Skip to main content

المسيح في سفر أيوب

الباب الثالث

إشارات ورموز ونبوات الأسفار الشعرية

الفصل الأول

اعلم أن الأسفار الشعرية المقصودة بالذات في موضوعنا خمسة، أولها سفر أيوب وآخرها نشيد الأنشاد. وقد عزمنا أن نورد في هذا الباب كل ما جاء عن المسيح “رَبّ الْمَجْد” في هذه الأسفار شهادة للاهوته وأعماله المجيدة. وجعلناه خمسة فصول كل فصل يشتمل على محتويات سفر قائم بذاته كما يأتي:

إن سفر أيوب كتب في عصر مظلم، وربما كان بين عصري نوح وإبراهيم أو بعد. ولذلك فهو قليل الإشارات والرموز فيما يختص بربنا يسوع المسيح. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. ولذا فنحن موردون هنا ما وقفنا عليه في هذا الموضوع:

أولاً:

أشار أيوب إلى الرب يسوع المسيح إشارة جلية في قوله: "أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقوم” (19: 25). فاستنتجنا من هذه الإشارة أمرين: أولهما أنه كان بالحقيقة يقصد شخص المسيح بقوله "وليي حي". وقد وصف المسيح نفسه بأنه "ولي" المحتاجين إلى فعل الرحمة حينما شبه نفسه للشاب الغني في المثل بالسامري الحنون (لوقا 10: 25-37)، وقال عن نفسه أنه حي (يو 6: 51 و57 و14: 19). وكذلك اقتدى داود بأيوب فتضرع إلى رَبّ الْمَجْد قبل التجسد قائلاً: لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليي” (مز 19: 14). وبما أن الولي أقرب الأقرباء، وله حق الافتداء، فالمسيح هو الولي الحي الدائم. وثانيهما أن أيوب كان بالحقيقة يشير إلى أيام تجسد المسيح وحياته على الأرض بقوله: “والآخر على الأرض يقوم"، مع العلم بأن كلمة "الآخر" ترجمها بعضهم "أخيراً" كما في نسخة الكتاب المقدس ذات الشواهد. وعلى هذا فيكون أيوب قد قصد أن يقول: “أما أنا فقد علمت أن وليي حي وأخيراً يقوم على الأرض". فكأنه يقول لنا أن وليه الحي سيتنازل ويتجسد أخيراً ويقوم على هذه الأرض كأحد الناس لكي ننال به الحياة ولأجل إقامة أركان قضية الفداء.

ثانياً:

رأى أيوب بعين النبوة أن زمان تجسد الفادي لم يزل بعيداً عن زمانه جداً جداً، فلا يمكن أن يراه على الأرض ولو عمّر عُمرَ متوشالح (تك 5: 27). ولذلك وجّه وجهه نحو الآخرة، وعلّق آماله بها، وأعلن أنه سيموت ويفنى جلده ثم يقوم بعد الموت خالعاً الجسد الحيواني لابساً الجسد الروحاني كما قال بولس الرسول: “يزرع جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً” (1كو15: 44) وعندئذ يرى الله عياناً. وهذا ظاهر في قوله: "وبعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله" (19: 26).

ثالثاً:

أشار أيوب إشارة أبلغ من العبارة إلى أن الذي يراه لسعادة نفسه بعد موته على الرجاء به إنما هو الرب المسيح بالذات، وهذا متجلّ في قوله: “الذي أراه أنا لنفسي وعيناي تنظران وليس آخر"(19: 27). فكأن أيوب كان يرى هذه الحقيقة المقدسة بعين الإيمان. وخلاصة الأمر أن أيوب اعترف بوجود قيامة من الأموات في أيام عبادة الأفلاك قبل العصر الإبراهيمي أو بعده في الأيام التي لم يكن فيها نبي من الأنبياء ولا سفر من أسفار الوحي ولا من يعبد الرب سوى أيوب وبعض أصدقائه الذين تعلموا منه.

رابعاً:

ألقى أيوب سؤالاً على أصحابه بل على أبناء عصره ومن وليهم إلى يوم القيامة. وهذا السؤال هو: “فكيف يتبرر الإنسان عند الله” (9: 2)؟ وقد ردد نفس هذا السؤال بلدد الشوحي أحد أصحاب أيوب فقال: “فكيف يتبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة؟” (25: 4). وظل الناس يرددون هذا السؤال بين كتابة وقراءة من عصر أيوب إلى عصر بولس الرسول دون أن يجاوب عليه أحد، لا من الأنبياء ولا من غيرهم. ولما قام هذا الرسول الحكيم رجع بقوة وحي الله وبمواهبه العلمية إلى الوراء إلى زمان أيوب وأجاب على السؤال إجابة صريحة بقوله المجيد: “ولكن الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. فبالأولى كثيراً ونحن متبرّرون الآن بدمه نخلص به من الغضب” (رومية 5: 8و9). وهذا يعلّمنا أن سؤال أيوب استمر حوالي ألفي سنة بلا جواب إلى تجسد ذاك الذي "أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا” (رو 4: 25)، فكان في كفارته الجواب الكافي الشافي.

خامساً:

اعترف أيوب بما كان بينه وبين الله من الهوة العظمى التي أثبتها فساد الطبيعة البشرية، وأشار إلى من سيأتي ويقوم بالوساطة الكاملة بين الله والناس ويعقد عهد المصالحة بين السماء والأرض فنظر إليه في مجده قائلاً: "لأنه ليس هو إنساناً مثلي فأجاوبه فنأتي جميعاً إلى المحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا” (9: 31 و32) فضلاً عن كونه أبان لنا في هذا القول أن العالم أجمع في أشد الاحتياج إلى وسيط بين الله والناس، إلى وسيط لا يكون إنساناً فقط لئلا يعجز عن الوساطة، ولا يكون إلهاً فقط لئلا يترفع عن الوساطة، بل يكون إلهاً وإنساناً معاً لكي لا يعجز عن الوساطة ولا يترفع عنها بل يسر بالقيام بها ويكون هو المصالح الذي يضع يده بعهد المصالحة بين يد الله وأيدي الناس. وهذا الطلب الذي طلبه أيوب لم يتوفر إلا في شخص الرب يسوع المسيح "لأنه يوجد... وسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع” (1تي 2: 4- 6).

سادساً:

لما تقدم أليهو، رابع أصحاب أيوب، للكلام كحكم بين أيوب والأصحاب الثلاثة، تكلم بكلام كله حكمة سماوية دلتنا على أنه لم يكترث لزملائه الشيوخ ولم يهب أيوب بل جعل مجد الرب وجهته في حكمه، فاتضح لنا من هذا أنه كان يتكلم مسوقاً بروح الله. ولذلك تنبأ عما سيعمله الله لخلاص الإنسان وإتمام عملية الفدية في مستقبل الأيام البعيد فقال: "يترأف عليه (أي على الإنسان) ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة قد وجدت فديةً” (33: 24). وهذه نبوة واضحة عن الفداء الذي تم في المسيح بعد نحو ألفي سنة. ومما أكد لنا أن الله لا يصالح العالم إلا في المسيح الذي بذل نفسه "فدية" عن الجميع ما أردف به أليهو فشخص حالة الإنسان بعد الخلاص بقوله: "يصير لحمه أغضّ من لحم الصبي ويعود إلى أيام شبابه. يصلي إلى الله فيرضى عنه ويعاين وجهه بهتاف فيرد على الإنسان بره. يغني بين الناس فيقول قد أخطأت وعوجت المستقيم ولم أجاز عليه. فدى نفسي من العبور إلى الحفرة فترى حياتي النور” (33: 25-28). وفي هذا وعد صريح ونبوة بأن الإنسان يعود بالفداء إلى فتوة القداسة ويتصل بالله فيقبل الله صلاته، وهو يرى الله بعيني الإيمان والفرح وبهتاف هو ترتيل الكنائس الحية. وفي العددين (27و28) أكاد ألمس صورة الترنيمة المسيحية الحلوة القائلة بلسان المفدي:

كنت في سجن الخطايا عــبد إبليس الرجيـم

غـير مأمول خلاصي ثـم نـجاني الرحـيـم

واشتــراني واشتراني ذاك بـالـدم الكــريم

  • عدد الزيارات: 12416