمة حق الإنجيل ". ويتم هذا الغرض بإظهار أهمية الفداء وعظمته التي لا يعبر عنها (عدد13 و14)، وبإظهار سمو الفادي وكماله (عد15- 18) ووفرة البركات التي تحت سلطانه (عد19) وجمع قسمي العالم الأدبي العظيمين، أعني بهما الملائكة القديسين والبشر المخلّصين بعمل نعمة الله المصالحة والمجدّدة، وربطهم إلى جسد واحد تحت حكم المسيح ملكهم الممجد (عد20- 22).

فيظهر من ذلك أن كل المخلوقات المنظورة وغير المنظورة السموية والأرضية، السامية والحقيرة، جميعها قد أنشأها المسيح وخلقها لأجل مجده " الكل به وله قد خلق ". قابل رو11: 36 حيث يقول " لأن منه وبه وله كل الأشياء له المجد إلى الأبد " إذ يظهر أن الرسول قد نسب هنا " لله " و" وللرب " ما نسبه هناك للمسيح، الأمر الذي يستنتج منه حتماً أن المسيح هو "الله الرب".

3- نرى في هذا الفصل أيضاً أن المسيح موجود قبل كل شيء لأنه " في البدء كان الكلمة... وكان الكلمة الله... كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان " بل " فيه يقوم الكل " وحياتهم وكفايتهم منه لأن " فيه كانت الحياة ".

4- يتّضح من كلام الرسول أن المسيح هو الواهب لخدامه قدرة على إتمام المطالب الصعبة المطلوبة منهم. فسواء احتاجوا إلى قوة جسدية أو عقلية أو روحية فهو يمنحهم جميعها. لاحظوا قوله: " فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح” (2كو 12: 9) " المسيح يسوع الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيّ بقوة” (كو1: 28 و29، انظر أيضاً 2تي 4: 17 و18).

5- إن المسيح بقوته وبعمله هو المبطل والمبيد لأنواع الشرور والحيل التي تنبّىء عنها أنها تقاوم ديانته الطاهرة النقية. فقيل (في 2 تس 2: 8) " حينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهرو محبته ". فسواء أكانت الوسائط في إبادة ضد المسيح هذا وإبطال عمله بانتشار إنجيل المسيح أو بعمل روحه، فعلى كل حال المسيح هو المبيد وهو المبطل ولا يستطيع أحد من المخلوقات أن يؤثر في عقول البشر وينزع منها تأثير أعمال الشرير، كما أنه لا يستطيع أحد من المخلوقات إبادة عدو لدود لمملكة المسيح وإبطال ما يؤثّر فيها بل ذلك يستلزم قوة إلهية فائقة.

6- إنه ينسب للمسيح قيامة الأموات العتيدة. " الرب يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء” (في 3: 20 و21) "لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً” (1تس 4: 16).

فما هو تغيير الأجساد هذا المرافق للقيامة؟ ألا يستلزم قوة فائقة في الشخص الذي يجريه؟ ألا يحتاج إلى حكمة صمدانية وقدرة إلهية لإعادة ذرات الجسم المتناثرة في الكون ولخلقه الإنسان وإعطائه خواص الحياة الجديدة الأمر الذي يقر عنه الجميع أنه سر غامض يفوق إدراك البشر؟

7- إن الرسول ينسب للمسيح إصدار الحكم الأخير على كل الجنس البشري وتقرير مصيرهم الأبدي. " إذاً لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله” (1كو4: 5) "لأنه لا بد أننا جميعاً نظهر أما كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً” (2كو5: 10). لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح... فإذاً كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله” (رو14: 10 و12). "وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذي يحبون ظهوره أيضاً" (2تي4: 8).

8- إنه من ضمن الأعمال المنسوبة للمسيح في كتابات بولس، كما في كتابات كل الرسل والأنبياء، ذلك العمل الذي لا يمكننا أن نغضّ الطرف عنه ألا وهو عمل الخلاص العظيم. إن الكتب المقدسة تنسب لآلام المسيح وموته من التأثيرات الخصوصية في غفران الخظية وخلاص الخطاة ما لا تنسبه لعيشته وتعاليمه ومثاله ومعجزاته أو لأعمال وآلام أي شخص كان. نعم إن اللاهوت غير قابل للآلام والموت، ولذلك أخذ الفادي الطبيعة الناسوتية التي خضعت للآلام والموت و" إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما ". وبما أن الموت الذي يقتضيه خلاصنا لا يمكن أن يكون موت مجرّد إنسان مهما كانت درجته (لأن البشر جميعهم متناسلون من آدم وعليهم ذنبه وفيهم الخطية الموروثة منه) لذلك كان مخلصنا العظيم فريداً في نوعه ولا مثيل له وليس من جنس البشر، حتى أن الآلام التي وقعت عليه نيابة عنا والموت أيضاً الذي ماته قد وقعت على الناسوت الذي أخذه الله لهذا الغرض.

إن الله العظيم يحسب أنه من حقوقه الممتازة أن يعتبر مخلص البشر "لأني أنا الرب إلهك... مخلصك. أنا أنا الرب وليس غيري مخلص” (أش 43: 3 و11) " أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري. إله بار ومخلّص. ليس سواي” (أش 45: 15 و21) "أنا الرب مخلصك وفاديك عزيز يعقوب” (أش 49: 26).

وفوق ذلك جميعه يصفه الرسول بأنه رجاؤنا وسلامنا وحياتنا وحكمتنا وبرّنا وتقديسنا وفداؤنا والكل في الكل وأنه هو كل بركة لنا بل منبع البركات لجميع الذين يقبلونه ربهم ومخلصهم. فمن له الحق أن يعطي هذا الخلاص العظيم الأبدي سوى الله القدير الذي لا إله سواه؟

خامس عشر: والآن نذكر الأسماء الخصوصية التي يسمّي بها الرسول ربنا يسوع المسيح.

1- قد رأينا في ما مر أن الكلمة " الرب" هي كثيرة الورود في رسائل بولس وكل أسفار العهد الجديد. إنما وردت مراراً كثيرة بدون كلمة إضافية إليها، ومع ذلك تظهر من سياق الكلام ومن القرائن الأخرى أنها تشير إلى المسيح. ولنذكر نموذجاً من ذلك مع العلم أنه مر كثيراً في ما سبقنا ونقلناه من أقوال الرسل غير ما نذكره الآن " لأننا إن عشنا فللرب نعيش وأن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وأن متنا فللرب نحن” (رو14: 8) "لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء” (1تس 5: 2) الخ.

ولقد وصف مخلصنا بأنه " رب الكل” (رو10: 12)، "رَبّ الْمَجْد" (1كو2: 8)، و"الرب من السماء" (1كو15: 47)، و"ربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا إليكم. والرب ينميكم ويزيدكم في المحبة بعضكم لبعض وللجميع” (1تس 3: 11 و12) و" الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله (2تس3: 5)، "ورب السلام نفسه يعطيكم السلام دائماً من كل وجه. الرب مع جميعكم” (2تس3: 16) "الرب يسوع المسيح مع روحك” (2تي 4: 22).

ففي هذه الفصول وما يماثلها يوصف المسيح بأنه موضوع إكرام المؤمنين وموضوع طاعتهم وعبادتهم، وأنه ذو طبيعة سماوية دائمة منذ الأزل إلى الأبد، وأنه الحاكم المطلق والسلطان العام، وأنه الديّان في الدينونة الأخيرة. وظهر أنه هو الذي يهب السعادة والغبطة الجسدية والروحية، وأنه هو متّكلنا الحقيقي، وأن الذي يعتمد عليه لا يخيب. فواضح أن الكتب المقدسة تسمي المسيح " الرب " و" الإله الحي " " والإله الحق "، وهذا هو جوهر إيماننا وعبادتنا.  

2- ابن الله. راجع الباب التاسع من هذا المجلّد وهنا نقول أن هذا الاسم ليس مرادفاً للإسم " المسيح " بل هو اسم سام يمتاز عن كل اسم سواه، ولا يدل على وظيفته بل على طبيعته اللاهوتية لأن مدلول البنوة يفيد وحدة الطبيعة ووحدة الصفات. فإن المسيح وأن كان قد وضع زمناً قليلاً عن الملائكة لكنه " ابن الآب بالحق والمحبة” (2يو3) و" ابن محبته الذي لنا فيه الفداء” (كو 1: 13 و14) والذي معرفتنا له كابن الله ضرورية لنوالنا ملء السعادة (أف4: 13) والذي مشابهتنا لصورته تخولنا المجد الأبدي معه (رو8: 29).

أ- "صار (يسوع المسيح) من نسل داود من جهة الجسد وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 3و4). فالمسيح من جهة الجسد هو ابن داود ولكن من جهة روح القداسة أي من جهة لاهوته ابن الله " المسيح الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب 9: 14).

ب- "إن كان الله معنا فمن علينا. الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء” (رو8: 31و32) " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من بؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). فمن هو " ابن الله " هذا الذي يهبنا الله معه كل شيء– العالم، الحياة، الأشياء الحاضرة، الأشياء المستقبلة، بل الحياة الأبدية السعيدة؟ فهل يمكن أن يتصور من به ذرّة من الانصاف أنه غير ابن الله الذي هو والآب واحد.

ج- "كّلمنا (الله)... في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (عب 1: 1- 3). أنه عندما يقال عن المسيح أنه جعل أو أعطي أو تعيّن أو ما شاكل ذلك يشار بذلك إلى وظيفته الشفاعية كما هو واضح من الجزء الأول من الفصل المذكور. ولكن عندما ينظر إليه من جهة طبيعته اللاهوتية نراه خالقاً لكل العالمين وبهاء مجد الله ورسم جوهره وفيه يقوم الكل وهو الإله القدير الحامل لكل الأشياء بكلمة قدرته. فهذه الأوصاف لا يليق أن تطلق إلا على الله جلّ جلاله. من ضمن الأسماء الخصوصية التي يسمّي بها الرسول ربنا يسوع ما يأتي:

3- "صورة الله غير المنظور” (كو1: 15 و2كو4: 4).

إن هذا الاسم يتفق تمام الاتفاق مع ما سبقنا فذكرناه إن المسيح هو الصورة الكاملة التي تظهر الكمالات الإلهية لعقول أولاد الله وقلوبهم. ولنقابل هذا مع ورد في كلام يوحنا البشير (يو1: 18) " الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر " فلم يخبرنا عنه بصفة كونه رسولا من الله أرسل ليعلّمنا عن حقه تعالى بل بصفة كونه صورة الله الحية والذاتية المعلنة لبني البشر. وهذا القول يبيّن أيضاً أن ضهورات الله العجيبة لرؤساء الآباء والأنبياء قديماً قد حصلت في شخص ابن الله هذا.

4- "بكر كل خليقة” (كو1: 15). أنّا نجد في الأجيال الأولى لبني البشر أن للابن البكر امتيازات وحقوقاً إكرامية خاصة، وكان محسوباً الوكيل الفوّض من أبيه في التسلّط على كل العائلة، وكان يطلق عليه اسم سيد اخوته، وفي الميراث له نصيب اثنين. وكان يعتبر أنه كاهن البيت، وكان يمتاز بمحبة خاصة من والديه (راجع تك25: 31 و49: 3 وتث21: 15 الخ). فعليه تكون العبارة العبرية وما يقابلها في اللغات الأخرى تدل على أن البكر هو الرئيس والمحبوب والمتسلّط. وقد ورد في التلمود اليهودي " أن الله القدوس له المجد يدعى بكر العالم للدلالة على سلطته على كل الكائنات ".

فسياق الكلام من أوله إلى آخره في هذا الفصل يستلزم أن المسيح هو رئيس المخلوقات والمتسلّط عليها في حال كونه هو خالقها فلذلك لا يمكن أن يكون مخلوقاً.

5- "البداءة” (كو1: 18). ومعناها، الأول في استحقاق كل إكرام، والأول في الرئاسة والسلطان على الكنيسة المذكورة في الجملة التي تقدمت هذه الكلمة، وهو منشأ كل البركات للكنيسة.

6- " بكر من الأموات: (كو1: 18). هذا القول مرادف لما ورد في 1كو15: 20 " باكورة الراقدين " ويدل على أن المسيح هو أول من قام من الموت قيامة مجد فائق لا يعقبها موت.

7- من الأسماء التي تسمّى بها المسيح هو ذلك الاسم القدوس الجليل " الله ".

أ- كما في قوله لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد الذين... لهم التبنّي والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين” (رو 9: 3- 5).

فهذه العبارة تدل على أن المسيح هو الله لكل العالمين، لأن " كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3) " فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق” (كو1: 16). وهو "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (عب1: 3).

ب- " أما عن الابن (فيقول) كرسيك يا الله إلى دهر الدهور ". فترى أن الرسول بولس اقتبس ما ورد في مز 45: 6 وقال أنه عن شخص ابن الله يسوع المسيح. وقد فهم جميع المسيحيين في كل الأجيال هذا القول على صراحته، وكتبتهم برهنوا على لاهوت المسيح.

ج- " لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع... فإن هذا قد حسب أهلاً لمجد أكثر من موسى بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت. لأن كل بيت يبنيه انسان ما ولكن باني الكل هو الله” (عب3: 1 و3 و4) فبما أن باني الكل هو الله والمسيح هو الذي قال “ ابني كنيستي” (مت16: 18) وحسب أهلاً لمجد أكثر من موسى بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت فواضح أن المسيح الباني للكل هو الله.

د- إذا قابلنا قول بولس الرسول " احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساققة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أعمال 20: 28) مع قوله " وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى الله ظهر في الجسد تبرر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أومن به في العالم رفع في المجد” (1تي 3: 16) ثم تأملنا قوله من جهة أقربائه الجسديين " ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين” (رو9: 5) وقوله أيضاً " لأن أجرة الخطية هي موت. وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا” (رو6: 23) وقوله " نعمة الرب يسوع المسيح معكم” (1كو16: 23) " نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين” (2كو13: 14) ودقّقنا النظر في هذه المقابلة يتضح لنا ما يأتي:

1- أن يسوع المسيح بالحقيقة هو الله الذي ظهر في الجسد واقتنى رعيته المخلّصة بدم ناسوته الطاهر.

2- إن يسوع المسيح هو الرب الكريم الوهّاب الذي له وحده أن يهب الحياة الأبدية للمؤمنين به التائبين إليه.

3- إن يسوع المسيح هو الإله الأزلي القديم الكائن على كل الخلائق أرضية كانت أم سمائية من مبتداها إلى منتهاها إلهاً مباركاً إلى أبد الآباد.

وإذا قابلنا ما ورد في (عب1: 1- 4) "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس عن يمين العظمة في الأعالي صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم " مع القول " الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله” (فيليبي2: 6) " الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل" (كولوسي1: 15- 17) تنكشف بهذه المقابلة أمام أعيننا الحقائق الآتية:

1- إن ربنا يسوع المسيح هو بالحقيقة مظهر الله الذي تجلّى لنا في الجسد فرأينا فيه مجد الله ومحبته وفداءه. فإن فيلبس لما سأله أن يريه الآب قال له يسوع " أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس. الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب؟" (يو14: 9) فأعلن لنا أنه مظهر الله الكامل، وبهاؤه الشامل، ورسم جوهره الأقدس.

2- إن الكل به وله قد خلق لأنه هو الله الذي قال عنه يوحنا الحبيبي بالروح القدس " في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو1: 1- 3) وهذه براهين سماوية على لاهوت المسيح لا تزعزع جبالها رياح أوهام العصريين.

3- إن ربنا وإلهنا وخالقنا يسوع المسيح أول لا أول لأنه أزلي كان موجوداً قبل كل قبل، وآخر لا آخر له لأنه كائن إلى أبد الآباد بعد كل بعد كما كان قبل كل قبل. أليس هو الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى أبد الآبدين؟

سادس عشر: بقي علينا أن نتأمل في الفصول الواردة في كتابات بولس الرسول التي تشير إلى تمييز الكائن بين أقنومي الآب والابن. وقد سبقنا فذكرنا بعض تلك الفصول وتأملنا فيها عند ذكرها.

1- "لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له. ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو8: 6).

إن قرينة الكلام في هذا الفصل تبيّن أن قصد الرسول هو أن يفنّد آراء الأمم المعتقدين بتعدّد الآلهة، الذين يقولون أنه يوحد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون ع 5 وإن كان كتبة اليونان لم يستعملوا الكلمة المترجمة "رب" أو أرباب هنا للإشارة إلى آلهتهم كثيراً عندما يستعملونها لا يقصدون بها الدلالة على طبقة أدنى من طبقة الآلهة بل بالعكس فقد وردت للدلالة على أعظم الآلهة. "الذي به جميع الأشياء ونحن به" أي أن خالقنا هو الرب الواحد يسوع المسيحل لأن عين العبارة قد استعملها هذا الرسول عن الله الآب (رو11: 36 وعب2: 10، قابل اش 42: 5 وأع 14: 15).

فقد وجدت مطابقة بين شهادات الكتاب المقدس المتعددة التي تنسب عادة الأعمال الإلهية التي عملت بيد الحكمة الإلهية بأن الآب هو العلة السامية وبأن الابن والروح القدس هما العاملان رأساً "بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها” (مز33: 6) "الله...كلّمنا... في ابنه...الذي به أيضاً عمل العالمين” (عب1: 1و2) " في البدء كان الكلمة... وكان الكلمة الله... كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو1: 1 و3) " كان في العالم وكوّن العالم به” (يو1: 10) " ابن محبته... الذي... فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى الكل به وله قد خلق الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كو1: 13 و16 و17) وغير ذلك.

بل نقول أيضاً أننا لا يمكننا فهم هذا الفصل وما يماثله فهماً جيداً إذا غضضنا الطرف عن علاقته بالمبدإ الأساسي في الديانة المسيحية وهو ملك (سلطان) المسيح الشفاعي الذي أشرنا إليه كثيراً في ما مر. فقد رأينا من كل أقوال الأنبياء والرسل أن المسيح مقدّم لنا بصفة كونه هو الرب الجالس على عرش الكون المادي والأدبي، مخضعاً كل الأشياء لذاته، مالئاً كل شيء، مديراً وسائساً كل الحوادث، مالكاً على ذات قلوب الناس ونفوسهم، وناشراً تعاليمه ومبادئه في كل العالم، جاعلاً إياها ذات تأثير فعّال في قلوب سامعيها، مخضعاً كل قوات الشر، قاهراً الشيطان، ومخلصاً لكنيسته وساهراً عليها وحارساً لها وقائداً إياها ومسيّراً سلطانه على كل العالم غير المنظور.

زد على ذلك أننا عندما نتأمل في صفات ربنا وملكنا يسوع المسيح له المجد نرى صدق قول الرسول " ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس” (1كو12: 3) كأنه يقول أنه لا يستطيع أحد أن يكرم المسيح الإكرام الواجب بصفة كونه رب جميع الأشياء ورأسها إلا بتأثير نعمة الله السماوية في نفس الإنسان.

مفهوم أن (ربّاً) تعني سيداً أو متسلّطاً فعليه لو جاز لنا أن نستنتج من قول الرسول في العدد المشار إليه (1كو8: 6) إنكار لاهوت المسيح ما دام الآب قد سمي فيه (إلهاً واحداً) لجاز لنا أيضاً إنكار سلطان الآب وربوبيته ما دام المسيح هو (الرب الواحد)!

فتعاليم الكتاب المقدس بأكمله عن هذا الموضوع تثبت لنا نعمة الله وصلاحه وبره التي ظهرت في تخليص البشر من حالتهم التعيسة التي وصلوا إليها بالسقوط وصيرورتهم في حالة القداسة والسعادة بواسطة المخلص يسوع المسيح. ولذلك يظهر الكتاب في التنظيم الفدائي أن الآب هو " الذي منه جميع الأشياء " وأنه إله ربنا يسوع المسيح وأنه أرسل المسيح وأن المسيح لم يأت من نفسه إلى هذا العالم وأنه أطاع أباه وعمل كل شيء لإتمام مشيئة أبيه. ومن الجهة الأخرى يظهر ابن الله أنه الوسيط والمخلص والفادي والرب المتسلط على الكل وأنه خالق كل الأشياء وبه جميع الأشياء وفيه يقوم كل شيء وأنه جاء من نفسه إلى هذا العالم وأنه وضع نفسه باختياره وليس أحد يقدر أن يأخذ نفسه منه بل يضعها من ذاته وأنه هو الإله الفاحص القلوب والكلى الموجود مع شعبه في كل زمان ومكان وأنه المجري والمتمّم المقاصد الأزلية بواسطة تنازله وأخذه طبيعتنا وبواسطة ارتفاعه وجلوسه عن يمين الله وبواسطة روحه القدوس الذي يرسله هو ليأخذ مما له ويعطي المؤمنين. فعليه نرى من نصوص الكتاب أن الآب ممجّد في الابن وأن روح الحق يمجّد الرب يسوع وأن الله هو الكل في الكل أي هو الآب والابن والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد.

2- أما القول " لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس الانسان يسوع المسيح” (1تي2: 5) فيفيد أن الإله الواحد المشار إليه هو الله الكائن في ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس أما الوسيط فهو الإنسان يسوع المسيح أي الناسوت الكامل الذي اتخذه الأقنوم الثاني لفدائنا فهو " حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين".

(انتهى الكلام في شهادة بولس وتليها شهادة بطرس)

[1] - قد ورد الجلوس عن اليمين في النطام القديم بطريقة تمثيلية تدل على أسمى رتبة بعد الملك نفسه (راجع 1مل2: 19 مز 110: 1 مت20: 21 رؤ3: 21).

[2] - (ومما يبيّن ذلك: 1- أنه كاهن إلى الأبد وليس لملكوته نهاية مز 110: 4 ودا7: 14 ولو1: 33 وعب6: 20، 2- إن الاتحاد بين الطبيعة الناسوتية والطبيعة اللاهوتية لا يزول أبداً رو8: 29 وفي3: 21، 3- إن المسيح رأس الكنيسة إلى الأبد وهي عروسه ويحتفل أخيراً هو وكنيسته بعرس الخروف في السماء رؤ19: 7  و21: 2 و9، 4- قول صاحب الرؤيا أن المسيح وهو الخروف الذي كان قد ذبح جالس على العرش وهو إلى الأبد هيكل المدينة السموية ونورها وأنه يرعى شعبه ويقوده إلى ينابيع ماء حية رؤ5: 6 و7: 17 و21: 22 و23 وعبيده يخدمونه رؤ 7: 15 و22: 3 وسيملكون معه إلى أبد الآبدين رؤ 22: 4).

  • عدد الزيارات: 11438