الموضوعية الكاثوليكية والوجودية
للكاثوليكية اعتراض واحد مباشر ضد الوجودية، فإن الفلسفة الأكوينية (نسبة إلى توما الأكويني الذي اعتبر كثير من باباوات روما آراءه وعقيدته على أنها الآراء الصحيحة ذات السلطة) تؤكد صحة طريقين إلى الحقيقة الدينية.
أولاً، بعض الحقائق يتوصل المرء إليها عن طريق العقل، ولو كان صاحبه لا يعتنق عقيدة ما. مثلاً، كل رجل عادي عاقل تمرس بمعرفة أصول المنطق، واطلع على الميتافيزيقيا يستطيع فهم الأدلة التي تشير إلى وجود الله. وهذا "اللاهوت الطبيعي الفطري" لاهوت صحيح ملزم يقبله الوثني كما يقبله المسيحي، ويسلم بصحته الخطاة كما يسلم به القديسون.
غير أن العقل وحده لا يستطيع أن يصل إلى جميع الحقائق الضرورية للخلاص. الله، سبحانه، هو الذي يعلن عن هذه العقائد التي لا يتوصل إليها العقل البشري، والكنيسة الكاثوليكية هي القيم الأمين على هذه العقيدة السليمة. وعندما يحدد البابا معالم العقيدة فإنه، في تحديده هذا، معصوم عن الخطأ. ولا ينبغي للكاثوليكي أن يشكك أو أن يتردد في قبول أي من بنود قانون الإيمان. إنه يقبل سلطة الكنيسة الدينية التي تحرص على وديعة الإيمان وتعمل على تسليمها إلى الأجيال الطالعة سليمة كما تقبلتها.
واضح، بعد هذا، أن الكنيسة الكاثوليكية تحارب بعض معتقدات كير كغارد من أن الأدلة على وجود الله ليست أدلة خاطئة وحسب بل أنها تجديف وكفر، وأن السلطة الموضوعية التي تدعيها الكنيسة لا قيمة لها، ولا يؤبه بها، وأن الإنسان يظل يتخبط يائساً في ضلاله ما لم يقدم على المغامرة الكبرى، مغامرة اكتشاف الذات، ومن ثم يثب الوثبة الكبرى إلى الإيمان.
لأول وهلة يبدو أن هذا الموقف يضع حدّاً لكل بحث في الأمر، والواقع أنه بالنسبة لكثيرين من الكاثوليك هذا هو الحل اليسير المقبول. وكثيرون منهم يرفضون الفلسفة الوجودية على أنها فلسفة ليس لها شيء من العقلانية وعلى أنها فلسفة تقوم على العدمية. ولكن البابا بيوس الثاني عشر كان حذراً في نقده الوجودية فإنه كان يبدي اعتراضه على معطياتها التي تتعارض تعارضاً مباشراً مع العقائد الكاثوليكية المعترف بها من قبل الكنيسة.
ولكن المشكلة لم تحل بعد، ذلك لأن كثيراً من فكر الوجودية تعود في مبدئها إلى القديس أوغسطين، ولأن هؤلاء الهراطقة الأقوياء أمثال لوثر وباسكال، كانوا، وفي كثير من النواحي، وجوديين على طريقة أوغسطين. والعقيدة الكاثوليكية درجت على أن تبقي أوغسطين خفياً مغموراً لا تشعر عامة الناس بوجوديته، ولكن قديساً عظيماً كأوغسطين يصعب إخفاؤه عن الأنظار ويعسر إسكاته.
بالإضافة إلى هذا كله فأن الكتلكة تدرك جيداً أن الأخذ بالعقيدة الموضوعية على أساس سلطة الكنيسة أمر لا يغني ولا يقنع. فإن مجد الله وسر جلاله ليس أمراً تحدده العقائد. إن الحياة المسيحية تعني شيئاً أبعد من هذا، فإنها تتعدى أمر إطاعة السلطة وقولها. إنها حياة طاعة لله وثقة به. ولذا يجد عدد كبير من الكاثوليك أن للوجودية، بالنسبة إليهم، معنى، وإذا تمادوا في تقبلهم مبادئها فإن السلطة الكنسية تتدخل وتوقفهم عند حدهم. ولكن أثر الدعوة للوجودية واضح المعالم في كتابات كثير من الكاثوليك الذين يتمكنون من الإبقاء على سمعتهم أنهم كاثوليك، وأنهم من الكاثوليك المحافظين.
وهكذا استطاع كريستوفور دوسن (Christopher Dawson) المؤرخ الشهير، أن يكتب عن "اللاهوت الطبيعي" دون أخذ الأدلة والبراهين على وجود الله بعين الاعتبار. فإنه عوضاً عن هذا راح يصف الحياة الدينية الواقعية في كثير من المجتمعات. كذلك استطاع جاك ماريتان، أشهر فيلسوف كاثوليكي، أن يغدق على كير كغارد أعطر الثناء والمديح في الوقت الذي يؤكد لنا ماريتان أنه من أتباع توما الأكوني في عقائده الدينية. وقد أشرنا آنفا ًإلى قدرة ماريتان على تفهم الإلحاد، الذي يرفضه بشدة.
أما غبيريال مارسل (Gabriel Marcel) وهو مثل دوسن وماريان من جماعة العلمانيين - فقد كان أثبت قدماً في الفلسفة الوجودية من أي منهما. كان روائياً وموسيقاراً وفيلسوفاً. ولكنه لم يتقبل المعمودية إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره. وعندما راح يصف اختبار النعمة الإلهية لجأ إلى لغة وعبارات تذكرنا بلغة كير كغارد وعباراته، فإنه استعمل عبارة "عمق قامات من المياه " ويريد بذلك أنه باختباره هذا وصل إلى الأعماق.
كان اهتمام مارسل بالطريقة التي بها تستطيع الجماهير في المجتمع - سواء أكان مجتمعاً فاشستياً أم ديمقراطياً- أن تسحق الشخصية وتحطمها. في إحدى رواياته الموسومة بـ "هذا العالم المحطم " نجد أن المجتمع يقضي على حقيقة الذات. غير أن الحل الذي يقترحه مارسل ليس الحل الذي تأخذ به الوجودية، أعني الرجوع إلى الفردية التي تقول "أنا" بل يؤثر أن يكون التوكيد على "نحن" . ثم يتابع كلامه قائلاً أن "نحن " لا يعرف بعضنا بعضاً إلا إذا كنا نعيش في ما يسميه " سر الوجود ولغزه". والسر أو اللغز - وهو غير المشكلة، التي هي قضية يعوزها حل - هو بمثابة القوة الرابطة التي تبقي على تماسكنا في حياتنا الخيالية التصورية. فإن الشخصية والحب والجمال والموت والوجود، جميع هذه ألغاز وأسرار، وحياتنا، مع هذه الأسرار، حياة سحر وإثارة.
وبالرغم من أن أتباع فلسفة توما الأكويني يرون أن مارسل غير أرثوذكسي فأنهم يكبرون فضله وعلمه. وبعض الإنجيليين يرى فيه خير رجل وجودي الفلسفة.
- عدد الزيارات: 3118