المسيح في سفر الأنشاد
الفصل الرابع
لا يقف أحد على غايات قوم إلا إذا درس اصطلاحاتهم أولا. فالذين درسوا اصطلاحات البرعي وابن الفارص وابن العربي والكيلاني والغزالي وغيرهم من أقطاب الصوفيين عرفوا أن ألفاظهم الغزلية ذات معانٍ روحية سامية لا يدرك مغزاها إلا فرسان ذاك الميدان. وقياساً على هذا نقول أن سفر نشيد الأنشاد لم يقصد فيه كاتبه الموحى اليد غراماً جسدياً بل قصد أن يشرح مركز المسيح كعريس تجاه كنيسته العروس، وأن يبين لنا مقام الشركة الباطنية بين العريس والعروس ويشرح لنا مجد العريس ويقدمه إلينا في أبهى جمال. وغرضنا الأهم هو أن نثبت هنا أن عريس نشيد الأنشاد هو رَبّ الْمَجْد يسوع المسيح لا سواه، وأن هذا العريس هو ملك الملوك ورب الأرباب، وأن باطن هذا السفر روحي سماوي كما يأتي:
1- المسيح العريس:
يؤخذ من نشيد الأنشاد 3: 11 أن العريس المقصود بالذات هو المسيح عريس الكنيسة لا سليمان. فتسمية المسيح بالعريس هنا لا يراد بها الاقتصار على مدلول اللفظ حقيقة أو مجازاً فقط بل يراد بها أيضاً التصريح أن هذا العريس هو ربنا وإلهنا وصانعنا. قال الله تعالى مخاطباً كنيسة العهد القديم: “لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه” (أشعياء 54: 5). وكما أن رجوع شعب الله إلى عبادة الأصنام اعتبر في نظر الله زنى روحياً (كما في خروج 34: 15 وتثنية 31: 16) فكذلك بانضمام المؤمنين إلى المسيح اعتبر المسيح عريساً لهم (كما هو ظاهر من مزمور 45). وفوق هذا فإن المسيح دعا نفسه عريساً في قوله: “هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون” (متى 9: 15)، ودعا نفسه عريساً في مثل العذارى العشر (المذكور في متى 25: 1-13)، ويوحنا المعمدان دعاه عريساً ودعا نفسه صديقاً للعريس (كما في يوحنا 3: 29)، وكذلك يوحنا الحبيب دعا إلى الفرح والتهلل لأن عرس المسيح قد جاء باعتبار أنه هو الذبيح الذي اشترى كنيسته بدمه فصار بالحق عريسها (كما هو ظاهر من رؤيا 19: 7و8).
2- المسيح هو الملك:
نفهم مما ورد في نشيد الانشاد 7: 5 "ملك قد أُسر بالخصل" أن هذا الملك هو ذات المسيح الذي أسر نفسه بمحبة كنيسته بدليل ما ورد في نشيد 1: 4و12. وقد حقق المسيح كل هذه الإشارات فأثبت أنه هو الملك بقوله: “مملكتي ليست من هذا العالم … أنت تقول إني ملك. لهذا قد ولدت أنا” (يوحنا 18: 36 و37). وليس هذا فقط بل أن نبوات أخرى وشهادات كثيرة أخرى أكدت أن يسوع هو الملك المنتظر وأنه ملك الملوك ورب الأرباب (راجع لوقا 19: 37و38 وزكريا 9: 9 ويوحنا 12: 15 ومتى 21: 5و 1تيموثاوس 6: 15 ورؤيا 17: 14و19: 16 ومتى 2: 2) وهو المالك على قلوبنا.
3-المسيح هو المحب:
إن المسيح العريس والملك هو المحب أيضاً. وقد أحب عروسه الكنيسة حتى تنازل ودعاها عروسه وأخته في آن واحد لأنه بتأنسه تكرم فصار أخاً لنا في كل شيء ما عدا الخطية (كما هو واضح من نشيد 4: 7-10). وقد أكد لنا المسيح محبته هذه تأكيداً إذ علمنا إن محبته لنا دليل على لاهوته لأنه بمحبته تجسد لفدائنا وبمحبته عاشرنا وبمحبته ضحى ذاته لأجلنا وبمحبته غفر لنا خطايانا وبمحبته وعد أن يكون معاشراً لنا معيناً لنا ساكناً في قلوبنا كل الأيام إلى انقضاء الدهر (متى 28: 19و20) وحثنا على شدة الارتباط به كارتباط العروس بالعريس حتى ننال محبته فقال: “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي” (يوحنا 14: 21). فهل آمنتم به ونلتم محبته؟ "ما أحسن حبك يا أختي العروس!"
4- جمال المسيح:
قالت العروس للعريس: "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو” (نش 1: 16). ويؤخذ من هذا القول أن الجمال الذي شهدت به العروس للعريس، أي الكنيسة للمسيح، ليس هو جمال الذات المادية بل الجمال الأدبي (جمال القداسة). وهذه شهادة عجيبة لأنها اعتراف غير مقصود بلاهوت المسيح. فالقداسة صفة من صفات الله، ولم يوصف بجمال القداسة إلا الله. وعلى هذا فقول النشيد بلسان العروس "ها أنت جميل" فمعناه "ها أنت قدوس". ومما يؤيد هذه الحقيقة قول المرنم: “أنت أبرع جمالاً من بني البشر … بجلالك اقتحم. اركب. من أجل الحق والدعة والبر” (مزمور 45: 2-4). فالمسيح جميل بقداسته، جميل وحلو بفدائه. وليس هو جميلاً فقط، بل ويمنح الجمال بفدائه أيضاً كما قال أشعياء النبي في 61: 3 بلسان المسيح: “لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة". قلنا أن المسيح الجميل يمنح الجمال لكنيسته بفدائه حباً بها، وأن هذا القول بما هو صادر عن معنى ما جاء في نشيد الأنشاد عن جمال المسيح. ولكنه مؤيد من جهة أخرى بأقوال الروح القدس في العهد الجديد: “أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن … بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أفسس 5: 25-27). ومن أراد التأكد من أن قول النشيد موجّه إلى المسيح الإله القدوس الفادي فليراجع حزقيال 16: 5-14
فإذا علمتم أن العريس الجميل الحلو هو المسيح، وإذا علمتم أنه أبرع جمالاً من بني البشر، وإذا علمتم أن جماله وحلاوته في القداسة والفداء، وأنه هو الذي جمّل كنيسته أورشليم وقدّسها حتى خرج لها اسم في الأمم لجمالها وفاعلموا أنه لا يقدر على هذا العمل المجيد ولا يتصف بهذا الوصف الحميد إلا الله، وأعلموا أن المسيح بلاهوته هو الله الكلمة الذي أحبنا فتجسد لأجلنا.
- عدد الزيارات: 6628