الخط الفاصل الكبير
إنه من الطبيعي أن تتجزأ الوجودية إلى أجزاء وأشكال عديدة يصعب حصرها. فإنها فلسفة ترى غير المعقول والمحال في الحياة فتحاول أن تشق طريقها بأعمال وتصرفات تصدر عن عمد وتصميم. وتصرح علناً أن الحقيقة العامة ليست الحقيقة الموضوعية التي نتفق عليها جميعاً، بل الحقيقة الذاتية التي تعترف الذات بصحتها. ولذا فإن كل امرئ يكافح في الحياة، ويفلح في الكشف عن ذاته، يستطيع أن يضيف شيئاً جديداً إلى تاريخ الوجودية.
ونحن إذا استعرضنا مختلف المدارس الوجودية المتباينة نجد اختلافاً وكأنه خط فاصل بين قارة وأخرى. وبعض الوجوديين المقيمين من على جانبي هذا الفاصل الكبير بينهما، لا يمكن لأحد الفريقين منهما أن يكلم الآخر أو أن يتعامل معه لشدة الخلاف بينهما. وغيرهم قلق مشتت هنا وهناك عند الخط الفاصل، بعضهم يميل إلى هذا الجانب، وبعضهم الآخر يميل إلى الانتقال إلى الجانب الآخر. وجميع الوجوديين يدركون أن بينهم خطاً فاصلاً قائماً بينهم، خطاً له أثر فيهم جميعاً. على جانب من الخط الفاصل نجد أولئك الذين حياتهم توق حميم إلى الله، وعلى الجانب الآخر نجد أولئك الملحدين الذين لا يقرون بوجود الله.
وكثيراً ما يتساءل الناس، كيف يمكن أن يكون هنالك تناقض ظاهر وتضاد بيّن بين فئتين من الناس ينتمون إلى حركة فكرية واحدة؟ ومن اليسير علينا أن نعلم السبب لهذه التجزئة إذا نحن فكرنا في ما أشار له كير كغارد عن "وثبة الإيمان". عندما تنكشف لنا ذواتنا وما تنطوي عليه من قلق ويأس وشعور بالخطيئة عندها تبدو تفاهة الحياة وسخافة ما نعني به في الحياة. وفي مثل هذه اللحظات نستطيع أن نثب وثبة إيمان.
إن هذه الوثبة من أروع الأعمال البطولية التي يقدم عليها أصحاب الإيمان. فإنها تعني إطراح الأوهام جانباً، إلى جانب كونها عمل إقدام وجرأة نحو الحقيقة. ومن أقدم على اتخاذ هذه الخطوة عليه أن يخلف وراءه أولئك الذين يقعون فريسة وهمهم وقلقهم. هؤلاء الناس أجبن من أن يزاولوا الحالة التي هم بها. إنهم سجناء التقليد يعتمدون أوهامهم موطئاً لأقدامهم ولذا نجدهم يحاولون أن يبقوا إصبعا ًمن أصابع القدم على شاطئ البحر مع العلم أن الموج قد يجرف، في أية لحظة، ما تحت أقدامهم من رمال. هؤلاء لا ينعمون بجلال الحرية في استجابة دعوة الله لهم، ولا يتذوقون روعة الإقدام على الغوص في البحر على عمق آلاف القامات غير وجلين ولا هيابين.
إن الملحدين من جماعة الوجوديين يسلمون بصحة الجزء الأول من هذا الوصف. وهم يوافقون على الجرأة في خلع الأقنعة الكاذبة. غير أنهم يقولون أن أصحاب الإيمان يرفضون أن يسيروا قدماً في هذه المغامرة حتى نهاية الطريق. فإن وثبة الإيمان ذاتها التي يقدمون عليها هي في حد ذاتها وهم وخيال. وفي الواقع، أن وراء الوثبة عدماً. والشجاعة التي يبديها الإنسان ليست سوى اعتراف بالعدم وتصريح صريح بأن بوادر الذات وغناها إنما هو في داخل الذات. وإنه لمن الأفضل لنا، بدون نواح وبكاء ولف ودوران، أن نعترف وأن نقر بأن الحياة شرك وفخ، ولا أحد يستطيع أن ينجينا من الوقوع في الفخ. إن النصر الأكبر هو في السلبية المتحدية وفي توكيد الحرية.
هاتان الفئتان من الوجوديين تحاولان أن تكونا على غاية من الإخلاص والصدق. أي أنهما تحاولان أن تكونان على إخلاص وصدق بقدر ما يستطيع إنسان أن يكون مخلصاً صادقاً لذاته، لأن جميع الوجوديين يدركون أنهم في حال إتباعهم سبل الضلال الشاذة في خداع ذواتهم لا يمكن لهم أن يكونوا مخلصين لذواتهم صادقين مع أنفسهم. والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو لماذا هناك فئتان، كل منهما تدعي أنها تعرف الحقيقة تماماً كما تعرفها الأخرى، ولكن الفئتين تختلفان كل الاختلاف في وصف الحقيقة. والجواب عن هذا السؤال هو أن للإرادة أثراً لا يقل عن أثر العقل في تصور الحياة وإدراكها. إذن القضية، في الواقع، قضية شجاعة وإقدام، لا قضية ادعاء كاذب بالشجاعة والإقدام، وليست قضية من هو صاحب أضخم صوت وأقواه يصرخ بنا قائلاً: "انظروا ما أشجعني!" بل هي قضية الرجل الشجاع الراسخ القدم في شجاعته.
لهذه الأسباب ظهر بين أتباع الفلسفة الوجودية أشخاصاً من أشد الإيمان إخلاصاً وشهادة ونفاذاً، وفي الوقت ذاته ظهر بينهم من كان من أشد الناس وأعنفهم إلحاداً في عصرنا هذا. وقد أجاد كارل ميكلسون (Carl Michalson) في قوله عندما قال: "أقل ما يقال عن الوجودية أنها طريق يؤدي إلى الجلجثة. ولكن في آخر الطريق قد يجد المرء السارقين المصلوبين، أو أنه قد يجد يسوع المخلص المتألم."
- عدد الزيارات: 2582