في ابن الإنسان
الفصل الثاني
لسائل يسأل: لماذا نجد أن ابن الله نفسه سمّي ذاته في الكتاب "ابن الإنسان "؟ فإذا أردنا أن يظهر لنا ذلك جليّاً فلنراجع بعض المواضع الوارد فيها هذا الاسم " ابن الإنسان ".
إن أول مرة وردت هذه العبارة هي في دا 7: 13 و14 " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدامه. فأعطي سلطاناً ومجدا: وملكوتا: لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض ".
وكل مرة بعد هذه نرى أن المسيح قد قالها عن نفسه ليس أقل من ثمانين مرة، ولم يسمه أحد بهذا الاسم سوى استفانوس مرة واحدة عند موته إذ قال " ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الانسان قائماً عن يمين الله” (أع7: 56).فالمرة التي قالها دانيال تدل على عظمته وسلطانه إذ قال " فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاًللتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض "، والمرة التي قالها استفانوس تدل على عظمته ومجده أيضاً إذ قال " ها أنا انظر السموات مفتوحة وابن الانسان قائماً عن يمين الله " وعبّر الوحي عن ذلك بالقول " رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله” (ع55).
ثم لنلاحظ الكيفية التي سمّى يسوع نفسه بها " ابن الإنسان ". ففي أول مرة من هذا النوع قوله " للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” (مت 8: 20). ألا يتضح من ذلك أن المسيح قصد أن يعمل مقارنة بين أدنى وأعلى. فكأنه يقول: إن أدنى المخلوقات لها مواطن تستريح فيها، أما " بكر كل خليقة” (كو1: 15) الموصوف بأنه " صورة الله غير المنظور" وبأن "الكل به وله قد خلق" "وهو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل” (كو1: 15ـ 18)والذي سمّي " القدوس الحق والآمين الشاهد الأمين الصادق” (رؤ3: 7و 14) " الأول والآخر” (رؤ2: 8) " فليس له أين يسند رأسه"!
والذي نراه أن ربنا يسوع المسيح قصد من تسمية نفسه " ابن الإنسان" أن يعلن لنا أنه إله تجسّد وتألم في مجيئه الأول مولوداً من امرأة تحت الناموس في وسط مظاهر الفقر والآلام ليفتدي العالم أجمع، وقصد في الوقت نفسه إعلان سلطانه ولاهوته في مجيئه الثاني حينما يأتي من السماء محفوفاً بالملائكة السماوية محوطاً بالجلال في وسط مظاهر القوة والمجد. ويدل علىهذه الحقيقة قوله له المجد في متى 24: 29- 31 و37- 41.
والمرة الأخيرة التي قالها يسوع هي وقت محاكمته أمام مجلس السنهدريم "من الآن ترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء” (مت 26: 63). وفي هذه المرة قصد يسوع أن يشير إلى نفسه أنه ابن الإنسان المذكور في دانيال 7: 13 المستحق كل مجد وتعظيم سماويين، وقصد أن يظهر لهم أنهم رافضون للمسيح الذي ينتظرونه لكي يصح القول " إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11) وأن رفضهم إياه كالمسيح المنتظر جعله يسمّي نفسه "ابن الإنسان " حتى أن استفانوس كما ذكرنا وهو مغمض عينيه من هذا العالم فتحها فرأى رؤيا دانيال " ابن الإنسان عن يمين الله ".
فيظهر من ذلك أنه ليست ولادة يسوع من العذراء هي التي عيّنته ابن الإنسان، بل وأن تكن ولادته من العذراء هي إتمام الوعد الذي سبق فقاله الله عن " نسل المرأة " إلا أنه صرّح بكل جلاء ووضوح أن ابن الإنسان هو الذي نزل من السماء. لاحظ قوله لنيقوديموس في يو3: 13 " وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء " وقابل ذلك مع قوله في يو6: 62 " فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً ثم صرّح قائلاً "إن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو19: 10) و" ليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت 20: 28). ولم يقل أنه في حال كونه ابن العذراء هو رب السبت أيضاً بل وهو " ابن الإنسان ". وكابن الإنسان له " سلطان أن يغفر الخطايا " وكابن الإنسان أعطي أن يدين. لاحظوا قوله " وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان” (لو6: 5، مر 2: 10، يو5: 27). نعم قد قال عنه الرسول " الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في إلهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فيليبي 2: 6- 8). لكن ألا ترى أنه قال أن له سلطاناً على غفران الخطايا وأنه رب السبت وأنه يدين لأنه ابن الإنسان وليس لأنه " في الهيئة كإنسان". بل في الساعة التي ظهر فيها ضعفه الكلي قال " أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة " ولكنه عاد فقال " كيف تكمل الكتب” (مت 26: 53 و54).
"فابن الإنسان " هو لقب خاص بذاك الذي أتى مسيح اسرائيل. ورأينا أن الرب جاهر بمجده الأسنى كابن الإنسان لما رفض من أمة إسرائيل كمسيح. ورأينا أنه وأن كان هذا اللقب لا يعني البتة كونه ابناً لوالد بشري لكنه يدل على أنه ولد من امرأة وأنه لم يكن الإنسان الذي ولد في بيت لحم فقط بل هو ممثل الناسوت تمثيلاً أي أنه رأس البشر- إنسان كامل حق من كل الوجوه وتجلّت الإنسانية الكاملة فيه بأجلّ مظاهرها.
ونختم كلامنا هنا بالقول أن هذا اللقب لا يعني أنه ابن لوالد بشري ولا أنه إنسان حقير بل بالحري يشير إليه نظراً إلى الاتحاد الكامل بين طبيعتي اللاهوت والناسوت فيه وإلى أنه صار ذا طبيعتين في أقنوم واحد حتى نرى المسيح جعل لناسوته نسبة إلهية كقوله " الذي نزل من السماء " و" الذي في السماء " كما قيل من الجانب الآخر أيضاً " كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع20: 28).
- عدد الزيارات: 3742