بشارة مرقس
الفصل الثاني
إن مرقس كاتب هذه البشارة هو المذكور في سفر الأعمال 12: 12 "يوحنا الملقّب مرقس"، وهو ابن امرأة تقية من أورشليم اسمها مريم أخت برنابا (أع 15: 37 وكو 4: 10)، وهي التي كان الرسل والمسيحيون الأولون يجتمعون مراراً في دارها للصلاة (أع 12: 12) وقال البعض أنه من العائلة التي مارس المسيح فريضة الفصح الأخير في بيتها. وقيل أن مرقس هذا آمن بواسطة بطرس الرسول لأنه كان يدعوه ابناً له (1بط 5: 13)، وكان مرافقاً لبولس وبرنابا خاله في سفرهما الأول للتبشير حتى وصل إلى برجة بمفيلية ففارقهما هناك ورجع إلى أورشليم (أعمال 12: 25 و13: 5و13)؛ ولذلك أبى بولس أن يقبله رفيقاً له في سفره الثاني، فانطلق مع خاله إلى قبرس (أعمال 15: 37و 39). ثم يظهر أنه تصالح مع بولس فيما بعد وصار رفيقاً له ومدحه بأنه كان نافعاً. وقد صحب تيموثاوس إلى رومية (كو 4: 10و 2تي 4: 11). وقيل أنه ذهب إلى مصر ليبشر فيها بالمسيح وكانت أتعابه ناجحة في ليبية (لوبيا) وبنتابوليس (أي المدن الخمس المغربية)، ثم عاد إلى الاسكندرية وهاج عليه فيها اضطهادات شديدة من جمهور الوثنيين في موسم عيد إله يسمى سيرابيس. ثم مات لشدة ما أنهكه من آلام العذاب الكثيرة بعد أن حُبس ليلة.
أما بشارته فقيل أنه كتبها في أثناء سنة 61 تحت مناظرة بطرس رفيقه الخاص. ومما يؤيد هذا الرأي كونه يترك أخباراً كثيرة عن هذا الرسول تؤول إلى كرامته مما يذكره غيره من الإنجيليين، ويذكر عن عيوبه أكثر منهم، وتدقيقه خصوصاً في مسألة انكاره لسيده إذ ذكر المسألة بأكثر تدقيق من غيره من البشيرين إذ هو الذي تفرّد في قول يسوع لبطرس "قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات" ودقّق في إتمامها جليّاً (راجع ص 14: 30 و66- 72). وهذا مما يرجح أنه كتبها تحت مناظرة بطرس لأن من دأب كتبة الأسفار المقدسة أنهم يتجنبون بقدر إمكانهم مدح أنفسهم وذكر كل ما يؤول إلى ذلك، ولكنهم يذكرون عيوبهم وعيوب أصحابهم بكل بساطة وعلى أسلوب نافع ومفيد للبشر في كل جيل. فمثلاً يتغاضى مرقس في بشارته عن ذكر تطويب المسيح لبطرس لأجل إقراره به (قابل ص 8: 29 مع مت 16: 17)؛ ولكنه يصرح بتوبيخ المسيح العنيف له بعد ذلك بقليل لأجل نفوره من استماع الخبر عن آلامه وموته (ص 8: 33).
إن مرقس كتب بشارته لنفع المؤمنين من الأمم للذين كان أصل رجوعهم للمسيح بواسطة خدمته. ولذلك تراه يتجنّب بقدر ما يمكن ذكر العادات اليهودية والاقتباس من أسفار العهد القديم لعدم خبرة الأمم بها. وربما كان هذا هو السبب في تركه سلسلة نسب المسيح، وذلك بعكس ما فعل متى الذي كتب لإفادة المسيحيين من اليهود كما ذكرنا في الكلام عن بشارته. وعند ما يذكر مرقس شيئاً خاصاً باليهود يعتني جداً بتفسيره لأجل إفادة الأمم الذي وجه كتابته إليهم- فإن أول مرة يذكر الاردن في بشارته يقدم عليه لفظة نهر (ص 1: 5). ولفظة قربان، التي كانت معروفة جيداً في الشرق، يردفها بالتفسير (7: 11). وكذلك يفعل عند ذكر كلمة "استعداد” (ص15: 42) و"أيدٍ دنسة” (7: 3 و4) ونحو ذلك.
أما الحوادث التي يذكرها مرقس فهي أقل من التي يذكرها متى أو لوقا، إلا أنه بالإجمال يدقّق فيها أكثر منهما، كما في ذكر إحدى المرات التي عبر فيها المسيح بحر الجليل (ص 4).
يذكر هذه الأحوال "وكانت معه أيضاً سفن أخرى صغيرة. فحدث نوء ريح عظيم... وكان هو في المؤخر على وسادة نائماً". وكذلك عند ذكر شفاء المفلوج (قابل ص 2مع متى 9) وعجيبة كورة الجدريين (قابل ص 5مع متى 8). وهذا يبرهن لنا أن مرقس إما أنه شاهد هذه الأمور عياناً أو حصل على معرفتها من الذين شاهدوها بأعينهم.
ويذكر هذا البشير معجزتين لا يذكرهما غيره من الإنجيليين وهما شفاء الأصم الأعقد (ص7: 32) وفتح عيني الأعمى الذي كان في بيت صيدا (ص 8: 22) وكذلك مثل كيفية نمو البذار الذي يشير به إلى نمو الإنجيل في العالم (4: 26 - 29).
ومما يستحق التأمل أيضاً أن مرقس استفتح كتابه بالبشارة بأن المخلص هو "ابن الله"، ويرصع خاتمته بالقول "من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن" (ص 16: 16)، وهو يشير بهذا الكلام الجوهري إلى كل إنسان في يوم الدين يكون هو المسئول عن إيمانه بالمسيح.
وتحسب هذه البشارة أنها أخصر وأوضح وأعجب وأقنع تاريخ في العالم من أجل بساطة كلامها وما تحويه من الحوادث السامية. والآن نشير إلى ما ورد في هذه البشارة مبرهناً لاهوت المسيح. وبما أننا قد ذكرنا الآيات بتمامها في بشارة متى، فحباً بالاختصار نشير إلى الآيات فقط كما ترى في ما يلي:
تسمية المسيح بالأسماء والألقاب الإلهية في بشارة مرقس
مرقس 1: 1 سمي المسيح "يسوع" الذي معناه يهوه مخلص (ويهوه اسم الله العلم في العبرانية)، وفي 1: 1 و11 و3: 11 و15: 39 سمّي "ابن الله" دلالة على أنه هو الله، وأنه هو والله واحد، وفي 5: 7 سمّي "ابن الله العلي"، وفي 9: 7 يقول عنه الله ابني الحبيب الذي ينبغي أن يسمع له، و12: 6 مكنى عنه بالقول "ابن واحد حبيب إليه"؛ وفي 1: 24 مسمى قدوس الله، وفي 1: 3 "أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة" فهو مسمى "الرب". وبمقابلة ذلك مع إش 40: 3 نجد اسمه "يهوه" فينتج طبعاً أن يسوع هو يهوه. وكذلك في مر11: 3 سمى نفسه "الرب"، و16: 19 و20 سمي "الرب" حيث قيل "ثم أن الرب بعد ما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله. وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبّت الكلام بالآيات التابعة". فمرقس البشير لما كان يدعوه الرب كان في فكره الاصطلاح اليهودي "يهوه". وفي 12: 37 سمي "رب داود"، وفي 14: 61و62 سمّي "المسيح ابن المبارك". ففي كل هذه الأسماء والألقاب ترى الصيغة الإلهية للمسيح.
نسبة الصفات والأعمال الإلهية للمسيح
1: 8 يعمد بالروح القدس؛ و1: 17 يصيّر الناس صيادين روحيين؛ 1: 24 يقدر أن يهلك الشياطين وهلاكهم بأمره؛ و1: 41 يقول للأبرص "أريد فاطهر" فيطهر حالاً. فالمخلوق إن قال كذلك يكون مجدفاً، وبالتالي لا يسمع له فلا يتم الشفاء. و2: 5 يغفر الخطايا، و2: 28 هو رب السبت، و4: 39-41 مسكن الرياح والبحر بأمره. ولما تراجع مز 89: 9 "يا رب إله الجنود من مثلك قوي رب وحقك من حولك. أنت متسلط على كبرياء البحر. عند ارتفاع لججه أنت تسكنها" ينتج أن المسيح هو ذات "الرب" الذي كان يسبح المرنم له، وأنه هو رب الجنود الذي لا مثله قوي ورب حق مؤسس السموات والأرض؛ و5: 41 يقيم الميت بأمره؛ و6: 7 يعطي السلطان على الأرواح النجسة؛ و6: 50 طمأن تلاميذه الخائفين بالقول "أنا هو. لا تخافوا" وفي 7: 34 هو الآمر لأصم أعقد: “انفتح" فانفتح؛ و8: 31 و9: 9 و41 و10: 33و 34 و11: 2 و13: 23 و24 و11: 2 و13: 23 و14: 13 و17 و20 و27 و30 و30 و41 و42 نجده منبئاً بالمستقبل؛ و8: 35 و38 نجده يقول "من يهلك نفسه من أجلي... فهو يخلصها. من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطىء فإن ابن الإنسان يستحي به" أقوال لا يليق أن تصدر من مخلوق. فإذاً هو الرب الإله الخاق القادر على كل شيء، و8: 38 الله أبوه، و9: 12و13 "فأجاب (يسوع) وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء... لكن أقول لكم أن إيليا قد أتى وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه" فبمقابلة هذا مع ملاخي 4: 5 "هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب” (يهوه) يظهر أن المسيح هو يهوه الذي أرسل إيليا قبل يومه؛ و9: 25 نجده يأمر الأرواح النجسة أن تخرج فتطيعه، و12: 15 نجده علام القلوب، و13: 26و27 "يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحاب بقوة كثيرة ومجد فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه... من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء" فيفهم من ذلك أن له قوة ومجداً وملائكة ومختارين إلى أقصى الأرض، و16: 16 تُخرج الشياطين وتُعمل القوات باسمه.
وعدا ذلك نجده قابلاً الإكرام الذي كان يقدم له ولم يرفضه كما يعمل المخلوقون. (راجع 1: 40 و5: 6 و5: 22 و7: 25 و10: 18 الخ).
- عدد الزيارات: 3852